خطب ومحاضرات
سلسلة كيف تصبح عالماً [4]
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
نستكمل ما كنا قد بدأناه من حلقات حول موضوع أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتحدثنا في عدة محاور، كان المحور الأول هو قيمة العلم بصفة عامة في الشريعة، قيمة العلم في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى وفي السنة المطهرة، وأثبتنا بما لا يدع مجالاً للشك أن العلم أساس لبناء الأمم، وأول ما فتح به كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وأن أكثر الكلمات التي جاءت في كتاب ربنا بعد لفظ الجلالة العلم.
ثم تحدثنا في محاضرة أخرى عن رصد الواقع عن قراءة في واقعنا العلمي، وفجعنا جميعاً بالفجوة الهائلة التي بين أمة الإسلام وبين غيرها من الأمم التي كانت تتشابه مع أمتنا في ظروف كثيرة، ولكنها أخذت بأسباب العلم فسبقت وقادت، وتحدثنا عن الفجوة التي بين جامعات المسلمين وبين الجامعات الغربية، والفجوة التي بين علماء المسلمين والعلماء الغربيين والشرقيين، وبين التقنية والاختراع والتصنيع والابتكار والإبداع وما إلى ذلك، وكان هذا قراءة حقيقية للواقع الذي نعيش فيه، وذكرنا ذلك بالإحصائيات والأرقام.
ثم في المحاضرة السابقة أخذنا في تحليل: لماذا وصل المسلمون إلى هذا الوضع؟ وذكرنا أن القضية في الأساس تمكن في فهم المسلمين على مدار عصور طويلة، حيث فهموا أن العلوم تقسم إلى علوم دين وعلوم دنيا، فتحرج المتحمسون لهذا الدين والملتزمون به والمحبون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينصرفوا عن علوم الدين إلى علوم الدنيا، وأن ينشغلوا بدنياهم عن آخرتهم، كما صور الذين صنفوا هذا التصنيف: علوم دنيا وعلوم دين.
وأما التصنيف الذي أرتاح له كما ذكرت أنها علوم شريعة أو شرع وعلوم حياة، والحياة ليست مذمومة كالدنيا في كتاب ربنا سبحانه وتعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، أما الدنيا فتأتي مذمومة ملعونة، حتى قال رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً) ، فالدنيا بصفة عامة ملعونة، فكيف يقرن علماً بالدنيا ثم يكون من العلوم المحمودة؟ هذا ما لم يفهمه الكثير من الملتزمين، وبذلك أعرضوا عن التفوق في العلوم الدنيوية أو العلوم الحياتية، وتوجهوا إلى العلوم الشرعية فقط، العلوم الشرعية في غاية الأهمية، وهي لا شك تسبق العلوم الحياتية، لكن لا تقوم أمة إلا بالعلمين سوياً.
وفي المحاضرة السابقة عن الإسلام وعلوم الحياة ذكرنا خمسة أدلة على أن العلوم الحياتية هي علوم شرعية، وعلى أن العلوم الحياتية إن أخذت بنية وبإخلاص تقود إلى الجنة إن شاء الله رب العالمين.
قبل أن نخوض في الأدلة الخمسة الأخرى، نجيب على بعض الأسئلة التي وردت.
في الحقيقة أنا سعيد جداً بالتفاعل الذي لمسته من الحضور من إخواننا وأخواتنا في هذا الموضوع مع صعوبته، أنا أعلم أنه ليس من القصص وليس من الحكايات والروايات التي تمر سريعاً على القلب، بل هو موضوع صعب ويحتاج إلى جهد، ومع ذلك ما شاء الله لا قوة إلا بالله تفاعلكم هذا يرفع الهمة، وحضوركم بهذه الكثافة أيضاً يرفع الهمة.
ونسأل الله أن يتقبل منا أجمعين، وأن يرفع من درجات المسلمين، وأن يعلي من شأن هذه الأمة في الدنيا وفي الآخرة.
هذه ملحوظة جاءت من كثير من الإخوة، تقول: إن الدور الرئيسي في التغيير هو دور الحكومات ونحن أفراد لا نملك الإنفاق على البحوث العلمية، ولا نملك تحسين مستوى الجامعات، ولا نملك كذا وكذا من الأمور التي ذكرتها، براءة الاختراع، والترجمة، والكمبيوتر، والعلوم التقنية، والتصنيع، والشركات الكبرى، لا نملك كل هذا.
أقول: لقد تعرضنا لهذه النقطة في الدرس السابق، ولا مانع من أن نعيد الكلام فيها؛ لأهميتها، وما أطلبه في هذه المحاضرات بعد أن نفهم قيمة العلم فهماً جيداً أن نسدد ونقارب، لو فهمنا حقيقة هي في غاية الأهمية فأنا على يقين أننا بإذن الله سنعمل بطريقة مختلفة تماماً، ليس فقط في هذا الموضوع، ولكن في كل أمور حياتنا، هذه الحقيقة: هي أن الله عز وجل برحمته لا يحاسبنا على النتائج، ولكن يحاسبنا على الأعمال، ماذا عملت في حدود إمكانياتك وقدراتك التي وضعها لك رب العالمين ويسرها لك في هذه الدنيا؟ فأنت لو أتاح الله عز وجل لك التفوق بمساحة معينة فهذه قدرتك، وليس مطلوباً منك ما هو أعلى من ذلك، يقول عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].
فالمطلوب من الإخوة الأفاضل الحضور، والذين يسمعون هذا الكلام بعد ذلك سواء في أشرطة أو يقرءونه في كتاب أو يسمعونه من أحد الإخوة الذين ينقلون هذا الكلام، مطلوب منه أن يتحرك بقدر طاقته لرفعة الأمة في هذا الباب باب العلم، نريد من الطالب أن يكون متفوقاً، ومن الأستاذ أن يصبح معلماً جيداً ومبدعاً، ومن المهندس أن يقرأ أكثر وأكثر حتى يبدع في مجاله، قد لا تسمح الظروف أن تكون على درجة مساوية لعلماء الغرب في هذه الظروف التي تمر بها الأمة، ليس هذا هو المطلوب الآن، المطلوب هو بذل الجهد قدر المستطاع، سنتعرض إن شاء الله في المحاضرة القادمة لقضية كيف نصبح علماء؟ وما هو الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه الفرد ليصبح عالماً؟ وأنا أقول: عالماً بملء الفم لا أقول فقط: طالب علم، أو كما يقول بعض الإخوة بتواضع شديد: طويلب علم، لا، نحن نريد طموحاً عالياً، أن تكون عالماً مفيداً لأمتك، مفيداً للإنسانية بصفة عامة، مبدعاً مخترعاً، رائداً للناس ولست مقلداً فقط لغيرك، فنحن نحاسب على الأعمال ولا نحاسب على النتائج، افرض أنك عملت كل الذي عليك لإصلاح مؤسسة علمية، أنت في جامعة أو في معهد أو في مركز بحثي أو في مدرسة أو في غير ذلك، وحاولت قدر المستطاع ثم جابهوك بالعراقيل وكسروا ما أصلحت وأفسدوا ما فعلت فعلوا كل ذلك فلم تظهر نتيجة، هل حرمت الأجر؟ لا.
يا أخي! كن كـأسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه، كـمصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، كحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، كـأنس بن الربيع ، كـأنس بن النضر ، كالكثير والكثير والكثير من عظماء الصحابة الذين قدموا ثم لم يشاهدوا تمكيناً في حياتهم، إنما جاء التمكين بعد ذلك بسنوات وسنوات، هل حرموا من الأجر؛ لأن النتائج لم تتحقق في عصرهم وفي عهدهم؟ أبداً، إذا راجعت قصة قيام الدولة الأيوبية والانتصار على الصليبيين ستجد أنه حتى قبل نور الدين محمود وقبل عماد الدين زنكي كان هناك العلماء الذين يربون الأمة على الخير وعلى الصلاح، وعلى العودة إلى الله عز وجل، وعلى البناء في شتى المجالات، فـنور الدين محمود لم يكن مهتماً فقط بالعلوم الشرعية وإن كان شديد الاهتمام بها رحمه الله، لكن كان مهتماً أيضاً ببناء المصانع، وبناء الأسواق، وتعبيد الطرق، وتعليم الحمام الزاجل، والتدريب على السلاح، وبناء القلاع، عمل كل الأسباب المادية المتاحة في حياته ولم يصل إلى قوة الصليبيين في زمانه، ولكنه قدم ما يستطيع، هذا ما نسأل عنه.
لو فهمت هذا المفهوم ما يضرني أن هناك الآلاف والملايين من المفسدين في الأرض في بلاد المسلمين وفي غير بلاد المسلمين، حتى لو كنت وحدي، وسأقول كما قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما قرر أن يحارب المرتدين وعارضه الصحابة؛ لقلة العدد، قال: سأقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي. يعني: سأستمر حتى لو كنت في هذا الطريق وحدي.
إذاً: هذا هو الطريق الذي به تصلح الأمة إن شاء الله رب العالمين.
هذا سؤال طيب جداً من إحدى الأخوات تقول: أين المرأة في قضية العلم، تقول: إنها متزوجة ولها أولاد وعندها انشغالات في أمور خاصة ببيتها وبأسرتها، فهل تترك هذه الأمور وتتفرغ لتحضير الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه وما إلى ذلك أم لا؟
أقول: الأخوات الفاهمات الواعيات نرجو منهن الكثير والكثير، نريد منهن التحرك في ثلاثة محاور رئيسية، هذا الكلام للأخوات اللاتي يسمعن ومن لم يسمع منهن فنحن ننقل لزوجاتنا وننقل لبناتنا وننقل لأمهاتنا.
دور المرأة في البيت
المحور الأول في قضية العلم: هو البيت، فالمرأة مسئولة عن إخراج علماء من بيتها، ليس بالضرورة أن تكون المرأة هي التي تقود حركة التغيير في قضايا العلم، ولكن هي مسئولة عن إخراج الزوج والأولاد في صورة علمية جيدة، تهيئ الجو المناسب للزوج ليبدع وينتج، تحمسه على الإبداع وعلى الاختراع وعلى التفوق والتقدم، توفر له الجو الهادئ المناسب، تضيق أحياناً على ظروف المعيشة في داخل البيت؛ لأجل توفير كتب العلم، وهذا ينبغي أن يترسخ بداخلنا، أنا أرى الناس التي تتزوج تفكر أن تأتي بغرفة نوم وغرفة سفرة، وصالون وأجهزة كهربائية وكذا وكذا، وقد لا يخطر على بالهم أن يشتروا مكتبة قيمة، وتكون من ضمن الأمور التي ستبدأ بها الحياة الزوجية، ليس مهماً أن تكون المكتبة القيمة في الخشب، أو في الشكل الخارجي، لا، أنا أقصد مكتبة قيمة فيها الكتب المتنوعة النافعة لك ولأسرتك، فالزوجة تستطيع أن تهيئ هذا الجو في داخل البيت، والأهم من ذلك أيضاً الأولاد، وكلنا نرى ظروفنا كرجال في هذا الآونة التي تعيش فيها الأمة للأسف الشديد، كلنا مشغولون فمنا الذي يشتغل في الصبح وبعد الظهر وبين كذا وكذا، ومنا الذي لا يرجع إلى البيت إلى في منتصف الليل أو بعد ذلك، ويستيقظ الصبح باكراً وينطلق إلى عمله، وهذا ليس عذراً للأزواج، ولكن هذا واقع نرصده، والزوجة هي التي تبقى مع الأولاد، فهل سيكون أولادك كـالبخاري وكـمسلم وكـأحمد بن حنبل وكـالشافعي وكغيرهم من علماء المسلمين رحمهم الله جميعاً، أو كـجابر بن حيان وكـالرازي وكهؤلاء الذين غيروا وجه التاريخ، أم سيكون إنساناً بسيطاً عادياً من الصعوبة بمكان أن يعرف بعض المعلومات عن دينه وعن حياته وعن أمته؟ هذا دور في غاية الأهمية.
نقف وقفة مع زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ومع أمه رضي الله عنها وأرضاها، فـزيد بن ثابت وهو طفل صغير عمره ثلاث عشرة سنة أراد أن يخرج للقتال في بدر واشتاقت نفسه للجهاد في سبيل الله وهو لا يزال صغيراً، لأن حركة المجتمع كله كانت متجهة للجهاد، فارتفعت حميته للجهاد في سبيل الله، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رآه صغيراً فأشفق عليه فرده، فبكى زيد بن ثابت حباً واشتياقاً للجهاد، ورجع إلى البيت وهو يبكي، فقالت له الأم: ما يبكيك؟ فقال: ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله، فقالت: إن كنت لا تستطيع أن تجاهد بالسيف كما يقاتل المقاتلون، فأنت تستطيع أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالعلم الذي عندك، أنت تقرأ وتكتب وتحفظ من القرآن ما لا يحفظ غيرك، وتقرؤه كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعال نعرض هذه الإمكانيات على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يستغلها.
انظروا إلى الأم الفاهمة الواعية للشرع.
هناك بعض الإخوة لما يغلق باب الجهاد يعتقد أن القضية انتهت، وما عليه إلا أن يقعد إلى أن يفتح باب الجهاد، نقول: لعله لا يفتح باب الجهاد في حياته، فالمسلم لا يقعد ويركن أبداً، فـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أغلق أمامه باب ففتحت له أمه باباً آخر، ألا وهو باب العلم، وذهبت به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرضت عليه الإمكانيات التي عنده، فسمع منه صلى الله عليه وسلم واختبره، فقرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أمامه القرآن وأحسن القراءة، وهو أيضاً يكتب، وهذا نادر في هذه البيئة، فقال له: اذهب وتعلم لي لغة اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابي، وذهب زيد بن ثابت فتعلم اللغة العبرية في سبع عشرة ليلة، ستقول لي: كيف استطاع أن يعمل هذا؟ سأقول لك: لا أعرف، لكن هو ربنا سبحانه وتعالى بارك له في وقته، أو لعله كان يعرف بعض الأمور عن اللغة العبرية وأتقن هذه اللغة في هذه الأيام السبعة عشر، لكن الظاهر أن ربنا بارك له في وقته وبارك له في علمه، وفتح له أبواب الخير، وعاد يتكلم اللغة العبرية كأهلها، وبعثه الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم لغة أخرى وهي السريانية فتعلمها، ثم أمره بكتابة الوحي، وصار من كتبة الوحي، فمات الرسول عليه الصلاة والسلام في سنة إحدى عشرة من الهجرة، وأوكل الصديق رضي الله عنه وأرضاه لـزيد بن ثابت مهمة جمع القرآن، وكان عمره حينها ثلاثاً وعشرين سنة.
انظر ثلاثاً وعشرين سنة في زماننا يكون وقت التخرج من الجامعة، فـزيد بن ثابت أوكلت إليه مهمة من أثقل المهام في تاريخ البشرية جمعاء، إنها مهمة جمع كتاب الله عز وجل ليحفظ إلى يوم القيامة، كل واحد فينا وفي أي بلد في العالم وفي أي زمن من الأزمان يقرأ في كتاب ربنا سبحانه وتعالى يعطي زيداً أجراً، دون أن ينقص من أجورنا شيئاً إن شاء الله، فهذا عمل أفاد الأمة الإسلامية، وهو من جانب العلم وليس من جانب الجهاد كما ذكرنا.
يقول الحسن البصري كلمة عجيبة جداً يقول: يوم القيامة يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء قد نستغرب من هذا الكلام، لكن هذا واقع، كم من المجاهدين الذين جاهدوا بإخلاص، ولكن ليس عن علم فضلوا وأضلوا، كما هو حال الخوارج، والآن ترون بعض الناس تتطوع بقتل من لا يجوز أن يقتل وتدمير ما لا يجوز أن يدمر، وفعل الموبقات باسم الإسلام، وهو يتوجه توجهاً صادقاً إلى الله عز وجل، لكن هذا التوجه يفتقر إلى العلم، فيضيع نفسه ويضيع أمته، وهذا مشاهد بكثرة في القديم والحديث، من أجل هذا قدم العلم على الجهاد في سبيل الله، وليس معنى هذا أن نأخذ العلم فقط ونترك الجهاد، لا، (فكل ميسر لما خلق له) يعني: كل واحد بحسب إمكانياته، لكن الآن لا عذر لك أن تكون عالماً.
إذاً: نرجع لأختنا السائلة ونقول: إن من الأدوار الهامة جداً عليك أن تعملين كما عملت أم زيد بن ثابت ، وهو أن تربي ابنك حتى يكون عالماً من علماء الأمة، وسنتعرض إن شاء الله في الدروس القادمة لموقف أم الشافعي وأم أحمد بن حنبل وأم البخاري وغيرهم من العظماء وأم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فهناك كثير جداً من العظماء أثرت فيهم الأمهات، وأخرجن للأمة رجالاً غيّروا -حقيقةً- من وجه التاريخ.
إذاً: هذا هو أول محور تسير فيه المرأة المسلمة.
دور المرأة في مجال تخصصها العلمي
المحور الثاني في غاية الأهمية أيضاً: وهو محور العلم نفسه الخاص بها، أعني: مجال تخصصها، وأنا أهيب بالنساء والأخوات أن يتخصصن قدر المستطاع فيما يفيد الأمة عن طريق الأخوات، يعني: هناك بعض الأمور تنجح فيها المرأة أكثر من الرجل، وتسد فيها المرأة الثغرة أكثر من الرجل، فنحن نحتاج في هذه الأمة طبيبات يسترن عورات المسلمات، فليس هناك داع أن مسلمة تذهب وتكشف عند رجل طبيب مع وجود النساء الطبيبات الماهرات الحاذقات الفاهمات في علمهن فهماً دقيقاً جيداً، فهذه ثغرة نحتاج إلى سدها، وليس فقط في فرع النساء والتوليد، لا، بل في فرع الباطنية والأمراض الجلدية والعيون والأنف والأذن والحنجرة.. وغير ذلك من الفروع التي تتحرج المرأة جداً من الذهاب إلى الطبيب.
لكن إذا لم يوجد غير الطبيب وانعدمت النساء المعالجات فللمرأة أن تذهب إلى الطبيب؛ لأن عندها عذراً في ذلك، لكن إذا كان عند المرأة ثغرات فلماذا لا تسدها؟
إذا: هذا مجال.
وأيضاً مجال التدريس، هذا مجال في غاية الأهمية، وقد تبدع فيه المرأة إبداعاً غير مسبوق وتصل إلى ما لا يصل إليه الرجال عادةً، والمرأة بصفة عامة أقرب إلى الأطفال منها من الرجال.
إذاً: هذا محور في غاية الأهمية: مجال تخصصها، فتبدع فيه إن شاء الله، لكن أؤكد على أن النقطة الأولى هي المرتبة الأولى، والنقطة الثانية هي المرتبة الثانية، والنقطة الثالثة هي المرتبة الثالثة، يعني: بهذا الترتيب.
دور المرأة في مجال الدعوة إلى الله عز وجل وتوريث التخصص للآخرين
المحور الثالث: الدعوة إلى الله عز وجل، لا تكون الدعوة إلى الله عز وجل إلا عن علم، فلابد للمرأة أن تتعلم شيئاً وتنقله، فلا تنقل شيئاً عن جهل فتضر من تنقل إليه، سواء كان هذا العلم علماً شرعياً أو علماً حياتياً، يعني: إذا كنت متقنة لشيء في العلوم الشرعية: متقنة للتجويد، متقنة لبعض الأمور الفقهية، متقنة للرقائق والأخلاق.. أو غير ذلك، فانقلي هذه العلوم إلى غيرك: (بلّغوا عني ولو آية).
كذلك توريث العلم التخصصي، فإذا كنت متخصصة في النساء والتوليد أو في غيرها فاهتمي ببنات جنسك من النساء المسلمات اللاتي في نفس التخصص، وذلك بالرفع من مستواهن ومن قدراتهن.
هناك شيء مهم جداً أيضاً وهو داخل في هذه النقطة ألا وهو تعليم القراءة والكتابة، فالأمية كما ذكرنا في الدرس السابق متفشية بدرجة غير مقبولة في بلاد المسلمين، وهي في النساء أعلى منها في الرجال، فنسبة الأمية في النساء تقريباً ضعف نسبة الأمية في الرجال، ليس في مصر وحدها ولكن في بلاد العالم أجمع، ومنها بلاد العالم الإسلامي.
وأنا أنتهز المناسبة من أجل أن أحمس أخواتنا وإخواننا أيضًا على قضية الأمية هذه؛ لأن عندي سؤالاً يقول: هل مطلوب مني أن أحضر رسالة ماجستير ودكتوراه وعندي عدد هائل من الأمة لا يقرأ ولا يكتب أصلاً؟
فأقول: كل ميسر لما خلق له، عندنا أناس ستبدع في مجال الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والهندسة والعلوم الأخرى، وعندنا أناس تستطيع أن تفرغ طاقتها الدعوية، وتخدم أمتها عن طريق تعليم أولئك الذين لا يقرءون ولا يكتبون، يعني: ليس كلنا يستطيع أن يصل إلى درجة العلماء المتخصصين في الفرع الذي أنت فيه، لكن ممكن تشغل نفسك بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهذا عمل جليل، وهو عمل ليس صعباً، فأحد إخواني كنت أتحدث معه عن الأمية قبل أن آتي إلى المحاضرة، فقال لي: أنا قعدت مع اثنين من حراس العمارات في إحدى المناطق مدة شهر واحد فقط، وكنت أجلس معهم كل يوم ساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين أعلمهم فيها اللغة العربية، وكانا أميين لا يعرفان القراءة ولا الكتابة، وخلال شهر أتقن الاثنان القراءة والكتابة، هل هذا متيسر للجميع؟ أنا أعتقد أنه متيسر وأكثر من ذلك، لكن ابدأ وربنا سبحانه وتعالى ييسر: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، نعود إلى نسبة الأمية في مصر، الحمد لله نزلت نسبة الأمية من (45%) عام (2003م) إلى (29%) في هذه السنة، يعني: أن (29%) من شعب مصر أمي لا يكتب ولا يقرأ، وهذه نسبة خطيرة، يعني: من كل عشرة ثلاثة لا يستطيعون القراءة أصلاً لا يفتحون المصحف أساساً ولا كتاباً ولا صحيفة ولا غير ذلك، ونحن قاعدون بينهم وهم قاعدون بيننا، فهم ليسوا منعزلين في بلد ثان، لا، بل هم موزعون علينا كلنا، كل واحد منا يرى حوله منهم، فهؤلاء مسئولية من؟ مسئولية الحكومة فقط أم مسئوليتنا جميعاً؟
من أجل أن تعرف إلى أي حد صار هذا الرقم مخيفاً فاعرف نسبة الأمية في إسرائيل أيضاً، ونحن نقارن بإسرائيل؛ لأنها دولة -كما ذكرنا- لقيطة خرجت من لا شيء منذ حوالي ستين سنة أو أقل من ستين سنة، لكن أخذوا بالعلم حقيقة علم الحياة، فنسبة الأمية في إسرائيل (2.9%)، بينما في مصر (29%) يعني: العلامة العشرية فقط انتقلت قليلاً، هي جاءت كذا قدراً (2.9%) فقط.
هذه النسبة في سن من كان فوق خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة، لو أخذنا الشباب فسنجد أن (15%) من شباب مصر لا يكتب ولا يقرأ، ستقول: مجانية التعليم، وستقول: التعليم الإلزامي: وستقول وستقول.. انظر (15%) من شبابنا لا يقرءون ولا يكتبون، في إسرائيل هذه النسبة (0.2%)، هؤلاء الشباب سيكبرون وهم غير متعلمين إذا لم يعلم مستقبلاً، وستحدث مشكلة؛ لأن هذا الشاب الذي لا يقرأ ولا يكتب لن يكون حريصاً تمام الحرص في الأغلب على أن يكون أولاده من العلماء، فأكبر شيء قد يعمله أنه يعلمهم أن يقرءوا ويكتبوا، أو يدخلهم المدرسة ليأخذوا شهادة أياً كانت هذه الشهادة، لكن لن يكون عنده طموح العلماء؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولا يستطيع أن يساعد أولاده، فهذه فتنة كبيرة، والمسئولية مسئوليتنا.
إذاً: أنا أعلمه الآن من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة قبل أن يؤسس أسرة، أعلمه بحيث إذا أسس أسرة يربي أولاده تربية صحيحة.
أنا أريد أن أخبركم عن رقم غريب جداً: نحن دائماً نضرب الأمثلة بإسرائيل وبأمريكا وبإنجلترا وبفرنسا فيأتي لنا نوع من الإحباط؛ لأن هذه بلاد متقدمة كما يقولون، نحن كما قلنا عندنا (15%) في الشباب أمية، فنسبة الأمية في كوبا في الشباب من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة، وكوبا هي بلد موجودة، لكن لا نسمع عن أي تأثير لها في حركة التاريخ أو الواقع فنسبة الأمية فيها (صفر) يعني: ليس فيها ولا شاب من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة لا يقرأ ولا يكتب، كل الشباب يقرأ ويكتب.
وهذه الصحوة جديدة فجائز أن تكون نسبة الأمية في كوبا عند الكبار (0.2%)، التي يقابلها عندنا (29%)، يعني: كوبا دولة فقيرة ومضطهدة ومحاربة، وبعيدة عن أسباب العلم المتاحة في البلاد الأوروبية والغربية واليابان والصين.. وما إلى ذلك من بلاد متقدمة الآن، ومع ذلك استطاعت أن تحل مشاكلها، فإذا كانت كوبا استطاعت أن تعمل هذا فمؤكد نحن نستطيع أن نعمل مثلهم، وراجعوا إحصائيات الأمية لعام (2005م) التابعة للأمم المتحدة ستجدون أن أمريكا اللاتينية معظم الدول التي فيها تجاوزت فيها نسبة التعليم (98%) أو (97%): تشيلي، البرازيل، فنزويلا، كولومبيا، حتى كولومبيا التي فيها المخدرات والمشاكل، ومع ذلك مستوى التعليم عندها عالياً، فلا عذر لنا في هذه الأمور، إن كان نظام التعليم فاسداً وهناك محاولات لإضعافه أكثر وأكثر، وهناك تسلط من أمريكا ومن الاتحاد الأوروبي وتغيير المناهج وتحريفها، فلا نلتفت إلى مثل هذه الأمور ونتقاعس، بل على كل واحد منا دور في التغيير، ولا ننتظر أن ينزل التغيير من السماء أو من أي مكان من خارج مصر، أو من خارج العالم الإسلامي بصفة عامة.
هذا الكلام الذي أذكره عن مصر ينطبق على كل البلاد الإسلامية تقريباً، فنسبة الأمية في البلاد الإسلامية تقريباً هي نفس النسبة التي في مصر، أكثر بقليل أقل بقليل، لكن في العموم نسبة الأمية في البلاد العربية مجتمعة (16%) لكن في مصر للأسف أعلى نسبة (29%)، ونسبة الأمية في العالم ككل في الإناث (14%)، لكن سنذكر نسبة الأمية عند الإناث في مصر من أجل أن أحمس أخواتي ليتحركن في هذا المجال، وهذا من أبلغ مجالات الدعوة إلى الله عز وجل، وهناك بعض الأخوات تهتم أن تعلم أختها حكماً فقهياً واحداً أو حكم تجويد واحد أو خبراً واحداً أو قصة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أقول: لو تعلميها القراءة والكتابة تكونين قد فتحت لها أبواب العلم لتنهل منها ما تشاء، وستبدع بعد ذلك في كل المجالات، فلو علمتها كيف تقرأ وتكتب في ساعة أو ساعتين ستنطلق تقرأ هي عشر ساعات خمس ساعات، وسيفتح ربنا سبحانه وتعالى لها من أبواب رحمته.
فنسبة الأمية في مصر عند الإناث (41%) بينما في كوبا (صفر) هذه أزمة خطيرة، وتحتاج إلى وقفة جادة منا، وتحتاج من أهل الخير أن ينفقوا في هذا المجال وبسخاء، يعني: لو كان ليس عندك القدرة على التعليم فأحضر شخصاً محترفاً في التعليم وأعطه مرتباً مجزياً وجيداً واجعله يعلم أهل الحي القراءة والكتابة، أليست هذه حسنات؟ هذه نقلة نوعية في حضارة هذه الأمة، يستطيع الفرد الأمي بعد تعلمه أن يقرأ قرآناً وحديثاً وديناً وشرعاً وغيرها من الأمور، ويعرف في نفس الوقت أحداث العالم ويعرف وضعه بالنسبة لغيره من الأمم، ويدرك المؤامرات التي تحاك ضد المسلمين، ويدرك الخير من الشر، والصالح من الفاسد.
هذا أمر في غاية الأهمية نريد أن نفرغ له أوقاتاً وأموالاً وجهداً وفكراً.
وفي إسرائيل نسبة الأمية في الإناث (4%) والذكور (1.5%) سأضرب مثالاً غريباً جداً على نسبة الأمية في بلد تستغربونه، كل هذا ليس من أجل أن تحبطوا، لا، لأجل أن تتحركوا، لا يقل أحد: ظروفنا صعبة، هذه الكلمة لا نريد أن نسمعها أبداً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى مطلع عليك ويعرف ظروفك جيداً، ولن يحاسبك إلا على إمكانياتك، فنسبة الأمية عندنا -كما قلنا- في الشباب (15%) إجمالاً رجالاً ونساء، من خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة، فتعالوا انظروا إلى نسبة الأمية في فلسطين المحتلة في الضفة الغربية وغزة فنسبة الأمية هناك (1%) فظروفنا أم ظروفهم أصعب؟ يعني: مهما حاولت أن تأتي بالمبررات فلا توجد عندنا مبررات، المبرر الوحيد أن الصحوة الإسلامية هناك تحركت في مجال التعليم، وبدءوا يعلمون الناس حقيقة، فأنتجوا مع وجود القهر اليهودي، ومع وجود الحصار، ومع قلة الأموال، ومع قتل الشباب والرجال والنساء، فظروفهم صعبة في كل شيء، المباني المهدمة والأطفال يذاكرون تحت الشجر وفي الشارع، والمدرسة الواحدة تجمع بداخلها (200) و(300) طالب، وهم يعيشون بداخلها ويبيتون بداخلها؛ لأن بيوتهم تهدمت، ونسبة الأمية عندهم (1%) الله أكبر!
إذاً: لماذا تكون عندنا (15%)؟! ولماذا الأمية في المغرب في الشباب (30%) ضعف مصر، ونسبة الأمية في الكبار (48%)؟! هذه كارثة.
نحن نشاهد الشواطئ والمدن الفخمة في المغرب، لكن ادخل داخل البلد وشاهد وانظر إلى الوضع هناك، إنه وضع مأساوي، كذلك في اليمن، في السودان، في مصر، في باكستان، الوضع يحتاج إلى وقفة في منتهى الجدية من الأمة الإسلامية.
إذاً: هذه المجالات أو المحاور مهمة جداً للنساء وللرجال، ونحن قلنا: محاور النساء؛ لأجل أن تعرف كل امرأة ما هو الدور الذي عليها، وترتيبها كالآتي:
أولاً: الأولاد والزوج هذه مسئولية أولى على المرأة؛ لأن مسئولية العلم تختلف عن الأولاد والزوج، فعلم الكيمياء أو الطب أو غير ذلك من العلوم إذا لم تستطيعي أن تعطي فيها جهداً فقد تأتي غيرك وتجتهد فيها وتبدع، لكن زوجك لن تأتي زوجة الجيران لتستكشف أخباره هذا لا ينفع أليس كذلك؟ لا يجوز شرعاً.
كذلك أولادك مسئولية في رقبتك لا تستطيعين أن توكلي بهذه المهمة إلى خادمة أو إلى جارة، أو إلى مدرسة.. أو إلى غير ذلك، وتنزعين عن نفسك هذه المهمة الهامة جداً، سوف تسأليني عليها أمام الله عز وجل يوم القيامة.
ثانياً: قضية العلم كما ذكرنا.
ثالثاً: قضية التوريث، يعني: أن أورث العلم لغيري، سواء كان علماً تخصصياً أو علماً شرعياً أو قراءة وكتابة.
المحور الأول في قضية العلم: هو البيت، فالمرأة مسئولة عن إخراج علماء من بيتها، ليس بالضرورة أن تكون المرأة هي التي تقود حركة التغيير في قضايا العلم، ولكن هي مسئولة عن إخراج الزوج والأولاد في صورة علمية جيدة، تهيئ الجو المناسب للزوج ليبدع وينتج، تحمسه على الإبداع وعلى الاختراع وعلى التفوق والتقدم، توفر له الجو الهادئ المناسب، تضيق أحياناً على ظروف المعيشة في داخل البيت؛ لأجل توفير كتب العلم، وهذا ينبغي أن يترسخ بداخلنا، أنا أرى الناس التي تتزوج تفكر أن تأتي بغرفة نوم وغرفة سفرة، وصالون وأجهزة كهربائية وكذا وكذا، وقد لا يخطر على بالهم أن يشتروا مكتبة قيمة، وتكون من ضمن الأمور التي ستبدأ بها الحياة الزوجية، ليس مهماً أن تكون المكتبة القيمة في الخشب، أو في الشكل الخارجي، لا، أنا أقصد مكتبة قيمة فيها الكتب المتنوعة النافعة لك ولأسرتك، فالزوجة تستطيع أن تهيئ هذا الجو في داخل البيت، والأهم من ذلك أيضاً الأولاد، وكلنا نرى ظروفنا كرجال في هذا الآونة التي تعيش فيها الأمة للأسف الشديد، كلنا مشغولون فمنا الذي يشتغل في الصبح وبعد الظهر وبين كذا وكذا، ومنا الذي لا يرجع إلى البيت إلى في منتصف الليل أو بعد ذلك، ويستيقظ الصبح باكراً وينطلق إلى عمله، وهذا ليس عذراً للأزواج، ولكن هذا واقع نرصده، والزوجة هي التي تبقى مع الأولاد، فهل سيكون أولادك كـالبخاري وكـمسلم وكـأحمد بن حنبل وكـالشافعي وكغيرهم من علماء المسلمين رحمهم الله جميعاً، أو كـجابر بن حيان وكـالرازي وكهؤلاء الذين غيروا وجه التاريخ، أم سيكون إنساناً بسيطاً عادياً من الصعوبة بمكان أن يعرف بعض المعلومات عن دينه وعن حياته وعن أمته؟ هذا دور في غاية الأهمية.
نقف وقفة مع زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ومع أمه رضي الله عنها وأرضاها، فـزيد بن ثابت وهو طفل صغير عمره ثلاث عشرة سنة أراد أن يخرج للقتال في بدر واشتاقت نفسه للجهاد في سبيل الله وهو لا يزال صغيراً، لأن حركة المجتمع كله كانت متجهة للجهاد، فارتفعت حميته للجهاد في سبيل الله، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رآه صغيراً فأشفق عليه فرده، فبكى زيد بن ثابت حباً واشتياقاً للجهاد، ورجع إلى البيت وهو يبكي، فقالت له الأم: ما يبكيك؟ فقال: ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله، فقالت: إن كنت لا تستطيع أن تجاهد بالسيف كما يقاتل المقاتلون، فأنت تستطيع أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالعلم الذي عندك، أنت تقرأ وتكتب وتحفظ من القرآن ما لا يحفظ غيرك، وتقرؤه كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعال نعرض هذه الإمكانيات على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يستغلها.
انظروا إلى الأم الفاهمة الواعية للشرع.
هناك بعض الإخوة لما يغلق باب الجهاد يعتقد أن القضية انتهت، وما عليه إلا أن يقعد إلى أن يفتح باب الجهاد، نقول: لعله لا يفتح باب الجهاد في حياته، فالمسلم لا يقعد ويركن أبداً، فـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أغلق أمامه باب ففتحت له أمه باباً آخر، ألا وهو باب العلم، وذهبت به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرضت عليه الإمكانيات التي عنده، فسمع منه صلى الله عليه وسلم واختبره، فقرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أمامه القرآن وأحسن القراءة، وهو أيضاً يكتب، وهذا نادر في هذه البيئة، فقال له: اذهب وتعلم لي لغة اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابي، وذهب زيد بن ثابت فتعلم اللغة العبرية في سبع عشرة ليلة، ستقول لي: كيف استطاع أن يعمل هذا؟ سأقول لك: لا أعرف، لكن هو ربنا سبحانه وتعالى بارك له في وقته، أو لعله كان يعرف بعض الأمور عن اللغة العبرية وأتقن هذه اللغة في هذه الأيام السبعة عشر، لكن الظاهر أن ربنا بارك له في وقته وبارك له في علمه، وفتح له أبواب الخير، وعاد يتكلم اللغة العبرية كأهلها، وبعثه الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم لغة أخرى وهي السريانية فتعلمها، ثم أمره بكتابة الوحي، وصار من كتبة الوحي، فمات الرسول عليه الصلاة والسلام في سنة إحدى عشرة من الهجرة، وأوكل الصديق رضي الله عنه وأرضاه لـزيد بن ثابت مهمة جمع القرآن، وكان عمره حينها ثلاثاً وعشرين سنة.
انظر ثلاثاً وعشرين سنة في زماننا يكون وقت التخرج من الجامعة، فـزيد بن ثابت أوكلت إليه مهمة من أثقل المهام في تاريخ البشرية جمعاء، إنها مهمة جمع كتاب الله عز وجل ليحفظ إلى يوم القيامة، كل واحد فينا وفي أي بلد في العالم وفي أي زمن من الأزمان يقرأ في كتاب ربنا سبحانه وتعالى يعطي زيداً أجراً، دون أن ينقص من أجورنا شيئاً إن شاء الله، فهذا عمل أفاد الأمة الإسلامية، وهو من جانب العلم وليس من جانب الجهاد كما ذكرنا.
يقول الحسن البصري كلمة عجيبة جداً يقول: يوم القيامة يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء قد نستغرب من هذا الكلام، لكن هذا واقع، كم من المجاهدين الذين جاهدوا بإخلاص، ولكن ليس عن علم فضلوا وأضلوا، كما هو حال الخوارج، والآن ترون بعض الناس تتطوع بقتل من لا يجوز أن يقتل وتدمير ما لا يجوز أن يدمر، وفعل الموبقات باسم الإسلام، وهو يتوجه توجهاً صادقاً إلى الله عز وجل، لكن هذا التوجه يفتقر إلى العلم، فيضيع نفسه ويضيع أمته، وهذا مشاهد بكثرة في القديم والحديث، من أجل هذا قدم العلم على الجهاد في سبيل الله، وليس معنى هذا أن نأخذ العلم فقط ونترك الجهاد، لا، (فكل ميسر لما خلق له) يعني: كل واحد بحسب إمكانياته، لكن الآن لا عذر لك أن تكون عالماً.
إذاً: نرجع لأختنا السائلة ونقول: إن من الأدوار الهامة جداً عليك أن تعملين كما عملت أم زيد بن ثابت ، وهو أن تربي ابنك حتى يكون عالماً من علماء الأمة، وسنتعرض إن شاء الله في الدروس القادمة لموقف أم الشافعي وأم أحمد بن حنبل وأم البخاري وغيرهم من العظماء وأم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فهناك كثير جداً من العظماء أثرت فيهم الأمهات، وأخرجن للأمة رجالاً غيّروا -حقيقةً- من وجه التاريخ.
إذاً: هذا هو أول محور تسير فيه المرأة المسلمة.
المحور الثاني في غاية الأهمية أيضاً: وهو محور العلم نفسه الخاص بها، أعني: مجال تخصصها، وأنا أهيب بالنساء والأخوات أن يتخصصن قدر المستطاع فيما يفيد الأمة عن طريق الأخوات، يعني: هناك بعض الأمور تنجح فيها المرأة أكثر من الرجل، وتسد فيها المرأة الثغرة أكثر من الرجل، فنحن نحتاج في هذه الأمة طبيبات يسترن عورات المسلمات، فليس هناك داع أن مسلمة تذهب وتكشف عند رجل طبيب مع وجود النساء الطبيبات الماهرات الحاذقات الفاهمات في علمهن فهماً دقيقاً جيداً، فهذه ثغرة نحتاج إلى سدها، وليس فقط في فرع النساء والتوليد، لا، بل في فرع الباطنية والأمراض الجلدية والعيون والأنف والأذن والحنجرة.. وغير ذلك من الفروع التي تتحرج المرأة جداً من الذهاب إلى الطبيب.
لكن إذا لم يوجد غير الطبيب وانعدمت النساء المعالجات فللمرأة أن تذهب إلى الطبيب؛ لأن عندها عذراً في ذلك، لكن إذا كان عند المرأة ثغرات فلماذا لا تسدها؟
إذا: هذا مجال.
وأيضاً مجال التدريس، هذا مجال في غاية الأهمية، وقد تبدع فيه المرأة إبداعاً غير مسبوق وتصل إلى ما لا يصل إليه الرجال عادةً، والمرأة بصفة عامة أقرب إلى الأطفال منها من الرجال.
إذاً: هذا محور في غاية الأهمية: مجال تخصصها، فتبدع فيه إن شاء الله، لكن أؤكد على أن النقطة الأولى هي المرتبة الأولى، والنقطة الثانية هي المرتبة الثانية، والنقطة الثالثة هي المرتبة الثالثة، يعني: بهذا الترتيب.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] | 3094 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [1] | 3032 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [7] | 2758 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [3] | 2404 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [2] | 2400 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] | 2001 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] | 1696 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [6] | 1424 استماع |