شرح كتاب التوحيد [38]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس )، رواه ابن حبان في صحيحه.

باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].

وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، رواه البخاري والنسائي ].

تقدم لنا شيء من الآيات والأحاديث الواردة في الخوف، ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:8].

وأيضاً ما ذكر المؤلف قال: (عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ) )، (من): هذه شرطية.

وقوله: (التمس): يعني: طلب.

(رضا الله): يعني: أسباب رضا الله عز وجل.

(بسخط الناس)، سخط: الغضب، يعني: بغضب الناس، والباء هنا للعوض، يعني: أخذ عوض ذلك غضب الناس.

(رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، هذا جواب الشرط.

قال: (ومن التمس رضا الناس)، (من): هذه شرطية، والتمس كما تقدم: طلب رضا الناس.

(بسخط الله)، كما تقدم بغضب الله.

(سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، رواه ابن حبان في صحيحه.

والشاهد من هذا: قوله: (من التمس رضا الله بسخط الناس)، ففي هذا وجوب الخوف من الله عز وجل وخشيته، وتقديم ذلك على رضا الناس، ففيه شاهد لما ترجم له المؤلف رحمه الله.

الخوف كما تقدم لنا عبادة جليلة، ومنها ما هو شرك، ومنها ما ليس شركاً، فنقول بأن الخوف ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: الخوف من الله عز وجل، وهذا من أوجب أعمال القلوب، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

وأيضاً قول الله عز وجل: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].

وأيضاً ما ذكر المؤلف الآن في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس )، هذا فيه وجوب الخوف من الله عز وجل، وتقديم الخوف منه وخشيته على رضا الناس.

القسم الثاني: ما يسميه العلماء بخوف السر، وخوف السر هذا له صورتان:

الصورة الأولى: أن يخاف من الأضرحة والقبور وأصحابها والأصنام، ويؤدي هذا الخوف إلى أن يصرف لها شيئاً من أنواع العبادة. هذا شرك أكبر.

الصورة الثانية: أن يخاف منها معتقداً أنها تصيبه بضر دون مشيئة الله وإرادته، أن يعتقد أنها تصيبه بضر مستقلاً، أو مستقلة بذلك عن الله عز وجل دون مشيئة الله وإرادته، فهذا حكمه شرك أكبر مخرج من الملة.

القسم الثالث: الخوف الذي يكون شركاً أصغر، والخوف الذي يكون شركاً أصغر له صورتان:

الصورة الأولى: أن يترك الواجب ويفعل المحرم خوفاً من الناس، هذه الصورة الأولى.

الصورة الثانية: أن يخاف من شيء ويظنه سبباً وليس سبباً، يعني: ليس هناك سبب للخوف، مثال ذلك: كأن يخاف من الظلام لذات الظلام، فالظلام هذا ليس سبباً للخوف، لكن لو خاف من الظلام لما في الظلام من هوام أو سباع أو لص أو نحو ذلك، فإن هذا يكون خوفاً طبيعياً.

القسم الرابع: الخوف البدعي، وهو الخوف الذي يحمل على القنوط من رحمة الله عز وجل، فهذا نقول بأنه خوف بدعي، فالغلو في الخوف الشرعي هذا يجعله خوفاً بدعياً، فيغلو في الخوف الشرعي حتى يقنط من رحمة الله عز وجل، ويخاف من عذاب الله، لكن يؤدي به ذلك إلى القنوط من رحمة الله، نقول بأن هذا غلو في الخوف الشرعي. هذا خوف بدعي.

القسم الخامس: الخوف الطبيعي، والخوف الطبيعي هو أن يخاف من الأمور التي انعقدت أسبابها على أنها مؤذية في العادة، مثل أن يخاف من السبع، أن يخاف من ذوات السموم.. إلى آخره.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] ] هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله تعالى لعبادة التوكل.

ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن التوكل عبادة من أجل العبادات، وصرفها لغير الله عز وجل شرك كما سيأتينا، وقد يكون شركاً أكبر، وقد يكون شركاً أصغر.

ومناسبة هذا الباب لما قبله: أنه في الباب الذي قبله الخوف، والذي قبل الخوف المحبة، فالمحبة والخوف والتوكل هذه كلها من أعمال القلوب، تجتمع في ذلك.

والتوكل في اللغة: التفويض والاعتماد.

وأما في الاصطلاح: الاعتماد على الله عز وجل بجلب النفع ودفع الضر مع فعل الأسباب.

قال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] (على الله) يعني: عليه وحده دون ما سواه؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يدل على الحصر.

وقوله: فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23]، يعني: اعتمدوا، والفاء للعطف.

إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، (إن): هذه شرطية، فالله سبحانه وتعالى اشترط للإيمان أن يتوكل عليه وحده، مما يدل على وجوب التوكل على الله عز وجل، وإفراد الله عز وجل بالتوكل دون ما سواه، لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا شرطاً في الإيمان، كما تقدم لنا أن تقديم المعمول يدل على الحصر.

فقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23]، أي: عليه دون من سواه.

الشاهد من هذه الآية لما ترجم له المؤلف: وجوب التوكل على الله عز وجل دون ما سواه، وإفراده سبحانه وتعالى في هذه العبادة العظيمة، وأن صرف عبادة التوكل لغير الله شرك.

قال رحمه الله: (وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، الآية)، وتمامها: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

إِنَّمَا [الأنفال:2]، أداة حصر.

و الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ [الأنفال:2]، يعني: ذكروا بالله عز وجل.

وَجِلَتْ [الأنفال:2]، خافت.

قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ [الأنفال:2]، قيل: إن المراد بالآيات هنا: الآيات الشرعية، وقيل: أن المراد بها: ما يشمل الآيات الشرعية والكونية.

زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، يعني: يعتمدون عليه، ويفوضون أمورهم إليه سبحانه وتعالى دون ما سواه.

وهذه الآية تدل على أن التوكل إنما يكون على الله عز وجل دون ما سواه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أثنى على المؤمنين الذين هذه صفاتهم، وأنهم يتوكلون على الله دون ما سواه، كما سلف لنا أن الله سبحان وتعالى إذا أثنى على عبد في القرآن بخير فإنه يراد الاقتداء به بهذه الصفة التي استحق بها الثناء من الله عز وجل، فهذا يدل على ما ترجم له المؤلف، وأن التوكل عبادة لا تشرع إلا لله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، كما تقدم لنا قيل بأن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وقيل بأن النبي هو الذي يحكم بشريعة من قبله من الرسل، كأنبياء بني إسرائيل، كانوا يحكمون بالتوراة.

قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال:64]، يعني: كافيك الله، وحسبك خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر.

قال: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال:64]، يعني: كافيك الله، ومتى يكون الله كافياً للعبد؟ إذا توكل عليه، فمعنى الآية: إذا توكلت على الله فإن الله يكفيك جميع أمورك وما أهمك.. إلى آخره، وكذلك المؤمنون إذا توكلوا على الله فإن الله سبحانه وتعالى سيكفيهم جميع أمورهم وما أهمهم، وفي هذا مشروعية التوكل على الله عز وجل دون ما سواه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيكفي العبد ما أهمه وجميع أمره، وهذا إنما يكون بالتوكل عليه.

والله أعلم، وصلى الله سلم على نبينا محمد.