سلسلة كيف تصبح عالماً [2]


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

استكمالاً لما كنا نتحدث عنه في محاضرة العلم وبناء الأمم ذكرنا أن هناك نوعين من العلوم: علوم شرعية كالفقه والحديث والعقيدة وغيرها من علوم الشرع، وعلوم حياتية كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وغيرها من أنواع العلوم الحياتية.

لا شك أن الذي يرصد حال الأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة يجد أنه بفضل الله عز وجل أن هناك صحوة إسلامية ملموسة؛ فنحن نشاهد المساجد ممتلئة وخارج المساجد أيضاً ممتلئ، والصبر على الصلوات الطويلة وختم القرآن, وصلاة التهجد والعبادات العظيمة التي كانت قد فترت عقوداً طويلة من الزمان قبل الصحوة الإسلامية الأخيرة.

نرى بفضل الله الشباب المتحمس يقرأ ويتعلم ويدرس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ويتفقه في الدين، بل منهم من يتخصص إلى جوار مهنته في هذه الأمور الشرعية، لا شك أن هذه صحوة تسعدنا، لكن لابد من الوقوف وقفة هامة جداً، هذه الوقفة الهامة هي مع العلوم الحياتية، ما حال أمتنا في العلوم الحياتية؟ ما حال أمتنا في علوم الطب والهندسة؟ لا شك أن أمتنا تعاني حالة من التردي في العلوم الحياتية، وليس هذا كلاماً عاطفياً، إنما هناك ظواهر ومشاهدات واستقراءات نريد أن نتحدث عنها اليوم، فأي مشكلة لها حل، وأول وسائل الحل أن تعرف الواقع، ليست هذه دعوة للإحباط ولا دعوة للتشاؤم؛ فعندما يأتي إلينا مريض يعالج من مرض كذا أو كذا لابد أن تعرف واقع المريض: هل عنده أمراض أخرى؟ عمره كم سنة؟ ما هي ظروفه؟ هل عمل عمليات قبل ذلك أم لا؟ أخذ أدوية أو لم يأخذ؟

إذاً نعرف واقع المريض حتى نصف له العلاج السليم.

فحديثنا اليوم سيكون بالأرقام والإحصائيات والتقارير الرسمية في بلادنا، وفي بلاد العالم العربي والإسلامي، وفي العالم، هذه الإحصائيات والأرقام قد تكون مؤلمة، لكنه ألم لابد منه، إذا أردت القيام فلابد من معرفة الواقع.

ذكرنا بالمحاضرة السابقة أن العلم أساس بناء الأمة، وأن أهم شيء في بناء الأمة العلم، فإن اختفى هذا العلم سقط البناء لا محالة، فلا أمل لأمتنا في قيام إلا بالعلم، لكن هناك فهم عند بعض المسلمين أو عند كثير من المسلمين الملتزمين أن هذا العلم هو العلم الشرعي فقط، فتهمل العلوم الحياتية ويهتم بالعلوم الشرعية.

عدم اهتمام الملتزمين بتخصصاتهم في العلوم الحياتية

العلوم الحياتية يجب أن يهتم بها المسلمون، لكن الواقع الذي فيه المسلمون هل هم مهتمون حقيقة بها أم هم غافلون عنها؟ هذه مشاهدات وظواهر: الظاهرة الأولى: قمت بنوع من الرصد للمتفوقين دراسياً في أكثر من جامعة، فوجدت أن القليل جداً من المائة الأوائل في الكليات المختلفة في الأماكن المختلفة في البلاد المختلفة من بلاد المسلمين، القليل جداً يكون من الملتزمين إسلامياً، من أصحاب التوجه الإسلامي الواضح، نعم، هناك من يصلي هناك من يصوم، لكن لا يتخذ الإسلام منهجاً له في حياته، الذي يتخذ الإسلام منهجاً له في حياته ويتفوق ويسبق قليل، هذا أمر مشاهد وهذه حقيقة واقعة، بهذه الظاهرة نجد أن أصحاب التوجه الإسلامي أولوياتهم أثناء الدراسة مرتبة بصورة يبدو فيها خلل كبير، قد يهتم جداً بلقاء ديني أو مقرأة للقرآن وهذا طيب، لكنه لا يهتم أبداً بحضور محاضرة علمية في تخصصه، قد يهتم بالخروج في مسيرة أو مظاهرة وهذا أيضاً بضوابطه الشرعية طيب، لكن قد لا يهتم بالذهاب إلى مؤتمر علمي أو ندوة علمية أو محفل علمي يتعلم فيه أموراً لا يعرفها في تخصصه، قد يهتم بالقراءة في فروع الحديث والفقه والقرآن وغيرها من فروع العلوم الشرعية وهذا أيضاً طيب، لكنه لا يهتم في ذات الوقت بالقراءة في مجال تخصصه، نعم هناك رموز طيبة والحمد لله، لكن نحن نتكلم على عموم حال الأمة، النتيجة في آخر العام أن عدداً كبيراً من الطلاب الملتزمين ينجحون، لكن يأتي بمقبول أو جيد أو يسقط في مادة أو مادتين وقد يعيد السنة، والحجة أنه مشغول بدين الله عز وجل، أنه مشغول بالعمل في الدعوة إلى الله عز وجل، أقول: لا يستقيم أبداً أن يدعي مدع أنه داعية إلى الله عز وجل ثم هو فاشل في علومه التي أوكلت إليه، وفاشل في الثغرة التي يقف عليها.

فهذه ظاهرة ليست استثنائية نجدها في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد المسلمين هذه واحدة.

خوف غير الملتزمين من الالتزام لاعتقادهم أن الالتزام يسبب الفشل في الدراسة

الظاهرة الثانية: أن كثيراً من الطلاب غير الملتزمين بالتوجه الإسلامي يخشون الالتزام مخافة أن يكونوا مثل هؤلاء الملتزمين ودار بيني وبينهم حديث طويل عن أهمية العلم في الإسلام، فقالوا: كلام جميل على الورق وكلام نظري ليس له واقع في تطبيق حياة الملتزمين، ينظر غير الملتزم إلى ذاك الملتزم فيجد أنه في حالة متردية في الناحية العلمية، فيقول: ما وصل إلى هذه الحال إلا بسبب الالتزام، وهذا لم يلتزم وليس أصلاً مسلماً أو علمانياً أو غير ذلك من التوجهات الأخرى ثم هو يتفوق ويسبق ويتقدم، وهذه دول علمانية وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة كافرة وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تعبد البقر وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تنكر وجود الإله أصلاً وتسبق الدول الإسلامية، هذه فتنة كبيرة جداً، لكنه واقع مشاهد.

ظاهرة تسخير غير المسلمين للمسلمين في العلوم الحياتية

الظاهرة الثالثة: كنت مع أحد الإخوة من بلد عربي، وكنت قد أعطيت محاضرة عن أهمية العلم في الإسلام، وكان ذلك في أمريكا، وعلق بعد المحاضرة عن أنه لا ضرورة، ويتبنى هذا الرأي بقوة، ومعه مشجعون وجميعهم ملتزمون بالهدي الظاهر بالإسلام، ويقرءون كثيراً جداً في العلوم الشرعية، لكن الرأي عندهم أن الله عز وجل قد سخر هؤلاء النصارى والمجوس والبوذيين والهندوس والشيوعيين وغيرهم سخرهم لتصنيع احتياجات المسلمين، وأعطى الله عز وجل من فضله وكرمه المال للمسلمين، فالمسلمون عندهم مال والآخرون مسخرون لتصنيع الأشياء للمسلمين، انظروا هذا فكر معوج عجيب، اكتشفت أنه ظاهرة ليس من واحد، بل أصبح له مشجعون يرتاح إلى كثرة المال وإلى الشراء من هنا وهناك بماله، دون أن يفكر في تصنيع أو اختراع أو إبداع أو سبق أو ريادة لغيره في هذه العلوم الحياتية.

عدم اهتمام أهل الأموال الخيرين بالإنفاق على العلم وأهله كغيره من أوجه الخير

الظاهرة الرابعة، ظاهرة أيضاً ملموسة بشدة وهي: طرق إنفاق المسلمين في أوجه الخير، قد يتحمس المسلمون جداً للإنفاق على بناء مسجد، لكن القليل الذي ينفق على بناء مؤسسة علمية، أو ينفق على طلبة العلم المغتربين، أنا أريد واحداً منكم يزور مدينة البعوث، ويرى الطلاب المغتربين القادمين من أفريقيا ليتعلموا في الأزهر أو في غيره العلوم الإسلامية وغيرها، ينظر إلى حالهم سيجد (10) و(15) و(20) شخصاً يسكنون في حجرة أو حجرتين وهم في حالة متردية من الفقر والضياع، والواحد منهم سيتعلم ويعود إلى بلد لعله الوحيد الذي يعرف فيها الدين، ومع ذلك الإنفاق على طلبة العلم ليس وارداً عند كثير من أهل الخير من المسلمين، نعم هم أهل خير ويدفعون في سبيل الله أموالاً كثيرة، لكن لم يدخل العلم في بؤرة اهتمامهم فهم ينفقون على الفقراء والمساكين وعلى أمور أخرى عظيمة؛ لكن لا يفكرون في إنشاء مؤسسة علمية أو رعاية مثل هؤلاء الطلاب، أو إنشاء موقع إسلامي يرد الشبهات عن المسلمين، أو بناء مدرسة تربي المسلمين تربية صحيحة، سليمة على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى في البلاد الغربية في أمريكا في المدينة الواحدة قد تجد (10) و(15) و(20) مسجداً ولا تجد مدرسة واحدة، فيتعلم أطفال المسلمين في مدارس الأمريكان مع ما فيها من موبقات وأفكار منحرفة وبعد عن الدين كلية، ويضيع الأطفال والمسلمون مشغولون جداً ببناء مسجد عاشر أو عشرين أو ثلاثين ولا يجتمعون لبناء مدرسة، العلم ليس في بؤرة الاهتمام.

حديثنا اليوم في هذه المحاضرة لو خرجنا فقط بوضع العلم في بؤرة اهتمامنا حتى دون معرفة الوسائل لتحقيقه فهذا أمر جيد، ونقلة هائلة أن نصبح من المهتمين جداً بقضايا العلم والتعليم في الأمة الإسلامية، والوسائل بعد ذلك بإذن الله كثيرة، والموفق من وفقه الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] إذاً: ينبغي لنا أن نعرف أن هذه قضية مهمة تحتاج إلى بذل وقت وجهد وفكر وعرق ومال وحياة، تبذل حياتك لأجل هذه القضية العظيمة الهامة.

هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب

الظاهرة الخامسة: هجرة العقول الإسلامية من بلاد المسلمين إلى بلاد الغرب، وتسمى ظاهرة استنزاف العقول، فأي واحد فيه أمل أن يكون عالماً من العلماء، أو عنده رغبة وحماسة في التعلم يلتقط إلى بلاد الغرب ويبدع ويبتكر هناك، فيضيف قوته إلى قوتهم وعلمه إلى علمهم، وتتردى الحالة في بلاد المسلمين أكثر وأكثر، وهذا ليس مجرد واحد أو اثنين أو عشرة بل هذه ظاهرة.

انظروا إلى البلاد الغربية ماذا تعمل لاستقطاب العلماء؟ عندما نضرب أمثلة من بلاد الغرب أو أمريكا لا نقصد أبداً الإحباط للمسلمين، لا، نحن نرفع واقعاً كما قلنا، الواقع قد يكون مراً، لكن لابد من معرفته لتغييره، لابد أن أعرف أسباب القوة عندهم وأسباب الضعف عندنا؛ لنعدل بعد ذلك من المسار، فنصبح نحن أقوياء ونسود العالم كما أراد لنا ربنا سبحانه وتعالى.

فأمريكا في التسعينات أعطت (12) مليون تأشيرة هجرة إليها، وفي عام (1995م) قاموا بتعديل في قانون الهجرة؛ لكي يستقطبوا العقول المفكرة والمبدعة في العالم، فخصصوا (200) ألف تأشيرة سنوياً للعقول المبدعة، انظروا إليها تحاول أن تبني نفسها أكثر وأكثر، مع أن أمريكا رقم واحد في العالم في العلوم الآن؛ ومع ذلك أي عقل يظهر فيه نوع من الذكاء أو الإبداع تعمل له إغراءات حتى يأتي إليها، لا يأتي بعقد عمل ويعيش كالأجير عندهم، ولكن يعطى الجنسية ويعطى كل الصلاحيات، أحياناً المسلم يعيش في بلاد مسلمة سنوات وسنوات ولا يستطيع أن يحصل على هذه الجنسية، بينما إذا ذهب إلى أمريكا بتأشيرة الهجرة ثلاث سنوات ويحصل على الجنسية الأمريكية، ويصبح كأي مواطن أمريكي.

نحن نريد أن نستفيد من كل الخبرات ما دامت لا تتعارض مع الشرع، ونحن المسلمون جنسيتنا مسلمة، قابلت واحداً في الكويت ليس معه أي جنسية أبداً، فهو يعيش من غير جنسية سموه بدون، يعني: بدون جنسية، يعيش في منطقة ما بين الكويت والسعودية والعراق؛ فقد قاموا بإحصائيات للسكان فسقط هذا وأمثاله من الإحصاء فلا هم عراقيون ولا هم كويتيون ولا هم سعوديون فأصبحوا بدون جنسية، عاش (20) سنة في الكويت يحاول أن يأخذ الجنسية فلا يستطيع، ثم ذهب إلى كندا وظل سنة واحدة وأخذ الجنسية الكندية، وهو يعمل في الكمبيوتر، فكل إبداعاته في مجال الكمبيوتر لصالح كندا، هذه كارثة.

وأمريكا كما ذكرت تعطي (200) ألف تأشيرة سنوياً للعقول المبدعة، ولو حصل في سنة من السنوات أنها أعطت (150) ألفاً فقط فالسنة التي بعدها تأخذ (250) ألفاً حتى تعوض النقص في العقول المبدعة، و(200) ألف تأشيرة هذه يأتي منهم تقريباً (100) ألف من الهند؛ لأن الهند تفوقت جداً في مجال الكمبيوتر، بل سبقت حتى بعض الشركات الأمريكية، فأمريكا تأخذ (100) ألف مبرمج كمبيوتر من الهند سنوياً، فانظر مدى الإضافة إلى علوم الكمبيوتر في أمريكا ومدى الحرمان الذي ستعاني منه الهند بفقد هؤلاء، فأمريكا تفكر أن تستقطب العقول المفكرة لا أن تطردها بعيداً، تأتي بهم حتى وإن كانوا من دين مخالف ومن عقيدة مخالفة، وحتى وإن كان بينهم وبينهم عوائق كثيرة جداً، سواء كانت جغرافية أو مالية أو اجتماعية أو دينية أو عقائدية.. وغير ذلك من العوائق، كل ذلك يلتغي مع الإتيان بالعقل المتعلم الذي يرفع بلادنا عالياً أكثر وأكثر.

(50%) من الأطباء العرب يهاجرون إلى أمريكا وأوروبا، هذه الإحصائية مزعجة جداً بالنسبة لنا، وقد لا نصدقها، وليس في مصر فقط، بل في تونس والجزائر وسوريا والمغرب ولبنان وغيرها من البلاد العربية معظم الأطباء فيها يهاجرون إلى الغرب، وأصبحت هناك موضة في مصر من حوالي عشر سنين تقريباً، بدأت هذه الموضة وهي أن كل الطلاب عندنا في كلية الطب يجتهدون قدر الاستطاعة عمل المعادلة الأمريكية أو المعادلة الفرنسية أو معادلة جنوب إفريقيا، حتى جنوب إفريقيا، كذلك نيوزيلندا وأستراليا، ويحاول الطالب أنه يجد فرصة للخروج بلا عودة، الذي سينجح بقانون الانتخاب الطبيعي، أفضلهم سيهاجر، ويقعد هنا الذي لا يأتي بمجموع يؤهله للهجرة، (54%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا لا يرجعون مرة أخرى، يذهب ليدرس دراسات عليا فلا يرجع مرة أخرى.

(34%) من أطباء بريطانيا من أصول عربية، ثلث الطب في بريطانيا قائم على العرب.

(23%) من أصول عربية أيضاً في بريطانيا من المهندسين.

علماء الفيزياء والكيمياء في بريطانيا (15%) منهم من أصول عربية، كل هؤلاء عرب فقط، فكيف لو فتحنا المجال وتكلمنا على الدول الإسلامية؟! هذه أرقام مفزعة، باكستان يهاجر منها أعداد هائلة، الهند يهاجر منها أعداد هائلة، الهند وإن كانت دولة تدين بالهندوسية والمسلمون فيها أقلية، لكن هذه الأقلية المسلمة (100) مليون، وكثير منهم يهاجرون إلى إنجلترا وإلى فرنسا وإلى كندا وإلى أمريكا وإلى غيرها من بلاد أوروبا، دولة إسلامية كبرى هجرت إلى الآن (21) ألف طبيب نيجيري إلى أمريكا فقط.

انظروا إلى استنزاف العقول، عقول كثيرة تهاجر إلى غير بلادنا.

إفريقيا وأغلبها بلاد إسلامية تصدر سنوياً (20) ألف مهاجر سنوياً إلى أمريكا وأوروبا، ثم بعد ذلك تدفع (4) مليار دولار سنوياً للخبراء الأجانب الذين يأتون من أوروبا وأمريكا لأجل أن يعملوا مشاريع في داخل إفريقيا، العلماء الذين من إفريقيا صدرناهم واستوردنا علماء من الخارج ندفع لهم (4) مليار دولار سنوياً.

في بريطانيا (2000) طبيب عراقي، الطبيب الواحد في السبعينيات كانت تكلفته على الدولة (45) ألف دولار، هذا غير المنشآت والأدوات والمعامل والتعليم والأجور.. وغير ذلك، فالطالب من مرحلة دخوله الكلية إلى أن يصبح طبيباً يصرف عليه حوالي (45) ألف دولار، وبعد ذلك نسلمه لبريطانيا، احسب (2000) طبيب في (45) ألف دولار، هذا من دولة واحدة وهي العراق، هذه ظاهرة خطيرة.

اهتمام بعض الدول غير الإسلامية بتنمية اقتصادها بالعلم

الظاهرة السادسة: مشاهدات في دول غير إسلامية: كوريا، اليابان، ألمانيا، كوريا الشمالية وغيرها من البلاد، هذه البلاد وغيرها بدأت الإصلاح والتعليم والنهضة من حوالي خمسين أو ستين سنة، هذه البلاد كانت مدمرة تماماً ممسوحة بالأرض، ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية ممسوحة بالأرض، كذلك اليابان، كذلك كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، وإن شاء الله في أثناء هذه المحاضرات سندرس تجربة إحدى هذه الدول من البداية إلى النهاية؛ لنرى كيف كان الطريق بداية ونهاية بالعلم، كان العلم هو السلاح الأول وأحياناً الأوحد عند هذه البلاد للقيام ولرفع الرأس في وسط العالم الآن، وحتى لا نقول: نحن فقراء فهذه الهند بلد فقير شديد الفقر، وعندها تكدس سكاني رهيب، فتعداد سكانها الآن حوالي (1300) مليون إنسان أكثر من مليار، فهي تقترب من الصين الآن في عدد السكان، والهند سنة (1990م) كانت تصدر برامج كمبيوتر بـ (150) مليون دولار، وفي سنة (1999م) صدرت بـ(4) مليار دولار، انظروا إلى النمو وفي سنة (2008م) بعد سنتين من الآن ستصدر بـ(50) مليار دولار، فالكثير والكثير من الشركات الإلكترونية في أمريكا وفي بريطانيا وفي فرنسا تدار من الهند، والأجور أقل والخبرة أعلى.

رأيت بنفسي في أوروبا وفي أمريكا عندما يريد الطبيب أن يكتب تقريره عن الحالة لا يكتبه بيده؛ لأنه لا يوجد لديه وقت، فالوقت له ثمن، وإنما يسجله في كاست وبعد ذلك يكتبه غيره؛ حتى لا يضيع وقته بالكتابة؛ لأن عنده وقتاً يصرفه في العلم، فالتقرير ينتقل من فمه عبر جهاز إلى الهند فيكتب في الهند ويرجع، انظروا من أمريكا إلى العند، ومن إنجلترا إلى الهند، لأن الهندي أقل أجرة من الذي سيكتب في إنجلترا أو في أمريكا، فانظر قدر ماذا النمو الحضاري الذي عند بلد مكدس بالسكان ويعبدون البقر!

إذاً: هذه مشكلة تحتاج إلى وقفة منا؛ لأن هذا الوضع لا يسر أبداً.

ضآلة إنفاق الدول العربية على الأبحاث العلمية

الظاهرة السابعة: الإنفاق على الأبحاث العلمية، بعض الأرقام المفزعة في تقرير لمنظمة اليونسكو لعام (2004م) يقول: إن العالم العربي مجتمعاً ينفق (0.2%) من الدخل القومي على الأبحاث العلمية، المعدل العالمي للدول القوية (3%) من الإنتاج القومي، العالم العربي يصرف (2.%) يعني: اثنين في الألف، المعدل المفروض (3%)، كل الدول العربية تصرف اثنين في الألف على الأبحاث العلمية وهذا يوازي حوالي (1.7) مليار دولار، وإسرائيل وحدها تنفق (4.7%) من ناتج إسرائيل القومي على الأبحاث العلمية، هذا تقرير اليونسكو لعام (2004م) فأعلى نسبة في العالم في الإنفاق على العلم في إسرائيل، أمريكا تصرف (2.7%) وإسرائيل تصرف (4.7%)؛ لأن الدخل القومي عندها كبير عن بلاد العالم الإسلامي، أما نحن فالأموال عندنا مكدسة، لكن ليست داخلة في حساب الناتج القومي، و(4.7%) تساوي (6.1) مليار دولار، يعني: العالم العربي كله يصرف (1.7) مليار دولار وإسرائيل لوحدها تنفق (6) مليار دولار على العلم سنوياً، أظن هذا شيئاً يحتاج إلى وقفة.

أمريكا تصرف (2.7%) أو (2.9%) من ناتجها القومي على العلم، لكن الناتج القومي لأمريكا رهيب، فالمبلغ هذا يساوي (295) مليار دولار سنوياً، فأمريكا تنفق (295) مليار دولار على العلم سنوياً، يمثل هذا المبلغ (35%) من الإنفاق على العلم في العالم كله.

إذاً: لابد أن يكون هناك مردود، فأمريكا لما تصرف هذه الكمية على العلم تصبح الدولة الأولى، والنتيجة أن تجوب أمريكا بأساطيلها مشارق الأرض ومغاربها، وأن تحتل أفغانستان والعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين ولا يتكلم أحد، هذا مردود العلم.

الذي نراه في الواقع ليس مستغرباً عند النظر إلى الأرقام، ومرة أخرى أنا لا أقول هذا الكلام دعوة للإحباط، نحن نريد أن نقوم على أرجلنا، فلابد أن نعرف حقيقة المشكلة، لكن يبدو أننا ننظر في حل المشكلة من مجال آخر، وتركنا المجال الذي أمرنا برعايته وأوتينا من قبيله، وكما ذكرنا في محاضرة سابقة أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم الأمر بالقراءة والعلم، فنحن مأمورون بالعلم من أول أيام الرسالة. يحزنني أن أقول: إسرائيل، لكن للأسف هو واقع مفروض علينا لابد أن نغيره، فإحصائيات اليونسكو وبلاد العالم بصفة عامة بما فيها بلاد المسلمين تعترف بوجود إسرائيل، فإسرائيل عندهم (217) جهاز كمبيوتر لكل (1000) مواطن، وهؤلاء فيهم أطفال وفيهم نساء وفيهم رجال، يعني: لا يخلو بيت ولا مصلحة من جهاز كمبيوتر، أما مصر ففيها (9) أجهزة لكل (1000) مواطن، والأردن فيها (52)، ولبنان (39)، والباحثون العلميون في العالم العربي كله (136) باحثاً لكل مليون مواطن عربي، وإسرائيل لكل مليون يهودي يعيش في إسرائيل فيهم (1395) باحثاً، نحن نتكلم على الدول العربية مجتمعة ليس على مصر، الدول العربية مجتمعة لديها (136) باحثاً لكل مليون مواطن، وإسرائيل التي هي عبارة عن (5) مليون فقط لديها (1395) باحثاً لكل مليون مواطن، وأمريكا لديها (4374) باحثاً لكل مليون مواطن، واليابان (5000) باحث، هناك فجوة، فـ (5000) في اليابان، و(1395) في إسرائيل أو (4374) في أمريكا يعملون في العلم لابد أن ينتجوا شيئاً، و(136) فقط لكل الدول العربية مجتمعة بكل إمكانياتها المالية والبشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله، لو أخذنا الميزانية المخصصة للعلم في البلاد على عدد السكان، نجد أنه يصرف على المواطن الإسرائيلي في العلم (922) دولاراً سنوياً، والمواطن الأمريكي (1005) دولارات سنوياً، والمواطن المصري (6) دولارات سنوياً لأجل العلم، قد يقول شخص: نحن فقراء، نقول: لكن العلم هو أحد بؤر الاهتمام، ومع ذلك تصرف في وجوه أخرى فممكن يدفع لمدرب كرة قدم (30) ألف دولار و(25) ألف دولار، ولا ندفعها لعالم ولا لمؤسسة علمية، وهذا خلل في الفهم والفقه في العالم العربي كله، ينشر في السنة الواحدة في العلوم البيولوجية على سبيل المثال: علوم الأحياء (447) بحثاً، وإسرائيل لوحدها تنشر (593) بحثاً سنوياً، وأمريكا تنشر (14050) بحثاً سنوياً، وهذا فرع من فروع العلم، كذلك في الطب والهندسة وعلوم الفلك والفضاء والنووية وغير ذلك من الأمور.

هذه معلومات موثقة وإحصائيات رسمية لم نأت بها من جرائد المعارضة، لا، هذه إحصائيات رسمية حكومية سواء في مصر أو في العالم العربي أو في العالم الإسلامي أو في العالم ككل، إحصائيات اليونسكو والأمم المتحدة، وقلت لكم: ليست المشكلة مشكلة نقود، فهنا مؤسسة علمية كبرى في مصر -بدون ذكر أسماء- أنا رأيتها بنفسي تصرف (15) مليون جنيه لتجميل الصورة الخاصة بالمؤسسة، ومستحيل أن تدفع (1000) أو (2000) جنيه لبحث علمي، وقد تقوم بإنشاء مكتب بمليون جنيه ويكون تأثيث المكتب من الرخام بأنواعه المختلفة المستوردة من إيطاليا وأسبانيا وتركيا وغيرها من بلاد العالم، وممكن ينفق عليه أكثر مما ينفق على أبحاث علمية لسنة كاملة.

فئات العالم حسب الإنجاز التقني ومكان العالم الإسلامي في ذلك

الظاهرة الثامنة: ينقسم العالم إلى خمس فئات حسب الإنجاز التقني في الدولة: الأولى: مجموعة القادة، هؤلاء منهم (18) دولة في العالم بحسب الإنجاز التقني، منهم للأسف إسرائيل أرقام وإحصائيات، وهناك دول يحتمل أن تكون من القادة بفضل الله ومنهم ماليزيا وهي دولة واحدة إسلامية.

وفي الدرجة الثالثة: هناك (6) دول إسلامية وهي: مصر بفضل الله، وإندونيسيا، وتونس، وسوريا، والجزائر، وإيران، وإن كنت أعتقد أن إيران وضعت هنا لظروف سياسية، أتوقع أنها أعلى من ذلك.

ثم الدرجة الرابعة: المهمشون، وهم معظم بلاد العالم الإسلامي.

والدرجة الخامسة: ناس ليس لهم دخل في أي شيء، ما هو العلم أساساً؟ هل العلم مجرد القراءة والكتابة؟! ماذا يعني جامعة؟! وماذا يعني مدرسة؟! فهؤلاء لا داعي أن ندخلهم في التقسيم، فأنت ترى ربط الأمم المتحدة لقضية القيادة: دول قائدة ودول يحتمل أن تكون قائدة بالإنجاز التقني، لم يربطوها بقوة السلاح ولا بكثرة المال، ولا بعدد السكان، ولا بالوضع الجغرافي، لا، بل ربطوها بالعلم، وهذا لا يتعارض مع ديننا، نحن قلنا في محاضرة سابقة: إن أساس بناء الأمم العلم، والأمم التي تتصف بالعلم تقود وتسود.

ترتيب جامعات العالم وموقع الجامعات العربية والإسلامية من هذا الترتيب

الظاهرة التاسعة: أقول هذا الكلام وأنا أعلم أنني أخاطب أناساً إذا وضعوا أيديهم على المرض عالجوه بفضل الله عز وجل، فإمكانياتنا وقدراتنا هائلة، وإذا كانت كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية والهند وغيرها تستطيع أن تقود فلا شك أن المسلمين يستطيعون القيام، بل والسبق، ولا يمكن أبداً لأي عقل أن يقبل للمسلمين حالة التخلف وهم يمسكون بكتاب الله عز وجل وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أيديهم، فالذي يقبل عقلاً القيادة في حق الآخرين فمن المؤكد أن يقبل عقلاً في حقنا، بل وأكثر، لكن المهم أن نضع القضية في اهتمامنا، نتكلم عن ترتيب الجامعات في العالم، لعلكم قرأتم تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي في الصين على ترتيب الخمسمائة جامعة الأوائل على العالم كان عام (2004م)، أطلعت على تقرير عام (2005م) أيضاً الذي لم ينشر بعد في الجرائد ولم يشتهر وقارنت بين التقريرين فوجدت النتائج متقاربة جداً جداً، مما يعطي نوعاً من الانطباع أن هناك دقة في المعايير لهذه التقارير؛ لأن بعض الناس تشكك في هذه التقارير، أقول: حتى لو كان فيها بعض الانحياز فعندما تقرأ التقرير لا تجد مخالفة كثيرة عن الواقع، فهم لم يضطهدونا، فنحن نقرأ الأرقام ونرى الواقع مطابقاً لهذه الأرقام.

فهذا الترتيب فيه عدل إلى حد كبير، قد يكون هناك ظلم في نقطة أو نقطتين، لكن من حيث العموم تجد التقارير صحيحة؛ لأن مشاهدات المسلمين لهذه الأمور مشاهدات صحيحة، فهؤلاء قاموا بعمل ترتيب للجامعات في العالم من جامعة (1-500) بحسب درجة التفوق في التدريس في هذه الجامعات، وعدد الجوائز العالمية التي أخذتها هذه الجامعة، وعدد الباحثين والأساتذة الذين نشروا بحوثاً عالمية في مجالات محترمة علمياً، وعدد التخصصات النادرة في داخل الجامعة، وعدد الطلاب المتفوقين، وعدد الطلاب المرموقين في الشركات الكبرى في العالم، وعدد المحركين للأمم الذين درسوا في هذه الجامعات، هذه معايير قوية جداً.

فخرجوا بترتيب (500) جامعة أوائل في تقرير عام (2004م) وليس هناك جامعة إسلامية واحدة من الـ (500) جامعة الأوائل، وفي تقرير عام (2005م) الحمد لله دخلت دولة إسلامية واحدة وهي تركيا، ودخلت بجامعتين: جامعة رقم (409)، وجامعة رقم (468) على العالم.

فإذا كنت في وضع مترد وبعد الـ(500) فلا تتوقع أن تكون الأول فجأة، لا، لكن ينبغي لنا أن نحاول ونتقدم، وتركيا فيها نهضة قوية جداً، وتجربة تركيا أيضاً تحتاج إلى دراسة.

أما أمريكا فهي الدولة الأولى في العالم في الجامعات، وهذا شيء ليس مستغرباً؛ لأن في الـ (500) الجامعة الأولى التي على مستوى العالم فيها (168) جامعة أمريكية، والتي قامت بعمل هذا التقرير الصين، يعني: لو كان هناك نوع من الاضطهاد سيضطهدون أمريكا؛ لأن علاقة الصين بأمريكا ليست جيدة.

إذاً: هذه وقائع رأيناها بأعيننا، فهذه جامعات علمية بشكل حقيقي (168) جامعة في الـ(500) الأوائل، المائة الأوائل منها (53) جامعة أمريكية، والـ (20) الأوائل منها (17) جامعة أمريكية، وجامعتان من بريطانيا رقم (3) و(10)، وجامعة واحدة من اليابان وهي رقم (20)، في تقرير عام (2005م) وفي تقرير (2004م) كانت رقم (14)، لكن (17) جامعة من الـ(20) الأوائل على العالم جامعات أمريكية: الجامعة الأولى: (هارفارد)، وتسبق التي وراءها التي هي (كمبردج) في إنجلترا تسبقها بمسافات كبيرة.

الدولة الثانية: جامعات إنجلترا، وعدد جامعات إنجلترا في التقرير (40) جامعة، انظروا حجم الفجوة، لذلك أمريكا قائد وإنجلترا تابع، مع وجود التاريخ العريق لإنجلترا فهي الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، ولها تاريخ طويل، وهي الآن تابعة لأمريكا؛ لأن العلم مع أمريكا، فهناك فجوة كبيرة بينها وبين إنجلترا.

الدولة الثالثة: اليابان (34) جامعة.

إسرائيل رقم (12) على العالم فيها (7) جامعات في هذا التقرير، أول جامعة رقم (78) في تقرير (2004م) كانت برقم (90) يعني: أنها تتقدم.

في إفريقيا كلها لا توجد سوى دولة واحدة التي هي جنوب أفريقيا فيها (4) جامعات فقط، لا يقول أحد: السبب هو الفقر، أقول: هناك نقود كثيرة في البلد.

هناك دول فقيرة كثيرة موجودة في القائمة منها: المجر، الهند، البرازيل، البرازيل لها (4) جامعات، الأرجنتين نسمع عنها في الكرة، لكن هي بلد فقير جداً، ألم تسمعوا الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي كانت هناك؟ ومع ذلك عندهم جامعات موجودة في التقرير، شيلي، المكسيك، الدول الصناعية الثمان الكبرى سبع منها في العشر الأوائل على العالم ليست صدفة، باستثناء روسيا فقط هي التي خرجت وصار ترتيبها الـ (17) لقد كانت في أيام الاتحاد السوفييتي قوية، لكن كما تعلمون أن الفرقة ضعف، ولما تفككت جامعاتها تدنى مستواها جداً.

إذاً: هذه ظواهر موجودة التقرير الذي عمل عام (2004م) وعمل عام (2005م) وسيعمل عام (2006م) ومعاييره معايير علمية، وهذه المعايير تقول: إن الجامعات الإسلامية تحتاج إلى وقفة، والطلاب والأساتذة المسلمون محتاجون إلى وقفة.

مرتبات أساتذة الجامعات في العالم ومقارنتها مع مرتبات أساتذة الجامعات العربية والإسلامية

الظاهرة العاشرة والأخيرة: مرتبات الهيئات التعليمية، أساتذة الجامعة، الأستاذ الجامعي في مصر يأخذ (1/50) على الأقل من مرتبات الأستاذ الجامعي في أمريكا، هذه كارثة؛ أنا لا أقول ذلك لأني أستاذ جامعي وأريد أن يرتفع مرتبي، لا؛ أنا أقول ذلك لأن معظم الأساتذة الجامعيين يشتغلون بعد الظهر والصبح؛ لأنه يريد يعيش، ولأنه لم يعط مبلغاً يستطيع أن يعيش به، بينما هناك في الغرب الأستاذ الجامعي يأخذ خمسين ضعفاً على الأقل، وبعض الجامعات تعطي مائة ضعف، والأسعار هناك أرخص من عندنا، فهذا الفارق يجعل الواحد هناك من الساعة الثامنة إلى الساعة الخامسة في منتهى الدقة؛ لأن معه ما يرضيه، وهذا الاتفاق ليس هكذا بلا وزن ولا حساب، بل هذا الإنفاق يأتي بمال؛ لأنه لو كان عندك علماء وتصرف عليهم فسيأتون لك بنقود، فبدل ما يكون أقصى أحلامك أنك تستورد جهاز مكينة من الدرجة الثانية أو الثالثة ستصنع عندك جهازاً من الدرجة الأولى، وبالتالي سيجرى العالم كله إليك؛ لكي يشتري منك، وسيكون عندك الذي ليس عندهم، ويكون القرار في يدك، وتكون رافعاً رأسك بالعلم، فهم عندما ينفقون هذا الإنفاق على هؤلاء العلماء يصبحون دولاً قوية صاحبة سيادة وقرار في العالم، ولا نقول أيضاً: الفقر مرة أخرى؛ لأن الوزير عندنا يأخذ أكثر من الوزير عندهم، نعم والله، المرتب القانوني عندنا أكثر من المرتب القانوني عندهم، فعندهم مرتبات مجحفة خاصة بالوزراء وخاصة برئيس الجمهورية وعندهم تضييقات شديدة جداً، وغير مسموح له أن يقبل هدية في أثناء فترة وزارته أو حكمه، حتى إسرائيل نفسها تحاكم زعيم الدولة، إذا أعطى بعض التسهيلات لشركة من الشركات، أو يشك أنه أعطى هذه التسهيلات، لكن الوزراء عندنا يأخذون مبالغ خيالية، فالوزير ونائب الوزير ورئيس المصلحة يأخذون مبالغ خيالية، ورئيس هيئة كذا، تصل المبالغ إلى (200) ألف و(250) ألفاً وأكثر شهرياً وليس سنوياً، وهذا المبلغ لا يحصل عليه وزير هناك سنوياً، فهذا خلل في التوزيع وخلل في الاهتمام وخلل في القضايا الماسة للأمة الإسلامية.

نحن نتكلم على أساتذة الجامعة، فلنأت إلى مدرسين وهم موجودون معنا بأعداد لا بأس بها، لكنهم بؤساء فهم يعملون في التدريس، ودور الواحد منهم أن يعلم ويربي ويبدع ويخرج جيلاً قادراً على قيادة العالم، وفي آخر الشهر يعطى (150) جنيهاً أو (200) جنيه أو (300) جنيه، مما جعلهم يعلنون في صفحات الجرائد عن الدروس الخصوصية، ماذا يعمل إذاً؟ يسرق؟ أنا لست مع الدروس الخصوصية، لكن في نفس الوقت لست مع إعطاء المدرس (100) جنيه أو (200) جنيه ثم نقول له: لا تعط دروساً خصوصية.

إذاً: القضية في الأساس فهم قضية العلم واهتمامي بها مع أولادي ومع مدرستي، أو مع المصلحة التي أنا فيها، أو الوزارة التي أنا فيها، أو الهيئة التي أنا فيها، أو الجامعة التي أنا فيها، أو المدرسة التي أنا فيها، فقضية العلم قضية ينبغي أن تشغل أذهاننا، أما مجرد النجاح، الحمد لله الولد نجح من سنة إلى سنة فهناك طلاب في الإعدادية ما يستطيعون أن يقرءوا ويكتبوا، بل هناك بعض الباحثين في الجامعة أنا كنت أعطي محاضرة في كلية دار علوم والتي كان أحد فروعها الرئيسية اللغة العربية، فأرسلت إلي طالبة بسؤال بعد المحاضرة، أجاركم الله من اللغة التي كتب بها الخطاب! والله لولا أنني داخل الكلية ومتأكد وفي حالة وعي كامل، لظننت أنني بين أطفال تمهيدي أو أول ابتدائي أو ثاني ابتدائي بالكثير، خط ركيك جداً وكلمات عجيبة كل قاف طبعاً مكتوبة كاف، والهمزات كلها مضروبة، طبعاً ناهيك عن الإعراب والنحو والصرف والإملاء، فقواعد الإعراب والنحو والصرف اصرف ذهنك عن أي شيء متعلق باللغة في قراءة هذا الخطاب.

هذه كارثة، هل يا ترى هذه القضايا في رءوسنا أم الذي يهمنا أن آخذ الشهادة وأعلقها في البيت، وأكون أخذت بكالوريوس أو ليسانس كذا أو كذا وانتهت القضية والحمد لله؟ ما تريدون أكثر من ذلك؟

لا، القضية تحتاج إلى وقفة جادة، هذه الحالة التي وصفناها الآن في الأمة يتهم بها الإسلام، هذا واقع، فأعداء الإسلام يقولون: الإسلام دين تخلف ودين رجعية، ويقولون: إن وضع المسلمين كذا وكذا وكذا، وما هذا إلا لأنهم مسلمون، فلماذا الدول الأخرى التي تعبد أي شيء: من شجر أو بقر أو بشر أو لا يعبدون شيئاً تتقدم؟ لماذا؟ إذاً: الإسلام يدعو إلى التخلف، هذا كلام يقال في الغرب ويكتب في كتب وفي تحليلات، هل سنرد أيضاً بالكلام أم سنرد بأبحاث علمية وسنرد بتحرك نحو العلم منذ الطفولة وإلى الكبر؟ هؤلاء القاعدون لابد أن يرتقوا في علومهم اليوم عن الأمس وغداً عن اليوم، الكلام ليس مزحاً، الذي يريد لأمته أن تقوم لابد أن يعلم أنه بغير ذلك لن تقوم الأمة؛ لأن من سنن الشمس أن تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، والأرض تدور حول الشمس، هذه سنن ليس فيها تغيير إلا في آخر الزمان عندما ينهار الكون وتقوم القيامة، أما في حياتنا فنحن مطالبون بتطبيق السنن، وكل شيء واضح في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك)، نحن لسنا معذورين بالجهل في هذه القضايا.

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.

الذي يريد لأمته رفعة فليذهب ويذاكر الآن حتى يتفوق في علمه، أنا أعلم أن هناك معوقات كثيرة وهائلة في بلادنا وفي غيرها، لكن ليس هذا مبرراً للقعود، وإذا كانت المساحة المتاحة للتحرك دائرة قطرها كيلو فأنت مطالب بأن تتحرك في هذه الدائرة التي قطرها كيلو، وتحاول أن توسعها، لكن لو تحركت في دائرة قطرها متر فأنت مقصر.

نعم العلوم فيها بعض المشاكل في المناهج التعليمية، وهناك فساد في التدريس، لكن هل بذلت الوسع فيما هو متاح؟ أم القضية ليست في بؤرة الاهتمام، وأنت مشغول فيما تسميه الدعوة، وأنت راسب أو فاشل علمياً؟ لا تستقيم هذه الدعوة، من الذي سيسمع كلامك في بلاد المسلمين أو في غير بلاد المسلمين، العقل يحتم علينا أن نتحرك الآن في هذه القضية.

الحديث يحتاج إلى وقت، وأنا أعلم أنني قد أطلت عليكم.

إن شاء الله في المحاضرة القادمة سنتحدث عن رأي الدين في العلوم الحياتية، وعن قيمة العلوم الحياتية في الشريعة الإسلامية؛ حتى تعلم أني لا أقول لك هذا الكلام استنباطاً عقلياً فقط أو استنتاجاً فكرياً أو ترف طرف فكري نتكلم فيه مع بعض ونقوم بعدة إحصائيات، لا، ديننا يأمرنا بالتفوق في العلوم الحياتية، والذي يقصر في ذلك آثم، وسيحاسب يوم القيامة عندما يقف أمام ربه سبحانه وتعالى ليس بينه وبينه ترجمان.

والله هذه ثغرات سوف تسألون عنها، وستسألون عن الفتنة التي يقع فيها غير المسلمين برؤية حال المسلمين المتخلف، سنسأل جميعاً، والذي سينجو فقط هو الذي اجتهد وبذل الوسع، حتى وإن لم يوفق في زمانه، ما دمت عملت الذي عليك فهذا هو المطلوب منك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن اعرف أن عليك الكثير والكثير، وإن إمكانياتك تسمح بأكثر من الذي تعمله أضعافاً مضاعفة، وأنا على يقين من ذلك، فأمة الإسلام أمة ولادة، الخير فيها إلى يوم القيامة، هذا وعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا لا نشك فيه مطلقاً بأي حال من الأحوال.

نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] 3094 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [1] 3032 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [7] 2758 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [3] 2404 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [4] 2315 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] 2001 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] 1695 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [6] 1424 استماع