عنوان الفتوى : أسباب نجاة المؤمن العاصي ومرتكب الكبيرة من النار

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

سؤالي هو عن مصير مرتكب الكبيرة إذا رجحت حسناته على سيئاته.
أحيانًا أرى بعض العلماء يقولون إن مصير مرتكب الكبيرة في المشيئة هكذا بإطلاق.
وأحيانًا أرى البعض يقول بأن مصيره هو الموازنة بين حسناته وسيئاته، والعبرة بالغلبة.
وأحيانًا أراهم يقولون بأن العاصي يجب أن ينقى ويطهر قبل أن يدخل الجنة.
وأحيانًا يقولون بأن العاصي إذا رجحت حسناته على سيئاته استحق الجنة، ودخلها من أول وهلة، ولا يعذب.
فهل هذا خلاف بين أهل العلم؟ أم هو إشكال في فهمي؟
أرجو ذكر الأدلة لكل الأقوال.
فتكون المسألة في مرتكب الكبيرة من غلبت حسناته سيئاته هكذا: إما أن يكون مستحقا للجنة خارجًا عن المشيئة، فلا يعذب، ولا يطهر، وإما أن يكون مستحقًا للنار، داخلًا في المشيئة؛ فلا عبرة بالموازنة، ولا برجحان إحدى الكفتين.
وإذا قلنا بالأول فهل يصح أن يدخل الجنة ناقص إيمان، أو فاسق إذا غلبت حسناته سيئاته؟
وإذا قلنا بالثاني فكيف يعذب الفاسق من رجحت حسناته على سيئاته؟ إذْ أحبطتِ السيئات ما يقابلها من الحسنات، فلا يبقى غير الحسنات الزائدة، ففي ماذا يطهر أصلًا، وهو ليس لديه إلا حسناته الزائدة؟

مدة قراءة الإجابة : 4 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا إشكال في كون مرتكب الكبيرة في مشيئة الله تعالى؛ فإن هذا لا يتعارض مع مغفرة ذنبه، كما لا يتعارض مع المؤاخذة به. فإن شاء الله تعالى غفر له رحمةً منه و فضلا، وإن شاء آخذه بذنبه حكمةً منه وعدلا.

وهذه المؤاخذة قد تكون في الدنيا، وقد تكون في القبر، وقد تكون في عرصات القيامة، وقد تكون بعذاب النار، ثم يكون مصيره إلى الجنة بعد أن يطهر من ذنبه.

وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، والأعمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية): المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب -ثلاثة منه، وثلاثة من الناس، وأربعة يبتديها الله-: التوبة، والاستغفار، ‌والحسنات ‌الماحية، ودعاء المؤمنين له، وإهداؤهم العمل الصالح له، ‌وشفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ‌والمصائب المكفرة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عرصات القيامة، ومغفرة الله له بفضل رحمته. اهـ.

وقال في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام): ‌‌موانع لحوق الوعيد متعددة: منها: التوبة، ومنها: الاستغفار، ومنها: ‌الحسنات ‌الماحية للسيئات، ومنها: بلاء الدنيا ‌ومصائبها، ومنها: ‌شفاعة شفيع مطاع، ومنها: رحمة أرحم الراحمين. اهـ.

وقال في مجموع الفتاوى: ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط، وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له ‌حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له والمغفور له؛ فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب: التوبة، ‌والحسنات ‌الماحية، ‌والمصائب المكفرة -لكنها من عقوبات الدنيا-، وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين: كالصلاة عليه، ‌وشفاعة الشفيع المطاع، كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد -صلى الله عليه وسلم- تسليما. اهـ.

وقال السيوطي في (معترك الأقران في إعجاز القرآن): وأما المؤمنون فلا يجزون بذنوبهم إلا بستّة شروط: وهي أن تكون ذنوبهم كبارا. وأن يموتوا قبل التوبة منها. وألا تكون لهم حسنات أرجح في ‌الميزان منها. وألاّ يشفع فيهم. وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعمل كأهلِ بَدْر ... وألاّ يعفو الله عنهم، فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن ‌شاء ‌عذّبه، وإن ‌شاء ‌غفر له. اهـ.

وعلى ذلك، فغلبة الحسنات على السيئات أحد أسباب نجاة المؤمن من العذاب، وكذلك تطهيره منها بالمصائب في الدنيا، أو بالشدة عند الموت، أو في القبر، أو يوم البعث، أو في عرضات القيامة. وهناك أسباب أخرى من العبد ومن غيره، سبق ذكرها، فإن ضاقت عنه دخل النار، ثم خرج منها بعد تطهيره.

قال ابن القيم في (عدة الصابرين): باب المنهيات يمحوه الله سبحانه، ويبطل أثره بأمور عديدة من فعل العبد وغيره، فإنه يُبطله: بالتوبة النصوح، وبالاستغفار، وبالحسنات الماحية، وبالمصائب المكفرة، وباستغفار الملائكة، وبدعاء المؤمنين -فهذه ستة في حال حياته-؛ وبتشديد الموت، وكربه، وسياقه عليه -فهذا عند مفارقته الدنيا-؛ وبهول المطلع، وروعة الملكين في القبر، وضغطته، وعصرته، وبشدة الموقف وعنائه وصعوبته، وبشفاعة الشافعين فيه، وبرحمة أرحم الراحمين له، فإن عجزت عنه هذه الأمور؛ فلا بد له من دخول النار، ويكون لبثُه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه، فإن الله حرَّم الجنة إلا على طيِّب، فما دام درنُه ووسخُه وخبثُه فيه، فهو في غير التطهير حتى يتصفّى من ذلك الوسخ والخبَث. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 64045، 328135.

والله أعلم.