خطب ومحاضرات
شرح أخصر المختصرات [37]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فصل:
ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً وجب الحجر عليه بطلب بعض غرمائه، وسُنَّ إظهاره، ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه، بل في ذمته، فيطالب بعد فك حجر.
ومن سلمه عين مال جاهل الحجر أخذها إن كانت بحالها، وعوضها كله باق ولم يتعلق بها حق للغير.
ويبيع حاكم ماله ويقسمه على غرمائه، ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه، أو هو مؤجل تحرم مطالبته وحبسه، وكذا ملازمته.
ولا يحل مؤجل بفَلَس، ولا بموتٍ إن وثَّق الورثة برهن محرز أو كفيل مليء، وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه.
فصل:
ويحجر على الصغير والمجنون والسفيه لحظهم، ومن دفع إليهم ماله بعقد أو لا رجع بما بقي لا ما تلف، ويضمنون جناية وإتلاف ما لم يدفع إليهم، ومن بلغ رشيداً أو مجنوناً ثم عقل ورشد انفك الحجر عنه بلا حكم، وأعطي ماله، لا قبل ذلك بحال.
وبلوغ ذكر بإمناء، أو بتمام خمس عشرة سنة، أو بنبات شعر خشن حول قبله، وأنثى بذلك وبحيض، وحملها دليل إمناء.
ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر بما يليق به ويؤنس رشده، ومحله قبل بلوغ، والرشد هنا إصلاح المال، بأن يبيع ويشتري فلا يغبن غالباً، ولا يبذل ماله في حرام وغير فائدة.
ووليهم حال الحجر الأب، ثم وصيه، ثم الحاكم، ولا يتصرف لهم إلا بالأحظ، ويقبل قوله بعد فك حجرٍ في منفعة، وضرورة، وتلفٍ، لا في دفع مالٍ بعد رشدٍ إلا من متبرع، ويتعلق دين مأذون له بذمة سيد، ودين غيره وأرش جناية قنٍ وقيم متلفاته برقبته].
الفصل الأول: يتعلق بمن يحجر عليه لأجل الدين.
والفصل الثاني: يتعلق بمن يحجر عليه لأجل قصر النظر، فالحجر على الأول لمصلحة الغرماء، والحجر على الثاني لمصلحته هو، لئلا يفسد ماله، والحجر على الأول إذا كان مديناً، والدين يعم قيم السلع وعوض المتلفات، ويعم أيضاً الدين بالصداق الحال أو ما أشبهه.
ورد التحذير من التهاون بديون الناس التي تتعلق بالذمة، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) يعني: من أخذها ديناً أو قرضاً أو أخذها ليتاجر فيها، وهو يريد إتلافها أتلفه الله، وإن كان ناصحاً وفقه الله لأدائها.
ولا شك أن الدين غرم يتعلق بذمة الإنسان، ولذلك قال الله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:65-67]، والمغرمون هم المدينون، يقول الله: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً [الواقعة:65] يعني: زرعكم، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة:65] يعني: تتكلمون وتقولون: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْن مَحْرُومُونَ [الواقعة:66-67] فدل على أن الغرم من جملة ما يتألم لأجله.
وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في آخر صلاته فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف)، وهذا حق، فالإنسان إذا كان عليه دين، وجاءه صاحبه اضطر إلى أن يكذب ويقول: سأعطيك بعد قليل، أو سأعطيك، فيكذب بذلك، أو يعده شهراً أو نصف شهر ثم لا يستطيع، فيخلف الوعد.
وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم خلف الوعد والكذب من خصال المنافقين، فعلى هذا يستعاذ بالله من المغرم، أي: من تحمل ديون الناس وحقوقهم، ولذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أحداً قال: (ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً، يأتي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا ديناراً أرصده لدين) يعني: لوفاء دين، وثبت أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله هل يغفر لي؟ فقال: إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، غفر الله لك، ثم قال: إلا الدين فإن جبريل أخبرني به) أي: لا تغفره الشهادة في سبيل الله؛ وذلك لأنه حق لآدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، فلا بد من قضائها، فتؤخذ من حسناته إذا مات وهو لم يوفها مفرطاً، فحقوق الآدميين لا بد من وفائها، وهي من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، ففي الحديث الذي في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم الإنسان نفسه، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد فيما بينهم) فهذه لابد فيها من القصاص لا محالة.
إذا عرف هذا فإذا كان على الإنسان دين وعنده مال فإنه يؤمر بوفائه، ويكلف أن يعطي الناس حقوقهم، ولا يجوز له أن يؤخر الوفاء، ويعتبر ذلك ظلماً، وورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم)، والمطل هو التأخير، يعني: تأخيره للوفاء ظلم منه لأصحاب الأموال، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) والواجد: هو القادر على الوفاء، وليُّه: يعني تلويته لأصحاب الحقوق، وعدم إيفائها، وعدم إعطاء الناس حقوقهم، (يحل عرضه وعقوبته)، عرضه، أي: شكواه، وعقوبته: حبسه؛ وذلك لأنه أخر الحق عن أصحابه، فلهم أن يرفعوا بأمره، ولهم أن يشتكوه إلى من يأخذ حقهم منه، فإذا كان ماله بقدر دينه أو أكثر، حرم عليه التأخير، ولم يجز حبسه بل يكلف ويؤمر أن يعطي الناس ما في ذمته لهم حتى تبرأ ذمته، وحتى يعطي كل ذي حقٍ حقه، فإن أخر ذلك فلهم شكواه، ولهم عقوبته.
إذا كان عنده مال، ولكن ماله أقل من دينه، عنده مثلاً ما يساوي عشرة آلاف: أمتعة وعروض ونقود وسلع، والديون التي في ذمته تساوي عشرين ألفاً، ففي هذه الحال يحجر عليه، أي: يمنع من التصرف في هذا المال الذي في يده، ويمنع أن يبيعه أحداً أو يشتري منه، فتوقف أمواله التي في يده فلا يبيع شيئاً منها، لا شاةً ولا بعيراً، لا كيساً ولا ثوباً ولا قدراً، ولا شيئاً مما في يده، فيقال: لا أحد يشتري منه، ولا أحد يبيعه بدين، وتحصر ديونه التي في ذمته، وإذا حصرت وكانت -مثلاً- عشرين ألفاً كلها حالة، وأهلها يطالبون بها، ففي هذه الحال يحجر عليه إذا طلبوا وقالوا: احجر عليه يا حاكم، وامنعه من أن يتصرف في ماله.
ويسن إعلان الحجر، أي: إظهاره وإشهاره وإعلانه؛ حتى يتوقف الناس عن البيع له، أو عن الشراء منه، ولا يمكن تصرفه في ماله بعد الحجر، ولو باع كيساً أو شاةً ما نفذ البيع، بل يرد البيع، ويقال: لا يجوز لك أن تبيع، ولا يجوز لكم أن تشتروا منه، وكذلك لا يقبل إقراره عليه، فلو قال مثلاً: هذه الشاة لزوجتي، وهذا البعير لأبي، وهذه الأكياس لأخي، وليس لي منها شيء، فلا يقبل منه ذلك، إذ الأصل أن ما في يده فإنه ملكه، أما إذا اعترف في ذمته، فقال: في ذمتي لزيد مائة، وفي ذمتي لخالد مائتان، فاعترافه بعد الحجر يثبت، ولكن هؤلاء الذين اعترف لهم لا يعطون من هذه الأموال الموجودة، مخافة أنه ما أراد بالاعتراف إلا إضرار الغرماء حيث اشتكوه، وحيث كلفوا الحاكم أن يحجر عليه، فهذا بلا شك ضرر عليه، وضرر على غرمائه، فيحجر عليه ثم تصفى أمواله.
ثبت أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان جواداً سخياً كريماً، فكان ينفق ما عنده من الأموال، فكثر دينه، وقلت أمواله، فعند ذلك طلب النبي صلى الله عليه وسلم من غرمائه أن يضعوا عنه أو يسمحوا عنه، فلو كانوا تاركين لأحدٍ شيئاً لتركوا لـمعاذ لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم امتنعوا؛ لأنهم ذوو حاجة؛ ولأن أموالهم عواري أو بضائع لغيرهم، أو شركات، أو لأموات، أو لأيتام، فلم يضعوا شيئاً، ولم يتسامحوا عنه بشيء، فعند ذلك حجر النبي صلى الله عليه وسلم أمواله التي في يده كلها وباعها، ووزعها على الغرماء بالنسبة، ثم بعد ذلك أراد أن يجبره فبعثه على الزكاة والجزية إلى اليمن؛ ليصيب من سهم العاملين عليها، فبعثه لجبرانه لما حصل عليه.
فهذا دليل على أن من كثر دينه فإن لأهل الدين أن يمنعوه من التصرف بواسطة الحاكم، وأن للحاكم أن يمنعه من أن يتصرف في أمواله التي في يده، ثم يجمعها ويعرضها للبيع، ويبيعها.
حكم من باع ماله قبل الحجر بدين مع بقاء المبيع في ملكه
من باع ماله قبل الحجر بدين، ثم حجر عليه وتلك العين التي باعها موجودةٌ في ملكه فإنه أحق بها بشروط:
الشرط الأول: ألا تتغير صفتها.
الشرط الثاني: ألا يقبض من ثمنها شيئاً.
الشرط الثالث: ألا يتعلق بها حقٌ للغير.
الشرط الرابع: أن يكون البائع موجوداً.
الشرط الخامس: أن يكون المشتري موجوداً.
وتتضح هذه الشروط بالتمثيل فنقول: إذا اشترى منك كيس قهوة، ونفرض أنه بـ(1000) ريال، وبعد نصف شهر حجر عليه، ولما حجر عليه إذا بالكيس موجودٌ في ملكه، فإنك تقول: أنا أحق به؛ لأنه عين مالي، آخذه برأس ماله، فإذا قال الغرماء الآخرون: بل نحن نشاركك في قيمته، وتشاركنا في بقية المال، فإن لك الحق في أن تطالب بعين مالك، فتقول: هذا الكيس مالي، أنا الذي بعته، وما تغير، ولو لم يحجر عليه إلا بعد موتك لم يكن لورثتك المطالبة. وهذا الكيس لو تغير كما لو أدخله المحامص فحمص، فإنه يكون قد تغيرت حالته، فلا تستحق الرجوع فيه. وكذلك مثلاً لو رهنه عند زيد، فإنك لا تستحق الرجوع فيه؛ وذلك لأن حق زيد تعلق به، حيث قد رهنه بدين آخر، فلا تستحق الرجوع فيه، فيكون دينك كسائر الغرماء.
وكذلك لو مات المشتري ووجدت عين مالك عند ورثته، فأنت أسوة الغرماء؛ لأن غريمك قد مات، فليس لك إلا ما للغرماء، وكذلك لو غير عين المبيع، فلو كان المبيع مثلاً كيس حنطة، ثم إنه طحنه وتغيرت هيئته وصورته، فيكون البائع أسوة الغرماء، ليس له إلا مثل ما لهم، فيباع الكيس مع بقية ماله، ويكون المشتري أسوة الغرماء، وكذلك أيضاً لو غيره فلو اشترى خشباً مثلاً، ونجرها أبواباً فإنه قد تغير، أو اشترى أقمشة وخاطها ثياباً فإنها قد تغيرت، فتغيرت صفته، فيكون صاحبه أسوة الغرماء، فلا بد من هذه الشروط الخمسة:
كون البائع موجوداً، وكون المشتري موجوداً، وكون المبيع لم يتغير، وكون الثمن باقياً لم يقبض منه شيء، وكونه لم يتعلق به حق للغير. سواءٌ كان هذا المبيع غالياً أو رخيصاً، فلو كان مثلاً سيارة اشتراها منك ديناً بستين ألفاً، ولم يعطك من ثمنها شيئاً، بل ثمنها دين، ثم أفلس وحجر عليه، فطالب بسيارتك، وقل: أنا أحق بها برأس مالها، ولا أكون أسوة الغرماء؛ لأنك إذا كنت أسوة الغرماء فلا يبقى لك إلا مقدار ما حل من الدين، والدين المؤجل لا تعطى من عوضه شيئاً.
وكذلك السيارة إذا رهنها عند آخر، فإنه تعلق بها حق الراهن، فلا تستحق الرجوع فيها، فلا بد أن تكون أنت موجوداً، ولا بد أن يكون المشتري موجوداً، ولا بد أن تكون السيارة لم تتغير، ما صدم بها مثلاً، ولا غير شيئاً من عجلاتها، أو شيئاً من أدواتها، ولا بد ألا تقبض شيئاً من الثمن، ولا بد ألا يرهنها.
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد عين ماله عند أحدٍ قد أفلس فهو أحق به) أي: بثمنه عند إنسان قد أفلس.
كذلك لو بعته عيناً ماليةً، ولم تدر أنه محجور عليه، ثم علمت بعد ذلك، فلك أن تستعيد تلك العين وتقول: أنا جاهل، ما علمت بأنه محجور عليه، وعين مالي موجودة، سيارتي موجودة مثلاً، أو كيسي موجود، يعني: أنك أحق به؛ لأنك جاهلٌ بالحجر، فتأخذها إذا كانت باقية بحالها، إذا كان عوضها كله باقياً في ذمته، ولم يتعلق بها حق للغير، ما رهنت مثلاً أو نحو ذلك.
ومما يذكرون في تعلق حق الغير: الجناية، لكنها خاصة بالعبد دون البعير والشاة والسيارة ونحوها، فيقولون: إذا اشترى منك عبداً مثلاً بعشرة آلاف، ثم إن العبد جرح إنساناً أو قطع منه إصبعاً، أو شجه في رأسه، أو أتلف شاةً لإنسان، فهذا قد تعلق به حق الغير، وهو المجني عليه، فلا تكون أنت أحق بثمنه، ولا ترجع فيه؛ لأن صاحب المجني عليه يقول: هذا العبد هو الذي جنى علي، فديني في ذمته، أو أرش جنايتي في ذمته، فلا ترجع فيه.
أما إذا كان المبيع شاةً أو بعيراً ثم إن هذا البعير رفس إنساناً فقتله، فهل يكون صاحبه المجني عليه أحق بثمن البعير أو أحق بالبعير بأن يقول: هذا البعير هو الذي قتل أخي، أو ابني؟ الجواب: ليس كذلك؛ وذلك لأن البعير غير مكلف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (العجماء جبار) أي: هدر.
وكذلك الشاة لو دخلت حرثكم فأكلت الزرع مثلاً، فهل تقولون: نحن أحق بها من الغرماء؛ لأنها أكلت زرعنا، نقول: ليس كذلك، ولكن صاحبها يغرم لكم ما أفسدته، وتكونون أسوة الغرماء.
وإذا بعته سيارةً بستين ألفاً ديناً، ثم إنه صدم بها إنساناً فمات، أو صدم بها شجرة أو جداراً، فهل يقول ورثة ذلك الميت: نحن أحق بالسيارة التي صدمت ولدنا؟ الجواب: ليس كذلك؛ لأن السيارة جماد، إنما الذي يحركها هو الذي يغرم، فهو الذي يغرم الدية، وهو الذي يغرم قيمة الجدار مثلاً، أو قيمة الشجرة، فلذلك لا يلحق بمثل جناية العبد؛ لأن العبد مكلف عاقل.
للحاكم بيع مال المفلس وقسمه بين غرمائه إلا ما كان ضرورياً
أي: بقدر حصصهم، فإذا أحصى المال الذي صفاه ووجده عشرة آلاف، ووجد الديون ثلاثين ألفاً كلها حالة، ننظر نسبة المال إلى نسبة الدين، وهو الثلث، فكل واحدٍ منهم يعطى ثلث دينه، فالذي له ثلاثمائة يعطى مائة، والذي له ثلاثة آلاف يعطى ألفاً، والذي له ألفٌ وخمسمائة يعطى خمسمائة، وهكذا، وبذلك تحصل المساواة بينهم، ويحصل النقص عليهم كلهم.
ولو قال رجل منهم: أنا ديني قديم من عشر سنين، وهؤلاء دينهم جديد، ما أخذوه إلا من سنة، أو من نصف سنة؟ الجواب: الجميع سواء، فكلهم حقهم قد حل، فيستوون في هذا المال.
واعلم أنه لا يجرد المفلس من كل ماله، بل يترك له بيت يسكنه، فإذا كان عنده بيتٌ يساوي مثلاً ثمانمائة ألف، فيبيعه الحاكم ويشتري له بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ليسكنه، ويقول: هذا بيت الفقراء، أما أن تسكن في هذا البيت الذي بثمانمائة ألف أو بمليون، فهذا بيت أثرياء وأغنياء، وأنت فقير، فيشتري بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ويسكنه فيه، ويقسم البقية الزائدة على الغرماء.
وإذا كانت عنده سيارة قيمتها ثمانون ألفاً يبيعها، وإذا قال: أنا لا أستغني عن السيارة. فتشتري له سيارة بثلاثين ألفاً أو بعشرين ألفاً ولو مستعملة، ويقال: هذه سيارة الفقراء، لا تشترِ سيارة الأثرياء الأغنياء.
وكذلك أيضاً متاع بيته، إذا كان عنده شيءٌ زائد يبيعه، فإذا كان عنده مثلاً عددٌ من الصحون وعددٌ من القدور، وعددٌ من الكئوس، وعددٌ من الفرش وما أشبهها، فيترك له الشيء الضروري، ويبيع البقية ويقسم ثمنها، ويترك له الشيء الذي هو بحاجة إليه، مثل غسالة أو ماكنة خياطة إذا كان خياطاً، أو ثلاجةً صغيرةٌ مثلاً بقدره أو ما أشبه ذلك؛ حتى يبرئ ذمته، وإذا كان صاحب حرفة تركت له آلة حرفته، فإذا كان خياطاً تركت له آلة الخياطة، وقيل: تكسب وأنفق على نفسك، وأوفِ بقية دينك، وإذا كان مثلاً غسالاً فكذلك، وإذا كان حجاماً تركت له آلة حجامته، وإذا كان مثلاً بناءً تركت له آلة بنائه التي يشتغل ويبني بها، وهكذا بقية الحرف، أما إذا كان مثلاً صاحب ماشية، فيبيع من ماشيته ما يستغني عنه، ويترك له غنيمةً يشرب لبنها، ويبيع من نسلها، إلى أن يوفي دينه، وهكذا.
فالحاصل أن هذا دليل على عظم شأن الدين؛ لأنه حق آدمي؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه، فيقول في الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والهرم، والجبن والبخل، والكسل والحزن، وسوء الأخلاق، وشماتة الأعداء، وضلع الدين، وقهر الرجال) ضلع الدين يعني: ضرره، وهمه، وأثره.
حرمة مطالبة المعسر أو حبسه
يمكن أن يقسم الناس بالنسبة للدين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من ماله أكثر من دينه.
والقسم الثاني: من ماله أقل من دينه.
والقسم الثالث: من ليس له مال، فليس عنده قدرةٌ على الوفاء.
فإذا كان ماله أكثر من دينه أو بقدر دينه، فلا يحبس ولا يحجر عليه، ولكن يكلف أن يوفي دينه، وإذا كان ماله أقل من دينه حجر عليه بطلب غرمائه، وإذا لم يكن له مال لم يحجر عليه؛ وذلك لأنه معسر، بل يؤمر أن يتكسب، وأن يحترف إلى أن يجمع ما يوفي دينه، ويسد حاجته، والدليل قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] النظرة هي التأخير، أنظروه يعني: أخروه إلى ميسرة، ولا يحل لكم أن تطالبوه وهو معسر.
التنبه لحيل بعض الناس في ادعاء الإعسار
وإذا أعطى الإنسان زكاته لمن يعتقده فقيراً، وكان في نفس الأمر غنياً، فإنه يعتبر قد برئت ذمته؛ لأن الغارمين لهم حقٌ في الزكاة، فقد جعلهم الله من جملة أهل الزكاة، فلابد للقضاة أن يتثبتوا وأن يتحققوا.
وكثيرٌ من الناس يستدينون أموالاً كثيرة ثم يسرفون، فتجدهم يبنون مبانٍ فاخرة، ويصرفون عليها مئات الألوف، فالأولى بالقاضي مع من كان من هؤلاء أن يقول: نبيع عمارتك هذه التي تساوي مليوناً أو أكثر، ونشتري لك عمارة بثلاثمائة ألف ونحوها، ونوفي الدين، فأنت قد أسرفت، وأخذت أموال الناس وصرفتها في هذه الزينات، وفي هذه الأنواع التي زخرفت بها هذا البناء، فهذا يعتبر من الإسراف، فلا يقبل منه ولا يقول: اسجنوني حتى تؤدي عني الحكومة أو ما أشبه ذلك، بل على القاضي أن يتثبت، وألا يصدق كل من يدعي، فقد يكون هناك كثيرٌ من المحتالين، وقد ظهر لبعض القضاة حيل كثيرٍ منهم، يأتي مثلاً إلى إنسان ويقول: اشتكني وادع أن في ذمتي لك خمسمائة ألف، وأنا سوف أعترف عند القاضي بأنها ثابتة، وبأنها قيمة السيارات، أو قيمة مواد بناء، أو ما أشبه ذلك، فإذا ثبتت في ذمتي أدعيت بعد ذلك الإعسار، فإذا ادعيت لا يضرني إذا سجنت نصف سنة ثم دفعت الحكومة عني، أو دفع الأثرياء، أو دفع من صندوق البر ثلثاها: أربعمائة أو نحوها، ثم أقتسمها أنا وأنت. وقد ظهرت حيل كثيرة مثل هذه، فعلى القضاة أن يتثبتوا، فإذا ثبت أن هذا مدين، وأنه ليس عنده شيء يوفي به دينه، قل أم كثر فإنه معذور، ولا يجوز حبسه، ولكن يؤمر بأن يوفي دينه مهما استطاع، وإذا كان الدين مؤجلاً فلا يجوز مطالبته؛ لأن الدين لم يحل، ولا يجوز حبسه، ولا تجوز ملازمته، وإن كان عليه دين مؤجل فلا يجوز لأصحاب المؤجل أن يطالبوا بحقوقهم، ويقولون: أعطونا من ماله الذي تقتسمونه، فإن ديننا ثابت، نقول: دينكم مؤجل، فإن حل قبل أن تقسم الأموال أخذتم قسمكم، وإن قسم قبل الحلول فليس لكم مع هؤلاء شيء.
ومن مات وعليه دين مؤجل لم يحل، ويبقى إلى أن يحل، ولكن لو خاف أصحاب الدين المؤجل من الورثة أن يقتسموا الميراث، ويقولون: ما عندنا لك شيء، فلابد للدائن أن يطالبهم فيقول: إما أن تعطوني ديني ولو كان مؤجلاً، أو تعطوني بعضه وأسقط بعضه -على قول من أجاز ذلك- أو تأتوني بكفيل يكفل حقي، ويضمنه عند حلوله، أو ائتوني برهن أتوثق منه، فإذا وثق دينه برهن محرز بقدر الدين، فإنه يكفي أو يضمنه كفيل.
ظهور الغريم بعد قسمة مال المفلس
لو اقتسموا، وبعدما اقتسموا تبيّن غريمٌ يطالبه بدين سابق، وقال: عنده لي دين، وهذه وثائقي، فإنه يرجع إلى الغرماء بقسطه، فإذا كان قسطه له العشر، فيأخذ من كل واحد منهم عُشر ما دفع إليه.
هذا الفصل الذي يتعلق بالدين والحجر عليه، أما الفصل الذي بعده فهو الحجر على السفهاء.
من وجد ماله عند من أفلس بعينه ولم يتصرف فيه؛ فإنه أولى به، فيأخذه برأس ماله، ومن سلمه عين مال جاهلاً بالحجر أخذ عين ماله إذا الأموال وعوضها كله باق، ولم يتعلق بها حقٌ للغير.
من باع ماله قبل الحجر بدين، ثم حجر عليه وتلك العين التي باعها موجودةٌ في ملكه فإنه أحق بها بشروط:
الشرط الأول: ألا تتغير صفتها.
الشرط الثاني: ألا يقبض من ثمنها شيئاً.
الشرط الثالث: ألا يتعلق بها حقٌ للغير.
الشرط الرابع: أن يكون البائع موجوداً.
الشرط الخامس: أن يكون المشتري موجوداً.
وتتضح هذه الشروط بالتمثيل فنقول: إذا اشترى منك كيس قهوة، ونفرض أنه بـ(1000) ريال، وبعد نصف شهر حجر عليه، ولما حجر عليه إذا بالكيس موجودٌ في ملكه، فإنك تقول: أنا أحق به؛ لأنه عين مالي، آخذه برأس ماله، فإذا قال الغرماء الآخرون: بل نحن نشاركك في قيمته، وتشاركنا في بقية المال، فإن لك الحق في أن تطالب بعين مالك، فتقول: هذا الكيس مالي، أنا الذي بعته، وما تغير، ولو لم يحجر عليه إلا بعد موتك لم يكن لورثتك المطالبة. وهذا الكيس لو تغير كما لو أدخله المحامص فحمص، فإنه يكون قد تغيرت حالته، فلا تستحق الرجوع فيه. وكذلك مثلاً لو رهنه عند زيد، فإنك لا تستحق الرجوع فيه؛ وذلك لأن حق زيد تعلق به، حيث قد رهنه بدين آخر، فلا تستحق الرجوع فيه، فيكون دينك كسائر الغرماء.
وكذلك لو مات المشتري ووجدت عين مالك عند ورثته، فأنت أسوة الغرماء؛ لأن غريمك قد مات، فليس لك إلا ما للغرماء، وكذلك لو غير عين المبيع، فلو كان المبيع مثلاً كيس حنطة، ثم إنه طحنه وتغيرت هيئته وصورته، فيكون البائع أسوة الغرماء، ليس له إلا مثل ما لهم، فيباع الكيس مع بقية ماله، ويكون المشتري أسوة الغرماء، وكذلك أيضاً لو غيره فلو اشترى خشباً مثلاً، ونجرها أبواباً فإنه قد تغير، أو اشترى أقمشة وخاطها ثياباً فإنها قد تغيرت، فتغيرت صفته، فيكون صاحبه أسوة الغرماء، فلا بد من هذه الشروط الخمسة:
كون البائع موجوداً، وكون المشتري موجوداً، وكون المبيع لم يتغير، وكون الثمن باقياً لم يقبض منه شيء، وكونه لم يتعلق به حق للغير. سواءٌ كان هذا المبيع غالياً أو رخيصاً، فلو كان مثلاً سيارة اشتراها منك ديناً بستين ألفاً، ولم يعطك من ثمنها شيئاً، بل ثمنها دين، ثم أفلس وحجر عليه، فطالب بسيارتك، وقل: أنا أحق بها برأس مالها، ولا أكون أسوة الغرماء؛ لأنك إذا كنت أسوة الغرماء فلا يبقى لك إلا مقدار ما حل من الدين، والدين المؤجل لا تعطى من عوضه شيئاً.
وكذلك السيارة إذا رهنها عند آخر، فإنه تعلق بها حق الراهن، فلا تستحق الرجوع فيها، فلا بد أن تكون أنت موجوداً، ولا بد أن يكون المشتري موجوداً، ولا بد أن تكون السيارة لم تتغير، ما صدم بها مثلاً، ولا غير شيئاً من عجلاتها، أو شيئاً من أدواتها، ولا بد ألا تقبض شيئاً من الثمن، ولا بد ألا يرهنها.
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد عين ماله عند أحدٍ قد أفلس فهو أحق به) أي: بثمنه عند إنسان قد أفلس.
كذلك لو بعته عيناً ماليةً، ولم تدر أنه محجور عليه، ثم علمت بعد ذلك، فلك أن تستعيد تلك العين وتقول: أنا جاهل، ما علمت بأنه محجور عليه، وعين مالي موجودة، سيارتي موجودة مثلاً، أو كيسي موجود، يعني: أنك أحق به؛ لأنك جاهلٌ بالحجر، فتأخذها إذا كانت باقية بحالها، إذا كان عوضها كله باقياً في ذمته، ولم يتعلق بها حق للغير، ما رهنت مثلاً أو نحو ذلك.
ومما يذكرون في تعلق حق الغير: الجناية، لكنها خاصة بالعبد دون البعير والشاة والسيارة ونحوها، فيقولون: إذا اشترى منك عبداً مثلاً بعشرة آلاف، ثم إن العبد جرح إنساناً أو قطع منه إصبعاً، أو شجه في رأسه، أو أتلف شاةً لإنسان، فهذا قد تعلق به حق الغير، وهو المجني عليه، فلا تكون أنت أحق بثمنه، ولا ترجع فيه؛ لأن صاحب المجني عليه يقول: هذا العبد هو الذي جنى علي، فديني في ذمته، أو أرش جنايتي في ذمته، فلا ترجع فيه.
أما إذا كان المبيع شاةً أو بعيراً ثم إن هذا البعير رفس إنساناً فقتله، فهل يكون صاحبه المجني عليه أحق بثمن البعير أو أحق بالبعير بأن يقول: هذا البعير هو الذي قتل أخي، أو ابني؟ الجواب: ليس كذلك؛ وذلك لأن البعير غير مكلف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (العجماء جبار) أي: هدر.
وكذلك الشاة لو دخلت حرثكم فأكلت الزرع مثلاً، فهل تقولون: نحن أحق بها من الغرماء؛ لأنها أكلت زرعنا، نقول: ليس كذلك، ولكن صاحبها يغرم لكم ما أفسدته، وتكونون أسوة الغرماء.
وإذا بعته سيارةً بستين ألفاً ديناً، ثم إنه صدم بها إنساناً فمات، أو صدم بها شجرة أو جداراً، فهل يقول ورثة ذلك الميت: نحن أحق بالسيارة التي صدمت ولدنا؟ الجواب: ليس كذلك؛ لأن السيارة جماد، إنما الذي يحركها هو الذي يغرم، فهو الذي يغرم الدية، وهو الذي يغرم قيمة الجدار مثلاً، أو قيمة الشجرة، فلذلك لا يلحق بمثل جناية العبد؛ لأن العبد مكلف عاقل.
يقول المؤلف: [ويبيع حاكم ماله ويقسمه على غرمائه].
أي: بقدر حصصهم، فإذا أحصى المال الذي صفاه ووجده عشرة آلاف، ووجد الديون ثلاثين ألفاً كلها حالة، ننظر نسبة المال إلى نسبة الدين، وهو الثلث، فكل واحدٍ منهم يعطى ثلث دينه، فالذي له ثلاثمائة يعطى مائة، والذي له ثلاثة آلاف يعطى ألفاً، والذي له ألفٌ وخمسمائة يعطى خمسمائة، وهكذا، وبذلك تحصل المساواة بينهم، ويحصل النقص عليهم كلهم.
ولو قال رجل منهم: أنا ديني قديم من عشر سنين، وهؤلاء دينهم جديد، ما أخذوه إلا من سنة، أو من نصف سنة؟ الجواب: الجميع سواء، فكلهم حقهم قد حل، فيستوون في هذا المال.
واعلم أنه لا يجرد المفلس من كل ماله، بل يترك له بيت يسكنه، فإذا كان عنده بيتٌ يساوي مثلاً ثمانمائة ألف، فيبيعه الحاكم ويشتري له بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ليسكنه، ويقول: هذا بيت الفقراء، أما أن تسكن في هذا البيت الذي بثمانمائة ألف أو بمليون، فهذا بيت أثرياء وأغنياء، وأنت فقير، فيشتري بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ويسكنه فيه، ويقسم البقية الزائدة على الغرماء.
وإذا كانت عنده سيارة قيمتها ثمانون ألفاً يبيعها، وإذا قال: أنا لا أستغني عن السيارة. فتشتري له سيارة بثلاثين ألفاً أو بعشرين ألفاً ولو مستعملة، ويقال: هذه سيارة الفقراء، لا تشترِ سيارة الأثرياء الأغنياء.
وكذلك أيضاً متاع بيته، إذا كان عنده شيءٌ زائد يبيعه، فإذا كان عنده مثلاً عددٌ من الصحون وعددٌ من القدور، وعددٌ من الكئوس، وعددٌ من الفرش وما أشبهها، فيترك له الشيء الضروري، ويبيع البقية ويقسم ثمنها، ويترك له الشيء الذي هو بحاجة إليه، مثل غسالة أو ماكنة خياطة إذا كان خياطاً، أو ثلاجةً صغيرةٌ مثلاً بقدره أو ما أشبه ذلك؛ حتى يبرئ ذمته، وإذا كان صاحب حرفة تركت له آلة حرفته، فإذا كان خياطاً تركت له آلة الخياطة، وقيل: تكسب وأنفق على نفسك، وأوفِ بقية دينك، وإذا كان مثلاً غسالاً فكذلك، وإذا كان حجاماً تركت له آلة حجامته، وإذا كان مثلاً بناءً تركت له آلة بنائه التي يشتغل ويبني بها، وهكذا بقية الحرف، أما إذا كان مثلاً صاحب ماشية، فيبيع من ماشيته ما يستغني عنه، ويترك له غنيمةً يشرب لبنها، ويبيع من نسلها، إلى أن يوفي دينه، وهكذا.
فالحاصل أن هذا دليل على عظم شأن الدين؛ لأنه حق آدمي؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه، فيقول في الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والهرم، والجبن والبخل، والكسل والحزن، وسوء الأخلاق، وشماتة الأعداء، وضلع الدين، وقهر الرجال) ضلع الدين يعني: ضرره، وهمه، وأثره.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أخصر المختصرات [21] | 2739 استماع |
شرح أخصر المختصرات [28] | 2715 استماع |
شرح أخصر المختصرات [72] | 2607 استماع |
شرح أخصر المختصرات [87] | 2570 استماع |
شرح أخصر المختصرات [68] | 2348 استماع |
شرح أخصر المختصرات [81] | 2339 استماع |
شرح أخصر المختصرات [58] | 2332 استماع |
شرح أخصر المختصرات [9] | 2318 استماع |
شرح أخصر المختصرات [22] | 2269 استماع |
شرح أخصر المختصرات [45] | 2263 استماع |