سلسلة كيف تصبح عالماً [6]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد.

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

لا زلنا نتحدث في القضية الماسة والهامة، وهي قضية العلم في تاريخ وواقع هذه الأمة:

أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة.

تحدثنا في المحاضرة السابقة عن أول طريق العلم، إذا أردت أن تكون عالماً عليك أن تعرف قيمة الشيء الذي تجاهد من أجله، وعليك في ذات الوقت أن تعلم أنك لن تستريح حتى تُصبح عالماً وإلى مماتك، وكما ذكرنا في المحاضرة السابقة قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

هذا أحد الإخوان حضر المحاضرة السابقة وكأنه لم يركز تركيزاً جيداً، فقابلني بعد المحاضرة وقال لي: لقد قلت لنا: إن هناك بعض الوسائل العملية لنصبح علماء، وللأسف انتهى وقت المحاضرة قبل أن تذكرها، ويبدو أنه كان يتوقع أن أشرح له كيف يجلس؟ وكيف يقرأ؟ وكيف يسمع؟ وهذا مطلوب، ولكن ما كنا نتحدث عنه هو الروح والنفسية التي يجب أن تكون عليها لتصبح عالماً، وهذا أول شيء، ولو أشرح لك ألف خطة لتصبح عالماً، وأضع لك ألف منهج لتصبح عالماً وأنت لا تقدّر قيمة العلم فمن المستحيل أن تصبح عالماً، أو تظن أن هذه وصفة سحرية: أنك إذا بذلت بعض المجهود أو قليلاً من المجهود أصبحت من علماء الأمة! لا، هذا وهم، لا يحدث في أمتنا ولا في الأمم الأخرى، وما تحدثنا عنه في المحاضرة السابقة نستكمله في هذه المحاضرة إن شاء الله، وهو عام على كل علماء الأرض من المسلمين ومن غير المسلمين، فأي إنسان يريد أن يكون عالماً لا بد أن يقدّر قيمة الشيء الذي يفرّغ له وقته، ثم عليه أن يعلم أنه يبذل جهداً كبيراً مضنياً حتى يصل إلى درجة العلماء، وعندنا في الإسلام ضوابط أخرى مختلفة، لكن هذا الذي نتحدث عنه هو ثابت على الناس أجمعين، قيمة العلم، والجهد الذي يُبذل.

قبل إكمال الحديث واستكمال المحاضرة السابقة نجيب على بعض الأسئلة الهامة التي تلقيتها، سواء عن طريق (الإيميل) أو الأوراق التي أرسلتموها، وسأجيب على الأسئلة التي لها علاقة بموضوعنا، وهناك أسئلة ليس لها علاقة بهذا الموضوع الذي نتكلم فيه مع أنها أسئلة هامة.

هذا سؤال لطيف جداً وله مغزى، يقول أحد الإخوة: هل كان هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في السيرة النبوية في فترة البناء الأولى خلال (23) سنة من البعثة؟

الجواب: من الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يهملوا علومهم الحياتية لأجل تحصيل العلوم الشرعية، ولكن جمعوا بينهما، ومن الممكن أن الصحابة قدموا الأولويات، لكن لم يُهمل أبداً الجانب الحياتي، وعلى سبيل المثال: ظل الصحابة يتاجرون ويعملون أعمالهم، ولم ينقطعوا للعلم الشرعي ويتركوا هذه الأعمال، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان تاجراً وظل تاجراً، ففي مكة كان تاجراً، وفي المدينة كان تاجراً، وعند توليه الخلافة حمل الأثواب على ظهره ليذهب إلى السوق ليبيع ويشتري، فلولا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشار عليه أن يفرّغ وقته لقيادة المسلمين، وأن يأخذ ما يكفيه من بيت المال، لاستمر يعمل بالتجارة.

وكذلك عبد الرحمن بن عوف ، وكذلك عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن عبادة وجميع المسلمين سواء في فترة مكة أو في فترة المدينة، لم يكونوا أبداً عالة على غيرهم، بل أُمروا بالإبداع وبالإنتاج، وكان اقتصادهم القوي هذا مصدراً من مصادر الخلاص من الأزمة، وكان أبو بكر الصديق تاجراً غنياً، وعنده من الأموال الكثير والكثير، واستغل هذه الأموال في إعتاق العبيد، وفي إخراج المسلمين من أزماتهم، ولو تأملنا أن الصحابة كلهم من الفقراء لحدثت أزمة كبيرة، فنحن نحتاج إلى أغنياء في الأمة، ونحتاج إلى أغنياء بفكر الصديق وفكر عثمان رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين.

إذاً: لم يكن هناك إهمال لهذا الجانب حتى في فترة مكة، لكن من المؤكد أن العقيدة أخذت جانباً هاماً جداً من حياة المسلمين في فترة مكة المكرمة بالذات، وأيضاً فترة المدينة المنورة، ولكن التركيز في فترة مكة المكرمة على العقيدة كان أشد وأكثر؛ لأنهم قريبو عهد بجاهلية، وأكثر من (600) سنة وهم يعبدون الأصنام في هذه المنطقة، فكان لا بد من التركيز الشديد على أمر العقيدة؛ حتى لا يتبدل الدين ولا يتغير، فهؤلاء كانوا يتعلمون شيئاً جديداً تماماً لم يسمعوا به منذ مئات السنين، لم يسمعوا هم به ولا آباؤهم ولا أجدادهم، فكان لا بد من التركيز الشديد عليه؛ ولهذا خلال (13) سنة في مكة اهتموا بهذا الأمر، وفي فترة المدينة المنورة كان من الواضح جداً الاهتمام بالعلوم الحياتية، ولكن أيضاً بالقدر اليسير؛ لأن الدولة بكاملها ما زالت قريبة عهد بجاهلية، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلى المدينة المنورة كان بها مشركون، وإلى آخر أيام حياته صلى الله عليه وسلم كان في الجزيرة العربية مشركون؛ ولذلك فهناك اهتمام بالجانب العقدي، ولكن لم يكن هناك إهمال لجانب العلوم الحياتية، ورأينا في بعض الأمثلة التي ضربناها قبل ذلك في المحاضرات السابقة اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بالقضايا العسكرية، واهتمامه صلى الله عليه وسلم بالقضايا الطبية، وقضية تأبير النخل، وقضية التجارة.. وما إلى ذلك.

هناك أمور كثيرة جداً برع فيها المسلمون بحجم الدولة التي كانوا فيها، وكل شيء في السيرة محسوب وبقدر، فمن رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بُعث في مكة وهاجر إلى المدينة، وعاش في منطقة الجزيرة العربية، وهي منطقة نائية بعيدة عن الحضارات المختلفة في ذلك الوقت، أي: أنها ليست بجانب الرومان ولا بجانب الفرس ولا الهند ولا مصر ولا الأماكن التي لها تاريخ طويل في العلوم الحياتية قبل ذلك؛ لأن المسلمين في هذه الفترة لو انفتحوا تمام الانفتاح على هذه الحضارات، بما فيها من فلسفات وأفكار وعقائد مغايرة تماماً ومخالفة تماماً لدين الإسلام لكانت كارثة، فهؤلاء حديثو عهد كما ذكرنا بجاهلية، فلا بد من ترسيخ العقيدة في قلوبهم وفي قلوب عموم المسلمين، ثم بعد ذلك عندما يتمكن الدين من قلوبهم وينفتح المسلمون على الحضارات الأخرى فلا يتلوثون بها، وهذا الذي وقع، جلسنا سنوات طويلة في الجزيرة العربية ونحن محفوظون من الفلسفات اليونانية والإغريقية والمصرية الفرعونية والفارسية.. وغيرها، ورأينا المشاكل التي حصلت في بداية الأمر عندما ترجمت هذه الفلسفات، لكن حفظ الله عز وجل دين الأمة بعلماء ثبتهم ونور بصيرتهم.

هناك إشارة قصدها أو لم يقصدها صاحب السؤال ألا وهي: هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية؟ فلعله يريد أن يقول: في الفترة المكية لم يكن هناك اهتمام بالعلوم الحياتية، فإذا كان كذلك فليس هناك داعٍ للتركيز على العلوم الحياتية في فترتنا هذه، بل نهتم بما اهتم به الأولون في فترة مكة المكرمة؟

أقول: في الواقع أن الربط بين واقعنا الآن بإمكانياتنا وظروفنا وواقع المسلمين في فترة مكة ليس صحيحاً ولا دقيقاً، نعم، ليست هناك دولة تحكم بشرع الله عز وجل كما ينبغي أن يُحكم به في الأرض الآن، ونتمنى أن يُحكم بشرع الله عز وجل في كل الأرض، ولكن الوضع مختلف، فنحن لسنا بلاداً كافرة حقيقة، لسنا كواقع مكة فنحن بلاد إسلامية، ولكن هناك مخالفات ونحن نقر بذلك ولا ينكرها أحد، لكن نحن بلاد إسلامية، وعموم الشعب مسلم، وحتى عموم السلطة مسلمون في كل بلاد العالم الإسلامي، ولا نكفّر أحداً، وهذا أمر شاق جداً، فلا ندخل في سلك التكفير هذا، فله علماء متخصصون، وبدقة شديدة وبصعوبة بالغة يُكفّر إنسان، فالوضع مختلف عن وضع المسلمين في فترة مكة، ففي فترة مكة كانت تُحكم بكاملها من الكفار، فكل حكام فترة مكة كانوا كفاراً، أي: أنهم يعبدون الأصنام وليس هناك شكاً في كفرهم، وفي نفس الوقت كان المسلمون في مكة أقلية، فالمسلمون في آخر فترة مكة الذين داخل مكة وفي الحبشة كلهم لا يتعدى عددهم (200) فرد، فهم أعداد قليلة جداً، وهناك آلاف من المشركين في مكة المكرمة وما حولها، فالمؤمنون مثل جزيرة صغيرة جداً في بحر واسع من الكفر في ذلك الوقت، وهذا على خلاف ما نحن عليه الآن، فعندنا توجد شعوب إسلامية، ومصانع إسلامية، وجامعات إسلامية، ومعاهد إسلامية، ومساجد إسلامية.. فالوضع مختلف، ولعلنا نشبه فترة المدينة المنورة التي هي قبل فتح مكة، وقد كانت المدينة في وضع فيه قلاقل وفيه اضطراب، ولم تكن مستقرة تماماً، ولم يكن الإسلام متمكناً تمام التمكين، ولكن كان هناك مسلمون كثر في داخل المدينة، فالاختلاف أن الحكم في المدينة المنورة كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحكم بالشريعة تماماً، لكن كانت هناك قلاقل وكان هناك يهود ومشركون، وكانت المدينة في حالة من الاضطراب يشبه إلى حد كبير الأوضاع التي تمر بها الأمة الإسلامية هنا وهناك.

فهذه الشبهة لا يجب أن تُحجّم من حماستنا للنجاح وللتفوق وللإبداع في الفرعين جميعاً: العلوم الشرعية، والعلوم الحياتية.

يسأل أحد الإخوة ويقول: أنا أجد أنه من المستحيل أو من الصعب جداً أن أجمع بين العلوم الحياتية والعلوم الشرعية فأُبدع في كليهما، فأكون الألباني وأحمد زويل في آن معاً؟

الجواب: أنا لم أقل هكذا، فأنا لدي التسجيلات القديمة ومحتفظ بها، فما نريد منك أبداً أن تكون عالماً مبدعاً في العلوم الشرعية، وفي نفس الوقت تكون عالماً مبدعاً في العلوم الحياتية، وإنما قلنا: إن هناك حداً أدنى من العلوم الشرعية لا بد أن تتقنه، إذا لم تكن أنت من علماء العلوم الشرعية، فهناك حد أدنى من العلوم الشرعية تستقيم به عقيدتك وعبادتك لله عز وجل، وتعرف به دينك وتعرف به الحلال والحرام، وتتقي الشبهات، وتسير دون إفتاء ولا إبداء للآراء في المشاكل الفقهية العويصة التي تعترض طريق المسلمين؛ هذه لها متخصصون، لكن في ذات الوقت ينبغي لك أن تكون مبدعاً في مجالك الحياتي الذي أنت فيه، أما إن كنت من علماء الشرع فمطلوب منك الإبداع في تخصصك.

وعندما نأتي لقراءة بعض سير العلماء السابقين نجد بعضهم مبدعاً في الفقه وأيضاً مبدعاً في الجبر وفي الفلك وفي الطب، فعلى سبيل المثال: البيروني فقد كان موسوعة، كان من علماء المسلمين في الفقه، ومن علماء المسلمين في الفيزياء ومن علماء المسلمين في الفلك.

فالعلم يتطور جداً، في السابق إذا أردت أن تدرس الفيزياء فتحتاج إلى قراءة كتاب أو كتابين أو ثلاثة أو عشرة، لكن في هذا الوقت لن تستطيع دراسة الفيزياء بكاملها، فهناك مليون تخصص داخلها، فمنذ (30) أو (40) سنة كانت العلوم نفسها فروعاً قليلة جداً، ثم تشعّبت، وعلى سبيل المثال المسالك البولية، فقد كانت المسالك البولية جزءاً من الجراحة العامة منذ (40) أو (50) سنة، وبعد هذا أصبحت تخصصاً منفرداً، وانقسمت الجراحة العامة إلى أقسام مختلفة، ففي هذا الوقت الذين قاموا بالأبحاث والدراسات قسموا المسالك البولية إلى سبعة أقسام، وداخل كل قسم هناك متخصصون في بعض الفروع، ويتركون الفروع الأخرى.

إذاً: العلم يتسع جداً جداً، فكل يوم نكتشف شيئاً جديداً، وأصبح الآن من المستحيل على عالم أن يكون متخصصاً في جميع الفروع، فليس مطلوباً منك أن تكون كـالألباني وأحمد زويل في شخص واحد، ولكن المطلوب منك أن تكون مبدعاً في مجالك ومتقدماً فيه، وليس شرطاً أن تكون عالماً متفوقاً في جميع الهندسة أو جميع الطب أو جميع الفلك، ولكن تكون متفوقاً في جزئية معينة بحيث تنتج إنتاجاً متميزاً.

يريد بعض الناس أن يكون في الموضوع حكايات وروايات وفكاهات؛ لأن هذا الموضوع صعب، والمكان غير مناسب، وأن هذه المحاضرات لا تناسب إلا أن تكون في محافل علمية ومناظرات علمية نظرية لها أماكن محددة!! سبحان الله!

فأيهما أولى أن نجلس ونتحدث عن أمور فيها فكاهات وروايات وقصص هينة على القلب، أم نتحدث عن الأمور التي نحتاجها سواء كانت صعبة أم سهلة؟!

أنا طبيب فلو أتاني مريض بالسرطان وعنده برودة، هل أظل أعالج البرد إلى أن يخف وأترك مرض السرطان؟ قلنا: إن قضية العلم هذه شئنا أم أبينا، أردنا أم لم نرد، أحببناها أم لم نحببها، لطيفة على القلب أو مملة على القلب، فإنه لا تقوم الأمة إلا بها، وليس هناك أمل إلا فيكم أنتم، فالكثير من الناس من غير أهل المساجد ضاعت ضمائرهم، وماتت هممهم، وعاشوا لدنياهم، من سيتحرك لبناء الأمة الإسلامية إن لم يتحرك لها المخلصون الحريصون على مجالس العلم، وعلى بناء الأمة الإسلامية، وعلى الصحوة الإسلامية، وعلى القرآن والسنة..؟ من يتحرك إن تقاعس هؤلاء؟ من يتحرك إن وجد هؤلاء أن الكلام في الجروح أمر ممل أو أمر صعب؟ لا، المكاشفة والوضوح أمر ضروري للإصلاح، وكما قلنا في بداية المحاضرات: لا بد أن نرصد الواقع، وأول طرق الحل أن نرفع الواقع، فالذي رأيناه ورصدناه هذا يدل على فجوة واسعة بيننا وبين غيرنا، أو بيننا وبين ما ينبغي أن نكون عليه، مثل هذا الأمر يحرك فينا الهمم، وليس عيباً أن نكتشف هذا الأمر في هذا الوقت، لكن العيب أن نعرف هذا الكلام ونتركه ولا نتحرك، وأحد الإخوة يعتقد أن سبب اضطهاد الكنيسة للعلماء في أوروبا في أوائل النهضة الأوروبية العلمية الأخيرة هذه، هو أن علماء الكنيسة أو رجال الكنيسة يخافون أن يُكشف تحريفهم للتوراة والإنجيل، هذا على حسب ظنه، لكني أنا أعتقد أنهم كانوا يحاربون علماء الحياة، يحاربون علماء الفيزياء والكيمياء والفلك، يحاربون هؤلاء؛ لأن العلم سلطان، فالناس تحتاج إلى العلماء، والكنيسة في ذلك الوقت كانت سلطان أوروبا، والمرجعية الحكمية في كل الأمور كانت للبابا وللقساوسة، فإذا ظهر من ينافسهم على السلطان حتى وإن لم يجلس على كرسي السلطان، لكن بعلمه وبقيادته العلمية للمجتمعات، فهذا يمثل خطراً بالنسبة لهم.

إذاً: فهي منافسة على السلطة والحكم.

سأل الحجاج بن يوسف الثقفي أحد أعوانه: من هو سيد البصرة؟ فقال له: الحسن البصري ، فقال: كيف أصبح سيداً للبصرة؟ قال: احتاج الناس إلى دينه ولم يحتج هو إلى دنياهم، فأصبح سيدهم. يعني: كل الناس تطلب العالم، وتذكرون كلامنا على عطاء بن أبي رباح رحمه الله وهو جالس في الكعبة وسليمان بن عبد الملك وولداه جاءوا إليه يسألونه في ذلة وهو يجيب في عزة.

إذاً: العالم سواء في العلوم الشرعية أو في العلوم الحياتية تحتاج الناس إليه، فالعالم سلطان؛ ولهذا كانت الكنيسة تضطهد العلماء خوفاً على سلطانها.

يسأل شخص آخر ويقول: هل القرآن والسنة مصدر للعلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء، والعلوم الإنسانية كالإدارة والتنمية البشرية والتاريخ .. وغير هذا من العلوم؟

أقول: في الواقع أن الكتاب والسنة ليسا كتب كيمياء وفيزياء وطب وفلك، لكن توجد فيهما بإحكام شديد وبإعجاز عجيب ضوابط تحكم خط سير المسلمين، هناك أطر عامة وقواعد عامة في الكتاب والسنة لو أخذنا بها فإننا سنبدع كيفما أردنا أن نبدع، وبالطريقة التي نريد، بحيث لا يكون هناك تعارض مع هذه الضوابط، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

وبعض الناس يريد أن يبدع بغير هذه الضوابط فيضل، فمثلاً: في أمريكا يتزوج الرجل بالرجل كفعل قوم لوط عليه السلام، فهم جعلوه كقانون، فتراهم يذهبون إلى المحكمة لعقد مثل هذا الزواج، بل إن بعض الكنائس في بعض ولايات أمريكا أقرت هذا الأمر، ولكن بعد هذا الزواج أرادوا الأولاد فحُرموا من ذلك، فلجئوا إلى التبني، فتبنوا طفلاً بحيث يقوم أحد الزوجين في يوم بدور الأم وفي اليوم الآخر يقوم بدور الأب.. وهكذا، بل قاموا بأكثر من هذا حيث أرادوا أن يزرعوا بويضة ملقحة في الغشاء البروتيني في بطن الرجل؛ ليحمل.

انظر إلى انقلاب الفطرة عند هؤلاء الذين يقومون بهذه الأمور، وهم في عرف الناس علماء أفذاذ كما يقولون، وهناك أبحاث طويلة جداً، ولكن فيها تعارض شديد مع القرآن والسنة، ولا يستقيم لعالم مسلم أن يسير في هذا الاتجاه مطلقاً.

ولهم أبحاث يقولون فيها: إن شرب الخمر يقوي عضلة القلب، لكن جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (تداووا ولا تتداووا بحرام).

إذاً: أنا كمسلم عندي ضوابط في القرآن والسنة تحكمني، فلا يأت أحد إلى القرآن والسنة ويبحث فيهما عن علاج الأمراض الصدرية وعن علاج الأمراض النفسية، لا، بل هو كلام معجز، فكلام رب العالمين فيه أطر عامة، يقول الله سبحانه وتعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].

ومن هذا المنطلق فأي عالم في أي فرع من فروع العلوم الحياتية لا بد أن يكون مطّلعاً على الكتاب والسنة في تخصصه، وهناك كتب في كل مجال، وبفضل الله عز وجل أصبحت المكتبة الإسلامية مكتبة هائلة عامرة، فإذا كان الشخص متخصصاً في الإدارة، فهناك كتب متخصصة في هذا الأمر، قام إداريون مسلمون متمكنون وأخرجوا القواعد الشرعية من الكتاب والسنة المختصة بالإدارة، وفصّلوا فيها وشرحوها، وقارنوها بغيرها من القوانين الوضعية الأرضية، وبينوا ما الذي يتماشى معها وما الذي يتعارض معها، وأخذوا ما يفيد من العلوم الوضعية، وتركوا ما يضر منها.. وهكذا.

فإذاً: هناك أطر عامة في كتاب الله وسنة رسوله، فعلى كل باحث في كل تخصص أن يعلم تمام العلم ما هي الأطر الشرعية لتخصصه في الكتاب والسنة، هذا أمر في منتهى الأهمية، بالإضافة إلى أننا نجد أحياناً في القرآن والسنة بعض الأشياء المعجزة التي تكون حجة على العالمين في أي فرع من فروع العلوم الحياتية.

هذا سائل يقول: لو أخرجنا من الكتاب والسنة وسائل النجاح في علم من علوم الحياة فطبّقها الناس ونجحوا، فقد يطبّقون القرآن والسنة لأجل الدنيا وليس لأجل الله عز وجل؟

هذا كلام غريب جداً، وفي كل مرة يأتينا سؤال تشتف من ورائه أنه ليس هناك داع لهذا الطريق بطريقة أو بأخرى، وهناك تكلف شديد ويفكر تفكيراً مضنياً ليخرج بمثل هذه الآراء، فتجد من يقول: يا أخي! هذا الطريق صعب جداً، وليس لها أي داع، لكن هو لا يريد أن يكون مقصراً فيأتيك بحجة شرعية ودليل شرعي على أنه ليس هناك داع للخوض في مثل هذا الطريق، ويقول: إنه لم يكن في العهد المكي، ونحن نخاف أن يتبع الناس القرآن والسنة لأجل الدنيا!

نقول: لا تتبع الناس لكن اتبع القرآن والسنة، ولكن بصّرهم أنت بالحقائق وعلمهم، ولكن أن تقول: الأفضل ألا نضع أيديهم على العلوم الناجحة في القرآن والسنة؛ لكي لا يتبعوا القرآن والسنة ابتغاء الدنيا، هذا منطق غريب، وأنا ليس عندي شك ولو قدر أنملة أن العلوم الحياتية فرض كفاية على المسلمين، إن قام بها البعض سقطت عن الآخرين، لكن إن لم يقم به هذا البعض أثم المسلمون جميعاً، فنحن الآن نتحدث في قضية حلال وحرام، وليست قضية من فضائل الأعمال، لا بد أن نأخذ هذا الأمر بهذا الثقل؛ لتكون عندنا حمية للحركة، وليس مجرد أنني أكثّر حسناتي، لا، بل إنني لا أنجو وأنجو بأمتي إلا بهذه الطريقة.

هذا سائل: يقول: أنت تشجع السهر؟

نحن قلنا: إن العلماء كانوا لا يكثرون من النوم، وأنا أشجع على السهر بشرطين، فإذا استطعت أن تأخذ بهما فلك أن تسهر كما تشاء:

الشرط الأول: أن تشغل وقتك في هذا السهر بما هو نافع لك وللأمة، كما كان البخاري يسهر ليكتب علماً نستفيد منه إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، فإذا كنت كذلك فاسهر واعمل علماً تستفيد منه الأمة إلى يوم القيامة، فلا بد أن يكون سهرك لعلم نافع.

وكان الشافعي رحمه الله يحب الليل للاستذكار؛ لأن في ذلك الوقت هدوءاً والناس نائمة، وعنده فرصة أن يفكر ويبدع ويحلل وينتج.

كذلك الإمام مالك رحمه الله كان يحب الليل ويسهر فيه ليحل مسائل فقهية كثيرة؛ فهو في النهار لا يستطيع ذلك؛ لأن الناس تجتمع عنده، وعنده أعمال أخرى تتعلق بالحياة المعيشة، فهناك أمور كثيرة من الممكن أن تشغله، لكن في الليل يكون عنده نوع من الهدوء ويفكر كما يريد.

إذاً: من كان وقته مستغلاً بالليل فليسهر. وهذا هو الشرط الأول.

الشرط الثاني: ألا تضيّع فرضاً أو أولويات بسبب السهر، لا تسهر في العلم للأمة وللمسلمين ولنفسك إلى الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل ويذهب عليك فرض الفجر.

فلا نضيع فرضاً ولا أولوية، فلا أسهر في علم تطوعي إلى آخر الليل لأزداد من العلم؛ لأني دكتور أو مهندس أو كذا، ثم أذهب صباحاً إلى عملي الذي آخذ عليه مرتباً والذي هو معاشي وأنام هناك في العمل، لا، هناك أولويات، فأنا لو أستطيع أن أسهر دون أن أضيع فروضاً وأولويات فلا بأس، وفي نفس الوقت هذا السهر ينبغي أن يستغل استغلالاً ينفع ويفيد الأمة أفراداً وجماعات.

فإذاً: ليس هناك أي مشكلة في السهر، بل على العكس هذا السهر بهذه الشروط يكون محموداً، فالذي يسهر ويقوم الليل هل نذم ذلك فيه؟ لا؛ فالله عز وجل يقول: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]لا يستطيع النوم، فهو كلما أراد النوم قام ليصلي لله عز وجل ويستغفر ويذكر الله عز وجل، فهذه صفة حميدة، لكن بشرط ألا يضيع أموره الأخرى في حياته، ولا يكون هناك إسراف يجعلك تخل بأمور حياتك الأخرى، كأن تهمل الأسرة، أو تهمل العمل، أو تهمل أولادك، أو تهمل الوالد والوالدة، أو تهمل هموم الأمة الأخرى؛ لأن المسلم إنسان متوازن ومتكامل وشامل، فكل أمور الإسلام يأخذها، ومطلوب منه في كل زاوية عمل، ولعلنا نفرد محاضرة في هذه السلسلة للتخطيط، وأيضاً أحد الإخوة طلب أن نفرد محاضرة للتخطيط، يعني: كيف تخطط لحياتك؟ كيف تجمع بين هذه الأمور: وهي أن تكون عالماً وأباً صالحاً وأيضاً زوجاً صالحاً، وداعية إلى الله عز وجل، ومجاهداً في سبيل الله؟ نريدك أن تجمع كل هذه الأشياء، كذلك ينبغي معرفة ما الذي تقدمه، وما الذي تؤخره؟ هذا أمر في غاية الأهمية.

سائل يقول: عندما يذاكر أو عندما يقرأ في كتب العلم يأتيه ملل فماذا يعمل؟

أقول: للأسف جميع المسلمين مصابون بهذا، وإلا لم يكن هناك ملل لما كان هذا هو حال المسلمين، من موضوع المحاضرة التي مضت قيمة الشيء، فلو فعلاً تشعر بقيمة العلم لن يأتيك ملل، وأذكركم بكلمة الشافعي رحمه الله، وهي كلمة في منتهى التوفيق والروعة، سئل الإمام الشافعي : كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.

فهذه المرأة لن تمل حتى آخر حياتها في البحث عن ولدها، لن تمل ولن تكل، فليس هناك أمامها شيء اسمه ملل؛ لأنها تشعر بقيمة ولدها، فالموضوع يمس حياتها الشخصية، كذلك العلم والاستذكار وطلب النبوغ في هذه المجالات أمر يخصك ويخص أمتك تماماً، فالقصور فيه معناه عدم الفهم.

هذا أحد الإخوة أيضاً يسأل عن بقي بن مخلد رحمه الله؟

نقول: هذا الرجل قطع سنتين سيراً على الأقدام إلى أن وصل إلى أحمد بن حنبل فوجده محبوساً، وكيف احتال حتى وصل إلى أحمد بن حنبل رحمه الله بعد أن أُخرج من السجن ومُنع من التدريس، وبدأ يتعلم منه على مدار شهور وسنوات، وفي نهاية قصته عاد بقي بن مخلد رحمه الله بعد ذلك إلى الأندلس، بعد أن جاب البلاد طولاً وعرضاً، فهو ذاهب في مشواره هذا إلى بغداد، ثم عاد إلى الشام وتعلم على أيدي علماء الشام، ونزل المدينة ومكة المكرمة، ثم اتجه إلى مصر، وأخذ من كل مكان علماً، ثم عاد إلى الأندلس، وبدأ يسجل علمه فكتب مسند بقي بن مخلد ، وهذا مسند أحاديث روى فيه عن (1300) صحابي، فقد سمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في العراق، وسمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في المدينة، والذين كانوا في مكة، والذين كانوا في الشام ومصر، ففي مسنده (30969) حديثاً، فمسنده أكثر وأكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي تتلمذ على يديه في بغداد، ووصل إلى درجة عالية جداً من الفقه والعلم والتفسير والحديث رحمه الله، أي: أنه كان متميزاً في أكثر من فرع من فروع العلم، وهذا المشوار الذي قطعه لم يذهب هباء منثوراً أبداً، والتعب الذي لاقاه والمعيشة الصعبة التي مر بها والأيام الشديدة التي مرت عليه في بغداد وهو يتظاهر بالتسول، حتى يستطيع أن يأخذ حديثاً واحداً أو حديثين أو ثلاثة من أحمد بن حنبل رحمه الله، كل هذا لم يذهب سدى فقد عمل به المسند.

قال ابن حزم رحمه الله الإمام الفقيه المسلم المشهور: ما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته - أي: ثقة بقي بن مخلد - وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فقد روى عن (284) رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء. أي: أنه كان ينتقي الرجال الذين كان يروي عنهم، فكان يسأل عن الرجال ويدقق رحمه الله.

وقال ابن كثير: كان علامة، وكان فقيهاً صوّاماً قوّاماً متبتلاً، ثم يقول: وكان عديم المثل.. هذا تعديل ووصف ابن كثير له رحمهم الله جميعاً.

وقال الذهبي في حقه: ومن الثابت أن من مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال: شهد (70) معركة في سبيل الله، ففي الأندلس كانت هناك حروب كثيرة مع الصليبيين في الأندلس، ولم يكن منقطعاً فقط للعلوم، بل كان متفوقاً كـأسد بن الفرات الذي نشر مذهب الإمام مالك في شمال إفريقيا كله وفي الأندلس، وهو أيضاً الذي فتح صقلية، ومات شهيداً رحمه الله.

انظر إلى هذا التفوق في أكثر من مجال، فهناك بركة في حياتهم، وإنجاز في كل مجال، فالله عز وجل يفتح هذه البركات على من يرضى عنه، فيحدث ما لا تتوقعه، وإن شاء الله في المحاضرة القادمة التي سنتحدث فيها عن عنصر هام جداً من العناصر المميزة لأي عالم، وسيتضح لنا الإنجاز المعجز حقيقة لكثير من علماء المسلمين، سواء في علوم الشرع أو في علوم الحياة.

ويقول ابن حزم رحمه الله: أقطع أنه لم يؤلَّف في الإسلام مثل تفسير بقي بن مخلد رحمه الله.

إذاً: الجهد الذي بذله لم يضع، فالله سبحانه وتعالى بارك فيه، وانتفع المسلمون به، وسينتفعون إن شاء الله إلى يوم القيامة بجهد هؤلاء العلماء.

نرجع إلى ما كنا نتحدث عنه، وقلنا: إن العلماء رضي الله عنهم عانوا كثيراً حتى وصلوا إلى هذه المرتبة، سهروا وسافروا، وفرّغوا أوقاتاً هائلة للعلم، والله أعلم كيف كان وضعهم المادي؟! هذه القضية قضية المادة تشغلنا، وربما لا يحفظ أحدنا إلا هذه الآية من كتاب الله، وهي قوله عز وجل: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] أو: اعمل لدنياك.. وتجد الواحد منا يبحث عن أحاديث وآيات تخدم مشروعه، أو مشروع الدنيا الذي يعيش فيه، فكيف كان وضع هؤلاء العلماء؟

قصة مكحول والشافعي وأحمد والثوري وغيرهم مع العلم

هذا مكحول رحمه الله من التابعين، كان عبداً يُباع ويُشترى، يقول: أُعتقت بمصر فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه، ومصر أتاها الكثير من الصحابة والتابعين، وعاش فيها الكثير من العلماء، فكل علم هؤلاء حواه مكحول رحمه الله، هل اكتفى؟ لا، فطالب العلم لا يشبع أبداً، ثم يقول: ثم أتيت العراق ومن بعدها المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويته، وكم من الصحابة الذين ذهبوا إلى العراق وكانوا في المدينة المنورة، ومع ذلك فقد حوى علم المدينة وعلم العراق، ثم يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها. وهذا بشر مثلنا، ولكن عنده طموح عال جداً، وأظنه لو حوى علم مصر لكان كفاية وسيبقى من علماء الأمة ويشار له بالبنان، ويحمد إن شاء الله عند رب العالمين مع صلاح نيته، لكن هذا ليس كافياً عنده، فيذهب إلى العراق وإلى المدينة، وبعد هذا يذهب إلى الشام ويغربل الشام، لا يترك ركناً أو بقعة في الشام إلا وذهب إليها بحثاً عن العلم رحمه الله، وقد كان عبداً يُباع ويُشترى، وليس إنساناً ميسوراً، وإنما هو مسكين وفقير جداً، ومن أفقر المسلمين في زمانه، ومع ذلك فهو من أعلم المسلمين في تاريخ الأمة.

وهذا الشافعي رحمه الله يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، إذا كان حفظه للقرآن في سن سبع سنين فعندنا كثير ممن يحفظ القرآن في هذا السن؛ لأن من إعجاز القرآن أن حفظه ميسر؛ لقول الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، لكن كونه يحفظ الموطأ في سن العاشرة فهذا صعب جداً، فالموطأ ليس كتاباً في الحديث فحسب وإنما هو حديث وفقه، فمن الصعب جداً أن يُحفظ، ويكاد في زماننا أن نقول: مستحيل، فهذا يدل على وجود بركة وصدق، ولم يكن وضعه مستقراً، ولم تكن عنده أم غنية أو أب غني ينفقان عليه؟

اسمع لقوله عن نفسه: ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس لأكتب عليها، فكنت أسير في شوارع المدينة فإذا رأيت عظماً يلوح لي من بُعد أخذته فكتبت عليه، ثم طرحته في جرة قديمة لنا.

هذا هو الشافعي رحمه الله، وكان يدخل المساجد وهو في الثالثة عشرة من عمرة يناظر العلماء رحمه الله، وعندما أصبح في سن الثالثة عشرة بدأ يكثر العلم ويريد أن يكتب ويكتب، والعظم لا يكفي، فحالته صعبة فهو فقير مُعدم، لكن ليس هناك عائق أمامه ليتعلم رحمه الله، فإذا أراد أوراقاً ليكتب عليها ذهب إلى الديوان. أي: ديوان الحاكم أو الوزارة أو الإمارة فيستوهب الظهور، أي: أنه يريد هبة ظهور الورق المكتوب أمامه فيكتب على ظهور الأوراق، فهذا هو الشافعي رحمه الله.

وفي الأخير أصبح الشافعي إمام المسلمين بهذه المعاناة التي عاناها رحمه الله.

أيضاً الإمام أحمد بن حنبل كانت قصته شبيهة بقصة الإمام الشافعي رحمه الله، فقد كان طفلاً صغيراً جداً ابن خمس سنوات أو ست سنوات، ويريد أن يذهب إلى المسجد ليتعلم، وأمه تخاف عليه فتقول له: لا تخرج إلى المسجد إلا بعد أذان الفجر، وهو مصر على الخروج قبل أذان الفجر، فكل يوم تتمسك به، وهو يستيقظ مبكراً قبل الفجر ليذهب إلى المسجد، ليدرك مكاناً في الصفوف الأولى، حتى يسمع العالم الذي يتحدث بعد صلاة الفجر يعلّم الناس، وبعد أن كبر اطمأنت أمه عليه وعلمت أنه يستطيع أن يخرج إلى المسجد قبل أذان الفجر، وقال ذات مرة: لو كان معي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد رحمه الله. وكان من العلماء، فهو يريد أن يتعلم على يديه، ولكن يريد لقطع المشوار إليه خمسين درهماً وليس لديه رحمه الله، وذكرنا حاله قبل ذلك فقد كان يعمل حمّالاً في اليمن، وكان يعمل في أعمال بسيطة جداً، وهو خير أهل الأرض في زمانه رحمه الله.

وهذا سفيان الثوري رحمه الله حينما أراد أن يتعلم قال: يا رب لا بد لي من معيشة، فأمه النجيبة الفاهمة الواعية.. وهذا الكلام موجه لأخواتنا، واذكرن السؤال الذي سبق في قضية العلم: ماذا نعمل في قضية العلم؟ وقلنا: إن الدور الرئيسي للمرأة: الزوج والأولاد، وهناك أدوار أخرى كما فصّلنا قبل ذلك. فأم سفيان الثوري قالت له: يا بُني تفرغ للعلم وأكفيك بالمغزل، وبدأت تشتغل رحمها الله بالمغزل لتبيع أشياء يسيرة جداً بدراهم معدودات، واستمر في بحثه على العلم وطلبه له حتى صار سفيان الثوري رحمه الله من عظماء أتباع التابعين.

وهذا البخاري رحمه الله، وكنت أتمنى أن ييسر الله عز وجل لنا وقتاً فنُفرد له درساً خاصاً، ومن الصعب أن نتحدث عن البخاري في هذه العجالة، فهو من خير أئمة المسلمين رحمه الله، وهو صاحب أعظم كتاب سُنة وأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل على وجه الأرض، وهو صحيح البخاري.

حضر البخاري رحمه الله دروس العلم، فلم يبلغ من العمر (16) سنة حتى حفظ (70000) حديث، وكان إذا مشى في الشارع وهو ابن (16) سنة أوقفه الكثير من الناس في الشارع؛ ليسألوه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي يوم من الأيام غاب عن الدرس مرة أو مرتين فافتقده أصحابه، فذهبوا إليه فوجدوه في بيته وهو عُريان من الثياب الخارجية، ليس له ثياب ليخرج بها إلى المسجد فهو فقير شديد الفقر، يقول أصحابه: فجمعنا له بعض الدراهم واشترينا له ثوباً ليحضر الدرس معنا بعد ذلك.

وهذا يحيى بن معين رحمه الله ترك له أبوه ألف ألف درهم، أي: مليون، لو كان في هذا الزمن لكان مليونيراً، فأنفقها جميعها في سبيل تحصيل العلم والحديث، حتى إنه بعد ذلك لم يجد نعلاً يلبسه.

هذه ليست أساطير، هذه أسماء معينة معروفة وأحداث معروفة وموثّقة، هذا يحيى بن معين وهذا البخاري والشافعي وأحمد بن حنبل وهذا الإمام مالك كما ذكرنا في الدرس السابق، فالإمام مالك كان غنياً فأنفق أمواله على طلبة العلم وعلى تحصيل العلم، حتى إنه في النهاية اضطر أن يبيع أثاث بيته، وليس هذا فحسب وإنما باع خشب البيت ليصرف على نفسه رحمه الله.. وهذا وضع مر مع الغالب رحمهم الله جميعاً.

فالعلم عندهم لم يكن في لحظة من اللحظات أو عند الشباب أو عند فترة الدراسة، لا، فالعلم مع الواحد منهم إلى أن يموت، كما ذكرنا كلمة أحمد بن حنبل الموفقة: من المحبرة إلى المقبرة، ومن المحنة إلى المنحة، ومن التعذيب إلى التهذيب.

وهذا ابن جرير الطبري رحمه الله المفسِّر والفقيه المعروف والمؤرخ المعروف، عمِّر أكثر من (80) سنة، وعندما كان على فراش الموت وهو يجود بنفسه دخل عليه أحد العلماء ليعوده في مرضه، فذكر حديثاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن موجوداً عنده، فأخرج من تحت الفراش الورق والقلم وبدأ يكتب الحديث وهو يجود بنفسه، فقال له الرجل: أفي هذه الحالة؟ فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الممات، حتى آخر لحظة، هذا الموقف تكرر كثيراً من علماء المسلمين.

وهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله جميعاً، عندما كان في اللحظات الأخيرة من حياته يسأل أحد تلامذته الذين جاءوا لعيادته في بيته عن مسألة من مسائل الفقه في الحج، فالتلميذ مشفق عليه ويقول له: في هذه الحالة؟ فقال: أليس من الأفضل أن أخلي الدنيا وأنا معلِّم لهذه المسألة، وتستفيد بها أنت ويستفيد بها المسلمون؟ فهو إلى آخر لحظات حياته ظل يعلِّم الناس رحمه الله.

وذكرنا أن البيروني رحمه الله كان من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك، وأيضاً من علماء الفقه، وهو على فراش الموت جاءه أحد علماء وقضاة المسلمين في ذلك الوقت، فسأله عن مسألة خاصة بالميراث؟ فقال: أفي هذه الحالة تسأل عن الميراث؟ فقال: من الأفضل أن أُخلي الدنيا عالماً بهذه المسألة على أن أُخليها جاهلاً بها.

وسفيان الثوري في لحظات حياته الأخيرة يكتب مسألة من مسائل العلم، فيلومونه، فيقول: أكتبها، فإن بقيت فقد فعلت حسناً وكتبت حسناً، وإن رحلت فقد تركت حسناً وعلماً ينتفع به.

إذاً: كانوا إلى اللحظات الأخيرة في حياتهم رحمهم الله على هذه الدرجة من التحصيل، فهذا هو المطلوب منكم.

وآخر يقول: الموضوع صعب، نعم هو صعب، ألم نذكر قبل هذا: إن نسبة العلماء في العرب جميعاً (136) لكل مليون، والعلماء في إسرائيل (1335) لكل مليون، وأمريكا أكثر من (4000) عالم لكل مليون، واليابان أكثر من (5000) عالم لكل مليون، ماذا يعني هذا الكلام؟ أي: نسبة اليابان (0.5 %) أي: أن عندهم لكل (200) منهم عالماً، أي: لو حضر في هذا المسجد (1000) رجل ينبغي أن يكون بينهم خمسة علماء حتى نصبح كاليابان، وإذا كنا نريد أن نكون أحسن من اليابان فلا بد أن يكون بينهم عشرة علماء، فعندما يكون هناك (1000) رجل ولم يخرج من بينهم علماء، فأنت محاسب ومسئول، فإذا كان صديقك عمل واجتهد فلن يكون مبرراً لك يوم القيامة، وليس هذا منجياً لك يوم القيامة: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فكل منا لا بد أن يكون هذا العالم، وتاريخ الأمة يشهد بذلك، وبإذن الله يكون لنا لقاء نتحدث فيه عن الإنجازات العلمية في تاريخ المسلمين، هناك صور رائعة من الحضارة الإسلامية، وإن شاء الله نفرد لها حديثاً خاصاً.

قصة ابن الهيثم مع العلم

لم يكن هذا الجهد من علماء الشرع فقط، لا، بل أيضاً علماء الحياة في تاريخ الإسلام أنجزوا إنجازات هائلة لم تأت إلا بجهد جهيد، وهذا يحتاج إلى محاضرة خاصة، لكن نمر في هذه المحاضرة اليوم على بعض الأمثلة:

هذا ابن الهيثم رحمه الله كان من أعظم علماء البصريات في التاريخ، ومن أعظم علماء الضوء، وله اكتشافات مذهلة، وعلى اكتشافاته هذه قامت النظريات العلمية الحديثة كلها، ومن المستحيل أن تجد كتاباً من كتب علم الضوء في العالم لا يُذكر فيها اسم ابن الهيثم ، ولا كتاب (المناظر) الذي ألّفه، وليس هذا هو الكتاب الوحيد له، وإن شاء الله سيكون لنا كلام عن ابن الهيثم أيضاً في الدروس القادمة.

فـابن الهيثم كانت حالته المادية صعبة، وكانت تأتيه الأموال وتُعرض عليه الأموال وكان مقرباً من الأمراء؛ لأن الأمراء والخلفاء كانوا يقدرون العلم في معظم أيام الدولة الإسلامية، فكانوا يقدّرون ابن الهيثم فيُعطيه الأمير أو الخليفة مالاً، فيرد له المال ويرفض ابن الهيثم رحمه الله، ويقول له: إن أنا ادّخرت هذا المال كنت خازناً عليه، وإن أنا أنفقته كنت وكيلك في إنفاقه، فإذا شغلت نفسي بهذين الأمرين: الادخار أو الإنفاق، فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟!

فهو يخاف أن يأخذ هذه الأموال فينشغل بالحفاظ عليها، أو ينشغل بإنفاقها، ويقول: إذا تفرغت لدنياكم فمن يتفرغ للعلم؟!

هذه همم عالية، وليس من الفراغ أن يكون عالماً من علماء الأرض رحمه الله، ولكنه أتى من هذا الجهد الذي بذل، يقول ابن الهيثم رحمه الله: وإني ما مُدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل تحصيل هذه العلوم، متوخياً من ذلك ثلاثة أمور:

أولاً: إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي لله رب العالمين. أي: يفعل هذا الأمر تقرباً إلى الله عز وجل، وسبيل التقرب إلى الله أن تنفع نفسك بهذا العلم وتنفع الناس، ودائماً يأتي العلم على لسان حبيبنا صلى الله عليه وسلم مقروناً بالنفع، فيقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) فبعد موت ابن الهيثم تأتي الحسنات إليه من الناس؛ لأجل ما قدم في حياته من علوم، فهذا هدف من الأهداف الرئيسية له.

ثانياً: أني جعلت ذلك ارتياضاً لي بهذه الأمور في إثبات ما يتصوره ويتقنه فكري من تلك العلوم.

أي: أنه يتلذذ ويتمتع بهذه المسائل العلمية، فهو يعتبرها رياضة له وإمتاعاً لفكره وعقله، فمتعته أن يتعلم، وكلنا سنمر بهذه المرحلة إن شاء الله لو استمرينا في طريق العلم.

ثالثاً: أني أحتسب ذلك ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم.

والأخ الذي يقول: أنا يأتيني ملل، أو كما قال لي بعض الإخوة في الدروس السابقة: إنه يبذل جهداً لكن المذاكرة ليست لطيفة؟ أقول له: في البداية يكون الأمر صعباً إلى أن تتقن العلم، فإن أتقنته أحببته، وإن أحببته صعب عليك فراقه، فتبذل الجهد والوقت والفكر في تحصيله بعد ذلك دون عناء، لا تشعر بالمشقة التي يشعر بها أولئك الذين لا يدركون قيمة ما يقرءون ويسمعون.

فـابن الجوزي رحمه الله كان يجلس على النهر ويبل الخبز في النهر ويأكله، ويقول: وأجد لذلك لذة عظيمة في حلقي؛ لأني أفعل ذلك ابتغاء تحصيل العلم. أي: أن هذا الكفاح والتعب من أجل أن أحصل على العلم وأتفرغ له، وهو فقير معدم، ومع ذلك فهو متلذذ بجمع العلم، ومتلذذ بأكل الخبز اليابس المبلل بالماء.

فمن الطبيعي أن تمر بصعوبة، وليس صحيحاً أن أحدكم سيخرج من هنا متحمساً ويكون عليه الأمر سهلاً إلى نهاية الأمر، ولكن ستمر بك صعوبة، وأنا مررت بهذه التجربة بنفسي، فإنني عندما دخلت الكلية أول سنة واجهت صعوبة، يقولون: أول ستة أشهر في الكلية صعبة، فالبداية صعبة، والمواد تحتاج إلى كثير من المراجعة والترجمة فكنت على هذه الحال في السنة الأولى.

ومرت الأيام إلى أواخر السنة الثالثة وبعدها أحببت الطب، ففي السنين الأولى والثانية والثالثة تذاكر؛ لأنك مضطر لتنجح، والعلوم صعبة ومخالفة لما كنت عليه في الثانوية العامة من منهج سهل ومبسط، فأنت قد دخلت في طريق مختلف تماماً، فهناك كثير من الناس كرهت الطريق، ولنا أصدقاء في سنة أولى أو ثانية طب تركوا الكلية ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذا الوضع، وهناك آخرون انتهوا من دراساتهم، وهناك آخرون اجتهدوا وفي السنة الثالثة بدءوا بحب المادة، ومن اشتاق للطلب أكثر وأكثر أبدع وتفوق وبرز وسبق، ومن عاش كما يعيش الناس فهو شخص من ضمن الآلاف الموجودين، فلو كانت عندك حمية فستصل إلى درجة الحب للعلم، وهذا في كل الطاعات وليس في العلم فقط، وطلب العلم من أقرب الطاعات وأعظمها، لكن هذه الصعوبة موجودة في جميع الطاعات كقيام الليل، أتظن أن الإنسان الذي يقوم الليل كان سهلاً عليه في البداية أن يقوم الليل؟

يقول أحد التابعين: كابدت قيام الليل عشرين سنة، ثم استمتعت به بعد ذلك عشرين سنة أخرى.

إذاً: الأمر الأول: أن ابن الهيثم كان يعمل هذا لأجل الثواب والأجر ونفع الناس في حياته وبعد مماته.

الأمر الثاني: يعمل هذا متعة ورياضة.

الثالث: أنه كان يعمل عمله ليصير ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم.

أي: أنه سيأتي وقت يكون فيه كبيراً في السن، فلو أنه لا يملك علماً متميزاً فيه وطريقاً يمشي فيه من طرق العلم، فستتعب صحته ولا يستطيع أن يسير كالشباب ويذهب هنا وهناك ويعمل..، فسيظل ينشغل بهذا العلم حتى يتقنه، فعنده قضية تشغله إلى أن يصير عمره (70) أو (80) أو (100) سنة.

فـموسى بن نصير رحمه الله فتح الأندلس وعمره (72) سنة، وأتم الفتح وعمره (75) سنة رحمه الله.

ويوسف بن تاشفين رحمه الله انتصر في موقعة الزلاقة وهو قائد الجيوش وعمره (79) سنة.

وهذا الطبري يكتب حديثاً وعمره فوق (80) سنة وهو على فراش الموت.

إذاً ابن الهيثم في شبابه أعد لهرمه، ونقول: يا شباب أعدوا لهرمكم، أعدوا لهذا اليوم فكلما تُبدع في العلوم ستجد شيئاً يشغلك وأنت شيخ كبير، بل وأعظم من ذلك ستجد الناس تحتاجك، ومن الصعب أن يكون قد كبر سنه ولم يحتج إليه الناس، فيظل في البيت ولن يجد من يحتاجه، ولكن العالم كلما تقدم به العمر احتاج الناس إلى علمه أكثر وأكثر، وهذا نراه في علوم الحياة وعلوم الشرع في التاريخ وفي الواقع، في بلاد المسلمين وفي غير بلاد المسلمين.

قصة الطوسي وسيد قطب وابن تيمية وابن خلدون وابن رشد وابن النفيس وغيرهم مع العلم

لقد كان الطوسي عالماً في الفلك والرياضيات، وكان من المتميزين البارزين المقربين إلى الخلفاء لعلمه، فهذا الإنسان المتميز عادة ما يكون له أعداء، فوشوا به وكادوا له فوضع في السجن رحمه الله، فكتب أبحاثاً في الفلك والرياضيات من أروع ما يكون.

وسيد قطب رحمه الله كتب (الظلال) في السجن، ولعله لو كان خارج السجن لما كتبه، فأصبح السجن بالنسبة له نعمة، لكن ليس هناك شيء اسمه تضييع وقت، وهذا موضوع درسنا القادم إن شاء الله بالتفصيل، لكن الشاهد أنه في هذه الظروف الصعبة كتب (الظلال)، وقلما تجد مكتبة في مسجد من مساجد العالم إلا وتجد فيها هذا الكتاب، ولقد شاهدت أناساً يترجمون هذا الكتاب إلى لغات أعجمية إلى اللغة الألبانية وإلى اللغة الهندية.. فهناك جهد يُبذل لهذا الأمر، فهذا خير عميم عُمل وحصل في السجن.

كذلك ابن تيمية له كتابات كثيرة في السجن ومفيدة جداً.

وهذا فخر الدين الساعاتي رحمه الله أحد جهابذة الطب في تاريخ الإسلام، وكان يقول: يحسدني قومي على صنعتي؛ لأنني بينهم فارس سهرت في ليلي واستنعسوا، لن يستوي الدارس والناعس.

ومر بنا موقف البيروني رحمه الله يتعلم وهو على فراش الموت.

كذلك ابن خلدون رحمه الله كان يسأل عن العلوم الإنسانية، فـابن خلدون واضع علم الاجتماع، فهو أول من كتب في علم الاجتماع في العالم، ولعلكم سمعتم منذ عدة شهور الاحتفال الضخم التي قامت به إسبانيا، حيث احتفلوا بمرور (600) سنة على وفاة ابن خلدون، وهم أكثر البلاد كرهاً للإسلام والمسلمين، ومع كل ما فعلوه في محاكم التفتيش سابقاً من الطرد والإبعاد والقتل للمسلمين عموماً، ومع ذلك لا يستطيعون أن يتجاهلوا شخصية كشخصية ابن خلدون رحمه الله، فاحتفلوا بمرور (600) سنة على وفاته رحمه الله.

وابن خلدون لم يصبح بهذه المكانة من فراغ، فقد ذهب في طلب العلم من الأندلس، ولم يعد إليها إلا بعد (25) سنة، فهذه رحلة علم (25) سنة، فقد ذهب إلى تونس والجزائر والمغرب ومصر، وتجول في بلاد الأرض بحثاً عن العلم، ليكتب مقدمة ابن خلدون، هذه المقدمة التي خلدّت اسمه في التاريخ، والتي فيها أسس علم الاجتماع، وفيها قواعد تفسير التاريخ، فيها أمور كثيرة جداً من أعظم الأمور في تاريخ العلوم، وعندما أراد أن يكتب هذه المقدمة ذهب بأسرته إلى الجزائر في قلعة وسط الجبل بعيداً عن الناس، واعتكف هناك أربع سنوات كاملة لا يخرج من القلعة، ولم يخرج من القلعة إلا ومعه الكتاب الذي أصبح أساساً علمياً لم يكن موجوداً في الدنيا قبل ذلك.

وهذا ابن رشد كان نابغة في الطب يقال في تاريخه: إنه لم يدع النظر في الكتب في حياته كلها إلا في ليلتين: أحدهما: مات أبوه فيها، الليلة الثانية: ليلة زواجه، فكل الليالي في حياته لا بد أن يطالع في الكتب ويفحص ويكتب ويستذكر.

وهذا ابن سينا أقبل على دراسة الفلسفة، حتى إنه لم يترك كتاباً سبقه في التاريخ إلا واطّلع عليه، وبعد هذا قرأ في الحساب، وعلم حساب الهند.. وغيره من أنواع الحساب، ثم أتقن علم المنطق، ثم بدأ يتجه إلى كتب أقليدس وهو من علماء اليونان، ثم كتب بطليموس ، وقرأ وتفنن وأبدع وناظر في هذه الأمور، ثم بعد هذه الرحلة في العلم رغب في علم الطب فوجده أسهل من العلوم الأخرى، فلم يأخذ منه وقتاً طويلاً حتى أتقنه، فأتقن علم الطب واحتاج الناس إليه، حتى أصبح أعلم أهل زمانه في الطب، وأهل الطب في زمنه لا يجازون إلا بقراءة الطب عليه، ثم يقول: واختلفت بعد ذلك إلى الفقه، فتفقهت وأصبحت من المناظرين.. ثم قال: علت ذلك وأنا ابن (16) سنة.

فالإنسان عنده إمكانيات هائلة: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]فالله عز وجل خلق هذا العقل بإعجاز، فإمكانياتك الحقيقية أكثر من تخيلك بآلاف المرات، ولكن نحن نعمل بـ (000.1) من إمكانياتنا.

وابن سينا ليس نبياً وليس معصوماً وله أخطاء كما تعلمون، وقد قطع هذا الشوط في هذه العلوم وعمره (16) سنة، لم يكن قارئاً بل متقناً ومناظراً في علوم الفلسفة والمنطق والهندسة والطب والرياضيات والفقه، ويقول: وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً وكتباً. يعني المئات من الكتب التي جمعها ابن سينا .

ويقول: وكلما كنت أتحير في مسألة ترددت إلى الجامع، فأصلي وأبتهل إلى الله عز وجل حتى يفتح لي المنغلق، وييسر لي المتعسر، فيفتح الله عز وجل لي، وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فكلما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، وكلما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها.

هذا الكلام ليس غريباً، فعندما تكون مشغولاً بشيء تحلمه.

ويقول: حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام.

فهذا إنسان نهاره وليله علم، ولهذا عندما ننظر في إنجازه لا نستغرب، وسيكون لنا درس إن شاء الله على إنجازات المسلمين في العلوم الحياتية في التاريخ، وستسمع لـابن سينا كلاماً غريباً، فهو فعلاً مرجعية عالمية على أعلى مستوى وإلى الآن، فكنت في فرنسا أكثر من شهر فوجدت المكتبات الخاصة بالعلوم الطبية اسمها ابن سينا ، هذا في فرنسا، فما نُسي أبداً تاريخه في هذه العلوم.

فـابن سينا كان يقرأ كتاب (ما وراء الطبيعة)، فعند قراءته لهذا الكتاب لم يفهمه، فقرأه أربعين مرة، يقول: حتى استظهرته -أي: أنه قرأه أربعين مرة حتى حفظه- وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به.

وفي يوم من الأيام دخل سوق الكتب فوجد شخصاً يقول: من يشتري هذا الكتاب؟ فدل على ابن سينا فأتاه فقال له: اشتر مني هذا الكتاب فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، فأخذ الكتاب ووجد اسم الكتاب (أغراض كتاب ما بعد الطبيعة)، أي: أنه مفهوم كتاب ما بعد الطبيعة، فأخذ هذا الكتاب وعاد به إلى البيت فقرأه في ليلة واحدة، وكان الكتاب للفارابي ، والفارابي من أكبر فلاسفة المسلمين، فلما قرأ الكتاب فهم الكتاب الأصل الذي كان يحفظه ولا يفهمه. يقول: فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه كان لي محفوظاً عن ظهر قلب، وفرحت بذلك فرحاً جماً، وفي اليوم الثاني تصدقت بشيء كثير على فقراء المسلمين شكراً لله تعالى.

وهذا ابن النفيس رحمه الله وهو من علماء الطب الأفذاذ في تاريخ المسلمين، فعندما كان يجلس للتأليف كان يقول لبعض الذين يساعدونه: ابروا لي أقلاماً كثيرة، يقول من رآه: كان يكتب كالسيل المنحدر، فقد كان من علماء الحياة.

وهذا الكلام ليس خاصاً بعلماء المسلمين، فالعالم من غير المسلمين إذا قدّر قيمة العلم واجتهد يصل، وليس من المعقول أن العالم غير المسلم يجتهد في هذا الأمر ويصل والعالم المسلم لا يصل!!

قصة مخترع بندقية الكلاشنكوف

هذه قصة طفل روسي مُعدم فقير، ولد في سنة (1919م) في أسرة فقيرة الحال، وكان الأب يشتغل في الزراعة، ولهذا الطفل ستة إخوة وهو السابع، ولم يكن يحب الزراعة وإنما كان يحب الميكانيكا، ولكنه فقير لا يستطيع التعليم، دخل المدرسة وتعلم إلى المرحلة المتوسطة، وبعد هذا لم يستطع أبوه أن ينفق عليه وأخرجه من المدرسة، وكان يرى أباه يتعب في الزراعة، فقال: هل أستطيع أن أعمل مكينة تساعد أبي في الزراعة؟ أراد أن يعمل مكينة زراعية، ولكن ضغط الفقر جعله يشتغل في ورش سكة الحديد كعامل مسكين بسيط، وكبر ومرت الأيام وأتت الحرب العالمية الثانية سنة (1939م) ودخلت ألمانيا روسيا، فدخل الجيش وعمره (18) سنة أو (19) سنة، دخل الجيش برتبة عريف، واشتغل على دبابة ودخل المعركة فأُصيب، ثم أخذوه إلى المستشفى، وفي المستشفى عرف من زملائه الجنود المصابين الروس أن الإصابات الكثيرة هذه بسبب سلاح ألماني، فعندهم اختراع بندقية قوية أصابت الكثير من الروس، فقال: لماذا لا نعمل بندقية تضاد البندقية الألمانية؟ فبدأ يرسم ويخطط، ثم إن القوات الروسية أعلنت عن طلب للمخترعين في روسيا أن يقدموا وسيلة لإطلاق الأعيرة النارية بسرعة أكثر، ليقابلوا بها السلاح الألماني، فقدم ما رسمه، فعلماء العسكرية في روسيا درسوا هذه الرسمة فوجدوها في منتهى الروعة، فأخذوه إلى المعمل فنفذها بالفعل وعمل السلاح، وكان اسم الرجل هذا كلاشنكوف فأصبح مخترع الكلاشنكوف الذي هو موجود في العالم إلى الآن، وله أثر ضخم جداً في الحروب السابقة والحالية، وفي كل الحروب في العالم تجد الكلاشنكوف من بداية اختراعه وهو موجود، فهذا الكلاشنكوف في المواقع البرية غيّر الموازين مع الألمان في الحرب العالمية الثانية.

انظروا كلاشنكوف المُعدم الفقير الذي لم ينته بعد من دراسة الإعدادية فعل كل هذا!

فيا طلاب الثانوي أنتم سبقتم كلاشنكوف ، ويا طلاب الجامعة، ويا علماء الأمة أين الإبداع والاختراع؟ ألم يفد هذا الاختراع روسيا؟ ألم ينفعها هذا الاختراع في حربها؟ ألم يقدّم هذا الاختراع الروس خطوة وخطوات؟

نريد ذلك عند المسلمين.

قصة مكتشف الميكروبات ومخترع المصباح الكهربائي مع العلم

هذا لويس باستير العالم الفرنسي المشهور الذي اكتشف الميكروبات، واكتشف علاج داء الكلب، فإنه عندما تزوج بحثوا عنه ليلة زفافه فوجدوه في مختبره مشغولاً بقضية العلم.

و أديسون العالم الأمريكي المشهور مخترع المصباح الكهربائي، قدّم (1200) براءة اختراع، فعندما سئل: ما هذا الاختراع كله؟ وما هي هذه العبقرية؟ وما هذا الإلهام؟ ماذا قال؟ قال: الإلهام عندي (2%) أما الـ(98%) فجد واجتهاد.

إذا كان هذا يستقيم في حق هؤلاء العلماء من غير المسلمين، فكيف بالمسلمين الموفقين من ربهم سبحانه وتعالى؟!

وأختم حديثي بتلخيص ما سبق بإيجاز شديد بكلمة يحيى بن أبي كثير : لا يستطاع العلم براحة الجسم.

إذا أردت أن تكون عالماً فأول طريق العلم أن تعرف قيمة الشيء، ثم ابذل مجهوداً لا راحة معه إلى الممات.

وللحديث بقية.

أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] 3092 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [1] 3031 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [7] 2755 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [3] 2403 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [2] 2398 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [4] 2314 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] 1999 استماع
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] 1693 استماع