خطب ومحاضرات
سلسلة كيف تصبح عالماً [7]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فما زلنا في حديثنا حول القضية الهامة التي تحدثنا عنها في عدة محاضرات، وهي قضية العلم ومكانته في الشرع الإسلامي، وقضية أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وكيف يكون الطريق لأن نكون علماء؟ وكيف السبيل إلى أن نتخطى العقبات والعراقيل التي تمر بها الأمة الآن في طريق العلم؟ وذكرنا أن أول طريق العلم: هو تقدير قيمة هذا الذي تجاهد من أجله وهو العلم، وذكرنا أدلة كثيرة على هذا الأمر.
والأمر الثاني: أن تبذل الجهد كل الجهد، ونكرر للمرة العاشرة وأكثر مقولة يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسم.
اليوم بإذن الله سنتكلم عن شيء من أهم الأشياء لكي نكون من العلماء، ولا يستقيم أبداً أن نكون من العلماء بغيره، بل لا تكون نجاة بغيره، لكن قبل الحديث عنه كعادتنا نتحدث عن بعض الأسئلة، والحقيقة هي أسئلة في غاية الأهمية.
قبل أن نخوض في الأسئلة هذه الدروس هي محاولة للعصف الذهني، بمعنى إخراج كل ما عندنا في هذه القضية المهمة، وأنه ليس الغرض من وراء هذه المحاضرات هو حل كل مشاكل العالم الإسلامي في يوم وليلة، وليس الغرض أن نكون علماء غداً أو بعد غد، ومن الممكن أن نختلف مع بعضنا البعض في بعض الآراء التي ذُكِرت في هذه المحاضرات، وقد تكون هناك جوانب كثيرة أغفلت سواء عمداً أو عن غير عمد في هذه المحاضرات وهي من الأهمية بمكان؛ لأننا قدمنا الأهم في رأينا وتركنا غيره، وقد يكون الأهم غير ذلك.
المهم في كل ما نقوله أننا نضع هذه القضية في بؤرة الاهتمام، والحل قد لا يكون في هذه اللقاءات السريعة، لكن قد يكون حلها في ندوات متكررة على مدار عدة سنوات، وفي محاضرات ودورات تدريبية، يكون حلها في تغيير منهج حياتنا على مدار السنوات المقبلة، يكون حلها في إذكاء الحمية في قلوب علماء المسلمين، فيبدءون في توريث العلم لغيرهم، يكون غرضها حث طلبة العلم على طلب العلم.
عادة ما تكون الوسائل من أبسط الأشياء، يعني: قد نصل بأبسط الوسائل التقنية أو المسائل المادية إلى العلم المعين، لكن لابد في البداية أن يوضع الأمر في بؤرة الاهتمام، وهذا ما نحاول أن نبحثه، وسلكنا في ذلك عدة مسالك: منها: توضيح قيمة هذا الأمر في الشرع الإسلامي، وما قاله الله عز وجل في حق العلماء، وما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم في حق العلماء، وقدر العلماء عند أئمة المسلمين وعند الصالحين من أبناء هذه الأمة، ودور العلم في بناء الأمم، والأمم التي اتخذت العلم كيف وصلت وإلى أي شيء وصلت؟! وكيف تقود العالم الآن؟!
يعني: إذا استوعبنا هذه الأمور وأحسسنا بقيمة القضية، إن شاء الله لو حرصت على الوصول ستفتح لك الأبواب، ونذكر بقول ربنا سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
بعض الأسئلة مهمة جداً، وهنا سؤال سيكون له مكان في المحاضرة القادمة، لكن لأهميته سأذكره الآن ثم نعيد إن شاء الله التذكير به في المحاضرة القادمة.
طرق معالجة النية وإخلاصها في طلب العلم وغيره
السؤال: أجد في نفسي أحياناً رياء عند طلب العلم، فالأصل أني أطلب العلم من أجل رضا المولى ولكن قد يداخل ذلك حب التميز والتفوق وحب الشهرة وكلام الناس، فماذا أفعل؟
الجواب: أذكر السائل بالمقولة الهامة جداً، وهي: العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك. يعني: أن إبليس يزين لك أموراً ويلبس عليك الأشياء ويقول لك: أنت تطلب العلم لأجل الناس، فيدفعك إلى تركه؛ حتى تخلص النية وتصلح القلب، وهذا تلبيس من إبليس، لكن الصواب أن تستمر في العمل مع تجديد النية الصالحة المستمرة، وتجديد النية ليس سهلاً، يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي. ومعالجة النية أمر صعب فعلاً، لكن بالممارسة والمجاهدة وبالمحاولة مرة وثانية وثالثة وأكثر -إن شاء الله- سيصل المسلم الصادق إلى درجة الإخلاص المطلوبة، ومعالجة النية ليست مرة ولا مرتين في العمر أو مرة أو مرتين في السنة، لا، لكن مع بداية كل عمل معين، في كل ساعة وكل لحظة، وحسب درجة الإيمان تزداد درجة الإخلاص، ومطلوب منك أن تقرأ كثيراً عن الآخرة؛ لكي تخلص النية لرب العالمين سبحانه وتعالى.
ذكر نفسك بيوم الممات، وذكر نفسك بيوم المعاد عند الله عز وجل، وذكر نفسك بالحساب أمام الله عز وجل، وستجد أن النية إن شاء الله تتجه تدريجياً إلى أن تكون نية خالصة لله عز وجل، والأمر فيه تفصيل، وسنتحدث عنه إن شاء الله في الدرس القادم بشيء من التفصيل.
مدارس اللغات الأجنبية ومحاولة طمس اللغة العربية أو إضعافها
السؤال: هناك مشكلة اختيار مدارس لغات أو مدارس لغة عربية للأطفال؟
الجواب: إن ما ذكره السائل أمر مشاهد، فإن مدارس اللغات مستواها التعليمي أعلى من المدارس العربية في الجملة، صحيح هناك استثناءات، لكن في الجملة هذا هو المشاهد.
وقد ناقشت هذه القضية قبل ذلك في مجموعة (فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى) وذكرنا أن أعداء الإسلام عندما أرادوا الكيد لهذا الدين لم يغلقوا مدارس الأزهر في أوائل القرن الماضي، ولكنهم أنشئوا إلى جوارها المدارس العلمانية، وفتحوا أبواب العمل لطلاب المدارس العلمانية، فبالتالي مع مرور الوقت بدأت الناس تتجه بأبنائها إلى المدارس العلمانية سعياً وراء فتح فرص عمل للأبناء عندما يكبرون، وأصبح الذي يدخل الأزهر هو الذي لا يستطيع أن يدخل المدارس الأخرى، ومع مرور الوقت تدنى المستوى التعليمي في الأزهر إلى درجات لم يكن عليها قبل ذلك مطلقاً، وقديماً في تاريخ الأمة العظيم كان عظماء الأمة هم الذين يهتمون بالعلوم الشرعية ويدرسونها ويتفوقون فيها، وكان النبوغ في هذه المجالات وسيلة لرفعة الإنسان وسط القوم أو وسط المجتمع الذي يعيش فيه، لكن الإنجليز أنشئوا مدارس علمانية وسهلوا فرص العمل لطلابها، وفوق ذلك أيضاً بدءوا يعطون رواتب أعلى لخريجي هذه المدارس أعلى بكثير من رواتب خريجي الأزهر.
والمدارس العلمانية كانت تتحدث باللغة العربية في الجملة، لكن الآن صارت هناك مدارس لا تتحدث إلا باللغة الأجنبية فقط، وأيضاً فرص العمل مفتوحة بصورة أكبر لمن يحصل على الشهادة من مدرسة أجنبية، وهذا يدفع النوابغ من أبناء المسلمين إلى الالتحاق بالمدارس الأجنبية، ويخرج في آخر المطاف وهو لا يستطيع أن يكتب ويقرأ اللغة العربية إلا بصعوبة بالغة وبضعف شديد، وبالتالي يصعب عليه جداً أن يقرأ القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولو قرأ لا يستطيع أن يفقه بسهولة، فتكون النتيجة تردياً مستمراً للتفقه في القرآن والسنة وفي علوم الدين بصفة عامة، وأخطر من ذلك أن الفرد منا قد يقول: أنا ممكن أن أُحْضر لابني مدرساً يعلمه اللغة العربية في البيت حتى يرتفع مستواه، نقول حتى لو ارتفع مستواه في اللغة العربية واستطاع أن يقرأ اللغة العربية بصورة جيدة، ويقرأ القرآن والسنة بصورة طيبة، فإنه قد يدخل في شعوره الداخلي دون أن يريد هو وآباؤه ذلك تعظيمُ اللغة الغربية على اللغة العربية، وأنها مصدر النجاة في هذه الدنيا، وأنه لا فلاح له ولا وصول إلا بهذه اللغة، وليس معنى هذا الكلام أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية.
يقول البعض: هل أنت مع تعليم الأطفال بعض المصطلحات الغربية وهم قبل سن الدخول إلى المدرسة؟
والسؤال الذي يأتي بعد ذلك: هل يا ترى يتعلم الطالب اللغات الأجنبية مع اللغة العربية أو لا يتعلمها؟
نقول: نحن مع تعلم اللغات الأجنبية مطلقًا، على قدر ما تستطيع، حاول أن تتعلم لغة أخرى إلى جوار اللغة العربية، لكن بشرط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأساس، هي اللغة الأولى لك، حتى لو كانت اللغة العربية ليس لها تواجد في العالم الآن إلا في البلاد العربية؛ لكن هذه بداية، ونحن نريد نهضة شاملة في العالم الإسلامي، وإذا حدثت هذه النهضة الشاملة في علوم مختلفة وكانت اللغة العربية هي الأساس سيكون هذا مجال انتشار للغة العربية في العالم، وأذكركم أن من كان يريد أن يتعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء من أوروبا أو من الهند في وقت عزة الدولة الإسلامية كان عليه أن يتعلم اللغة العربية، كذلك يتعلم اللغة العربية، حتى يدرس في جامعات المسلمين: جامعة قرطبة، جامعة طليطلة، جامعة أشبيلية، جامعة بغداد، جامعة القاهرة، يعني: كانت مدينة القاهرة من مدن العلم المشهورة في ذلك الزمن.
وسنتحدث إن شاء الله في محاضرة قادمة عن: صور رائعة من الحضارة الإسلامية، ونذكر بعض الأمثلة من الجامعات والمكتبات الإسلامية العملاقة التي كانت كلها باللغة العربية، والطلبة فيها من بلاد مختلفة في العالم مسلمون وغير مسلمين يتحدثون باللغة العربية، لكن تحقير اللغة العربية والتهوين من شأنها عند الطفل وإشعاره أنه لا نجاة له إلا بتعلم اللغة الأجنبية وجعلها هي اللغة الأساسية الأم، بل وقد يفخر بعض الآباء والأمهات بأن أبناءهم لا يستطيعون الكلام بالعربية، وأن معظم كلامه باللغة الإنجليزية فهو لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا بلغة أجنبية، فهذا شيء خطير جداً يحتاج إلى مراجعة.
هناك ناس تعاني من إدخال أولادها مدارس مستواها إلى حد ما أضعف من مستوى المدارس الأجنبية، نقول: إن طريق العلم لا بد فيه من معاناة سواء كانت معاناة مادية أو معاناة فكرية، فأي نوع من أنواع المعاناة متوقع، لكن لا بد من بذل الجهد، فإننا عندما نراجع تاريخ الدول التي قامت في هذه الأيام في عصرنا هذا، نجد أنها اهتمت اهتماماً قوياً جداً باللغة الأم، حتى وإن كانت غير منتشرة في العالم، فمثلاً: التعليم الأساسي في اليابان كله باللغة اليابانية، وكذلك التعليم الأساسي في ألمانيا كله باللغة الألمانية، وقد تجد بعض المدارس تدرس لغة أخرى إنجليزية أو فرنسية، لكن معظم المدارس لا تدرس هذه اللغة؛ لكي يصبح الطفل متشرباً تماماً بلغته ومعتزاً بانتمائه إلى لغته وإلى وطنه وإلى قومه، ففي فرنسا صعب جداً أن تجد شخصاً في الشارع أن تكلمه بلغة غير فرنسية، وقد يكون فاهماً، لكنه لا يرد عليك لو كلمته باللغة الإنجليزية أو الألمانية؛ لأنه معتز بلغته الفرنسية، وفي ألمانيا كذلك، وفي كندا في منطقة مونتريال الأغلبية فيها يتحدثون باللغة الفرنسية، والقانون هناك يجرم الذي يكتب عنوان محله بغير اللغة الفرنسية ويحاسبه ويلزمه بدفع غرامة، وإذا أراد أن يكتب لغة إنجليزية أو لغة ألمانية بجانب اللغة الفرنسية فلابد أن تكون الفرنسية بخط كبير وتحتها بخط صغير اللغة الأخرى، كل ذلك حتى لا تموت اللغة، مع أن هذه اللغة تربطهم سوياً على أساس دنيوي بينما نحن المسلمين تربطنا اللغة العربية على أساس الدين، وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، فالقضية في منتهى الخطورة، وانهيار اللغة العربية هو بداية انهيار لفقه الأمة الإسلامية، لقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبداية انهيار لعزة الأمة الإسلامية وللهوية الإسلامية.
من أوائل الجامعات التي أنشئت في فلسطين على يد اليهود عام (1922)م يعني: بعد دخولهم فلسطين بخمس سنوات، فهم دخلوا إليها في عام (1917)م مع الإنجليز، هذه هي الجامعة العبرية، وتدريس اللغة العبرية أمر أساسي في بناء دولة إسرائيل في داخل فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر أرض فلسطين كاملة، فاللغة العبرية كانت لغة ميتة في العالم، من الذي يتكلم العبرية في العالم؟ إلى الآن اللغة العبرية في العالم لغة محدودة جداً، ومع ذلك لزرع الهوية اليهودية وحبهم لهذه اللغة ولهذا الوطن الذي يجمعهم تعلموا العبرية وعلموها أولادهم، ونحن إن تعلمنا اللغة العربية فإنها تربط بين بلاد العالم الإسلامي، ويا للمأساة عندما لا يفهمني الجزائري أو التونسي إلا بعد أن أتحدث معه باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، والأمر أصعب وأصعب مع الأتراك والباكستان والهنود والأندونيسيين والماليزيين وغيرهم من غير العرب، وكل يتحدث لغة مختلفة في العالم الإسلامي.
والمشكلة الكبيرة أنه يأتي من داخل البلاد العربية التي أنعم عليها ربنا سبحانه وتعالى بهذه اللغة، أن يأتي من يعرض عن هذه النعمة ويتكلم بلغة أخرى ويعيش كالأعاجم في بلاد عربية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حكم تعلم اللغات الأجنبية
السؤال: أدرس في كلية لغات وترجمة أزهر دراسات إسلامية فما الذي تنصحنا به؟ وهل لنا من دور؟
الجواب: عليك دور ضخم جداً، وليس معنى ما ذكرنا سابقاً أننا لا نتعلم لغات، وأنت رجل عندك لغات وترجمة وأزهر وعندك معلومات دينية لا بأس بها، تعلم اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة الإسبانية، واللغة الألمانية وغيرها من اللغات، وصل العالم كله بدين الله عز وجل، ورد على الشبهات، ورد على بابا الفاتيكان، ورد على جرائد الدنمارك، ورد على كذا وكذا من المشاكل التي تطل علينا من كل مكان.
كن عنصراً فاعلاً، وتحرك بلغتك فأنت تسد ثغرة، فقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان مقرباً جداً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن أهم أسباب هذه القربى له أنه تعلم لغة لم يتعلمها عموم الصحابة.
دور كبار السن في قضية العلم وغيره
السؤال: الأمثلة المذكورة للعلماء الذين ذكروا في الدروس السابقة معظمهم بدءوا في سن مبكرة فما حال الكبار؟
الجواب: يعني: نحن الآن كبرنا في السن فمنا من أصبح عمره (20) سنة أو (30) سنة أو (40) فقد ذكرتم أن الشافعي حفظ القرآن وهو ابن (7) سنين وحفظ الموطأ وهو ابن (10) سنين.
وأحمد بن حنبل كان يريد أن يخرج قبل الفجر من أجل أن يتعلم الحديث وهو لا يزال طفلاً صغيراً، وأمه تمسكه وتقول له: لا تخرج قبل الفجر، وهو يريد أن يخرج قبل الفجر لطلب الحديث، فيقول السائل: إذاً: ماذا يعمل الكبار؟
نقول: ما أكثر الأمثلة في التاريخ الإسلامي على من بدأ في سن الكبر، وحتى لو لم توجد أمثلة، سنفترض أنك لا تعرف أن موسى بن نصير فتح الأندلس وعمره (72) سنة، ولا أن يوسف بن تاشفين التزم بالإسلام وعمره (46) سنة، وقبل ذلك كان بعيداً تمام البعد عن الفكر الإسلامي والالتزام بتعاليم الشرع، فبدأ طريقه في الالتزام وعمره (46) سنة، وخالد بن الوليد أسلم وعمره (47) سنة، وعمرو بن العاص أسلم وعمره (57) سنة، فالله سبحانه وتعالى أنعم عليهم بالفتح، سواء في مجالات الجهاد أو مجالات العلوم أو مجالات الدعوة، في كل مجالات الإسلام بصفة عامة، لا أريد أن يقول إنسان: إنني قد تأخر بي الزمن، لا، فـابن الجوزي رحمه الله بدأ يتقن القراءات العشر ويقرؤها على الشيوخ وعمره فوق (80) سنة، مع العلم الغزير الذي كان عنده في كل فروع العلم، يعني يقول ابن تيمية عن ابن الجوزي : ما أعلم أحداً صنف مثله. في كل الفروع له مصنف رحمه الله، ولكن هناك فرع لم يتعلمه ولم يتخصص فيه في أول حياته وإنما تعلمه وعمره فوق (80) سنة، ألا وهو علم القراءات.
أيضاً اذكر قول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، ستحاسب على كل لحظات عمرك لوحدك، فكون العالم كله يضيع وقته ويلعب وينشغل بأمور لا تنفع فاعلم أنك ستحاسب لوحدك يوم القيامة، فالوقت الذي تبقى لك من العمر لعله يوم أو يومان أو عشرة أو عشر سنين أو أكثر فاستغله كله لله عز وجل.
حقيقة العمل في الشركات الأمريكية وغيرها من الدول الكافرة
السؤال: هناك شخص يعمل في شركة نظم معلومات أمريكية، وهي وشركة متميزة في مجال غير منتشر في بلاد العالم الإسلامي، لكن هو يشعر أن الفائدة تعود على الشركة، فالأرباح كلها متجهة إلى الشركة، وكل جهده متجه للشركة، فهل يستمر أو لا يستمر؟
الجواب: نقول: لماذا تشتغل في هذه الشركة؟ لو كنت تشتغل في هذه الشركة لتحصيل أسباب المعاش فقط، فمن فضلك اترك الشركة هذا اليوم؛ لأننا نقاطع البضائع الأمريكية والشركات الأمريكية إلى أن يتركوا بلادنا، فهم محتلون للعراق ولأفغانستان، ويساعدون اليهود في فلسطين، أما إن كنت تشتغل في هذه الشركة لنقل العلوم من هذه الشركة إلى بلاد المسلمين، وتعلم علماً لا يعلمه المسلمون الآن، وتقصد بذلك وجه الله عز وجل، والنقلة الحضارية للأمة الإسلامية فهذا أمر محمود، كالذي يذهب في بعثة إلى أمريكا لكي يتعلم علماً من العلوم ليس عندنا، يتعلم فرعاً من فروع الطب، الفلك، الكيمياء، ثم يرجع بعد ذلك ليفيد أمة الإسلام بهذا العلم، لكن بضوابط، أهم هذه الضوابط: أن تكون عندك خطة واضحة وسنوات محدودة، وبعد ذلك ترجع لتفيد بلاد المسلمين، لكن لو بقي عندهم تتعلم علوماً جديدة وتقول: آخذ أيضاً هذا العلم، وآخذ أيضاً هذا العلم إلى أن يصبح عمرك (70) أو (80) سنة وأنت مقيم عندهم، فإن المسلمين سيحرمون من علمك، وستصبح قوة إسلامية أضيفت إلى قوة الغرب، وسبب ضعف المسلمين.
فإذاً: اذهب بنظام: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لكن كما قلنا بضابط عدم المخالفة للكتاب والسنة، فأنا أذهب وآخذ هذه العلوم من هناك لكن بقدر ما نحتاجه في هذه الجزئية، ولا يكون المجال مفتوحاً بدون حدود.
هذا الكلام ينطبق على البعثات وينطبق على العمل في الشركات، وأيضاً انتبه قد يكون الإغراء كبيراً، فقد تذهب بنية الرجوع، لكن مع مرور الوقت لا ترجع؛ بسبب كثرة الأموال وراحة العيش، فتترك بلاد المسلمين وهموم المسلمين وتثري الشركة الأجنبية بكل طاقتك، وهذا لا يستقيم.
كيفية إخراج الإمكانيات والطاقات الموجودة في العقل البشري
السؤال: كيف نخرج إمكانياتنا التي وضعها الله عز وجل في العقل البشري؟
الجواب: أولاً: أنت لا بد أن تبذل الجهد من أجل أن تخرجها، وقد ذكرنا كلمة أديسون التي ذكرها عندما سئل عن الإلهام الذي عنده؟ فذكر أن الإلهام الذي عنده يمثل في اختراعاته (2%) وفي بعض الروايات (1%) والباقي (98%) من الاختراعات نتيجة الجد والاجتهاد، ونتيجة العمل والمثابرة والكفاح المستمر والسهر الساعات الطويلة، فاستطاع أن يخرج إمكانيات لم يكن يراها أحد فيه، فـأديسون هذا لم يكن مقبولاً في المدرسة، فمستواه الفكري ليس عالياً، وهذا المثال سيجيب عن السؤال التالي.
وضع الإنسان في مجال يناسبه يؤدي إلى الإبداع والتفوق
السؤال: لو كان هناك إنسان مستوى ذكائه ضعيف فهل يمكن أن يكون عالماً؟
الجواب: من الذي عرف أن مستوى ذكائه ضعيف، فلربما أن المشكلة تكمن في أنك وضعته في مجال ليس من اختصاصه، ألم يبدع أديسون وهو من عائلة فقيرة جداً، مات أبوه فربته أمه وأخذته ودارت به على المدارس هنا وهنا ولم يقبله أحد، فكان كلما دخل مدرسة بقي فيها فترة ثم عندما يعرفون أنه فقير يخرجونه منها، كان هذا في أوائل القرن العشرين، يعني: ليس في القرون الوسطى، لكنه حاول وحاول وظل يقرأ في كتب كانت لأبيه، فقد كان عند أبيه مكتبة، فهي من الأسباب التي أوصلته إلى ما وصل إليه من الإبداع والاختراع، وبدأ يعمل في بيع الجرائد؛ لكي يكفي أمه ويكفي نفسه، ثم بعد ذلك بدأ يفكر قليلاً قليلاً فعمل أول اختراع ثم الثاني ثم الثالث إلى أن بلغت اختراعاته (1200) اختراع وفي رواية (2500)، فهذا إنجاز ضخم جداً، وهو شخصية غير مسلمة، وليس عنده ما عند علماء المسلمين من التوفيق، لكنه بذل جهداً، ومن يبذل جهداً فإن من سنن رب العالمين أنه يعطيه مقابل ذلك ولا يظلمه.
نعم، ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لم يعمل ذلك لله عز وجل، لكن اجتهد وأخذ في الدنيا النتيجة التي عمل لها.
إذاً: فأنت تحتاج إلى جهد، لكن تحتاج إلى شيء آخر مهم جداً وهو أن تعرف موهبتك وأن تعرف مجال تفوقك، وهذا سيجرنا إلى سؤال آخر.
أثر تخصص الإنسان في مجال لا يهواه
السؤال: إذا تخصص الإنسان في مجال لا يهواه فماذا يفعل؟
الجواب: أولاً: لا بد أن تعرف هل هذا من تلبيس إبليس أم هو فعلاً مجال غير مناسب لك؟ فإبليس قد لا يريدك أن تستمر في العلم فيبغض إليك هذا الفرع من العلم، مع أنه فرع جيد وممكن تحبه، ولكن الشيطان يثبطك، فحاول مرة ومرتين وثلاث مرات، فإذا تفوقت في هذا المجال فإنك ستحبه إن شاء الله، لكن على فرض أنك تفوقت ونبغت فيه ومع ذلك لا تحبه وليس على هواك، وإنما هواك في شيء آخر، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، ولا تقل: انتهى الوقت وذهبت مني سنتان في الكلية، لا، إذا كنت بعد سنة أو سنتين في الكلية ولم تعجبك الكلية ولم تستطع أن تفهم فيها، وميولك كلها في اتجاه آخر، لكن والدك أو والدتك أو الظروف المجتمعية التي تعيش فيها ضغطت عليك؛ لكي تدخل كلية معينة، وهواك في اتجاه آخر غير، فليس هناك مانع بعد سنة أو سنتين من عمرك وبعد أن أخذت فيها تجربة وأخذت فيها نوعاً معيناً من العلم، حتى وإن لم يكن علماً ترغب فيه، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، وليس معناه أنك تكمل هذا الطريق، فأنت لا تعرف كم تبقى لك من عمرك؛ لأن كثيراً جداً من عظماء العالم بدءوا في اتجاه، ثم مشوا في اتجاه آخر بعيداً جداً، ليس هناك مشكلة أبداً من تغيير المسار، ونحن نعرف أمثلة كثيرة جداً لأناس في تخصصات بعيدة تمام البعد عن المجال الذي نبغوا فيه بعد ذلك وتفوقوا.
شبهة معارضة الاهتمام بطلب العلم للكسب وطلب الرزق
السؤال: يحتاج طالب العلم للتفرغ وتحتاج ظروف الحياة للعمل فما الأولى؟
الجواب: لا شك أن طلب العلم قد يؤثر على حصيلتك المادية في البداية، لكن بالمثابرة والجد ستصل إن شاء الله، لا تجعل النقود هي هدفك، فأنت لو جعلت العلم هدفك فإن النقود ستأتيك، وليس معناه أن تقعد في البيت ولا تشتغل، لا، بل لا بد أن تفرغ أوقاتاً للعمل والكد والكدح، لكن لا يكون هدفك في الحياة جمع المال، والبحث عن وظيفة أكثر ربحاً ولو كانت أقل علماً، فلو كنت تريد أن تصبح عالماً فأنت بحاجة إلى ظروف معينة وشروط معينة، منها: التفرغ لقضية العلم قدر المستطاع، مع العمل الذي يكفل لك المعيشة، لكن لا تجعل حياتك كلها في هذا المجال، هناك ناس سخرت حياتها في الاقتصاد وفي جمع المال لله عز وجل حسب زعمهم، نقول: حتى وإن كان غرضك وهدفك جمع المال لتعلو بأمة الإسلام فإنه يخشى عليك جداً من الفتنة في الدنيا؛ لأنه مع مرور الوقت وبالتدرج قد تقع في الفتنة، نسأل الله السلامة.
هناك أسئلة أخرى كثيرة، لكن هذه أكثر الأسئلة ارتباطاً بموضوعنا، وإن شاء الله في المرات القادمة نعرج على بعض الأسئلة الأخرى.
السؤال: أجد في نفسي أحياناً رياء عند طلب العلم، فالأصل أني أطلب العلم من أجل رضا المولى ولكن قد يداخل ذلك حب التميز والتفوق وحب الشهرة وكلام الناس، فماذا أفعل؟
الجواب: أذكر السائل بالمقولة الهامة جداً، وهي: العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك. يعني: أن إبليس يزين لك أموراً ويلبس عليك الأشياء ويقول لك: أنت تطلب العلم لأجل الناس، فيدفعك إلى تركه؛ حتى تخلص النية وتصلح القلب، وهذا تلبيس من إبليس، لكن الصواب أن تستمر في العمل مع تجديد النية الصالحة المستمرة، وتجديد النية ليس سهلاً، يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي. ومعالجة النية أمر صعب فعلاً، لكن بالممارسة والمجاهدة وبالمحاولة مرة وثانية وثالثة وأكثر -إن شاء الله- سيصل المسلم الصادق إلى درجة الإخلاص المطلوبة، ومعالجة النية ليست مرة ولا مرتين في العمر أو مرة أو مرتين في السنة، لا، لكن مع بداية كل عمل معين، في كل ساعة وكل لحظة، وحسب درجة الإيمان تزداد درجة الإخلاص، ومطلوب منك أن تقرأ كثيراً عن الآخرة؛ لكي تخلص النية لرب العالمين سبحانه وتعالى.
ذكر نفسك بيوم الممات، وذكر نفسك بيوم المعاد عند الله عز وجل، وذكر نفسك بالحساب أمام الله عز وجل، وستجد أن النية إن شاء الله تتجه تدريجياً إلى أن تكون نية خالصة لله عز وجل، والأمر فيه تفصيل، وسنتحدث عنه إن شاء الله في الدرس القادم بشيء من التفصيل.
السؤال: هناك مشكلة اختيار مدارس لغات أو مدارس لغة عربية للأطفال؟
الجواب: إن ما ذكره السائل أمر مشاهد، فإن مدارس اللغات مستواها التعليمي أعلى من المدارس العربية في الجملة، صحيح هناك استثناءات، لكن في الجملة هذا هو المشاهد.
وقد ناقشت هذه القضية قبل ذلك في مجموعة (فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى) وذكرنا أن أعداء الإسلام عندما أرادوا الكيد لهذا الدين لم يغلقوا مدارس الأزهر في أوائل القرن الماضي، ولكنهم أنشئوا إلى جوارها المدارس العلمانية، وفتحوا أبواب العمل لطلاب المدارس العلمانية، فبالتالي مع مرور الوقت بدأت الناس تتجه بأبنائها إلى المدارس العلمانية سعياً وراء فتح فرص عمل للأبناء عندما يكبرون، وأصبح الذي يدخل الأزهر هو الذي لا يستطيع أن يدخل المدارس الأخرى، ومع مرور الوقت تدنى المستوى التعليمي في الأزهر إلى درجات لم يكن عليها قبل ذلك مطلقاً، وقديماً في تاريخ الأمة العظيم كان عظماء الأمة هم الذين يهتمون بالعلوم الشرعية ويدرسونها ويتفوقون فيها، وكان النبوغ في هذه المجالات وسيلة لرفعة الإنسان وسط القوم أو وسط المجتمع الذي يعيش فيه، لكن الإنجليز أنشئوا مدارس علمانية وسهلوا فرص العمل لطلابها، وفوق ذلك أيضاً بدءوا يعطون رواتب أعلى لخريجي هذه المدارس أعلى بكثير من رواتب خريجي الأزهر.
والمدارس العلمانية كانت تتحدث باللغة العربية في الجملة، لكن الآن صارت هناك مدارس لا تتحدث إلا باللغة الأجنبية فقط، وأيضاً فرص العمل مفتوحة بصورة أكبر لمن يحصل على الشهادة من مدرسة أجنبية، وهذا يدفع النوابغ من أبناء المسلمين إلى الالتحاق بالمدارس الأجنبية، ويخرج في آخر المطاف وهو لا يستطيع أن يكتب ويقرأ اللغة العربية إلا بصعوبة بالغة وبضعف شديد، وبالتالي يصعب عليه جداً أن يقرأ القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولو قرأ لا يستطيع أن يفقه بسهولة، فتكون النتيجة تردياً مستمراً للتفقه في القرآن والسنة وفي علوم الدين بصفة عامة، وأخطر من ذلك أن الفرد منا قد يقول: أنا ممكن أن أُحْضر لابني مدرساً يعلمه اللغة العربية في البيت حتى يرتفع مستواه، نقول حتى لو ارتفع مستواه في اللغة العربية واستطاع أن يقرأ اللغة العربية بصورة جيدة، ويقرأ القرآن والسنة بصورة طيبة، فإنه قد يدخل في شعوره الداخلي دون أن يريد هو وآباؤه ذلك تعظيمُ اللغة الغربية على اللغة العربية، وأنها مصدر النجاة في هذه الدنيا، وأنه لا فلاح له ولا وصول إلا بهذه اللغة، وليس معنى هذا الكلام أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية.
يقول البعض: هل أنت مع تعليم الأطفال بعض المصطلحات الغربية وهم قبل سن الدخول إلى المدرسة؟
والسؤال الذي يأتي بعد ذلك: هل يا ترى يتعلم الطالب اللغات الأجنبية مع اللغة العربية أو لا يتعلمها؟
نقول: نحن مع تعلم اللغات الأجنبية مطلقًا، على قدر ما تستطيع، حاول أن تتعلم لغة أخرى إلى جوار اللغة العربية، لكن بشرط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأساس، هي اللغة الأولى لك، حتى لو كانت اللغة العربية ليس لها تواجد في العالم الآن إلا في البلاد العربية؛ لكن هذه بداية، ونحن نريد نهضة شاملة في العالم الإسلامي، وإذا حدثت هذه النهضة الشاملة في علوم مختلفة وكانت اللغة العربية هي الأساس سيكون هذا مجال انتشار للغة العربية في العالم، وأذكركم أن من كان يريد أن يتعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء من أوروبا أو من الهند في وقت عزة الدولة الإسلامية كان عليه أن يتعلم اللغة العربية، كذلك يتعلم اللغة العربية، حتى يدرس في جامعات المسلمين: جامعة قرطبة، جامعة طليطلة، جامعة أشبيلية، جامعة بغداد، جامعة القاهرة، يعني: كانت مدينة القاهرة من مدن العلم المشهورة في ذلك الزمن.
وسنتحدث إن شاء الله في محاضرة قادمة عن: صور رائعة من الحضارة الإسلامية، ونذكر بعض الأمثلة من الجامعات والمكتبات الإسلامية العملاقة التي كانت كلها باللغة العربية، والطلبة فيها من بلاد مختلفة في العالم مسلمون وغير مسلمين يتحدثون باللغة العربية، لكن تحقير اللغة العربية والتهوين من شأنها عند الطفل وإشعاره أنه لا نجاة له إلا بتعلم اللغة الأجنبية وجعلها هي اللغة الأساسية الأم، بل وقد يفخر بعض الآباء والأمهات بأن أبناءهم لا يستطيعون الكلام بالعربية، وأن معظم كلامه باللغة الإنجليزية فهو لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا بلغة أجنبية، فهذا شيء خطير جداً يحتاج إلى مراجعة.
هناك ناس تعاني من إدخال أولادها مدارس مستواها إلى حد ما أضعف من مستوى المدارس الأجنبية، نقول: إن طريق العلم لا بد فيه من معاناة سواء كانت معاناة مادية أو معاناة فكرية، فأي نوع من أنواع المعاناة متوقع، لكن لا بد من بذل الجهد، فإننا عندما نراجع تاريخ الدول التي قامت في هذه الأيام في عصرنا هذا، نجد أنها اهتمت اهتماماً قوياً جداً باللغة الأم، حتى وإن كانت غير منتشرة في العالم، فمثلاً: التعليم الأساسي في اليابان كله باللغة اليابانية، وكذلك التعليم الأساسي في ألمانيا كله باللغة الألمانية، وقد تجد بعض المدارس تدرس لغة أخرى إنجليزية أو فرنسية، لكن معظم المدارس لا تدرس هذه اللغة؛ لكي يصبح الطفل متشرباً تماماً بلغته ومعتزاً بانتمائه إلى لغته وإلى وطنه وإلى قومه، ففي فرنسا صعب جداً أن تجد شخصاً في الشارع أن تكلمه بلغة غير فرنسية، وقد يكون فاهماً، لكنه لا يرد عليك لو كلمته باللغة الإنجليزية أو الألمانية؛ لأنه معتز بلغته الفرنسية، وفي ألمانيا كذلك، وفي كندا في منطقة مونتريال الأغلبية فيها يتحدثون باللغة الفرنسية، والقانون هناك يجرم الذي يكتب عنوان محله بغير اللغة الفرنسية ويحاسبه ويلزمه بدفع غرامة، وإذا أراد أن يكتب لغة إنجليزية أو لغة ألمانية بجانب اللغة الفرنسية فلابد أن تكون الفرنسية بخط كبير وتحتها بخط صغير اللغة الأخرى، كل ذلك حتى لا تموت اللغة، مع أن هذه اللغة تربطهم سوياً على أساس دنيوي بينما نحن المسلمين تربطنا اللغة العربية على أساس الدين، وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، فالقضية في منتهى الخطورة، وانهيار اللغة العربية هو بداية انهيار لفقه الأمة الإسلامية، لقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبداية انهيار لعزة الأمة الإسلامية وللهوية الإسلامية.
من أوائل الجامعات التي أنشئت في فلسطين على يد اليهود عام (1922)م يعني: بعد دخولهم فلسطين بخمس سنوات، فهم دخلوا إليها في عام (1917)م مع الإنجليز، هذه هي الجامعة العبرية، وتدريس اللغة العبرية أمر أساسي في بناء دولة إسرائيل في داخل فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر أرض فلسطين كاملة، فاللغة العبرية كانت لغة ميتة في العالم، من الذي يتكلم العبرية في العالم؟ إلى الآن اللغة العبرية في العالم لغة محدودة جداً، ومع ذلك لزرع الهوية اليهودية وحبهم لهذه اللغة ولهذا الوطن الذي يجمعهم تعلموا العبرية وعلموها أولادهم، ونحن إن تعلمنا اللغة العربية فإنها تربط بين بلاد العالم الإسلامي، ويا للمأساة عندما لا يفهمني الجزائري أو التونسي إلا بعد أن أتحدث معه باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، والأمر أصعب وأصعب مع الأتراك والباكستان والهنود والأندونيسيين والماليزيين وغيرهم من غير العرب، وكل يتحدث لغة مختلفة في العالم الإسلامي.
والمشكلة الكبيرة أنه يأتي من داخل البلاد العربية التي أنعم عليها ربنا سبحانه وتعالى بهذه اللغة، أن يأتي من يعرض عن هذه النعمة ويتكلم بلغة أخرى ويعيش كالأعاجم في بلاد عربية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السؤال: أدرس في كلية لغات وترجمة أزهر دراسات إسلامية فما الذي تنصحنا به؟ وهل لنا من دور؟
الجواب: عليك دور ضخم جداً، وليس معنى ما ذكرنا سابقاً أننا لا نتعلم لغات، وأنت رجل عندك لغات وترجمة وأزهر وعندك معلومات دينية لا بأس بها، تعلم اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة الإسبانية، واللغة الألمانية وغيرها من اللغات، وصل العالم كله بدين الله عز وجل، ورد على الشبهات، ورد على بابا الفاتيكان، ورد على جرائد الدنمارك، ورد على كذا وكذا من المشاكل التي تطل علينا من كل مكان.
كن عنصراً فاعلاً، وتحرك بلغتك فأنت تسد ثغرة، فقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان مقرباً جداً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن أهم أسباب هذه القربى له أنه تعلم لغة لم يتعلمها عموم الصحابة.
السؤال: الأمثلة المذكورة للعلماء الذين ذكروا في الدروس السابقة معظمهم بدءوا في سن مبكرة فما حال الكبار؟
الجواب: يعني: نحن الآن كبرنا في السن فمنا من أصبح عمره (20) سنة أو (30) سنة أو (40) فقد ذكرتم أن الشافعي حفظ القرآن وهو ابن (7) سنين وحفظ الموطأ وهو ابن (10) سنين.
وأحمد بن حنبل كان يريد أن يخرج قبل الفجر من أجل أن يتعلم الحديث وهو لا يزال طفلاً صغيراً، وأمه تمسكه وتقول له: لا تخرج قبل الفجر، وهو يريد أن يخرج قبل الفجر لطلب الحديث، فيقول السائل: إذاً: ماذا يعمل الكبار؟
نقول: ما أكثر الأمثلة في التاريخ الإسلامي على من بدأ في سن الكبر، وحتى لو لم توجد أمثلة، سنفترض أنك لا تعرف أن موسى بن نصير فتح الأندلس وعمره (72) سنة، ولا أن يوسف بن تاشفين التزم بالإسلام وعمره (46) سنة، وقبل ذلك كان بعيداً تمام البعد عن الفكر الإسلامي والالتزام بتعاليم الشرع، فبدأ طريقه في الالتزام وعمره (46) سنة، وخالد بن الوليد أسلم وعمره (47) سنة، وعمرو بن العاص أسلم وعمره (57) سنة، فالله سبحانه وتعالى أنعم عليهم بالفتح، سواء في مجالات الجهاد أو مجالات العلوم أو مجالات الدعوة، في كل مجالات الإسلام بصفة عامة، لا أريد أن يقول إنسان: إنني قد تأخر بي الزمن، لا، فـابن الجوزي رحمه الله بدأ يتقن القراءات العشر ويقرؤها على الشيوخ وعمره فوق (80) سنة، مع العلم الغزير الذي كان عنده في كل فروع العلم، يعني يقول ابن تيمية عن ابن الجوزي : ما أعلم أحداً صنف مثله. في كل الفروع له مصنف رحمه الله، ولكن هناك فرع لم يتعلمه ولم يتخصص فيه في أول حياته وإنما تعلمه وعمره فوق (80) سنة، ألا وهو علم القراءات.
أيضاً اذكر قول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، ستحاسب على كل لحظات عمرك لوحدك، فكون العالم كله يضيع وقته ويلعب وينشغل بأمور لا تنفع فاعلم أنك ستحاسب لوحدك يوم القيامة، فالوقت الذي تبقى لك من العمر لعله يوم أو يومان أو عشرة أو عشر سنين أو أكثر فاستغله كله لله عز وجل.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] | 3094 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [1] | 3033 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [3] | 2405 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [2] | 2400 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [4] | 2316 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] | 2001 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] | 1696 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [6] | 1424 استماع |