خطب ومحاضرات
سلسلة كيف تصبح عالماً [3]
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
اللهم اجعل هذه الدقائق شاهدة لنا لا علينا، اللهم اغفر لنا بها، اللهم ارحمنا رحمة تامة عامة واسعة، لا تغادر لنا ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا غفرته، ولا إثماً صغيراً ولا كبيراً إلا محوته، اللهم اغفر لنا أجمعين، وتقبل منا أجمعين، وأعز الإسلام والمسلمين، وارفع رايات الموحدين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آمين.
نستكمل ما كنا قد بدأناه حول قضية العلم، أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة.
بداية نذكر بعض التعليقات وبعض الأسئلة على المحاضرتين السابقتين: محاضرة العلم وبناء الأمم، ومحاضرة قراءة في واقعنا العلمي.
أولاً: بعض الناس كانت تتمنى أن يكون الحديث في رمضان عن الرقائق والتوبة والعودة إلى الله عز وجل وفقه الصيام وأحكامه، وما إلى ذلك من أمور عظيمة هامة.
أنا أقول: الحمد لله الكثير من إخواننا الذين يتحدثون في الدعوة وفي الإسلام وفي الخطابة وفي غيرها يتحدثون في هذه الأمور، لكن لا يُقبل أبداً أن تنعزل الأمة عن مشاكلها في رمضان، وأن تتخلى الأمة عن أزماتها في رمضان، ليس شهر رمضان شهر عبادة بالمفهوم القاصر فقط على الصلاة والصيام، إنما هو شهر عبادة، والسنة كلها عبادة، والعمر كله عبادة بالمفهوم الواسع للعبادة، وهي أن أنفذ كل ما أمرني به ربي سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
ويوم الفرقان كان في رمضان لم يؤخر إلى ما بعد رمضان، ولم يوظف رمضان في العام الثاني من الهجرة للصلاة والقيام والتراويح والقرآن والدعاء والذكر فقط، بل فُعلت فيه هذه الأمور وإلى جوارها الجهاد في سبيل الله يوم الفرقان.
وكذلك حفر الخندق كان في رمضان، وفتح مكة كان في رمضان، وكسر الأصنام في الجزيرة العربية كان في رمضان، والثأر من فارس بعد وقعة الجسر والانتصار على الفرس في موقعة البويب كان في رمضان، وفتح الأندلس كان في رمضان، وكسر شوكة التتار أعتى قوى الأرض وأكثر جبابرة الأرض طغياناً كان في رمضان، ما تعطّل المسلمون أبداً في رمضان، وما وقفت حركتهم ونصرتهم لدين الله عز وجل في رمضان.
بالحوار والحديث الذي تكلمنا به في المحاضرة السابقة ألا تشعرون أن الأمة في أزمة؟ هل على المسلمين أن يؤجلوا الحديث عن أزماتهم هذه وهي أزمات ماسة وخطيرة إلى ما بعد رمضان؟ ويأتي موسم الحج ونؤجل إلى ما بعد الحج؟ ويأتي موسم المذاكرة أو موسم الزواج أو موسم العمل المضغوط لسداد الديون أو موسم كذا وكذا..؟ ومشاغل الحياة كثيرة جداً فهل نؤجل مشاكل الأمة إلى أن ننتهي من مشاكلنا الخاصة وأحوالنا الخاصة؟ هذا لا يستقيم، المسلم الصادق يقدم هموم أمته على هموم نفسه، يعيش لأمته لا لنفسه، ويضحي بنفسه من أجل رفعة هذا الدين وسيادة هذه الأمة.
قد يكون الموضوع ليس بالإمتاع الذي فيه الحديث عن التاريخ أو القصص أو التفسير أو الإعجاز، أو ما إلى ذلك من أمور هي عظيمة جداً، لكن ليس بالضرورة أن يكون حديثنا في كل مرة حديث المتعة أو اللذة، ولكن هو حديث الإفادة، حتى وإن كان حديثاً مؤلماً فلا بد منه، فنحن نأخذ الدواء وهو مر، ونفعل الجراحة وهي مؤلمة؛ لأنها تحقق فائدة.
بعض الإخوة وللأسف الشديد -مع أني كررت أكثر من مرة أني لست متشائماً ولا أدعو إلى التشاؤم، ولا نذكر هذه الأمور دعوة للإحباط، إلا أنهم أُحبطوا- أُحبطوا نتيجة ذكر الأرقام والإحصائيات المفجعة التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة، وأنا أسأل إخواني الذين لم يسمعوا المحاضرة السابقة أن يعودوا إلى الأشرطة المسجلة عن هذه المحاضرة لأهميتها القصوى، وأنا أعتقد أن هذه من أهم المحاضرات التي يجب أن نتناولها في هذه الآونة، وفي هذه السنوات، وليس فقط في هذه الأيام، هذه الفجوة الهائلة بيننا وبين الغرب، وبيننا وبين أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو إسرائيل أو الصين أو غيرها من دول العالم الآن، هذه الفجوة الهائلة أصابت بعض الإخوة كما ذكرت بالإحباط.
وأقول: لا يمكن أبداً لمسلم فاهم وواع أن يُحبط، فالإحباط ليس من شيم المؤمنين أبداً: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] فالإحباط ليس من شيم المؤمنين، ونصر الله عز وجل قادم لا محالة، والذي يشك في ذلك فهذا لا بد عليه أن يراجع عقيدته: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15].
الإحباط غير مسموح به أصلاً للمؤمن؛ لأنه مرفوض تماما، وكلمة (ليس هناك فائدة) هذه كلمة نريد أن نحذفها تماماً من قاموسنا؛ لأنها كلمة لا تستقيم مع الشرع، فلا يقل أحد: ليس هناك فائدة، لكن كما ذكرنا أول الطريق أن تعرف المشكلة، وهذه الدروس لتوضيح الرؤية، نعرف أين المشكلة ونعرف كيف يكون الحل.
فعندما يأتينا مريض ونكتشف أن هذا المريض عنده سرطان، وهذا أمر مفزع، فهناك مدرسة تسكينية، وهذه المدرسة للأسف منتشرة في مصر، فيحاول أهل المريض وبعض الأطباء أن يقول للمريض: ليس هناك أي شيء والحمد لله؛ لكي لا يضعفوا نفسيته ولا يكسروا معنوياته، فيخفون عنه جميعاً: الدكتور يخفي الأمر عنه، وأصدقاؤه أيضاً يخفون عنه، وجميع الناس يخفون عنه، فتكون النتيجة أن يهدأ ويسكن ويبتعد عن العلاج، فيأخذ الأمر على التراخي، ويأتي الشهر والشهران وتزداد الآلام ويبدأ الأمر في الوصول إلى مرحلة لا أمل في العلاج، ولا أمل للوصول إلى نتيجة مع هذا المرض المستفحل، فيأتي الوقت الذي نقول له فيه: للأسف أنت مريض بكذا وكذا!
أقول لكم: سرطان الجهل أقوى بكثير من سرطان الكبد أو سرطان المعدة أو غير ذلك من أنواع السرطانات الجسدية؛ لأن سرطان الجهل لا يُهلك الأفراد فقط، بل يُهلك الأمم، ولا تقوم أمة أبداً على الجهل، سواء كانت هذه الأمة أمة إسلامية أو أمة غير إسلامية، لكن الأمة الإسلامية لا تقوم إلا على نوعين من العلوم ذكرناهما: العلم الشرعي، والعلم الحياتي، ومن الضروري أن يجمع بينهما المسلم الفاهم: العلم الشرعي، والعلم الحياتي، ليس بالضرورة المسلم الواحد، ولكن الأمة بكاملها لا بد أن تكفي حاجتها من العلماء في العلوم الشرعية، ومن العلماء في العلوم الحياتية أيضاً، وأنا عرضت لكم في المحاضرات السابقة بعض الأمثلة لبعض الدول التي قامت على أقدامها ورفعت رأسها، وعندما نأتي لنراجع وضع هذه الدول قبل خمسين أو ستين سنة نقول: إنه من المستحيل أن تكون هذه الدولة بين الدول القائدة في العالم بعد الخمسين أو الستين سنة، بل إنه ومنذ ستين سنة لم يكن هناك شيء اسمه إسرائيل، فإن إسرائيل أُعلنت كدولة في العالم عام (1948م) لم تكمل ستين سنة، ومع ذلك عبرت واجتازت هذه الفجوة الكبيرة بينها وبين دول العالم في ذلك الوقت وتقدمت، ليس من المعقول عقلاً ولا شرعاً أن يُفلح اليهود في ذلك ولا يُفلح المسلمون، اليهود أصلاً غير موفقين، فاليهود أعداء الله عز وجل، واليهود قتلة الأنبياء، واليهود لعنهم الله عز وجل في الكتاب أكثر من مرة، وعلى لسان حبيبنا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فاليهود بهذه الصفات استطاعوا أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، والذين يعبدون بوذا من دون الله عز وجل وصلوا إلى ما وصلوا إليه، والذين يعبدون البقر وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فمن المستحيل عقلاً أو شرعاً أن يظن الإنسان المسلم أنه لا يستطيع..، فنحن نذكر هذه الأمثلة ليس للانبهار بأمريكا أو بأوروبا أو بإسرائيل أبداً حاشا لله، وإنما نذكر هذه الأمثلة لوضع أيدينا على المرض والتشخيص الصحيح، وسرعة الانطلاق.
وأنا رأيت بعض الأمثلة الطيبة جداً بعد المحاضرات السابقة من إخواننا، جاءني أخ من الإخوة الطيبين الأفاضل وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، جاء بعد المحاضرة وقال: أنا سمعت المحاضرة وأريد أن أتحرك لأمتي ماذا أفعل؟ قلت: عليك بالقراءة والكتابة، قال: حاولت سنة وسنتين فما استطعت، قلت: حاول عشر سنوات، وإن لم تستطع في عشر سنوات أيضاً حاول في عشرين سنة.. وهكذا، إلى آخر حياتك، فأنت تحاول إلى آخر نفس، فهذه مسئولية الأمة، إذا كان بيننا من لا يقرأ ولا يكتب فنحن جميعاً آثمون؛ لأن حاجة أمتنا في تعليم من لا يستطيع القراءة والكتابة أن يقرأ ويكتب، كيف يكون بيننا من لا يقرأ ولا يكتب ولا يستطيع أن يقرأ كلام الله عز وجل، وعمره لم يفتح مصحفاً، ولا يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقرأ الجرائد، ولا يعرف أحداث الدنيا حوله؟ هذه كارثة، هل هذا الكلام كلام عابر في بلادنا؟ لا، ولكن (45 %) من أهل مصر أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وهذه النسبة هي نسبة العالم العربي بصفة عامة، (45 %) من العالم العربي أو أكثر من ذلك في بعض الإحصائيات لا يستطيع القراءة والكتابة، وهذه كارثة، ألا نستطيع نحن الذين نقرأ ونكتب من طلاب الجامعات وطلاب المستوى الثانوي أن نخدم أمتنا؟ ألا يستطيع الواحد منا أن يعلم جاره الذي لا يستطيع القراءة والكتابة، أو زميله في العمل، أو العامل في المنطقة الفلانية أو كذا أو كذا؟ ألا نستطيع أن نصل إليهم؟ ألا نستطيع أن ننفق الأموال على هذه الأمور؟ أليس هذا وجهاً من وجوه الخير؟ فعندما أنفق على الفقراء والمساكين ليأكلوا ويشربوا أليس العلم أهم من كل ذلك؟ ألم نُخلق لعبادة الله عز وجل؟ ومعلوم أن العبادة لا بد أن تكون عن علم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: لموت ألف عابد لله قائم بالليل صائم بالنهار أهون عند الله عز وجل من موت عالم واحد بصير بحلال الله وحرامه.
وهناك أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها تقديم العلم على العبادة؛ لأن الذي يعبد الله عز وجل عن جهل يضل ويُضل غيره، والذي يعبد الله عن علم يعتبر رافداً قوياً جداً للأمة الإسلامية.
فنحن نريد أن نتحرك.
فهذا الأخ الذي ذكر هذه الكلمات في الحقيقة أثلج صدري؛ لأنه يريد أن يبحث عمّن يعلمه القراءة والكتابة.
وأخ آخر ذكر لي أنه انتهى من كلية التجارة، وعنده ضعف في اللغة الإنجليزية، فعند سماعه للمحاضرة ذهب وانتظم في (كورس) لتعلم اللغة الإنجليزية للوصول إلى العلم المقروء باللغة الإنجليزية، ومحاولة الوصول إلى شهادات أعلى وأعلى، وكنت في غاية السعادة من هذه المبادرة، من كون الشخص يسمع المحاضرة ويعمل بها ويتحرك حركة إيجابية، سنُسأل يوم القيامة عن علمنا ماذا عملنا فيه؟ وهذا مجلس علم، وسمعت فيه كلمات ماذا عملت بهذه الكلمات؟ هذه هي الروح التي يجب أن نتحرك بها، لا يقل أحد: أُحبطت بعد سماع هذه المحاضرة، هذه كلمة لا تستقيم، ولكن يقول: ماذا عليّ أن أفعل؟ ويسأل المحاضر: ماذا عليّ أن أفعل؟ ويسأل ممن يعلمون من حوله، ثم هو أيضاً يبتكر ويفكّر ويحاول أن يستنتج الطريقة التي ينفع بها أمته.
أيضاً آخر سمع المحاضرة في الدرس السابق، وكان من أصحاب المهن والحرف، فقال: وأنا ماذا أفعل؟ فقلت: الإتقان، فالله عز وجل كتب الإتقان والإحسان على كل شيء، وسنأتي إن شاء الله على هذه النقطة في أثناء المحاضرة، والإنسان وإن كان حرفياً أو مهنياً وليس في السلك التعليمي، وليس أمامه الدبلوم أو الماجستير والدكتوراه فهو يستطيع أن يبدع ويُصلح في أمته إن كان متقناً لعمله، كذلك يستطيع توريث الخبرة لغيره، فهذا رافد كبير للأمة.
أول محرك سيارة ياباني، وهذه السيارات اليابانية هي أفضل السيارات في أمريكا، وانظروا إلى غزو اليابان لأمريكا عن طريق العلم، فالسيارة الأولى في أمريكا هي السيارة اليابانية، حتى إنها قبل السيارات الأمريكية والسيارات الأوروبية.
إذاً: فأول محرك سيارة عمله عامل ياباني وليس مهندساً يابانياً، سافر إلى ألمانيا واشتغل في مصانع تصنيع السيارات الألمانية، وأخذ الخبرة ورجع إلى بلاده، وبدأ يصنّع ويحاول أنه يخرج محركاً وأخرج محركاً في البداية كان ضعيفاً، وكان تصميمه بدائياً، ثم أخذ يتطور ويتطور حتى وصلت السيارة اليابانية إلى ما ترونه الآن، فهذا أمر نريده من أمتنا، وهو الحركة من كل أفراد الأمة رجالاً ونساء وأطفالاً متعلمين وحرفيين أو غير ذلك من التخصصات، فالكل يعمل لإنشاء صرح ضخم هائل، واسمه صرح الأمة الإسلامية، صرح أعظم أمة وخير أمة أخرجت للناس.
أيضاً هناك أناس علّقت وتقول: إن هذه الأرقام التي ذكرتها مسئولية الحكومات، فهي التي أنفقت هذا الإنفاق الضئيل على العلم، وهي التي حرمت الناس من التعليم الجيد أو المناهج التعليمية الجيدة، وهي التي وجهت الأموال إلى غير مصارفها التي ينبغي أن تُصرف فيها، وهي وهي، ولا شك أن الحكومة تتحمل مسئولية ضخمة في هذا الأمر، وأنه لا بد للحكومة الصالحة أن ترفع من شأن أمتها، وأن ترفع من شأن شعبها في كل المجالات، وهم غير معذورين في ذلك، ولكن ليس هناك مبرر للبقاء في ذيل الأمم سنوات وسنوات، نعم لا نعفيهم من المسئولية، لكن أيضاً لا نعفي أنفسنا من المسئولية، فنحن عندنا مساحات ضخمة جداً، ومن الممكن أن نشتغل فيها وننتج ونبرع، فالطالب الذي عنده مناهج تعليمية ليست على المستوى الأمثل، لم يمنعك أحد أن تتقن هذه المناهج قدر المستطاع، ثم تخرج إلى خارج هذه المناهج وتطالع العلوم الموجودة في كتب ومراجع مختلفة موجودة في الإنترنت، وموجودة في مكتبات هنا وهناك؛ لترفع من حصيلتك العلمية، فلو أن عندك حمية صحيحة لأمتك لعملت هكذا، أما إذا كان الإنسان يدخل الكلية من أجل أن ينجح ويأخذ الشهادة فلن يعمل ولن يتحرك أبداً، فعندما يكون هناك جو عام من حب العلم في البلد، فمن الطبيعي أن يتوجه البلد بعد هذا إلى العلم شاء أم أبى متخذو القرار في البلد، فالسياسيون سيجدون أنه من الأفضل أن يسيروا مع هذه الموجة العلمية كما يسيرون مثلاً مع الموجة الدينية، مع أن الكثير منهم يكرهون الدين، لكن تجدهم يسيرون معه ويحضرون الاحتفالات الدينية، ويعطون الجوائز على القرآن الكريم وحفظ القرآن الكريم، ويرسلون كذا وكذا.. فهذا طبيعي في جو عام من الاهتمام بالدين، فلا بد أن يهتموا معهم بالدين ولو ظاهراً، كذلك لو كانت هناك ثورة علمية، وجميع الناس يحبون العلم ويتحركون من أجل العلم، في الوقت نفسه ستجد السياسي من أجل نجاحه في الانتخابات يضع في برنامجه مؤسسات علمية، وليس فقط أن يوفر السكر والأكل والعيش..! لا، فهموم الأمة ليس في الطعام والشراب، ولكن هموم الأمة في العلم، فيضع في برنامجه الانتخابي أنه سينشئ مؤسسة علمية، وسيخصص ويضخم ويكبّر من ميزانية الدولة المتجهة إلى العلوم، فأعلى دولة تعطي جانباً كبيراً من ميزانيتها الحكومية للعلم على مستوى العالم هي إسرائيل، فالميزانية للحكومة بأكملها منها (30%) مصروف للعلم، فلا بد أن يكون هناك فجوة، ولا بد أن نفهم الدولة التي تُزرع داخل فلسطين منذ ستين سنة فقط، ومع ذلك تصل إلى هذا المستوى ليس بالسحر ولا بالشعوذة، فهناك سنن كونية ربانية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15] فالذي يعمل يصل إلى النتائج، نعم ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لا يعمل ذلك لله عز وجل، لكن نحن المسلمين أمرنا أن نعمل في الدنيا ونسود ونقود في الدنيا العالم أجمع إلى الخير وإلى العدل وإلى الإسلام، ونحن في الآخرة من المفلحين، فكلا الأمرين مطلوب من المسلمين، غير المسلمين هم الذين يعملون للدنيا فقط، لكن كما ذكرت الذي يعمل يصل إلى النتائج وهذه من السنن.
فهناك أحد الإخوة كان يسأل عن هجرة العقول، وظاهرة استنزاف العقول، وأن العلماء المسلمين والطلاب المسلمين يهاجرون إلى بلاد الغرب ليتعلموا هناك ويمكثون هناك، ألا نسافر إلى هناك للتعلم؟ فأحد الإخوة يقول: أنا عندي بعثة وأريد أن أسافر لأتعلم ألا أسافر للتعلم؟
هذا الأخ فهم أني أمنع السفر للتعلم، لكن أقول: أبداً ما ذكرت هذا الكلام، بل إن من وسائل التعلم الرأسية كما سيأتي إن شاء الله في المحاضرات: أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، فالنقل عن الغير في الأمور غير الشرعية أمر محمود، والحضارة الإسلامية في بداياتها قامت على النقل من الحضارات الأخرى المختلفة، ثم نبغ المسلمون وعلماء المسلمين وطوروا وأحدثوا الأمور الكثيرة واخترعوا وزادوا، وقادوا العالم بعد ذلك سنوات وقروناً في حركة العلم، لكن كانت البداية أنهم نقلوا عن الآخرين، وما أُعيب على أحد أبداً أن يسافر ليأخذ العلم من هناك، لكن أعيب عليه أن يبقى هناك، وأن يسافر بدون خطة، فهل يسافر أربع سنوات أم ست سنوات أم عشراً، أو أنك لا تعرف؟ هل ستظل هناك؛ لأن الجو هناك مريح والظروف مريحة، أم أنك سترجع إلى أمتك التي هي في حاجتك؟ وهل العلم الذي تعلمته ستضيفه إلى قوة أمريكا أو قوة إنجلترا أو قوة فرنسا أم تضيفه إلى قوة المسلمين؟
قابلت في أمريكا أحد الإخوة الملتزمين، ولكن في رأيي كان بدون فقه وبدون علم صحيح، فهو لديه بكالوريوس في الطب، وبكالوريوس في العلوم، وأيضاً بكالوريوس في الهندسة، وسافر أمريكا لتزويد علمه، ولم يكن لديه المال فاشتغل سواق تاكسي؛ ليرفع من دخله ويستطيع أن يصرف على نفسه في العلم، أعطاه التاكسي أموالاً لم يكن يحلم بها، فأُعجب بالدولار، والدولار له بريق، فهو أراد أن يشتغل شهراً وشهرين ليصرف على نفسه ويأخذ بكالوريوس أو يأخذ دراسات في الطب فوق البكالوريوس، لكنه اتجه للدولار وليس للعلم، فذهب الشهر الأول والثاني والسنة الأولى والثانية وهو ما زال يشتغل سواق تاكسي.
وبعد أربع عشرة سنة قابلت في أمريكا سائقاً للتاكسي، مثل هذه القضية تماماً، معظم سائقي التاكسي في أمريكا من المسلمين، وهي الوظيفة الأغلب للمسلمين، وعشت فترة في مدينة نيوأورليانز ومعظم الجالية الإسلامية هناك تعمل على سواقة التاكسي ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومعظمهم معهم شهادات عليا من بلادنا ومن كليات مختلفة مرموقة، ومع ذلك القضية غير واضحة في الذهن.
إذاً: هناك أناس تعلموا وأخذوا دراسات وأبدعوا في مجالهم وظلوا في هذا البلد الغربي أو غيره، والطبيب بعد أن أبدع في علمه وأصبح من المخترعين المضيفين للعلم ظل يعالج المرضى الأمريكان، ولا يعود إلى بلاده ليضيف إلى المؤسسة العلمية في بلاده أو يعالج مرضى المسلمين، وكذلك المهندس، وكذلك عالم الذرة، وكذلك عالم الفضاء.. إلى غير ذلك..! وهذا من الخطأ الكبير، فعندما أذهب للتعلم في البلاد الأخرى المتفوقة في العلم، أذهب لأنقل عنها هذا العلم بخطة واضحة إلى بلاد المسلمين.
وأحد الإخوة الذين أحسبهم على خير ولا أزكي على الله أحداً، دخل هناك في شركة بهذه النية، وكل يوم ينقل جزءاً من نظام الشركة، بحيث إذا رجع إلى بلاد المسلمين نقل هذا الجزء إلى بلاد المسلمين، فنتقدم إلى الأمام خطوة، أليس هذا في ميزان حسناته إن أخلص فيه النية؟ بلى والله في ميزان الحسنات، وهذا عمل ينفع الأمة ويعلي من شأنها.
إذاً: أنا لست ضد السفر إلى الخارج للتعلم من العلوم الحياتية، ولكن نحن نريد ممن يسافر أن يسافر بخطة، وهذا أفهمه بالنسبة للعلوم الحياتية مثل: الطب والهندسة والكيمياء والفلك والذرة وما إلى ذلك، لكن الذي لا أستطيع إلى الآن أن أفهمه بالنسبة للعلوم الشرعية أن بعض الناس تذهب لتأخذ دكتوراه في اللغة العربية من (السوربون)، والمشرف عليه أستاذ فرنسي، أو يأخذ دكتوراه في التفسير أو في السيرة النبوية من جامعة (كمبردج)، أو من جامعة (لويزيانا) أو من أي جامعة في أمريكا أو في إنجلترا أو في غيرها من بلاد العالم، في العلوم الشرعية هذا شيء غريب! إلا إذا كان ممنوعاً أن تأخذ في بلادنا شهادة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
آخر شيء في التعليق على ما سبق، هل معنى هذا الضغط في هذا الاتجاه على الاهتمام بالعلوم الحياتية أن نهمل العلوم الشرعية؟ مستحيل، فالعلوم الشرعية بها ننجو في دنيانا وفي أخرانا، والضوابط التي وضعها ربنا سبحانه وتعالى لنا في كتابه سبحانه وتعالى وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم هي ضوابط في غاية الأهمية لنجاتنا في الدنيا والآخرة، لكن ما أذكره أن الذين هم على ثغرات علمية هامة في تخصصاتهم عليهم أن يعلموا تمام العلم أن عملهم هذا هو في سبيل الله عز وجل، وهم مثابون عليه إن شاء الله، وسنذكر الأدلة على هذا الأمر إن شاء الله، لكن ليس معنى هذا إهمال العلوم الشرعية أبداً، نريد لأمتنا أن تخرج الفقهاء النجباء العلماء الذين يستطيعون أن يُفتوا في قضايا الإسلام وفي قضايا الشرع خير الفتوى، وأنتم تعرفون أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، ومن الممكن أن تتغير الظروف ونحتاج إلى اجتهاد جديد وإلى تطور جديد في فقه الآيات والأحاديث الصحيحة، وهذا يحتاج إلى علماء على درجة عالية من الفقه، ليس عالماً لم يجد مكاناً يدخله فدخل الأزهر أو دخل كلية شرعية، لا، نحن نريد كل إنسان دخل الأزهر أو أي كلية شرعية في مصر أو في العالم الإسلامي أن يكون على أعلى مستويات العلم والدراية والفقه، وينتج لأمته فقهاً مناسباً لزمانها، متفقاً تمام الاتفاق مع ما جاء في الكتاب والسنة، فنحن محتاجون إلى علوم شرعية وعلوم حياتية، فالضغط على العلوم الحياتية؛ لأننا كما ذكرت عندنا من العلماء الكثير في العلوم الشرعية، وحتى شباب الصحوة الإسلامية بفضل الله مهتم جداً بمجالس العلم في العلوم الشرعية، ولكن للأسف الشديد ليس هناك اهتمام كاف بالمحافل العلمية، فمجلس العلم الذي تقفون فيه في هذا الوقت، ونتكلم فيه في أمر من أمور الشريعة أو الدين، أو نجلسه في أي مسجد على نفس القدر من الأهمية لمجلس العلم الذي تجلسه في الكلية، فأنت لا تظن أبداً أن المحاضرة هذه التي تحضرها مجلس علم، والمحاضرة التي تحضرها في فرع من فروع علوم الحياة ليست مجلس علم، إن ابتغيت به وجه الله عز وجل، فإن هذا المجلس تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتنزل عليه السكينة، ويذكره الله عز وجل في ملأ خير من هذا الملأ، فهل حضرنا المحاضرات في جامعاتنا وكلياتنا بهذا المفهوم، وهو أننا في مجلس علم تحفه الملائكة، أم أنه عبء وتسجيل غياب، وتحاول أن تجعل أحد أصحابك يستأذن لك، وأصبحت الكليات والجامعات كلها مقامة على الدروس الخصوصية بالفعل، وانتقل التدريس من داخل الجامعة إلى خارجها حيث الدروس الخصوصية؛ لأنه لا يوجد ممن يعطي هذا الأمر قدره وأهميته؟ لذلك كانت هذه المحاضرات.
هناك فجوات هائلة بين أمتنا وبين غيرها من الأمم في العالم في أمر العلوم الحياتية، لماذا هذه الفجوات الكبيرة؟
هناك أسباب كثيرة جداً، وفي رأيي أن أهم سبب هو فكري ألا وهو الفهم، نحن لا نفهم قيمة العلوم الحياتية حقيقة، وبالذات الشباب الملتزم الذي له واجهة إسلامية واضحة، فهو لا يعطي هذا الأمر قدراً، وقد ساهم في ذلك -وللأسف الشديد- بعض علماء المسلمين، فبعض علماء المسلمين قديماً وإلى الآن يسير على نهجهم البعض صنّفوا العلوم إلى علوم شرعية وحياتية، إلى علوم دينية ودنيوية، أو علوم أخروية ودنيوية، فقالوا: علوم الدين كالفقه والتوحيد والتفسير والحديث.. وما إلى ذلك، وقالوا: علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك.. وغيرها من العلوم، فما الذي نتج عن ذلك؟ نتج أن الإنسان الملتزم بدينه يشعر بحرج شديد أن يفرغ من وقته وقوته لأجل الدنيا ويترك الدين، فالدنيا دائماً في كتاب الله عز وجل مذمومة، يقول الله سبحانه وتعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38].
إذاً: الدكتور الذي يخترع الجهاز الطبي أو الذي يعمل دواء أو جهازاً هندسياً أو كذا يكون قد رضي بالحياة الدنيا! ففي فهم هؤلاء لقوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38] أي: اترك العلوم الحياتية وانشغل بأمور الفقه والحديث وغيرها، حتى رأينا بعض الطلاب في الهندسة يترك كليته ويفرش أمام الكلية يبيع سواكاً ومصاحف، هذه ليست مبالغات، ولكنا نراها وهي موجودة حقيقة، ويعتقد أنه بذلك يخدم أمته خير الخدمة؛ لأنه مشغول بأمور الدين وليس بالدنيا.
كارثة أن يكون هذا الفهم عند المسلمين، وأنا عندي الكثير من الأدلة بأن العلوم الحياتية علوم أخروية شرعية، والذي يقف عليها يسد ثغرة مهمة جداً لقيام أمته، كما هو مهم أن يقف العالم للعلوم الشرعية على ثغرته تماماً بتمام، لا تقوم أمة فقط على الأمور الشرعية حتى وإن كانت الأمة الإسلامية.
هناك أمثلة على أن العلوم الحياتية علوم أخروية شرعية، سنذكر ذلك من واقع حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ومن واقع تاريخنا، هناك أدلة شرعية كثيرة نذكر عشرة أدلة:
الحكمة من خلق الإنسان في الأرض وجعله فيها
الدليل الأول: يقول الله سبحانه وتعالى عند بداية خلقه لنا للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]والله سبحانه وتعالى خلقنا في الأرض، قال عز وجل: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61]فإذا كان خلق الإنسان وعلم الإنسان وعبادة الإنسان كخلق وعبادة الملائكة فأي فائدة من خلقه؟ ولماذا يوضع على الأرض؟ نقول: إنما وضع الإنسان على الأرض وجُعل فيها خليفة؛ ليتدبر في علوم الأرض، ويُبدع ويستعمر الأرض، وينشأ في الأرض الإنشاءات والعلوم والمخترعات، وليعرف ربه أكثر وأكثر كما سيأتي.
إذاً: الله سبحانه وتعالى جعلنا خلفاء في الأرض وليس في السماء، ولا بد أن نعرف علوم الأرض ونبدع فيها؛ لنكون خلفاء حق الخلافة في الأرض.
وقال سبحانه وتعالى للملائكة: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] ما هي هذه الأسماء؟ هل هذه الأسماء هي الصلاة والزكاة والذكر والتسبيح والقيام، وما أعظم هذه الأمور؟ هل هذه الأسماء هي أسماء العبادات المختلفة؟ أبداً، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] أي قال له: هذا جبل، وهذا سهل، وهذا بحر، وهذه نخلة، وهذه وهذه.. علمه علوم الأرض، وبذلك أصبح أهلاً ليكون خليفة في الأرض، الملائكة لا تعرف هذه الأسماء؛ لأنها لا تحتاجها، أما الذي يحتاج هذه العلوم فهو الإنسان الذي يعيش على الأرض، ويعبد الله عز وجل على الأرض، وأُمر أن يستعمر الأرض، فهذا من أبلغ الأدلة على أن العلوم الحياتية هي مستندات أو مؤهلات الخلافة في الأرض، فإن فقدت الأمة مؤهلات الخلافة في الأرض فلا بد أن تكون في ذيل الأمم، تظل فترة من الزمان في ذيل الأمم ثم تُستبدل، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، فلو أن الناس أهملت علوم الحياة وتركت الغرب والشرق واليهود والمجوس وعباد البقر يقودون العالم ويقودون المسلمين، فالله عز وجل سيستبدل هؤلاء ثم يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
إذاً: من مصلحتنا أن نقف على الثغرة في هذا الوقت قبل أن يستبدل بنا رب العالمين سبحانه وتعالى.
استمرار التجدد في العلوم الحياتية على مر العصور
الدليل الثاني: قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن العلوم الشرعية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] العلوم الشرعية بفضل الله تمت، فقبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تمت العلوم الشرعية، فكل شيء نحتاجه من العلوم الشرعية ذُكر في كتاب الله وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وهذه الآية واضحة الدلالة جداً في تمام العلوم الشرعية، ومع أن هناك اجتهاداً جديداً لتغير الزمان والمكان والبيئة، لكن الأصول ثابتة، لا يُنكر ذلك أحد، الأصول ثابتة بفضل الله عز وجل، وهذا نعمة كبيرة على المسلمين، لكن هل تمت العلوم الحياتية؟ وانظروا إلى ما قاله رب العالمين سبحانه وتعالى في شأن العلوم الحياتية، قال بصيغة المستقبل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]سنريهم في الآفاق وفي الأنفس علوم الكون بصفة عامة وعلوم الإنسان بصفة خاصة، كل هذا سيرينا الله عز وجل إياه مع تقدم الزمن، وتظل هذه الآية تُقرأ إلى يوم القيامة بصيغة المستقبل، فالعلم الحياتي متجدد، ما كنا نعتقد أنه يقين في قضية من قضايا العلم منذ ألف سنة، وفي هذا الوقت قلنا: لا، فهذا الكلام لم يكن صحيحاً، فالصحيح هو كذا وكذا..! فالذي كنا نعتقده منذ سنتين أو ثلاث سنوات نعتقد حالياً غيره، فالعلم الذي كان حجمه عشرة قراريط أصبح حجمه ألف قيراط، وسوف يصبح مليون قيراط، وسيصبح أكثر وأكثر.
إذاً: العلوم الحياتية دائمة التطور، فإن بقيت أمة الإسلام سنة أو سنتين أو ثلاثاً راكدة والعلم فيها راكداً لا يتحرك، اتسعت الفجوة بشكل هائل بينها وبين الأمم، فلا بد من حركة سريعة، وكما ذكرت بالأمس لا داعي للتسويف، فتبدأ من اليوم، والأخ الذي أخبرتكم عنه الذي ذهب ليتعلم الإنجليزية، في نفس الليلة ذهب للتعلم، وهذه أمثلة طيبة جداً.
وهناك مثل طيب ذُكر لي قبل المحاضرة بقليل، والحمد لله أنه يبعث شيئاً من الأمل في نفوس المسلمين، فأحد الإخوة اطّلع على تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي التي عملت التقرير الذي ذكرناه في الدرس السابق على ترتيب الجامعات في العالم (500) جامعة، فوجد أنه بفضل الله في تقرير سنة (2006م) دخلت مصر في التصنيف جامعة القاهرة بترتيب (403) على العالم، وهذا شيء مبهر وجيد جداً، أي عندما نذكر هذا أيضاً نذكر هذا، فالحمد لله أن هناك حركة، وعندما نتحدث عن براءات الاختراع في العالم، فمصر تطورت أيضاً، صحيح أنه تطور بطيء غير متوافق أبداً مع إمكانيات هذا البلد العظيم، ومع ذلك فالحمد لله أنا بدأنا نتطور، لكن دورنا نحن الملتزمين الذين يحبون دينهم وأمتهم ويريدون أن يضحوا من أجلها أن يدفعوا هذه العجلة أسرع وأسرع.
إذاً: العلوم الحياتية لم تتم وتحتاج إلى جهود كبيرة من علماء المسلمين.
حاجة الفقهاء وعلماء الشريعة إلى علماء العلوم الحياتية
الدليل الثالث: ألا يحتاج الفقهاء وعلماء الشريعة إلى فقهاء وعلماء في العلوم الحياتية لفقه الدين؟
نحن نريد أن نفقه بعض الأمور في الفقه، فإذا كنت أنا أفقه علوماً شرعية، وتخرجت من كلية أصول الدين، أو كلية الشريعة، أو كلية الدعوة، ولا أعرف دقائق الطب، ولا دقائق الاقتصاد، ولا دقائق الهندسة، ولا دقائق كذا وكذا.. فلا أستطيع أن أقول للمسلمين: هذا حلال أو حرام، فأحتاج إلى أحد أهل التخصص الفاهمين لهذا التخصص فهماً جيداً والمحب لدينه أن يأتي ويعرض الصورة علي حتى أخرج بالحكم الشرعي المناسب، فمثلاً في مجال الطب: هات فقيهاً درس أربع سنوات في كلية أصول الدين أو في كلية الشريعة، وكمّل بعدها الماجستير ثم الدكتوراه في نفس العلوم، وقل له: ما تقول في الاستنساخ؟ إذا كان لم يعرف هذه القضية خلال دراسته فهو بحاجة إلى معرفة الاستنساخ، فيحتاج إلى دكتور يفهم في دينه ويعرف القواعد الشرعية إجمالاً الخاصة بالطب، وفي نفس الوقت هو فاهم جداً لتخصصه، وفاهم للقضية بكامل أبعادها، فيذهب للفقيه ويقول له: الوضع كذا وكذا، فالفقيه عندما يطّلع على هذا الأمر يستطيع أن يقول: هذا حلال وهذا حرام.
كذلك نقل الدم وزرع القرنية والتخصيب بالأنابيب.. مليون مشكلة يمكن أن تكون موجودة، وهناك من يسأل: أحلال هي أم حرام؟ إذاً: الفقيه يحتاج إلى عالم مسلم متخصص في العلوم الحياتية يخبره، ويحتاج إلى عالم اقتصاد إسلامي متخصص خريج تجارة أو خريج اقتصاد أو علوم سياسية يخبره كيف يبني مشروعاً إسلامياً موافقاً للشرع، وأنا كعالم في الدين ورجل أصول في الدين أو الشريعة سأعطيك أطراً عامة، لكن لا أستطيع أن أقول لك: كيف تعمل بنكاً، البنك ضرورة؛ لأن البنوك كما ترون لوثت بالربا هنا وهناك، فنحن بحاجة إلى بنك إسلامي خالص موافق للشرع، من الذي سيبنيه؟ هل يبنيه يهودي أو أمريكي؟ لا، ولكن لا بد أن يكون عالم اقتصاد مسلم يجلس مع فقيه مسلم يشرح له الموضوع، وهذا الفقيه يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويعرض عليه المعاملات، مثل: نظام الأسهم، ونظام السندات والبنوك، كيف أتعامل مع البنك الدولي؟ كيف أتعامل مع أمريكا؟ كيف أتعامل مع أوروبا؟ كيف أتعامل مع هؤلاء الناس، وأنا أريد أن يكون كياني إسلامياً؟ هل لو بقيت إسلامياً فهل معنى ذلك أن أنقطع كلياً عن التعامل الاقتصادي مع أي دولة في العالم؟ لا، هناك ضوابط وأطر، والرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع هذا وذاك بضوابط إسلامية.
إذاً: أنا أحتاج إلى فقيه في كذا وفقيه في كذا، فقيه في العلوم الشرعية، وفقيه في العلوم الحياتية في التخصص، فلكي أفقه ديني أحتاج إلى متخصص في العلوم الحياتية في كل مجال.
هذا مثال أو مثالان وقس جميع هذه الأمثلة في العلوم الحياتية.
نتائج عدم الاهتمام بالعلوم الحياتية
الدليل الرابع: ما البديل إذا فشلنا في العلوم الحياتية؟
لو لم يهتم المسلم بالقضية وبقي معتكفاً ليل نهار قائماً وصائماً، وترك الكلية ولم يشتغل، ما هي النتيجة الأخيرة؟
النتيجة الأخيرة أن نعتمد اعتماداً كلياً على غيرنا في كل شيء، وغيرنا من الممكن أن يكون عدونا الذي يحتلنا، ومن البلوى أن يعتمد المسلمون على عدوهم في حياتهم، وهذه معضلة، فهل من الممكن أن يقول أحدنا: إن هذا وضع شرعي، وإن المسلمين لهم أن يتخلفوا في صناعاتهم وفي علومهم ويعتمدوا اعتماداً شبه أساسي على أعدائهم، أو على غيرهم بصفة عامة؟!
على سبيل المثال والأمثلة كثيرة جداً: السلاح، فأمريكا هي الدولة الأولى في تصنيع السلاح، وهي الدولة الأولى المصدرة للسلاح في العالم، (39 %) من السلاح الأمريكي يتجه إلى البلاد العربية والإسلامية، يعني: (39 %) من حصيلة الخزائن الأمريكية من مليارات الدولارات التي تدخل من السلاح أتت من البلاد الإسلامية.
هل هذا يُعقل؟ أمريكا محتلة لأفغانستان ومحتلة للعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر كل هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين كاملة، هل يُعقل أن أستورد السلاح من البلد المحتل لي؟ هذا لا يقبله عقل ولا شرع، هل من المعقول أن يقول الشرع ذلك؟ هل من المعقول إذا كان بيننا عالم شرعي أو إنسان مسلم متحمس لدينه أن يقبل بهذا الوضع؟
و(70 %) من صادرات بريطانيا من السلاح للعالم العربي.
و (40 %) من صادرات فرنسا من السلاح للعالم العربي.
و(15 %) من صادرات روسيا للعالم العربي.
و(18 %) من صادرات الصين للعالم العربي من السلاح.
أي: أننا اعتمدنا شبه اعتماد كلي على البلاد الغربية والشرقية في التسليح، وافرض جرى بيننا وبينهم في يوم من الأيام حرب، ألا يشعر المسلمون بغضاضة لهذا الأمر؟ ألا يشعر المهندسون والكيميائيون وعلماء الذرة في بلاد المسلمين بغضاضة في أنهم يخرجون من الكلية ليس له إلا الشهادة؟ وليس لأحد منهم طموح بأنه في يوم من الأيام يصبح مصنّع سلاح؟ نعم، السلاح قرار إستراتيجي أو سياسي، لكن افرض أخذت الحكومة القرار السياسي بتصنيع السلاح، لكن العلماء غير موجودين فهل تستطيع تصنيع السلاح؟ لا، إذاً: لابد أن أكون مستعداً، على الأقل أُعذر إلى الله عز وجل، أقول: يا رب أنا فعلت وتعلمت وهم أصروا على استيراد السلاح وعلى قتل المواهب الموجودة في البلد، لكني بذلت ما بوسعي، وهذا الفشل في مجال العلوم الحياتية غير مقبول من المسلمين.
وإسرائيل في السلاح هي الدولة الرابعة في العالم في التصدير، فهي الدولة الرابعة بعد أمريكا وروسيا وبريطانيا.. تأتي إسرائيل وتسبق فرنسا والصين وصربيا والتشيك وأوكرانيا ودولاً أخرى لها تاريخ في السلاح، فهي الرابعة على مستوى العالم، والدولة الأولى في تلقي صادرات السلاح من إسرائيل الهند، وهي العدو اللدود لباكستان المسلمة، وهذا الكلام ليس عشوائياً.
فأعلى دولة في العالم نسبة لإنتاج السلاح بالنسبة للصادرات إجمالاً هي إسرائيل، يعني: لو أن إسرائيل تصدر مائة وحدة فـ(40 %) من هذه الوحدات من السلاح، فإسرائيل أعلى نسبة في العالم من الصادرات عندها نسبة السلاح إلى بقية الصادرات، وهذا يعني: أن الدولة مجيشة لتصنيع السلاح، وإسرائيل على بعد خطوات منا، والفاصل بيننا وبين إسرائيل خط شائك بسيط جداً في رفح، وإن شعر المسلمون بالأمان في هذا الوضع فهذا -والله- هو الغرور بعينه، من الغرور والغفلة أن ينام المسلمون مطمئنين في هذا الوضع وبهذه الصورة، وهذه كارثة.
إذاً: لا بد أن يتحرك المسلمون، وليس شرطاً أن يتحرك أولاً السياسيون، بل من الممكن أن يتحرك الشعب، ومن الممكن أن يبدع الشعب في العلوم وينتج، فالله سبحانه وتعالى إذا اطّلع على هذه الأمة فوجد فيها الإخلاص فسيرزقها من يأخذ بيدها إلى القرار الصائب، إن وجد الله عز وجل في الأمة صلاحاً فسيرسل إليها صلاحاً إن شاء الله، أي: أن صلاح الدين لا يظهر هكذا، وإنما يظهر في أناس هيئت وجُهّزت، وراجعوا قصة صلاح الدين رحمه الله، فالإعداد كان قبل صلاح الدين بستين أو سبعين سنة ليظهر بعد ذلك صلاح الدين ، هناك جهد كبير قام به علماء الأمة ومن قادتها وساستها ومن شعبها، وممن نعرف وممن لا نعرف، وفي الأخير أين ولد صلاح الدين رحمه الله؟!
وهنا عندي إحصائيات خاصة بالاستيراد في العالم العربي والإسلامي، وفي الحقيقة إنها إحصائيات مفجعة، فقد يصل الأمر أحياناً إلى استيراد أشياء مستفزة، فمثلاً: مصر تستورد (32) نوعاً من الجبن من الخارج، مع أن مصر فيها الكثير من الحيوانات والحمد لله، واستوردنا في السنة الماضية بخمسة ملايين دولار (آيسكريم)، وفي ستة أشهر صرفنا اثنين مليون جنيه لاستيراد أغذيه للقطط والكلاب.
وهناك شيء اسمه: براءات الاختراع، وهناك شيء اسمه: المنظمة العالمية لبراءات الاختراع، فأي إنسان في العالم يخترع شيئاً يذهب ليسجل فيها؛ ليبقى حقه فيها محفوظاً، وهذه المنظمة تعمل كل سنة إحصائية بعدد الاختراعات التي سجلت فيها، واسم بلد المخترع، واختراعات الشركات التي قدمت... وهكذا.
ففي عام (2001م) قدمت مصر اختراعاً واحداً، وفي (2002م) قدمت اختراعاً واحداً أيضاً، وفي (2003م) زدنا وصارت حوالي (12) اختراعاً بفضل الله، وهذا تقدم، وفي (2004م) (78) اختراعاً، وهذا شيء طيب والحمد لله ويدل على أن هناك تطوراً، وأقولها صادقاً: التطور في غاية البطء، لكن هو تطور والحمد لله، وكل هذا لتعرف ما هو المقصود بكلمة اختراع ولتعرف وضع الأمة الإسلامية، فمصر هي الدولة الثانية إسلامياً في هذا الترتيب بعد تركيا في الاختراعات، فتركيا اخترعت (104) اختراعات عام (2004م)، ومصر اخترعت (78) اختراعاً، وأما إسرائيل فقد اخترعت (1222) اختراعاً، وأما أمريكا فقد اخترعت (41870) اختراعاً، وليس الاختراع أن نخترع تلفازاً أو كمبيوتراً أو أي جهاز من البداية، لا، وإنما هو تطوير في شيء لرفع الكفاءة أو لتقليل المضاعفات الجانبية أو لتقليل السعر أو أي إضافة ولو صغيرة فهذه تُصبح اختراعاً، وتُصبح من حق هذا المخترع له ويسجله باسمه، فهو يضيف للإنسانية شيئاً، فمثلاً في مجال الطب: عندنا دواء يستخدم في اليوم ثلاث مرات أو أربع مرات، يسبب عطشاً شديداً، فعندما يأتي طبيب من الأطباء فيضيف مادة من المواد على هذا الدواء فيجعل المريض لا يحتاج إلا إلى قرص في اليوم فقط بدلاً من ثلاثة أو أربعة، فهذا اختراع فعلاً موجود فيضاف ويسجل باسمه.
كذلك اختراع في مجال الصيدلة، كأن يأتي آخر فيضيف مادة أخرى تقلل من العطش الذي ينتج عن العلاج السابق فهذا أيضاً اختراع.. وهكذا وهكذا، ويأتي آخر فيضيف إليه مادة فيجعله رخيص الثمن، ويقلل من المادة الفعّالة الغالية الثمن، ويضع مكانها مادة رخيصة وتؤدي نفس المفعول.. هذا في الطب، ومثله في الهندسة، وفي الكيمياء، وفي الكمبيوتر، وفي كذا وكذا، فعند جمع هذه الاختراعات جميعاً نجد أن أمريكا سنوياً تقدم (41870) اختراعاً، واليابان تقدم (19982) اختراعاً، وخلفها فرنسا وإنجلترا وهولندا وهكذا..، وبعد اليابان ألمانيا.
إذاً: بالترتيب يكون أمريكا، ثم اليابان، ثم ألمانيا، ثم فرنسا، ثم إنجلترا، ثم هولندا.. وإسرائيل ترتيبها الخامس عشر على العالم في هذه الترتيبة، رقم (15) في عدد براءات الاختراع المسجلة سنوياً، لكن عندما تأتي لتدقق أكثر وأكثر تجد أن إسرائيل كم تضم من اليهود؟ فكل إسرائيل جميعاً خمسة ملايين، وأمريكا (350) مليوناً، وفرنسا (80) مليوناً، وألمانيا (80) أو (100) مليون، فعملوا طريقة جديدة للحساب وقالوا: نقيس عدد براءات الاختراع بالقياس إلى عدد السكان، فسكان أمريكا كثير واختراعاتها كثيرة، ولكن إسرائيل أعدادهم محدودة، وهناك دول فيها سكان أقل من إسرائيل أو أكثر من إسرائيل أو غير ذلك، فعملوا هذه النسبة، فأصبحت إسرائيل الدولة الثامنة على مستوى العالم في الاختراع، وتسبق في ذلك أمريكا وفرنسا، وتسبق إنجلترا ودولاً أخرى كثيرة في العالم، فهذا أمر لا بد له من وقفة.
أيضاً قسموا الشركات في العالم من حيث الاختراع، فالشركة الأولى من حيث الاختراع في تقديم براءة الاختراع شركة (فيليبس)، وهذه شركة هولندية، فأكثر شركة تقدم براءات اختراع في العالم سنوياً هي شركة (فيليبس) وللسنة الثانية على التوالي، ثم شركة (ماتسوشيتا) اليابانية التي منها (باناسونيك)، ثم (سيمنس) الألمانية، ثم (نوكيا) الفنلندية، ثم شركة (بوش) الألمانية، ثم (إنتل) الأمريكية، ثم (ثري إم) الأمريكية، ثم (موترولا) الأمريكية، ثم (سوني) اليابانية.. مئات من الشركات وليس في هذه الشركات التي تقدم براءات اختراع شركة مسلمة واحدة، فعندنا براءات الاختراع معظمها أو كلها أفراد، لكن كمؤسسات لا توجد لدينا، العمل الجماعي أو فريق العمل لا يوجد لدينا للأسف الشديد، وهذا يحتاج إلى تكاتف خبرات وجهود، وسوف نتحدث عليها إن شاء الله في الدروس التي تقول: كيف تُصبح عالماً؟ كيف نخرج من هذه الكبوة؟ وكيف نرفع هذه الأغلال من أعناقنا، وكيف نتحرك إلى الأمام؟
هذا موضوع هو محاضرتنا القادمة إن شاء الله رب العالمين.
ونسبة اختراع إسرائيل بالنسبة إلى عدد الأفراد هو لكل (5000) آلاف فرد يقدمون اختراعاً، والنسبة لأمريكا اختراع لكل (6700)، والنسبة في اليابان اختراع لكل (6300)، والنسبة لمصر اختراع لكل تسعمائة ألف، فهذا الكلام يهز من الداخل، ويشعر بحزن، نعم احزن، ولكن الحزن الذي يدفع إلى عمل، الحزن الذي يجعلك تخرج من هنا وتتحرك وتقتل كتابك قراءة ومذاكرة وبحثاً، وتذهب للدراسة وتبدع في دراستك، وتقرأ أكثر وأكثر، ولا تظل منقطعاً عن العلم بانتهاء كليتك.
العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل
الدليل الخامس: أن العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل.
ما أكثر الآيات التي جاءت في القرآن الكريم لتدعو إلى التفكر والتدبر في الكون، وهذه آيات كثيرة جداً في كتاب الله عز وجل، وكلما تفكّرت أكثر وأكثر قلت: سبحان الله! وعرفت الله عز وجل أكثر وأكثر، ومن أكثر الأشياء التي تزرع الإخلاص في قلوب المسلمين القراءة في كتاب الله عز وجل المقروء، وكتاب الله عز وجل المنظور، وكتاب الله عز وجل المقروء هو المصحف أو القرآن الكريم، والكتاب المنظور هو الكون الفسيح، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى مئات المرات بالسير في الأرض، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي خلق الحيوان، وفي خلق النبات، وفي خلق الإنسان، وفي كذا وكذا.. فعندما تكون معلوماتي هي معلومات ألف سنة مضت أهذا تدبر وتفكر؟ أين التفكر والتدبر؟ التفكر والتدبر أن تنظر إلى الشيء بإمعان، وتنظر فيه مرة وثانية وثالثة فتخرج في كل مرة أمراً جديداً، هذا هو التفكر، وانظروا إلى قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] في أي سياق جاءت؟ هل جاءت في سياق الحديث عن العلوم الشرعية، أم جاءت في سياق الحديث عن العلوم الحياتية؟ فقبلها يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28] فالعلماء الذين يخشون الله عز وجل المذكورون في هذه الآية هم الذين نظروا إلى النبات، وإلى علوم الأرض، وإلى علوم الحيوان، وإلى علوم الإنسان، فبرعوا فيها وتدبروا وتفكروا، فشعروا بالخشية من الله عز وجل.
وهذا أينشتاين الذي عمل النظرية النسبية نظر إلى الكون الفسيح ورأى السرعات الهائلة الموجودة في الكون وفي الفلك، ثم قال -وهو ليس من المسلمين ولا يعرف القرآن ولا السنة- قال: وراء هذا الكون قوة خارقة، وأنا لا أعرفها. فمن المستحيل أن يكون هذا الكلام عشوائياً، ونحن ربنا سبحانه وتعالى عرفنا به، وهذه نعمة كبيرة جداً، ألا نتقي الله عز وجل في هذه النعمة؟ وهل نترك هذه المجالات لـنيوتين وأينشتاين وغيرهما من الكفار؟ فالتفكر في هذا الكون طريق لمعرفة الله عز وجل، وكلما عرفت أكثر وأكثر عرفت الله عز وجل، وإن أردت أن تخشع في صلاتك وأن تتدبر في قرآنك، وأن تطيع ربك حق الطاعة فاعرفه، وطريق المعرفة التدبر والتفكر في خلقه وفي كونه، ويسبق ذلك القراءة في كتابه المقروء وهو القرآن، وكذلك القراءة في السنة النبوية، وليس هناك تعارض أبداً، بل بالعكس فالقرآن يحض على العلوم الحياتية، وأنا على يقين أن معظم كلمات العلم التي جاءت في كتاب الله عز وجل جاءت لتشمل العلم بنوعيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي، العلم النافع بكل صوره، أليس الذي يصنّع سلاحاً للمسلمين يعمل بعمل نافع؟! أليس الذي يصنّع كمبيوتراً خاصاً بالمسلمين يعلم علماً نافعاً ويعمل به؟! أليس الذي يصنع كذا وكذا يكفي الأمة مؤنة مد يدها لغيرها لشحذ العلم أو لاستيراد حتى لعب الأطفال والأغذية والقمح.. وغير ذلك؟ أليس هذا الذي يُبدع في مجاله يعمل ويعلم علماً شرعياً يجازى عليه من رب العالمين خير الجزاء إن أخلص فيه النية لله عز وجل؟ بلى وربي.
إذاً: هذه من العلوم الأخروية حقاً، بشرط إخلاص النية لله عز وجل، فإذا سعيت إلى إصلاح أمتك وأن تكون أمتك أمة رائدة قائدة وفعلت ذلك ابتغاء المثوبة من الله عز وجل وابتغاء وجه الله فأنت بإذن الله من الصالحين المجازين خيراً من رب العالمين سبحانه وتعالى.
كانت هذه خمسة أدلة، وفي المرة القادمة سأحدثكم بخمسة أخرى وهي في غاية الأهمية، وهي أيضاً تؤكد على هذا المعنى وتقويه، ومنها بإذن الله ننطلق إلى ماذا نعمل؟ وكيف نتحرك بأمتنا لتكون في الصدارة؟ وليس هذا على الله عز وجل بمعجز.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] | 3094 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [1] | 3033 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [7] | 2758 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [2] | 2400 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [4] | 2316 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] | 2001 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] | 1696 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [6] | 1424 استماع |