سلسلة كيف تصبح عالماً [9]


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد.

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

اليوم مع المحاضرة التاسعة من المحاضرات الخاصة بقضية: أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وذكرنا في المحاضرات السابقة أننا سنتعرض اليوم إلى مثال للعلوم الحياتية في التاريخ الإسلامي، وقد يتساءل أحد الإخوة: لماذا الحديث عن التاريخ فلنتكلم في واقعنا؟ نقول: إن دراسة التاريخ لها فوائد جمة، ونحتاجها في مثل هذه الموضوعات وفي غيرها.

معرفة سنن الله عز وجل في خلقه

أولاً: التاريخ يتكرر، فبه نعرف سنن الله عز وجل في خلقه، فعندما نأتي نتحدث عن قصة من قصص السابقين بحيثيات معينة وظروف معينة، وأدت إلى نتائج معينة، نتوقع أنه إذا مرت بنا نفس الظروف ستحدث معنا نفس النتائج، ولذلك يقص ربنا سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم القصص القرآني بشكل مكثف، فحوالي ثلث القرآن الكريم قصص؛ لنعرف السنن الثابتة التي يفعلها رب العالمين سبحانه وتعالى في إدارة ملكه وكونه وخلقه سبحانه وتعالى، وهو برحمته ثبت هذه السنن؛ كي لا يزيغ الناس ولا يضلوا، بحيث إذا عرفناها سرنا في الطريق الصحيح، ومن ثم نستطيع أيضاً أن نرى المستقبل، ولن نرى المستقبل إلا بدراسة التاريخ، فعندما أرى حدثاً معيناً أدى إلى نتائج معينة، فإذا كنت في نفس الحدث الآن وفي نفس الظروف فإني أتوقع نفس النتائج، فأستطيع أن أستنتج أو أستنبط بالنسبة للأمة أو للأفراد كيف سيكون مصيرها في المستقبل؛ لهذا ندرس التاريخ الإسلامي وغير التاريخ الإسلامي، ونمر على صفحات مختلفة من صفحاته.

واقعية التطبيق

ثانياً: التاريخ يبرز لنا أمراً هاماً جداً أسميه: واقعية التطبيق، أي: أننا أحياناً عندما نقوم ببعض القواعد النظرية تجد أنها صعبة التحقيق، لكن عندما نعرف معاً الحكاية من التاريخ نجد أن هذه القاعدة النظرية قد طُّبقت كثيراً في مراحل التاريخ المختلفة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعلنا نأخذ مثالاً مما ذكرناه في دروسنا، ذكرنا على سبيل المثال قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يُستطاع العلم براحة الجسم. وقد بعث لي أحد الإخوة برسالة يقول فيها: أنا لم أستطع تطبيق هذه القاعدة، فأعطني قاعدة أخرى أستطيع أن أكون عالماً بها من غير موضوع تعب الجسم هذا: لا يُستطاع العلم براحة الجسم؛ لأن هذا ليس في إمكانياتي وليس في قدراتي أن أفعل مثل كذا وكذا من الأمور التي تطلبها تنام قليلاً وتعمل كثيراً وتقدح وتركز وتتعب؟ أقول: عندما نذكر قصة يوجد فيها أن بشراً مثله استطاع أن يفعل هذه الأمور أكثر من مرة حتى أصبحت ديدن حياته، وأصبح أمراً متكرراً في كل مراحل حياته في الصغر والكبر، وفي الفقر والغنى، وفي الجوع والعطش، وفي الشبع والرضا، وفي كل أحواله هو يفعل هذا الأمر ويكرره، فإنا نستطيعه، فعندما أذكر لك مثالاً ومثالين وثلاثة وأكثر من ذلك، ويُصبح سنة ماضية في الأرض: أن كل العلماء الذين ذكرناهم تعبوا في حياتهم، ونعرض لمواقف التعب فإن هذا يُرسّخ المعلومة، ويعطيك شيئاً اسمه: واقعية التطبيق، أي: أن هذا الكلام واقعي، والقاعدة التي قلناها قاعدة واقعية، استطاع غيرنا من البشر وهم في ظروفنا ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ولهم رغبات كرغباتنا، ولهم طموحات وأحلام كطموحاتنا وأحلامنا.. استطاعوا أن يحققوا ذلك الأمر.

إذاً: فنحن نستطيعه أيضاً، فهذا أمر واقعي.

العزة والرفعة والسمو

الأمر الأخير الذي أذكره ومن أجله ندرس التاريخ ونمر على مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي: هو أن التاريخ المجيد عزة لصاحبه، فعندما أذكر مراحل من التاريخ فيها نوع من العزة والسمو والرفعة، ترفع رأسك افتخاراً بالانتماء لهؤلاء السلف، وهؤلاء الأجداد الذين أضافوا وأضافوا لمسيرة الإنسانية بصفة عامة، وليس لمسيرة الأمة الإسلامية فقط، ترفع رأسك فعلاً، وهذا أمر مشاهد ومجرب، ففي فرنسا كان هناك مجموعة من الشباب المراهقين الصغار الذين يتراوح أعمارهم ما بين (14) و(15) سنة، وهم من المسلمين الذين تربوا في فرنسا، ومعظم هؤلاء مولود في فرنسا كان مدرسهم يتكلم معهم في العزة الإسلامية والكرامة الإسلامية والفخر بالإسلام، فلا يجد عندهم مردوداً لهذا الكلام، ويشعرون بشيء من الخزي؛ لأن العالم كله الآن على المسلمين، والمسلمون الآن مستضعفون، ووضعهم كما ترون، والشاب هناك لا يرى أن هناك أملاً في القيام ولا يرى أن هناك فرصة للنهوض، ففي يوم من الأيام أقيم معرض في باريس للاختراعات الإسلامية أو الإسهامات الإسلامية في العلوم، وكان معرضاً رسمياً حكومياً أقامته فرنسا تحت رعاية المركز الفرنسي للدراسات العربية، فجمعوا فيه من المتاحف المختلفة الموجودة في أوروبا الاختراعات التي عملها المسلمون في التاريخ، ووضعوها في معرض واستمر هذا المعرض حوالي أسبوعين أو ثلاثة، ومن يدخله يدفع قيمة تذاكر وما إلى ذلك، فعملوا رحلة لهؤلاء الأطفال أو الشباب المسلمين إلى هذا المعرض، وفي أثناء ذهابهم إليه وهم في السيارة كان المشرف يتحدث معهم وهم في حالة يرثى لها من الأمور المتعلقة بالعزة أو بالكرامة أو برفع الرأس؛ لكونهم من المسلمين، فذهبوا إلى المعرض ورأوا الإنجازات الإسلامية والإسهامات العظيمة التي أضافت وأضافت الكثير لمسيرة الإنسانية، فعادوا بروح مختلفة تماماً، عادوا رافعين رءوسهم، وأن أوروبا هذه التي يعيشون فيها حالياً، والتي كانوا ينظرون إليها النظرة العالية جداً، وأنها قارة قد سبقت المسلمين بقرون طويلة، عادوا وهم ينظرون إليها على أنها تابعة للمسلمين وليست سابقة، فمعظم العلوم الأوروبية نتجت عن علوم المسلمين التي نقلت إلى أوروبا، وأوروبا كانت في حالة من الجهل الشنيع في كل فروع العلم، وكان المسلمون متفوقين في كل فروع العلم، ورأوا ذلك مكتوباً ومنصوصاً وموثقاً بالحقائق العلمية وبالصور المؤكدة، وببعض الأجهزة التي وجدت في هذه المتاحف، ونُقلت من بلاد المسلمين إلى بلاد أوروبا في مراحل مختلفة من مراحل التاريخ، وجدوا هذا وشاهدوه رأي العين، واستمعوا إلى الشرح، وعرفوا تقدير العلماء الأوروبيين لعلماء المسلمين السابقين، ولك أن تتصور مدى الحماسة والحمية التي عادوا بها من هذا المعرض، وانطلقوا بعد ذلك للعمل.

إذاً: عندما أتحدث عن قصة في التاريخ فإنها ترفع روحك المعنوية وتريك ما الذي فعل أجدادك والسلف في مسيرة العلم، وستتشجع إلى أن تفعل مثلهم وأعظم، وتقود الأرض كما قادوها وأعظم، وهذا مشاهد في مراحل مختلفة كثيرة في التاريخ الإسلامي.

الشيء اللطيف والجميل أن مسيرة العلم في التاريخ الإسلامي كانت مسيرة متفوقة في مراحل كثيرة جداً، حتى في مراحل الضعف السياسي والعسكري، أي: في أيام سقوط المسلمين أمام التتار وأمام الصليبيين، وفي ظروف صعبة جداً من تفكك وفرقة في العالم الإسلامي ومع كل هذه الظروف تجد أن المسيرة العلمية كانت متقدمة، وأن العلماء المسلمين كانوا سابقين بشكل لافت للنظر، لكن الانطباع والتصور الذي عندنا اليوم وعند العالم عن التاريخ الإسلامي انطباع وتصور سياسي فقط، وللأسف لا نعرف من تاريخنا إلا الأمور السياسية فقط، ومع ذلك فهي مشوهة، لا نعرف إلا انحراف بعض الخلفاء، ولا نعرف إلا الفتن والصراعات التي دارت، ولا نعرف إلا المؤامرات والمكائد والمصائب والكوارث، لا نعرف إلا هذا التاريخ، حتى عندما نتكلم عن عزّة الإسلام والمسلمين لا نتحدث إلا عن حطين وعين جالوت والزلاقة والأرك والمواقع التي انتصر فيها المسلمون، وهي مواقع عظيمة حقاً، ولكنها ليست الوجه الوحيد للتاريخ الإسلامي، فهناك وجوه حضارية هائلة عظيمة للتاريخ الإسلامي، منها: هذا الوجه العلمي الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه المجموعة من المحاضرات، ولكن نحن -مع الأسف- ليست لدينا هذه المعلومات، فإنني عندما أسألك: ماذا تعرف عن أبي كامل المصري ؟ ولعل الناس أول مرة تسمع بهذا الاسم، ولو عرفته فقد لا تعرف عنه سوى سطر أو سطرين، ولا تعرف قصة حياة هذا العالم الجهبذ الذي قاد مسيرة العلم في العالم بأسره فترة طويلة من الزمان، من يسمع عن أبناء موسى بن شاكر أول فريق علمي في العالم في الميكانيكا والهندسة وعلم الحيل كما يسمونه، كانت لهم اختراعات متقدمة ومتفوقة استطاعوا أن يصلوا إليها؟ من يعرف تفصيلات حياتهم وطريقتهم في البحث ومؤلفاتهم، وتأثيرهم في الحضارة الغربية وفي أوروبا بصفة عامة؟ من يعرف أبا الفتح الخازني أو ابن الحائك أو قطب الدين الشيرازي أو محمد الفزاري أو أبا العباس الجوهري أو أبا العباس الفرغاني أو الحكيم المروزي ؟ هذه أسماء غريبة بالنسبة لنا، مع أنها لا تخلو من كتاب علم في العالم الغربي، فما من كتاب في الكيمياء أو الفيزياء أو الفلك أو الجغرافيا إلا وفي مقدمته يذكر هؤلاء.

هذه أسماء غيّرت تماماً وجه التاريخ، ونحن لا نعرف أصلاً الاسم فضلاً عن سيرة الإنسان، فضلاً عن منهجه في الحياة، فضلاً عن طريقته في تناول الأمور، سواء كانت الأمور العلمية أو الأمور الشرعية والدينية في حياتهم، فهذه أمور غفل عنها المسلمون أعواماً وقروناً طويلة، وكُتب التاريخ بأيدي غير المسلمين وشوّه وزوِّر، وارتكبت في حقه جرائم شتى، لكن أين المسلمون الذين يراجعون هذا التاريخ وينقونه مما أُضيف إليه وليس فيه، ويُظهرون وجوه العظمة كما أظهر أعداؤنا وجوه السوء سواء بالحق أو بالتزوير.

أولاً: التاريخ يتكرر، فبه نعرف سنن الله عز وجل في خلقه، فعندما نأتي نتحدث عن قصة من قصص السابقين بحيثيات معينة وظروف معينة، وأدت إلى نتائج معينة، نتوقع أنه إذا مرت بنا نفس الظروف ستحدث معنا نفس النتائج، ولذلك يقص ربنا سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم القصص القرآني بشكل مكثف، فحوالي ثلث القرآن الكريم قصص؛ لنعرف السنن الثابتة التي يفعلها رب العالمين سبحانه وتعالى في إدارة ملكه وكونه وخلقه سبحانه وتعالى، وهو برحمته ثبت هذه السنن؛ كي لا يزيغ الناس ولا يضلوا، بحيث إذا عرفناها سرنا في الطريق الصحيح، ومن ثم نستطيع أيضاً أن نرى المستقبل، ولن نرى المستقبل إلا بدراسة التاريخ، فعندما أرى حدثاً معيناً أدى إلى نتائج معينة، فإذا كنت في نفس الحدث الآن وفي نفس الظروف فإني أتوقع نفس النتائج، فأستطيع أن أستنتج أو أستنبط بالنسبة للأمة أو للأفراد كيف سيكون مصيرها في المستقبل؛ لهذا ندرس التاريخ الإسلامي وغير التاريخ الإسلامي، ونمر على صفحات مختلفة من صفحاته.

ثانياً: التاريخ يبرز لنا أمراً هاماً جداً أسميه: واقعية التطبيق، أي: أننا أحياناً عندما نقوم ببعض القواعد النظرية تجد أنها صعبة التحقيق، لكن عندما نعرف معاً الحكاية من التاريخ نجد أن هذه القاعدة النظرية قد طُّبقت كثيراً في مراحل التاريخ المختلفة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعلنا نأخذ مثالاً مما ذكرناه في دروسنا، ذكرنا على سبيل المثال قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يُستطاع العلم براحة الجسم. وقد بعث لي أحد الإخوة برسالة يقول فيها: أنا لم أستطع تطبيق هذه القاعدة، فأعطني قاعدة أخرى أستطيع أن أكون عالماً بها من غير موضوع تعب الجسم هذا: لا يُستطاع العلم براحة الجسم؛ لأن هذا ليس في إمكانياتي وليس في قدراتي أن أفعل مثل كذا وكذا من الأمور التي تطلبها تنام قليلاً وتعمل كثيراً وتقدح وتركز وتتعب؟ أقول: عندما نذكر قصة يوجد فيها أن بشراً مثله استطاع أن يفعل هذه الأمور أكثر من مرة حتى أصبحت ديدن حياته، وأصبح أمراً متكرراً في كل مراحل حياته في الصغر والكبر، وفي الفقر والغنى، وفي الجوع والعطش، وفي الشبع والرضا، وفي كل أحواله هو يفعل هذا الأمر ويكرره، فإنا نستطيعه، فعندما أذكر لك مثالاً ومثالين وثلاثة وأكثر من ذلك، ويُصبح سنة ماضية في الأرض: أن كل العلماء الذين ذكرناهم تعبوا في حياتهم، ونعرض لمواقف التعب فإن هذا يُرسّخ المعلومة، ويعطيك شيئاً اسمه: واقعية التطبيق، أي: أن هذا الكلام واقعي، والقاعدة التي قلناها قاعدة واقعية، استطاع غيرنا من البشر وهم في ظروفنا ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ولهم رغبات كرغباتنا، ولهم طموحات وأحلام كطموحاتنا وأحلامنا.. استطاعوا أن يحققوا ذلك الأمر.

إذاً: فنحن نستطيعه أيضاً، فهذا أمر واقعي.