المعيار المنكسر - فهد بن صالح العجلان
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
حينما يقول أحد: إن الكتاب والسنة هما معيار وميزان الحقائق، فإن من الرائع حقاً أن يكون ثَمَّ اتفاق قطعي على هذه القاعدة، فهو كلام بدهي ضروري لا ينازع فيه أحد ذو بال؛ فكتاب الله وسنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم هما المعيار الذي توزن به الأمور وتقاس به المفاهيم، فنقبل الصحيح ونردُّ الباطل ونقيِّد المطلق ونفصِّل المجمل ونميِّز المشتبه، فلدينا معيار صحيح واضح نتمكن من خلاله من تمييز الأمور وفحصها: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [ النساء : 59]، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].لكنَّ هذه القاعدة تبقى أحياناً بدهية في الجانب النظري ويضعف أثرها في الميزان العملي، إذ إن هذا المعيار والميزان الشرعي ينكسر أحياناً فلا يكون معياراً، بل يبقى نوراً محجوباً زاحمته معايير أُخَر وشاركته أحقيته في الوزن والقياس.
من الذي كسر هذا المعيار؟
إن التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس شأناً معرفياً محضاً يحسبه الشخص بدقَّة كما يحسب المسائل الرياضية، بل هو إيمان وطاعة وانقياد وخضوع لأمر الله، فكلما ازداد إيمان المرء وعظم الشرع في قلبه كان أكثر التزاماً وتطبيقاً لهذه القاعدة، وحينها فَثَّم عوامل كثيرة تأتي على هذا المعيار فتضغط عليه وتضعفه حتى تكسره، فيضعف أثر هذه القاعدة عملياً وإن كانت ما تزال ثابتة في المقياس النظري.
وهذه العوامل كثيرة، اكتفي منها بعاملين، وسأحصرهما في الأحكام الشرعية السياسية:
أولاً: كاسر النسبية:
حين تقول: إن من بدهيات المفاهيم الشرعية الأصيلة التي من أجلها قامت الحركات الإسلامية هو إعادة الحكم للإسلام وشريعته، الحكم الشامل المحقِّق لسعادة الناس وصلاح دينهم ودنياهم، يأتيك الاعتراض المشهور: الشريعة على فهم مَن؟
وحين تقول: الحقوق والحريات والمصالح كلها مفاهيم رائعة ننطلق فيها من قيمنا وأصولنا الشرعية؛ فهذه كليات عامة تملؤها كل ثقافة بحسب قيمها ومعاييرها، يلاحقك ذات الاعتراض: الحقوق والحريات الشرعية على فهم مَن؟
وحين يغار المصلحون على أحكام الشريعة فيرفضون أي تعدٍّ عليها أو ردٍّ لأحكامها يأتيك ذات الاعتراض: هذا التعدي على الشريعة بمفهوم من؟
وهكذا، يأتي (على فهم مَن؟) ليفكك المعيار الشرعي من قيمته، ويكسر الميزان الإسلامي من اعتباره، لتكون الشريعة بناء خاملاً خاوياً على عروشه، ليس له إلا القيمة الشكلية الروحية، لكنه معيار محايد لا يقيس ولا يزن.
فلأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة) نطالب بالحكم السياسي القائم على المساواة المطلقة وحكم الناس بما يشتهون، ويبقى الدين شأناً خاصاً لا اعتبار له في حكم الناس لأننا لا ندري ما هو!
ولأننا لا ندري على (أي فهم تكون هذه الشريعة) فإنها تصبح مصمتة لا يُرجَع إليها في مفاهيم الحقوق والحريات والعدل والمصالح؛ بل يُكتفَى بالمصالح الدنيوية البحتة التي يتفق عليها الجميع ولا اعتبار للدين الذي لا يُدرَى ما هو!
وهكذا، أخرجنا العلمانية من الباب ثم ذهبنا نجري خلفها، أُخرجَت لأنها تعارض حكم الإسلام وترفض أصوله، وذهبنا إليها لأننا أصبحنا لا ندري ما هو الإسلام ولا على أي فهم تكون هذه الشريعة؛ فالنتيجة النهائية: تجاوز إشكالية رفض الدين إلى إشكالية القبول به هلامياً لا يُدرَى ما هو!
(على أي فهم؟) هو سؤال النسبية الشهير، الذي ما زال يتكرر منذ قدماء الفلاسفة اليونان ومرَّ في طريقه فجرف من أهل الضلال والبدع والتحريف مَن جرف وما يزال مسيره الجارف متواصل في إغراق القلوب بالشك والحيرة والتيه، حرمهم من حالة الطمأنينة التي يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، وله أثر عميق السوء في ترك بعض الناس لدينهم أو شكِّهم فيه، أو إضعاف يقينهم وطمأنينة قلوبهم، وربما أدَّى ببعض الناس إلى حالة انعدام المبالاة فيمارس مع الشريعة حالة (الإعراض) من دون بحث عنها ولا رفض لها، وهي صفة أهل الكفر، الإعراض حين تيأس نفوسهم من الوصول إلى اليقين {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: ٤]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: ٣].
نعم، لو كان الأمر متعلقاً بمسائل ظنية أو أحكام اجتهادية أو في المساحة التي لا نصوص قطعية فيها أو كان من الوقائع المتجددة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد، ونحو هذا مما هو مندرج في مساحة الاجتهاد والتقدير التي يتطلب المسلم فيها أرجح ما يراه حقاً، فالخلاف هنا أهون بكثير، مع أن سؤال النسبية له تأثير سلبي هنا أيضاً؛ فبدلاً من أن يسير المسلم خلف (الأرجح دليلاً) يتوجَّه من حيث لا يشعر إلى حيث (الأيسر) حكماً أو الأقرب للواقع؛ لكن الإشكال فيه أهون.
إن الإشكالية أن يلاحقك سؤال النسبية في الأصول القطعية وفي النصوص الظاهرة وفي الأحكام المجمَع عليها، وبدلاً من أن يقول المسلم فيها ما يجب عليه: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] أصبح بعض الناس يسأل ما هي الشريعة التي تريدون؟ فكأن ثمَّ اشتراطاً مسبقاً في أن يعرف ما هي الشريعة قبل أن يسلِّم لها.
سؤال النسبية لا يتحرَّك إلا حيث يجب الإيمان ، لا أحد يسأل في مجالات الديمقراطية أو الحرية أو الحقوق أو العدالة أو الإنسانية عن أي فهم تكون؟
هذا هو كاسر النسبية، يأتي على معيار الاحتكام إلى الكتاب والسنة فيهشِّمه، وكلما ضعف التسليم في القلب ، زاد هذا المعيار في الانكسار.
هذا هو الكاسر الأول، فأما الكاسر الثاني فسيأتيك بعد متابعة هذه الأمثلة:
يرفض أن يقول بمشروعية جهاد الطلب؛ لأنك إذا شرعت لنفسك غزو الآخرين فإن هذا يعني مشروعية غزوهم وقتالهم لك.
ولا يجوز لك أن تقول بقتل المرتد؛ لأن هذا يُشرِّع لهم أن يقتلوا الذين يدخلون في الإسلام في أوطانهم.
ولا يجوز أن تقول بمنع نشر الكفر والضلال؛ لأنك تُشرِّع لهم أن يمنعوا نشر الخير والإسلام
ولا يجوز أن تدعم إخوانك المسلمين المضطهدين؛ لأنك تُشرِّع للآخرين أن يدعموا إخوانهم في أوطان المسلمين.
ويتساءل بحرارة: كيف تجيز لنفسك جهاد الطلب وقتل المرتد ونشر الخير ودعم المضطهدين ولا تبيح للآخرين أن يفعلوا مثل ما تفعل؟
هذا هو الكاسر الثاني: مساواة الحقِّ بالباطل؛ فللباطل من المشروعية مثل ما للحق سواء بسواء؛ فلا يجوز أن تفعل أمراً مشروعاً مستمَدّاً من شريعتك لأنَّ الآخرين سيفعلون مثله، فيجب ترك فعل الحقِّ لأجل أن تكون عادلاً مع الباطل؛ فكما تمنع الباطل يجب أن تمنع الحق! وكما من حقك أن تفعل الحق فيجب أن تجعل للباطل مثله وإلا وقعت في الظلم !
غفل في غمراتِ وَهْمِ المساواة المطلقة بين الحقِّ والباطل عن أمور عدة:
الأول: غفل عن المعيار البدهي والضروري وهو أن منطلقه هو الكتاب والسنة، فمرجعيته في معرفة الحق هو الوحي وليس ما يفكر الناس فيه؛ فما قيمة معيارية الكتاب والسنة إذن؟
الثاني: أن الآخرين لا ينطلقون في تصوراتهم بناءً على مقارنتها بتصوراتنا، فهم ينطلقون بناء على ثقافتهم ومصالحهم؛ فمن الوهم الكبير أن يتخيل أحد أن الآخرين يكيِّفون حياتهم ونُظُمَهم بحسب نظامنا؛ فإذا أبحنا لهم شيئاً أباحوه وإلا حرَّموه، لا أحد يفكر بهذه الطريقة، فهو خيال خاطئ رجع فأفسد وكسر المعيار.
الثالث: أنه لا وجود لمفاهيم كونية كلية متفَق عليها ينطلق منها الناس جميعاً؛ فحين تتحدث عن العدل والظلم والحق والخير والشر فكلٌّ له تفسيراته وتقديراته لهذه المفاهيم، فهذه كليات ذهنية لا توجد مطلقة إلا في الذهن، وأما في الواقع فكلٌّ له تفسيره؛ فكلُّ قول تراه حقاً يوجد في المقابل من يراه باطلاً، وكلُّ أمانة يوجد من يراها خيانة، لا يمكن وضع قواعد كلية يتفق الجميع في النظر إليها فيتوحدون في حكمها على اختلاف زوايا نظرهم.
الرابع: أنه يساوي بين الحق والباطل، فيرى أن للباطل أن يفعل مثل ما يفعل الحق، وهذه مساواة بين أمرين قد فرق الله بينهما، فالحق يجب نشره وحفظه والدفاع عنه، والباطل يجب ردعه؛ فلا يُساوَى أبداً من ينشر كلمة الله بمن يريد نشر الباطل، هذه مساواة باطلة ومخالفة للعدل؛ فالعدل هو إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، وليس هو المساواة المطلقة بين الأشياء ولو اختلفت؛ بل إن المساواة بين الحق والباطل محض ظلم {أَفَنَجْعَلُ الْـمُسْلِمِينَ كَالْـمُجْرِمِينَ 35 مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
[القلم: 35 - 36]
وهكذا: تبقى قاعدة الرجوع إلى الكتاب والسنة ميزاناً ومعياراً منكسراً لا يؤدي غرضه في بعض القضايا؛ لأن المعيار العلماني القائم على تحييد الدين والمساواة التامة بين الحق والباطل كان مزاحماً وحاضراً، وربما يتبرأ كثير من الناس من هذه النتيجة لكنَّ العبرة بالواقع لا بالدعوى، فالمعيار الشرعي حين يكون مستقيماً فلا بد أن يكون له أثر في الوزن والقياس.أما حين يكون ساكناً جامداً فإنه معيار منكسر ما عاد معياراً وإن كان وما يزال يسمَّى كذلك.
وللمفاهيم الغربية معتمدة على قوَّتها السياسية والإعلامية ضغطٌ رهيبٌ على عقل المسلم وقلبه؛ يضغط عليهما حتى يضعف (معيارية) الشريعة لديه فيضعف وقد ينكسر أو يكون أكثر اعتزازاً وثقة؛ فلا تزيده هذه الإشكالات إلا إيماناً وتسليماً.