شرح كتاب التوحيد [27]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.

روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ).

ولـابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19]. قال: كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره.

وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلت السويق للحاج.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ) رواه أهل السنن ].

تقدم لنا ما يتعلق بالترجمة ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد، وكذا أيضاً مناسبة هذا الباب للباب قبله.

قال: (روى مالك في الموطأ) الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، إمام دار الهجرة، وإليه ينسب مذهب المالكية، وأحد الأئمة الأربعة، توفي رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة للهجرة، والإمام مالك رحمه الله تعالى جمع بين الحديث وبين الفقه، وألف كتاب الموطأ.

قال: (في الموطأ) يعني: في كتاب الموطأ. وطأه الإمام مالك أي: سهله للناس، وقد جمع فيه الإمام مالك رحمه الله تعالى بين الحديث والفقه.

قال: (روى الإمام مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم ) أصلها يا الله، فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم، فاللهم: منادى مبني على الضم في محل نصب.

( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) الوثن: هو كل ما عبد من دون الله عز وجل سواء كان على صورة أو كان على غير صورة، بخلاف الصنم، فإن الصنم هو ما عبد من دون الله على شكل صورة.

قوله: ( يعبد ) هذه صفة لوثن.

قوله: ( اشتد ) يعني: عظم.

( غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يعني: أماكن للعبادة.

مناسبة هذا الحديث لما ترجم له المؤلف رحمه الله: أن الغلو في القبور يجعلها أوثاناً تعبد، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )، وبين ذلك بقوله: ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) فالغلو في القبور يجعلها أوثاناً تعبد من دون الله، فمناسب لما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى.

وهل استجاب الله سبحانه وتعالى دعوة نبيه بأن لم يجعل قبره وثناً يعبد؟ قال ابن القيم رحمه الله بأن الله استجاب دعاء نبيه، وجعل قبره محاطاً بثلاثة من الجدران، بحيث لا تكون العبادة بجانب القبر.

قال: (ولـابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19]).

ابن جرير : محمد بن جرير الطبري رحمه الله، إمام المفسرين، صاحب التفسير المشهور: جامع البيان، توفي رحمه الله سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، وابن جرير عالم كبير من حيث الأثر والتفسير، فهو يعتبر الإمام في التفسير بالأثر، وقد ملأه رحمه الله تعالى بالآثار الكثيرة سواء كانت مرفوعة أو موقوفة على الصحابة أو عن التابعين، فيعتبر العمدة للتفسير في الأثر.

قال: (وبسنده عن سفيان ) سفيان الثوري رحمه الله، مات رحمه الله سنة إحدى وستين ومائة للهجرة.

(عن منصور ) منصور بن المعتمر مات سنة اثنين وثلاثين ومائة للهجرة.

(عن مجاهد ) مجاهد بن جبر أيضاً إمام في التفسير، تلميذ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، مات سنة أربع ومائة للهجرة.

قال رحمه الله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19].

أَفَرَأَيْتُمُ [النجم:19] يعني: أخبروني، والاستفهام للإنكار.

اللَّاتَ [النجم:19].

قال: (كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء ) أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي ، توفي رحمه الله سنة ثلاث وثمانين للهجرة.

قال: (عن ابن عباس ) وهو من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما.

(كان يلت السويق للحاج) عكفوا على قبره، العكوف هو طول المكوث، يعني: أقبلوا وواظبوا واحتبسوا عليه.

في هذا: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله، فهذا الرجل كان صالحاً؛ لأنه كان يلت السويق للحاج، ولا شك أن هذا عمل مبارك، فلما مات غلوا في قبره، فعكفوا عنده، فعبدوه من دون الله عز وجل، ففي هذا مناسبة لما ترجم له المؤلف، وأن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله، فهذا الرجل الذي كان يلت السويق غلوا في قبره وعكفوا على قبره كما قال مجاهد : فعكفوا على قبره، وهذا من الغلو، ثم بعد ذلك عبدوه من دون الله عز وجل، فدل ذلك لما ترجم له المؤلف، وأن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله عز وجل.

قال: (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ) يعني: دعا باللعن.

( رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) زيارة القبور هو الخروج إليها، والقبر: مدفن الميت.

( والمتخذين عليها المساجد والسرج ) المساجد: جمع مسجد، وهو ما هيئ للصلاة. والسرج: جمع سراج وهو ما يستضاء به من الزيت ونحو ذلك.

قال: (رواه أهل السنن) يعني: رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، ولم يروه النسائي .

في هذا: أن الغلو في القبور يصيرها أوثاناً تعبد؛ ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ عليها السرج، يعني: جعل هذه السرج التي يستضاء بها من الغلو في القبور، وهذا الغلو يؤدي إلى أن تعبد من دون الله بأن تبنى عليها المسجد؛ ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين المتخذين عليها المساجد والسرج؛ لأن اتخاذ السرج وسيلة إلى اتخاذ المساجد، فاتخاذ السرج هو الغلو فيها، والغلو فيها وسيلة إلى بناء المساجد عليها أو اتخاذها مكاناً للعبادة، فمناسب لما ترجم له المؤلف.

قال رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد).

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في هذا الباب شيئاً من موانع الوقوع في الشرك، ومن ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله تعالى، وهذا من تمام التوحيد.

يعني: من تمام التوحيد أن يتجنب كل الوسائل التي توقع في الشرك؛ ولهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما دعا ربه قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. يعني: اجعلني في جانب، وعبادة الأصنام في جانب آخر، وفي هذا سؤال لله عز وجل أن يقيه الشرك ووسائله وأسبابه وذرائعه.

فهذا من تمام التوحيد أن كون المسلم يحرص على ما يمنعه من الوقوع في الشرك ويحميه منه.

ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن المؤلف في ما تقدم ذكر الذرائع التي توصل إلى الشرك، وفي هذا الباب بين أن النبي صلى الله عليه وسلم سد هذه الذرائع، تقدم أن ذكر أسباب الشرك وذرائع الشرك، وذكر ثلاثة أبواب، وفي هذا الباب بين كيف سد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الذرائع.

قال رحمه الله: (باب ما جاء في حماية المصطفى) المصطفى: أصلها المصتفى، فأبدلت التاء بالطاء، والمصطفى: المختار، والاصطفاء هو الاختيار.

(جناب التوحيد) يعني: جانب التوحيد: حدود التوحيد، كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد وحدوده من أن يخدش بالشرك.

قال: (وسده) يعني: منع كل طريق يوصل إلى الشرك، يعني: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم منع كل الطرق التي توصل إلى الشرك.

قال: (وقول الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]).

اللام مواطئة لقسم مقدرة، تقديره: والله لقد جاءكم رسول من أنفسكم. تقدم لنا تعريف الرسول، وأن الرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.

والتعريف الثاني: أن الرسول هو الذي يأتي بشريعة جديدة، وأما النبي فهو الذي يحكم بشريعة الرسول الذي قبله، مثل أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام.

رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] يعني: من جنسكم وبلغتكم.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ [التوبة:128] يعني: شديد عليه.

مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128] يعني: ما يشق عليكم.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

مناسبة هذه الآية لما ترجم له المؤلف: أن الله سبحانه وتعالى وصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين، ووصفه بالرحمة والرأفة يقتضي أن يحذر أمته كل ما فيه ضررهم في دينهم ودنياهم، وأعظم الضرر هو ما يتعلق بالتوحيد والوقوع في الشرك، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء لسد كل الذرائع التي توصل الشرك.

والله أعلم.