الحياة الطيبة وعد من الله لمن آمن وعمل صالحا
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الحياة الطيبة وَعْدٌ من الله لمن آمن وعمل صالحًا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
تضمَّنت هذه الآية الكريمة وعدًا مؤكدًا من الله سبحانه وتعالى لكل من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، بالحياة الطيبة في الدنيا، وبأحسن الجزاء في الآخرة، ولا شكَّ في أن إقسام المولى سبحانه وتعالى، ونسبته الإحياء والجزاء لنفسه تشريفٌ لمقام هذا الوعد بكل ما تضمنه من شروط وثمار.
وقد تنوَّعت تأويلات سلفنا الصالح رضوان الله عليهم في قوله تعالى: ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، فمنهم من قال: أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال، وهو ما رُوِيَ عن ابن عباس، قال: "الرزق الحسن في الدنيا".
وقال الضحاك: "الرزق الطيب الحلال"، ورُوِيَ عنه أيضًا: "يأكل حلالًا ويلبس حلالًا".
وقال آخرون: بأن نرزقه القناعة.
وذكر ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورُوِيَ أيضًا عن الحسن البصري رحمه الله.
وقال آخرون: بل يعني بالحياة الطيبة: الحياة مؤمنًا بالله، عاملًا بطاعته.
وذكر من قال بذلك الضحاك، قال: "من عمل عملًا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله، فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة لا خير فيها".
وقال آخرون: الحياة الطيبة: السعادة.
وهو ما رُوِيَ عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الحياة في الجنة.
حيث رُوِيَ عن الحسن رضي الله عنه، قال: "لا تطيب لأحدٍ حياةٌ دون الجنة".
ورُوِيَ عنه أيضًا: "ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة".
وقال قتادة: "فإن الله لا يشاء عملًا إلا في إخلاص، ويُوجِب عمل ذلك في إيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]؛ وهي الجنة".
وقال مجاهد: "الآخرة، يحييهم حياة طيبةً في الآخرة".
وقال ابن زيد: "الحياة الطيبة في الآخرة: هي الجنة، تلك الحياة الطيبة، قال: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]"، وقال: "ألَا تراه يقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]، قال: هذه آخرته، وقرأ أيضًا: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ [العنكبوت: 64]، قال: الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة، ليس فيها موت لأحد من الفريقين".
ورُوِيَ عن الربيع، قال: "الإيمان: الإخلاص لله وحده، فبيَّن أنه لا يقبل عملًا إلا بالإخلاص له".
وأَولَى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياةً طيبةً بالقناعة، وذلك أن من قنَّعه الله بما قسم له من رزق، لم يُكْثِر للدنيا تعبه، ولم يعظُم فيها نَصَبُه، ولم يتكدَّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها[1].
ومن لطيف ما يُلحَظ في سياق النص القرآني لهذه الآية الكريمة، إلحاقها بما تضمنته الآيات السابقة من النهي عن اتخاذ الأيمانِ خديعةً وبيان قبح ذلك، والأمر بالوفاء بعهد الله، وبيان عظم ودوام ثوابه، ونفاد متاع الدنيا، والأمر بالصبر والوعد بأحسن الجزاء للصابرين من جهة، ثم إتْبَاعها بما تضمنته الآيات التالية من الحث على تلاوة كتاب الله، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، وبيان بطلان نفوذه على المؤمنين المتوكلين على ربهم، وحُجَّته على من يتولَّونه ويشركونه في أعمالهم، فبيَّنت هذه الآيات في مجملها عناصر الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين.
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 94 - 100].
[1] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر – محمد بن جرير الطبري، دار التربية والتراث، ج17، ص289-292.