خطب ومحاضرات
سلسلة كيف تصبح عالماً [1]
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
موضوع الحديث اليوم أعتبره من أهم الموضوعات التي يجب أن تنشغل بها الأمة، ولكن قبل البداية أحب أن أقدم مقدمة لا بد منها.
يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة، واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة؟ ولماذا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى بلد كالمدينة، والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن؟ نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة، فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله عز وجل، ونحن الآن وقوف في صلاة مع رب العالمين سبحانه وتعالى، نسمع كلامه ونتوجه إليه بدعائنا، ومع ذلك ننشغل أحياناً بالحر وقطرات العرق الخفيفة جداً بالقياس إلى ما عاناه الذين بنوا هذه الأمة قبل ذلك، فالتقلبات الجوية من حر وبرد ما كانت تقف أبداً بأي حال من الأحوال أمام عظماء الأمة الذين أقاموا هذا البنيان الضخم، ما كانت تقف أمامهم في جهاد، ولا في صلاة، ولا في طلب علم، ولا في رحلة في سبيل الله لأي غرض يرضي الله عز وجل، وكلنا يعلم أحداث غزوة تبوك، حيث كانت في الحر، وكان الابتلاء فيها شديداً، والمسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، ونحن نضجر ونتعب من المكوث ساعة أو ساعتين في مسجد به مراوح وبه بعض المكيفات وفي الليل؛ لأننا لا نتحمل هذا الحر؛ لو عُرض علينا أن نتجه إلى تبوك من المدينة سيراً على الأقدام، أي حال سيكون حالنا؟ هذه وقفة مع النفس، نحن ندرب أنفسنا، نحن لا نحرم المكيفات ولا المراوح وما إلى ذلك من وسائل الترف أو الرفاهية، لا نحرمها إن كانت من حلال وتستخدم في حلال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32]، ولكن إذا حُرمنا منها لا نضجر، بل نستكمل مسيرتنا في جهادنا، وفي طلبنا للعلم، وفي عبادتنا، ونحن نرجو ثواب ذلك عند الله عز وجل.
هذه الوقفة في هذا الحر لعلها تكون المنجية يوم القيامة، فيوم القيامة يكون الحر شديداً، والعرق غزيراً، فمن الناس من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ويغرق في عرقه.
وقفة في سبيل الله في هذا الحر قد تنجيك من حر يوم القيامة: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة:81] لما قال المنافقون: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] كان الرد: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة:81].
فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قطعوا هذه المسافات من المدينة إلى تبوك في الحر الشديد، وكذلك فعلوا في البرد الشديد، وكلنا يذكر قول خالد رضي الله عنه عندما قال: ما ليلة تزف إليّ فيها عروس أو أُبشّر فيها بغلام بأحب عندي من ليلة شديدة البرد في سرية من المهاجرين أُصبّح بهم أعداء الله.. هذه أعظم لياليه، ليلة شديدة البرد شديدة الجليد، لماذا هذه الليلة أحب لياليه؟ لأنها في سبيل الله، يصبّح بها أعداء الله.
فهذا المجلس الذي تجلسونه الآن تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتتنزل عليه السكينة، ويذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بأسمائنا وأعياننا في ملأ خير من هذا الملأ، أي نعمة هذه؟ إنها نعمة كبيرة فلا تشغلنا قطرات عرق ولا يشغلنا مكيف لا يعمل، ولا تشغلنا مروحة بعيدة في السطح، ولا شدة زحام، ولا كل هذه الأشياء التي أعد الانشغال بها من الترف، والترف مهلك حقيقة، وراجعوا تاريخ الأمم السابقة الهالكة تجدون أنها غالباً ما تكون أمماً مترفة: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16].
فالإنسان الذي لا يتحمل الحر ولا الجوع ولا البرد ولا الفقر ولا طول المسافات هذا إنسان قد يبيع كل شيء في سبيل ترفه وفي سبيل شهوته ودنياه، وقد يبيع دينه في سبيل ترفه هذا، فعلينا أن ندرب أنفسنا، فنحن في مجلس عظّم الله عز وجل أجره وثوابه، وهذا المجلس بالذات مجلس العلم هو محور حديثنا في هذه الأيام المقبلة؛ لذلك وجب التنبيه على أهمية الصبر والتصبر في مثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة.
كلنا يشاهد ما يحدث لأمة الإسلام هنا وهناك، وجلسنا في هذا المجلس في هذا المسجد منذ شهور نتحدث عن مصابنا في حبيبنا صلى الله عليه وسلم، عندما رسمه الرسامون الدنماركيون بما رسموه، وجلسنا أيضاً في هذا المسجد قبل ذلك نتحدث عن الحصار الذي قام به أعداء الأمة لحماس عندما صعدت إلى الحكم في فلسطين، وجلسنا قبل ذلك بشهور وسنوات نتحدث عن أزمات مشابهة مرت في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي الشيشان..، وهكذا، والآن سمعنا ما تحدث به البابا، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] تتوالى الضربات للأمة الإسلامية فلا بد من وقفة، لا بد أن نعرف ماذا يحدث؟ كنا قد حللنا أسباب ضعف الأمة الإسلامية التي تجرأ عليها عدوها بهذه الصورة في محاضرات سابقة.
وسآخذ مرضاً واحداً من هذه الأمراض وأظن أننا لو عالجناه لكانت البداية صحيحة إن شاء الله رب العالمين، أنا منشغل هذه الأيام وقبلها بدراسة كيف تُبنى الأمم؛ سواء كانت هذه الأمم إسلامية أو غير إسلامية، هناك بعض الفروقات بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم وهي فروق هامة، لكن هناك قواعد عامة تطبق على كل الأمم، كيف تُبنى الأمم؟ كيف تتحول أمة ضعيفة إلى أمة قوية؟ كيف تتحول أمة تابعة إلى أمة متبوعة؟ كيف ترفع أمة عن كاهلها الظلم والاستبداد والقهر؟ كيف بُنيت أمة الإسلام؟ وكيف بُنيت الأمم المعاصرة لنا من غير أمة الإسلام؟
سأراجع في هذه الدراسة الدول المعاصرة لنا إسلامية كانت أو غير إسلامية، التي تحولت في خلال خمسين سنة أو ستين سنة من دولة ضعيفة فقيرة مهيضة الجناح إلى دولة قوية لها كلمة مسموعة في العالم، ندرس في هذه التجارب مثلاً: تجربة كوريا الجنوبية، تجربة اليابان، تجربة ألمانيا، تجربة أمريكا، تجربة ماليزيا، تجربة إيران، بل ندرس تجربة إسرائيل التي زُرعت في باطن البلد الحبيب فلسطين، نسأل الله عز وجل أن يحررها كاملة.
هناك عوامل مختلفة كثيرة تؤدي إلى بناء أمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: القوة، فالبلاد التي مُكّنت في الأرض ورفعت رأسها بلاد قوية في الأغلب، لكن هناك بلاد ضعيفة أيضاً عسكرياً ومع ذلك لها كلمة مسموعة، هناك الوحدة في الصف سواء في الدولة الواحدة أو بين أكثر من دولة، هناك الشورى أو عندهم الديمقراطية، هناك الأخلاق الحسنة، هناك الانتماء إلى البلد الذي يعيشون فيه، هناك عوامل مختلفة، لكن كل هذه العوامل لا يستقيم لها أن تبني أمة إلا بأساس هام جداً واحد، للأسف الشديد هذا العامل تفتقده الأمة الإسلامية الآن، وإن اكتسبته الأمة الإسلامية كما أمر به الشرع الحنيف، فإنها بإذن الله تبدأ أول الطريق، هذا العامل هو العلم.
لا توجد دولة من الدول القوية التي رفعت رأسها في العالم وحسّنت من اقتصادها وقويت شوكتها واستُمع إلى كلمتها متخلفة في مجال العلوم.
فالعلم أصل يجمع كل هذه الدول، وليس في هذا أي تعارض مع ديننا، بل تدبروا وتفكروا في ديننا، وأنا أهتم جداً بالإحصائيات والأرقام، وأهتم جداً بأوائل الأشياء، فما بالكم لو كانت هذه الأرقام وهذه الأوائل من الأشياء في كتاب ربنا وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وفي سيرته العطرة عليه وعلى الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم؟!
لابد أن نقف وقفة ونتفكّر: لماذا كان أول شيء نزل في هذه الرسالة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]؟ تدبروا وتفكروا، فالقرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، من كل هذه الآيات اختار ربنا سبحانه وتعالى أن يكون مفتاح هذا الدين والبداية والأساس الذي تُبنى عليه الأمة هذه الآيات الخمس، تكررت في هذه الآيات الخمس كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وتكررت كلمة القراءة مرتان، وجاءت كلمة القلم مرة، كل هذا في خمس آيات قصيرة، ألا يُعطي لنا هذا التركيز انطباعاً؟ أليس من المحرج جداً لهذه الأمة أن تكون في ذيل المتعلمين والعلماء في العالم الآن، وهي التي افتُتح دستورها بهذه الآيات الخمس؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية، وغريب أن تنزل هذه الآيات الخمس أول ما تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقرأ ولم يكتب طيلة حياته، والله عز وجل يعلم ذلك تماماً، ومع ذلك نزلت الآيات لتلفت الأنظار إلى أهم ما في هذا الدين وهو العلم، في الحقيقة هذا أهم ما في هذا الدين، وبعض الناس قد يعقد مقارنات مع الأخلاق وهي هامة، ومع العقيدة وهي أيضاً هامة، ومع الجهاد في سبيل الله وهو هام، وسنذكر الآن أن العلم يسبق هذه الأمور، العلم ضروري لكي تعمل كل هذه الأمور بشكل صحيح، فلو أنك أسست بيتاً وجئت فيه بثلاجة وبوتاجاز ومروحة وغير ذلك من أدوات المنزل الكهربائية، ثم لم تأت بالكهرباء ولم تأت بالغاز، كل هذه الأشياء الجميلة لا قيمة لها بالمرة ولا معنى لها، وبغير العلم لا قيمة للأخلاق، وبغير العلم لا قيمة للجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة تحتاج إلى علم، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فالعقيدة تحتاج إلى علم؛ لأن الذين عبدوا الله عز وجل بظن ولم يعبدوه بعلم ضلوا وأضلوا، فوصل بهم جهلهم إلى عبادة أحجار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة أبقار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة بشر من دون الله، هذا هو الجهل وهذا هو العلم، وهذه قيمة العلم.
إذاً: نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ تلفت النظر إلى قيمة العلم، ونزلت هذه الآيات أيضاً في بيئة كبيئة العرب التي اشتُهرت بالأمية، ففي ذلك الوقت كانت أمة لا تكتب ولا تقرأ إلا أقل القليل، وكانوا متخلفين في معظم العلوم، اللهم إلا الشعر والبلاغة واللغة، ومن هنا جاء القرآن الكريم ليتحداهم في هذا المجال، لكن في معظم العلوم الأخرى كانوا في حالة جهل كبير جداً، لدرجة أن الله عز وجل سمى الفترة التي تسبق الإسلام بالجاهلية فقال: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة:50]، فالفترة التي سبقت الإسلام كانت فترة جهل، والتي بعد الإسلام فترة علم.
فالإسلام ثورة علمية حقيقية، وتغيير كامل لمنهج الأمة التي كانت تعيش في هذه البقاع، ونقلة هائلة من أمة جاهلة لا تكتب ولا تقرأ ولا تخترع ولا تسبق غيرها، ولا تفكّر إلا في التبعية لفارس أو الروم أو غيرهما، من أمة جاهلة إلى دولة رائدة قوية تنشر الحق والعدل والإسلام والتوحيد في مشارق الأرض ومغاربها.
أول خمس آيات تتحدث عن العلم، ولم يكن هذا فقط في الآيات الأولى من القرآن الكريم، بل كان مستمراً في كل الآيات، فقد قمت بإحصائية لكلمة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم ففوجئت مفاجئة كبيرة جداً، حيث إن كلمة العلم هي أكثر كلمة جاءت في كتاب الله عز وجل بعد لفظ الجلالة، وهذه إحصائية لها مغزى ولها معنى، فالتركيز على كلمة العلم بهذه الصورة ليس أمراً عشوائياً أبداً، حاشا لله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]كل كلمة محسوبة، وكل كلمة في مكانها.. العلم بمشتقاته أتى في القرآن (779) مرة بالضبط، والقرآن الكريم عدد سوره (114) سورة، فيكون العلم قد ذكر أكثر من (7) مرات في السورة الواحدة، قد تأتي في سور أكثر وفي سور أخرى أقل، لكن المتوسط سبع مرات في السورة، فأي تكريم للعلم؟! فالعلم بهذا المعنى هو أساس حقيقي لبناء الأمة، وأساس حقيقي لدخول الجنة: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) فكل منكم أتى من مكان معين بعيداً كان أو قريباً، فمشوارك إلى هنا هذا طريق للجنة، وصبرك في هذا المكان هو صبر لدخول الجنة؛ لما جاء تصريحاً في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة).
إذاً: أول ما نزل من القرآن يختص بالعلم، وأكثر كلمة بعد لفظ الجلالة هي العلم بمشتقاته، فأول ما خلق آدم عليه السلام نجد في القصة أن هناك لفت نظر لشيء واحد فقط وهو العلم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:30-33] في أربع آيات تكررت كلمة العلم بمشتقاتها ثمان مرات، والفضيلة الوحيدة التي ذُكرت في الآية ورفعت قدر آدم عليه السلام على الملائكة فيسجدون له تكريماً وتعظيماً كما أمرهم ربهم سبحانه وتعالى هي فضيلة العلم، لم يسبقهم بطول قيام، ولم يسبقهم بكثرة تسبيح، ولم يسبقهم بطاعة مطلقة لله عز وجل، كل ذلك تجد أن الملائكة تتفوق فيه، لكن قضية العلم.
والعلم الذي تعلمه آدم هذا علم خاص جداً سنذكره إن شاء الله في المحاضرات القادمة، ليس علماً شرعياً فقط، ولكنه كان علماً حياتياً أيضاً، وسنتحدث عنه إن شاء الله بعد ذلك، لما بدا للملائكة أن هذا الخلق الجديد يتميز عنهم فعلاً بأمر لا يستطيعونه إلا بتوفيق من الله عز وجل أطاعوا ربهم سبحانه وتعالى وسجدوا تكريماً لهذا الخلق الجديد الذي يتميز عليهم بالعلم، والذي سيكون خليفة في الأرض، وهو آدم عليه السلام.
ماذا لو تخلى أولاد آدم عليه السلام عن العلم؟ افتقدوا مؤهلات الخلافة في الأرض، الذي يكون خليفة في الأرض، والذي يسود ويقود، والذي يُتّبع لا بد أن يتّصف بالعلم، من أول الخلق وهذه الحقيقة بارزة وواضحة، وذكرها لنا ربنا في كتابه سبحانه وتعالى، كل شيء في ديننا واضح تمام الوضوح، وهذا الضغط على هذا المعنى هو للفت أنظار المسلمين إلى أسباب القوة والتمكين والسيادة والريادة، إن أردتم ألا يتكلم البابا عن المسلمين، إن أردتم ألا تُحتل العراق أو فلسطين، إن أردتم ألا يُهان نبينا صلى الله عليه وسلم أو يُدنّس قرآننا في جونتنامو وغيرها، إن أردتم كل ذلك فأول الطريق كما نزل في أول الرسالة: العلم، وأمة متخلفة لا يمكن أن ترفع رأسها، هذه قاعدة، والعلم بشقيه: الشرعي، والحياتي، الشرعي من علوم فقه، وحديث، وعقيدة، وأخلاق وما إلى ذلك من أمور الدين، والحياتي كالطب، والفلك، والهندسة، والصناعة، والزراعة، والجغرافيا، والعلوم النووية..، وما إلى ذلك من علوم تحتاجها الأمة، بل تحتاجها البشرية بصفة عامة.
أول ما خلق الله عز وجل القلم، وأول من خلق من البشر آدم ورفعه بالعلم، وأول شيء نزل في الرسالة العلم، أليست كل هذه إشارات إلى قيمة العلم؟
العقيدة تُبنى على العلم؛ فإن عبدنا الله بجهل أشركنا معه غيره، وما أكثر من أشرك بالله عز وجل؛ لأنه لا يتبع العلم الصحيح.
والأخلاق أيضاً تحتاج إلى علم، ومن الممكن أن تتغير المعايير تماماً مع اختفاء العلم، بحيث يصبح الخلق الحسن سيئاً وقبيحاً، والخلق السيئ حسناً وجميلاً، وما أكثر الأخلاق التي تُعتبر الآن أخلاقاً حسنة وهي أخلاق سيئة في الأصل والعكس.. فيصبح الجبن حكمة، ويصبح الاختلاط والفجور حرية، ويصبح الطعن في الدين فكراً هكذا حين ينتشر الجهل بين المسلمين تكثر المساوئ في كل شيء حتى في الأخلاق.
والجهاد يحتاج إلى علم، الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولا يكون الجهاد جهاداً إلا بعلم، والذي يجاهد في سبيل الله وهو مخلص في جهاده ولا يتصف بالعلم قد يُضل ويضل، وقد يصل الأمر إلى خروجه من الدين وهو مجاهد، وما فتنة الخوارج عنا بخافية، فالخوارج يحتقر أحدنا صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته للقرآن إلى قراءتهم، فهم متفوقون في هذه المجالات التعبدية، وهم مقاتلون ومضحون بأرواحهم إلى أعلى درجات التضحية، يقاتلون بأعداد قليلة الأعداد الكثيرة ولا يرهبون، ولكن ضاع منهم العلم فقاتلوا في سبيل قضايا فاسدة، فخسروا خسراناً مبيناً، حتى قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) والرمية: هي الشيء الذي يُرمى كالغزال أو غير ذلك، يعني: الشيء الذي رُمي بالسهم، فمع سرعة السهم يمكن أن يخرج من الغزال من الجهة الأخرى، فهكذا خروج الخوارج من الدين مع شدة تعبُّدهم وتضحيتهم بأرواحهم، واقرءوا أشعار عبد الرحمن بن ملجم أشقى الآخرين وهو يقتل علياً رضي الله عنه وأرضاه، وهو يتقرب بهذا القتل إلى الله عز وجل، ويرجو به الجنة، وانظروا إلى تلبيس إبليس.
فالجهل خطير فعلاً، فكلما ازداد الجهل اقترب يوم القيامة؛ لأن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويغشو الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا، هذه من علامات يوم القيامة، وهذا نراه بوضوح، فنحن نقترب من الساعة ونسأل الله الثبات.
إذاً: العلم هو بداية التغيير، والعلم يحتاج إلى جهد ومثابرة، والعلم هو الصفة الملازمة دائماً لكل مغيّر، وأعظم المغيرين هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فآدم عليه السلام وصف بالعلم، وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:74]، وموسى عليه السلام: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [القصص:14]، ويوسف عليه السلام: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [يوسف:22]، ويعقوب عليه السلام: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68]، وداود وسليمان عليهما السلام: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، وعيسى عليه السلام: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة:110]، ونبينا صلى الله عليه وسلم: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].
فالعلم دائماً ملاصق للمغيرين، وأعظم المغيرين هم الأنبياء، والصفة التي وصف بها كل الأنبياء العلم؛ لأن الوظيفة الأولى للنبي أن يبلغ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] كيف يبلّغ الرسول بلاغاً مبيناً بغير علم؟ كيف تحمل لواء هذه الأمة بغير علم؟ كيف تغيّر حال المسلمين بغير علم؟ هذا مستحيل، فلا بد للمغير أن يكون عالماً في مجاله وتخصصه، وليس بالضرورة أن يكون عالماً في الفقه أو الحديث، هذا نحتاجه وبشدة، لكن نحتاج أيضاً العالم في المجالات الأخرى التي ذكرناها، فلا بد أن تتصف بالعلم وأن تسعى لطلبه، فما الشيء الذي أمر ربنا سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يطلب الاستزادة منه؟ المال؟ لا، العمر؟ لا، إنما قال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] فاطلب الاستزادة دائماً من العلم مهما بلغت: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]وتظل الآية تقرأ إلى آخر يوم في الدنيا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] فدائماً نطلب العلم، وبغير العلم لا تقوم أمة أبداً، لا بناء لأمة من الأمم إلا بالعلم، فمؤهلات القيادة عند طالوت عليه رحمة الله كما قال الله عز وجل في حقه: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247] كان بنو إسرائيل يفكرون بالعقلية المادية كما يفكّر بهذه العقلية الكثير والكثير من العالم، كانوا يفكرون أن الذي يتولى القيادة لابد أن يكون لديه أحد الشيئين: إما أن يكون ورث القيادة، وهذا مشتهر وكثير وجميعنا نراه، وإما أن يكون كثير المال قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247] لأنه أتى من فرع لا يتوارث الحكم، فالذين أتوا من الفرع الذي يرث الحكم أولى في عرفهم، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] وكان من الممكن أن يبقى قائدنا إذا كان غنياً ومعه أموال كثيرة، لكن بغير مال ولا نسب لا يكون قائداً في عرفهم، فرب العالمين سبحانه وتعالى يوضح المعايير التي يجب أن يتصف بها القائد الذي يقود أمة إلى نجاح وإلى نصر، والذي يغلب بالقليل الكثير: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] العلم أولاً ثم الجسم والقوة، والقوة بكل أنواعها، فهو يقاتل بجسمه في ذلك الوقت، ويدخل في ذلك قوة السلاح الآن: الدبابة، والطائرة، والسلاح النووي، والصاروخ الباليستي، وما إلى ذلك من أنواع القوى المختلفة، لكن قبل القوة لا بد من العلم، وبغير العلم لا تستطيع تصنيع قوة، وبغير العلم الشرعي وعلم الأخلاق لا تستطيع صرف هذه القوة في مكانها الصحيح، بل تطغى وتتجبر وتظلم..
العلم أولاً، ولا بد من العلم لبناء الأمة، حتى في عالم الجن يُرفع صاحب العلم: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:30-40] فالذي عنده علم تميز عن ذاك ليس بقوة بدن ولا بسرعة انطلاق، ولكن بالعلم، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40] ولهذا سليمان عليه السلام عندما ذكر غلبة مملكته ودولته على مملكة سبأ، قال: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42] فانظر إلى القدر الذي أُعطي للعلم، حيث جعل لكل الأنبياء وكل المغيرين وكل القادة في الإنس وفي الجن، حتى في عالم الحيوان، فالحيوان المعلّم غير الحيوان غير المعلّم: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فنحن نأكل مما أمسكت الجوارح المعلمة، ولا نأكل مما أمسكت الجوارح غير المعلمة، فهذا واضح جداً في أهمية العلم.
بناء الدين من أوله إلى آخره قائم على العلم.
العلم نوعان كما ذكرنا منذ قليل: علم شرعي، وعلم حياتي.
وهذه العلوم الشرعية والحياتية تنقسم بدورها إلى نوعين: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية.
فرض عين، أي: يتعين على المسلم أن يعرفه، وفي بعض العلوم الشرعية يتعين علينا جميعاً أن نعرفها، يتعين علينا جميعاً أن نعتقد في الله اعتقاداً صحيحاً، وأن نعلم أنه قادر وحكيم وخبير، وأن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد بُعث بالحق، وقد بلغ عن ربه وما كتم شيئاً، وأن نعلم كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، وما الذي ينقض صلاتنا، وما الذي ينقض صيامنا، وما الذي يجعل زكاتنا غير متقبلة أو غير صحيحة، وما الذي يجب أن نعرفه في أمور العمرة والحج لمن يعتمر أو يحج، وأمور الحلال والحرام، وبعض الدقائق لبعض المتخصصين.
فمثلاً: لو أنك تاجر لا بد أن تعرف فقه التجارة؛ حتى لا تقع في حرام وأنت لا تعرف، ولو أنك طبيب لا بد أن تعرف فقه الطب الذي تعالج به؛ لئلا تضع المريض في حرج شرعي وأنت لا تعلم.. وهكذا، هنا فرض عين على بعض المسلمين الذي إذا تخصص في مجال لا بد أن يُبدع فيه.
أما فرض الكفاية فهو إن قام به بعض أفراد الأمة كفى عن الآخرين، وعلى سبيل المثال: الهندسة فرض كفاية، لا بد للأمة أن تُخرج من أبنائها عدداً من المهندسين يكفون حاجتها، إن أخرجت الأمة هذا العدد رُفع الإثم عن الأمة ونجت في هذه النقطة، وإن نقص عدد المهندسين في البلد المسلم أثم الجميع، حتى يُخرج العدد الكافي للبلد.. وبهذا المفهوم ما أكثر الآثام التي توضع على أكتافنا؛ لأننا أحياناً نفكر في العلوم كعلوم شرعية فقط، مع أن العلوم الحياتية لا بد أن توضع في الصورة مع العلوم الشرعية، وسنفرد لها بإذن الله محاضرة خاصة.
الشاهد من الأمر أنه يتعين عليك نوعان من العلوم: علم عام لا بد أن يعرفه الجميع، وعلم خاص في مجال تخصصك، من هذا المنطلق لا يستقيم لطالب أن يكون فاشلاً في مجاله وهو يطلب العلو والسمو لأمة الإسلام، ويدعو الله مبتهلاً أن تُرفع الغمة، وأن يُرفع الاحتلال وأن تسود الأمة ويُحكم بالقرآن، ثم هو متخلف في مجال صنعته ومهنته، أو في علمه الذي وكّل به.
فهذا العلم فرض عين عليه في هذا الوقت، فالمهندس لا بد أن يكون عالماً بهندسته، والكيميائي كذلك، والمدرس كذلك، والطبيب كذلك، وكل مهنة إن كنت ضعيفاً فيها فأنت من أسباب ضعف الأمة بصفة عامة، وأنت آثم تحمل إثماً كبيراً بحجم التقصير الذي قصّرت فيه.
وإن فشلت الأمة كما ذكرنا في إخراج العلماء الذين يكفون حاجتها أثمت الأمة بكاملها، وتخلفت عن ركب الحضارة، وقادها غيرها ووقعت في الأزمات والمشاكل، وسقطت من عيون الآخرين، فانتهكوا حرماتها واحتلوا أراضيها، وسلبوا ثرواتها، وضاعت الأمم بين أقدام الغزاة.
هذه الدروس ليست دروس موعظة، ولكنها دروس بناء للأمة، تحتاج أن تأخذ المعلومة وتنطلق للعمل بسرعة، فالموت يأتي بغتة، ولو ضاع من العمر قبل ذلك عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في غير علم فابدأ الآن في مجال تخصصك، وليس هناك شيء اسمه انتهى من البكالوريوس ووقف عند ذلك، هناك شيء اسمه دراسات عليا، هناك ماجستير ودكتوراه وتفوق وإبداع، وهناك سبق واختراع، وهناك قيادة للآخرين، تذكروا قصة الدنمارك والمقاطعة مع الدنمارك وجميعنا قاطع الدنمارك والحمد لله، لكن الدنمارك تصنع جبناً وزبدة، وليس من المشكلة أن نقاطعها فعندنا بدائل كثيرة، كنت قد سألتكم سؤالاً: ماذا لو كانت الصور التي رُسم فيها حبيبنا صلى الله عليه وسلم ظهرت في مجلات وجرائد الصين؟ من كان يجرؤ على رفع شعار: فلنقاطع الصين؟ صعب جداً، فحياتنا معتمدة على الصين الآن، وكل شيء من الصين في هذا الوقت، حتى فوانيس رمضان -وكل سنة وأنتم طيبون- تأتي من الصين، وبأغانيها الإسلامية، السجاد من الصين وعليها كتابات إسلامية، ساعة الأذان من الصين، يقول أحدهم وهو يتكلم بجدية: الحمد لله أن الله سخّرهم لنا، فهم يصنعون لنا كل شيء! وهو سعيد بهذا أيضاً، أقول: هذا ضعف شديد في الفهم، فهو أيضاً عندما يصنع لك هذا، فإنه يصنع سلاحاً وأنت لا تصنع، ويصنع كمبيوتراً وأنت لا تصنع، ويصنع طائرة وأنت لا تصنع، ما الذي ستفعله لو قاطعك هو؟!
إذاً: فالذي نعطيه للبشرية كلها هو العلم، ونعلو فوق البشرية ونقودها بهذا العلم، وعلمنا خير للدنيا جميعاً، وسنتعرض لتاريخنا العلمي إن شاء الله في غضون هذه المحاضرات، وستعرفون كيف سادت أمة الإسلام العالم أجمع بالعلم أولاً، وهناك عوامل كثيرة، لكن لا بد من العلم.
وخلاصة القول في هذه المحاضرة: أن الأساس الأول الذي بُنيت عليه أمة الإسلام، والذي بُنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم، وبغيره لا تقوم أمة، ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظّمه ونجلّه، وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فهذا تفتقده الأمم الأخرى، فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة، فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا، لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة بيننا وبينهم في علوم العقيدة والأخلاق، وفي علوم فقه طبيعة الحياة وطبيعة الآخرة.
إذاً: في أيدينا أن نكون أسبق الناس أجمعين، وفي أيدينا وسيلة لفلاحنا في الدنيا وفلاحنا في الآخرة: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة).
أسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يستعملنا لدينه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كيف تصبح عالماً [5] | 3092 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [7] | 2755 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [3] | 2403 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [2] | 2398 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [4] | 2314 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [8] | 1998 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [9] | 1693 استماع |
سلسلة كيف تصبح عالماً [6] | 1419 استماع |