عشر سنوات على رحيل شيخ المقاومة - مصطفى يوسف اللداوي
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
عشر سنواتٍ مضت على رحيل الشيخ أحمد ياسين، الفلسطيني العسقلاني، العربي المسلم، الضعيف القوي، الناحل الصامد، المشلول المتحرِّك، القائد الجندي، الأستاذ المجاهد، المقاتل القعيد، المقاوم العنيد، المربِّي العظيم، الداعية الممتاز، الإنسان الخلوق، الكريم النبيل، الندي السخي، الصادق الوفي، الجار القريب.صاحب الصوت المبحوح والرأي الحُرّ، الهادئ الرصين، الحكيم الحصيف، ذي الفِكر النير، والعقل الرشيد، والموقف الصريح، صاحب الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة، والهِمَّة العالية.
المِقدام الجسور، الذي لا تُفجعه المصائب، ولا تذهب بعقله النوائب، ولا تشيبه النوازل، ولا تُربِكه الصواعق، ولا تُخضِعه التهديدات، ولا تكسر إرادته السجون ولا المعتقلات، ولا تُغيِّر قناعاته قسوة الأحداث، وشدة الابتلاءات.
قد عجز العدو عن وقف عجلات عربته، أو اعتراض مسيرته، أو منع حركته، أو إرهاب أتباعه، وتخويف رجاله، وترويع شعبه، بالرغم من كل ما استخدمه ضده من قوة، وما مارسه معه من عنفٍ، فعذَّبه وجوَّعه، وحاصره وعزله، وشبَّحه وقيَّده، وجاء برجاله وعذَّبهم أمامه، وعذَّبه ونكَّل به أمامهم.
معتقداً أنه مشلولٌ سيضعف، وأنه قعيدٌ سيعجز، أو أنه ضعيفٌ فلن يواصل، ومريضٌ فلن يصبر، ووحيدٌ فلن يقوى، ومحاصَرٌ فسييأس، وأنه لن يجد من ينصره، ولا من يُعينه ويُساعِده، ولا من ينتشله من العذاب، أو يُنقِذه مما هو فيه من كربٍ ومعاناة.
ولكن فأل الإسرائيليين قد خاب، وسهمهم قد طاش، وجهدهم قد ضاع، وأملهم لم يكن في مكانه، إذ قاد الشيخ من سجنه، ووجه من معتقله، ونشر فكره من وراء القضبان، وسير رجاله بعزم الجبال، وهِمَّة الأسود، بينما كان يعتقد الإسرائيليون أنهم قد حبسوه وعزلوه، وأنهم قد منعوه عن حركته وجماعته، وأنه لم يعد له تأثيرٌ على أحد، ولا سلطة عنده لاتخاذ قرار.
صعِق الإسرائيليون عندما وجدوه في سجنه أقوى، وفي أغلاله أكثر عطاءً، وفي عزله قريب، وفي إقصائه تواصل، وفي خفوت صوته إعلان، وفي همسه قوة، إذ أحال عجزه إلى حركة، والظلام المحيط به إلى نور، واليأس المراد له إلى أمل، فما أقعده سجنه، ولا فتَّ في عضده عزله، ولا أوهت الممارسات الإسرائيلية في إرادته، حتى أُكرِه على إطلاق سراحه، والإفراج عنه.
عشر سنوات قد مضت أيها الشيخ الأجل مكانة، والأعظم دوراً، والأحكم قيادةً على غيابك، ولكن أشياء كثيرة قد تغيَّرت من بعدك وتبدَّلت، ومعادلاتٍ جديدة قد فُرِضت، وعوامل مختلفة قد دخلت على مسار المقاومة.
فلم تعد حركتك مستضعفة، ينال منها العدو وتسكت، ويؤذيها وتصمت، ويقصفها وتئن وتشكو، وترفع الصوت مطالبةً العالم بأن يتحرَّك، وأن يلجم جيشها، ويُسكِت فوهات مدافعها، ويمنع طائراتها من الإغارة.
فقد اشتد عود حركتك، وقوِيَ ساعدها، وتنافس رجالها، وانبرى أبطالها، وتعاظمت هِمَّة أبنائها، وباتت قوية، تملك أسلحةً رادعة، وأخرى مؤلمة، وعندها القرار الحُرّ لمواجهة العدو والنيل منه، ولديها القدرة والإمكانية على أن تضربه في عمقه، وأن تُصيبه في قلبه، وتُؤلمه وتُبكيه، وتُوجعه وتُدميه، وتُجبِره على الأنين والشكوى، ورفع الصوت ومطالبة الوسطاء، بعقد هدنة، وفرض وقفٍ لإطلاق النار .
فقد انتهى الزمن الذي كان يصفع فيه جنود الإحتلال المواطن الفلسطيني ويسكت، بل باتت قوات الاحتلال تفكَّر ألف مرة قبل أن تجتاز حدود القطاع، وتدخل إلى البلدات والمخيمات، حتى طائراتها باتت تخاف من قدرة المقاومة، ومن إمكانية استهدافها في الجو، بعد أن سقطت طائرات استطلاعه، وتفككت شيفرة أجهزته الأمنية، وأصبحت أشلاؤها رهينة المقاومة، وحبسية المختبرات.
أيها الشيخ الجليل! قد بات رجالك وأبناؤك الذين كانوا في السجون والمعتقلات اليوم أحراراً، فقد تمكنت حركتك من فرض صفقةٍ مؤلمةٍ على العدو، بعد أن أسروا جندياً إسرائيلياً معتدياً، فبادلوه بالمئات، وأفرجوا من سجون العدو عنوةً وبالقوة؛ عن عشراتٍ من الذين كنتَ تعرفهم في السجون والمعتقلات، من المحكومين بالمؤبد عشرات المرات، وممن كان العدو لا يرجو خروجهم من السجن، ولكنك كنت تُبشِّرهم وهم يقومون في السجن على خدمتك، ويتشرَّفون بمساعدتك، أن يوم الحرية قريب، وأن ساعة الفجر آتيةٌ لا محالة، وأن موعدهم مع أهلهم وذويهم قد بات قريباً، فها هم اليوم قد غدو أحراراً في غزة والضفة والقدس، ومنهم من أُبعِد قسراً خارج الوطن، ولكنهم جميعاً اليوم أحرارٌ يقاومون، يواصلون طريقهم، ويُكمِلون مشوارهم، ولا يخافون من مصيرٍ آخر قد يطالهم.
أيها الياسين! قد بِتنا أعزًَّةً بسلاحنا، بعد إيماننا بالله وتوكلنا عليه، نمتلك السلاح ونصنعه، ونُدِّرب شبابنا ونتهيأ لأي معركةٍ قادمة، فلم يعد العدو يُخيفنا أو يهددنا، بل بِتنا نُخيفه ونُهدِّده، ولكننا بِتنا نتوجَّع من القريب، ونعاني من الأخ والجار والشقيق.
فقد ضاقت علينا الدنيا ، وحُوصِر شعبنا في الوطن، بقرارٍ من بني جلدتنا، ومن قادةٍ هم من أمتنا، فقد قرَّروا حصارنا وتجويعنا، وأجمعوا أمرهم على معاقبتنا والتضييق علينا، وتجفيف منابعنا، ومنع مساعدتنا، ومعاقبة المتعاونين معنا.
فأصبح أهلنا في غزة محاصَرين، ممنوعين من السفر والمغادرة، ومحرومين من العلاج والدواء والطعام والشراب، وقد كُنَّا نأمَل من قادة وحكومات أمتنا، أن يكونوا معنا، وأن يناصرونا ويساعدونا، ولكن الحال من بعدك قد تغيَّر وتبدَّل، فقست علينا الدنيا، وجارت علينا أمتنا، وبِتنا نشكو حالنا، فلا من يسمع شكونا، ولا من يستجيب لدعوانا إلا ربّ العالمين.
أيها الشيخ الياسين! أذكر مواقفك من مصر وقيادتها، وأُعِيدُ على مسامع شعبها وأهلها، وأنت المصري الهوى والعاطفة، فقد أحببتَ مصراً وتعلَّقت بها، ودرست فيها وأكثرت من زيارتها، بأنك ورجالك تُحبون مصر، وتخافون عليها، وتتنمون لها كل الخير والفلاح، ولا تقبلون بمن يُسيئ إليها، أو يُخطئ في حقها، أو يُعرِّض أمنها للخطر، أو يستخف بها وبدورها، أو يُحالِف غيرها ويتآمر عليها...
فهذه هي وصاياك ومبادؤك ما نسيناها، وسنحافظ عليها ولن نُفرِّط فيها.
فهل تذكُر مصر وقيادتها؛ أننا على العهد معها، لا نخون ولا نغدر، ولا نتآمر عليها ولا نتعاون مع غيرها، فهذه يا مصرُ وصايا شيخنا الذي أحبكم وتعلَّق بكم، وانتسب إليكم، وكان معكم، فأكرِموا أهله، وأحسِنوا إلى شعبه.