محنة فلسطين [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحداً لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة).

الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه ابن ماجة في سننه في كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في بيت المقدس، وصححه الألباني في التعليق الرغيب، وأيضاً في صحيح ابن ماجة برقم (1156).

قوله عليه السلام: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: -الأولى- حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، والمراد: أن يوفقه الله تبارك وتعالى للصواب في الاجتهاد وفي فصل الخصومات بين الناس، كما بان ذلك في القصة المذكورة في سورة الأنبياء في قوله تبارك وتعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].

وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)، أي: أن الأمر الثاني الذي طلبه سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس هو ما حكاه الله عز وجل في قوله: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، أي: لا يكون لأحد من بعدي، والمقصود من هذا: أن يكون ملكاً عظيماً، فهو طلب هذا الملك لا لعظمه وكبر شأنه، وإنما معجزة له؛ حتى يكون سبباً للإيمان والهداية، وأراد أن تكون معجزته مما يناسب حاله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو أراد أن يهبه الله هذا الملك العظيم، حتى يكون معجزة له، ودلالة على نبوته عليه السلام.

هذا هو التفسير الصحيح لهذا الدعاء الذي دعاه سليمان عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، لا كما يذهب أذناب اليهود والجهال من بعض الناس من وصف نبي الله سليمان عليه السلام بما لا يليق من الصفات، بناءاً على تفسير منحرف لهذا الدعاء.

وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد)، أي: لا يدخل المسجد الأقصى بيت المقدس (أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما) أي: أعطي الأولى والثانية، فوهبه الله الفهم، ووفقه للصواب في اجتهاداته، فوافق حكمه حكم الله تبارك وتعالى، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، كما فسر ذلك في عدة مواضع من القرآن، ثم تمنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) وفي هذا فضيلة عظيمة للمسجد الأقصى، الذي أنزل الله تبارك وتعالى فيه قوله عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

فالمسجد الأقصى وبيت المقدس يحتلان مكان القلب من كل مسلم؛ لأنه موضع شرفه الله تبارك وتعالى، وهو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعض الشعراء:

مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى وفي المحراب مروان

تمثل المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان

فلا الأذان أذان في منابره من حيث يتلى ولا الآذان آذان

فالمسجد الأقصى الآن دمعه في عين كل مسلم، وطعنة في قلب كل مؤمن، ومصيبة يعيشها الآن كل المسلمين: العرب والهنود والأتراك والأفغان وكل مسلم مخلص لهذا الدين على وجه الأرض.

وقد أم فيه الأنبياء -عليهم السلام خاتمُهم وسيدُهم محمد صلى الله عليه وسلم، وفتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، هذا المسجد سلب منا، وقطع من فؤادنا يوم ضعفت في قلوبنا (لا إله إلا الله)، يقول الشاعر:

أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا

نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر

وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر

هذا المسجد الشريف ورد ذكره في الكتاب والسنة، وشرفه الله تبارك وتعالى ووصفه بأعظم الصفات.

وقد انتقلت هذه الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى إرث الأمة الإسلامية، فهذه الأمة المصطفاة هي التي ورثت الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جحدوا نعمة الله عليهم وقد كانوا خير الأمم في زمانهم، فلما كفروا وعتوا وعلوا عن أمر الله تبارك وتعالى أبدل الله عز وجل خيراً منهم، وصارت هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس مطلقاً، فورثت هذه الأمة الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل.

وقد احتل المسجد الأقصى واحتلت بيت المقدس مكاناً متميزاً ومكانة رفيعة في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فالقدس والأقصى يسكنان مكان القلب من كل مسلم.

أضفى الإسلام على المسجد الأقصى وبيت المقدس مزيداً من القدسية والشرف، حتى إن القرآن الكريم جاء فيه وصف أرض بيت المقدس بصفات البركة والطهر والقدسية، يقول تبارك وتعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، فوصفها بالقداسة والطهارة، وقال عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، فوصفها أيضاً بالبركة، وقال أيضاً: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه [الإسراء:1]، وقال عز وجل أيضاً في شأنه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، وقال عز وجل: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81]، وقال عز وجل أيضاً: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سبأ:18]، وهي الشام، قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18].

وقد أشارت آيات القرآن أيضاً إلى قدسية هذه الأرض حينما أقسم الله عز وجل بها في سورة التين: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، وقال عز وجل في شأن عيسى عليه السلام وأمه: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50].

قال قتادة وكعب والسدي: إن هذه إشارة إلى بيت المقدس.

وقال تبارك وتعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [ق:41]، ورد في التفسير أن المنادي هو: إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس.

وفي قوله تبارك وتعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، قال عكرمة : إنها المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس.

وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114] قال كثير من المفسرين: هو مسجد بيت المقدس.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين مع ما علم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتدأ من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وجعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم.

فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة سيكون في الشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، والمقصود بها: الشام.

فيحشر الخلق إلى الشام، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في ليلة الإسراء إقراراً مبيناً بأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، والوحي الأخير إلى البشر، وكان تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين.

وكان في الإسراء أيضاً دلالة على أن آخر صبغة للمسجد الأقصى في شرع الله هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمة التي أم رسولها سائر الأنبياء.

ولا شك أن في اقتران الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى بالمسجد الأقصى دليلاً باهراً على مدى ما لهذا البيت من مكانة عند الله تعالى، ودليل كذلك على صحة القول: بأن المسجد الأقصى في المركز الذي لا يصعد إلى السماء إلا منه، ولهذا فإن الناس يحشرون هناك، وينصرفون من تلك الأرض إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

وقد ردت أيضاً أحاديث كثيرة بجانب هذه الجملة من الآيات في فضل وشرف بيت المقدس والمسجد الأقصى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم .

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد -يعني: مكان المسجد- فصليت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء) رواه مسلم .

وعن جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال، فذكر الحديث وفيه: قال عليه الصلاة السلام: (وعلامته -أي: الدجال-: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجدي -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، والطور) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر : رجاله ثقات.

وفي الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه -يعني: مخلصاً لله- إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه.

وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر- يعني: الأرض التي يكون فيها الحشر والنشور- ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: أهدي له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال في (مصباح الزجاجة): وإسناد طريق ابن ماجة صحيح، ورجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود .

وعن ذي الأصابع رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن ابتلينا بعدك بالبقاء -طول العيش- فأين تأمرنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليك ببيت المقدس؛ فلعله ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون) رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ضعف.

وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر ! كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة، أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة، قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة، قال: قلت: إلى السعة والدعة، إلى الشام والأرض المقدسة، قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام، قال: قلت: إذاً والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي) رواه الإمام أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) رواه أبو يعلى ، وقال الهيثمي : رجاله ثقات.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم، إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) رواه الإمام أحمد والبزار وقال ابن حجر : سنده صحيح.

وعن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: يـابن حوالة ! إذا رأيت الخلافة قد نزلت بالأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع).

قول أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: يـابن حوالة ! إذا رأيت الخلافة قد نزلت بالأرض المقدسة - يعني: أن الخلافة الإسلامية ستكون في الأرض المقدسة في فلسطين أو في الشام، فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك).

التعظيم والتكريم في القرآن والسنة للمسجد الأقصى ولبيت المقدس جعل لهما هذه المساحة العظيمة في صفحات التاريخ الإسلامي وفي قلوب المسلمين منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا.

فالمسجد الأقصى هو المكان الذي عرج منه النبي صلى الله عليه وسلم ليرى من آيات ربه الكبرى، فكان ذلك تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن عرج به إلى ذلك المقام العظيم من هذا المكان العظيم؛ ليرقى إلى ملأ عظيم، في ليلة عظيمة.

ولو لم يحدث في زمن النبوة ما يشرف ذلك المكان إلا ذلك الحدث لكفاه تشريفاً وتعظيماً، لكن الواقع أن بيت المقدس كان له نصيب آخر من أحداث عهد النبوة؛ إذ توجه إليه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم عملاً بعد أن ندب إلى تكريمه وتعظيمه من ناحية المعنى، فقد تلفتت أنظاره إلى بيت المقدس في الشام ليطهرها من أوضار الشرك الصليبي كما طهر مكة من أوضار الشرك العربي، ولتبدأ بذلك الخطوة الأولى نحو الهدف الكبير، هدف تحرير الأرض المقدسة وتكسير الآثار التي حلت بها.

لذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وتوجه النظر إلى بيت المقدس، كما توجه النظر إلى الشام وإلى آفاق الأرض، وندب الناس إلى الخروج إلى الشام، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام، كما بعث إلى شرحبيل بن عمرو الغساني عظيم بصرى رسولاً يدعوه إلى الإسلام، فاعتدى على المبعوث وقتله، فأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل للخروج إلى مؤتة، وفي تلك الغزوة قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وتلقى سيف الله المسلول الراية بعد مقتل الثلاثة ففتح الله عليه، فانسحب الانسحاب الآمن المعروف.

ثم بدأت الروم تحشد الجيوش للإغارة على دولة الإسلام؛ ولتبقي يدها على بيت المقدس، ولتظل الروم ممسكة بزعامة العالم النصراني من هناك، فأعدوا الجيوش لضربة مركزة، فتنامت إلى أسماع المسلمين أنباء ذلك الإعداد، فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة ذلك العدو المستكبر، وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة، فاكتنف إعداد الجيش الذي أنشئ لقتال الروم في الشام ظروف عصيبة، حتى سمي جيش العسرة، والآيات التي نزلت في القرآن الكريم المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في القتال بين أهل الإسلام وغيرهم من ملل الكفر، وذلك واضح لمن تأمل سورة التوبة.

خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثين ألفاً من المقاتلين، خرج بهم عليه الصلاة والسلام في تعبئة لم تسبق من قبل لجيش إسلامي، فلما بلغ الجيش الإسلامي تبوك لم يجد للروم أثراً يدل على أنهم مستعدون لخوض الحرب، فقد رعبوا من الالتقاء بالجيش الإسلامي، وجاء ختام الغزوة طمأنينة وعزة للمسلمين، فأقفل بهم النبي صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة.

وبعدما رجع عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع إلى المدينة أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو معاقل الروم في أرض الشام، واختار لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادة أسامة الذي لم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، وعسكر في الجرف حينما سمع باشتداد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدت روحه إلى بارئها جل وعلا، فأقام الجيش هناك، ينتظر ما الله قاضٍ في هذا الأمر.

أنفذ أبو بكر رضي الله عنه بعث أسامة ، وكان بعض الناس قد نصحه أن يستفيد من هذا الجيش في قتال المرتدين، لكنه أبى وأنفذ بعث أسامة، وتحقق من إنفاذه توجه نظره إلى توجيه جيش إسلامي كبير إلى الشام، ليس لقتال الروم فقط، بل لفتحها وإدخالها إلى حظيرة الإسلام، وتم إعداد جيش من اثني عشر ألف مقاتل بإمرة خالد بن الوليد بعد أن انتهى دوره من قتال المرتدين، وحضر لقتال الروم جمع مبارك من أفذاذ قادة المسلمين من الصحابة، وتمخضت ملامح النصر عن فتح عدة مدن بفلسطين، وكان فتحها تمهيداً وتذليلاً للطريق إلى مدينة القدس بعد عهد أبي بكر رضي الله عنه.

في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استأنف الإعداد لفتح بيت المقدس، فوجه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى المدينة المقدسة في خمسة آلاف فارس، ثم أتبعهم بخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان ، ثم بخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة ، فاجتمعوا جميعاً، وضربوا الحصار حول المدينة المقدسة حوالى أربعة أشهر، حتى طلب أهلها الصلح على أن يتولى عمر بنفسه تسلم المدينة، فاستجاب عمر رضي الله عنه، وخرج بنفسه إلى إيلياء، فوصل إليها في شهر رجب من السنة السادسة عشرة للهجرة في شهر الإسراء والمعراج؛ ليحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفك عنه الأغلال، ودخل المدينة عن طريق جبل المكبر، الذي سمي بجبل عمر ؛ لأن عمر رضي الله عنه دخل منه.

ولما أشرف على المدينة المقدسة من فوقه كبر عمر رضي الله عنه، وكبر المسلمون معه، ومن ثم سمي جبل المكبر، وبعد أن دخلها ووصل إلى أرض المسجد الأقصى أزال عنها ما وضعه النصارى من أقذار، وبنى مسجداً أمام الصخرة، وجعل الصخرة في مؤخرته.

والناس إذا ذكر عندهم المسجد الأقصى يتبادر إلى ذهنهم هذه القبة المبنية فوق الصخرة، والتي يجعلون بناءها من عجائب الدنيا، وهذه القبة هي جزء من أرض المسجد الأقصى، أما المسجد الأقصى فهو كل المساحة التي حول قبة الصخرة، وأرض المسجد الحقيقي هو الموجود في الجهة الغربية من قبة الصخرة، فالمسجد الأقصى كبناء وكمسجد ليس هو قبة الصخرة، وإن كان في الأصل أن قبة الصخرة جزء من هذه الساحة التي هي والأرض المحيطة بها كلها تشكل كلمة المسجد الأقصى.

عندما استقر الأمر لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أخذ البيعة من الناس في مدينة القدس، ثم اختار دمشق عاصمة للخلافة.

وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ لنفسه البيعة في بيت المقدس، وتولى أعمار المدينة المقدسة حتى غدت في عهده وعهد ابنه الوليد بن عبد الملك من أعظم المراكز الحضارية في الدولة الإسلامية، وتولى عبد الملك تشييد المسجد الأقصى في بناء جديد، وكذلك هو الذي تولى تشييد مسجد قبة الصخرة، وأوقف خراج مصر لسبع سنين في تشييدهما، فكان الخراج الذي يجمع من مصر لمدة سبع سنين وقفاً على تشييد المسجد الأقصى وقبة الصخرة، حتى صارا على شكلهما القائم اليوم.

أما الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فإنه لما تولى الحكم طلب من جميع ولاته أن يزوروا المسجد الأقصى، ويقسموا يمين الطاعة والعدل بين الناس فيه.

وفي عهد العباسيين زاد اهتمامهم بالقدس لاسيما في عهد أبي جعفر المنصور ، وكذلك في العهود التي تلت ذلك.

استطاع السلجوقيون أن يستولوا على المدينة المقدسة من قبضة الفاطميين الذين كانوا يعتبرون أعداءً تقليديين لهم، فاحتلوا المدينة عام (465هـ) الموافق عام (1071م)، لكن الفاطميين استعادوها منهم، ولم يلبث الصليبييون أن انتزعوا القدس من أيدي أوليائهم الفاطميين الذين كانوا من الأسباب الرئيسية في النكبة الصليبية التي حلت ببيت المقدس.

انتهزت الزعامة الباباوية نداءً وجهه البطريرك كنعان الثاني بطريرك القدس وبطرس الناسك ، وتوجه هذا المدعوم من البابا إلى مجمع للنصارى سنة (1095م)، ودعا إلى شن حروب ضد المسلمين لإخراجهم من بيت المقدس؛ فاستجاب ملوك وأمراء الإقطاع في أوروبا الوسطى والغربية؛ لأن في تلبيتهم لهذا النداء فرصة لتحقيق حلمهم القديم في إقامة إمبراطورية جديدة في الشرق على غرار الإمبراطورية الرومانية التي قصم المسلمون ظهرها.

وتقدم النصارى ملبين نداء البابا وهم يدقون نواقيس الحرب، ووقعت القدس في يد النصارى بعد أربعين يوماً من الحصار، وذلك بعد انخذال الشيعة في الدفاع عنها، وهروب قائدهم المدعو افتخار الدولة وحرسه، وسقطت المدينة المقدسة في أيدي عباد الصليب في نهار يوم الجمعة في الثالث والعشرين من شعبان سنة (492هـ) في عهد الخليفة المستعلي بالله الفاطمي لا أعلاه الله، والمستظهر بالله الفاطمي لا أظهره الله؛ ولم يكن لدى الفاطميين إلا أسماء وألقاب فقط، كـالعاضد لدين الله، والمعز لدين الله، والحاكم بأمر الله، وهكذا.

وتهيأت الفرصة لعباد الصليب لأول مرة بعد أن أضاءت الدنيا بنور الإسلام أن يسددوا للمسلمين طعنة في الصميم، ودخل الصليبيون المدينة منطلقين في هوس وجنون يزرعون الرعب والدمار والخراب، منتشين بما أصابوا من نصر رخيص على يد حاكم أرعن، ولم يسلم من بطشهم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل، فقتلوا الجميع دون تمييز، وأراقوا الدماء دون تورع، وشاهوا وجوه الناس وأساءوا إليهم، فلم يسلم من ظلمهم خد أيمن ولا أيسر، واستمرت المذبحة الرهيبة طوال يوم الدخول وليلته، واقتحموا المسجد الأقصى صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، واصطبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد والركع السجود، وتوجه قائد الحملة الصليبية ريموند في الضحى لدخول ساحة المسجد ملتمساً طريقاً بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته!!

ظل الصليبيون في بيت المقدس يشيعون فيه الإفساد مدة إحدى وتسعين سنة، إلى أن أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فالحقيقة أن هذا الأمر مما يلفت النظر، فالقدس صارت لسنوات كثيرة في يد الصليبيين أطول مما صارت الآن في يد اليهود لعنهم الله.

فالسنوات في عمر الدعوات هي ثوانٍ ولحظات في الحقيقة، فمهما طال الأمد فلابد أن تعلو كلمة الله تبارك وتعالى، وقد جاءنا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيظهر في الشام، وأن خلافة داود في بيت المقدس؛ حتى لا يصيب المسلمين اليأس، فمهما طال العهد بهؤلاء اليهود فإن من سبقوهم مكثوا في القدس أكثر مما مكثوا، وعلوا في الأرض أكثر مما علوا.

أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد توجه نهار الأحد الخامس عشر من رجب فنزل بجيشه غربي بيت المقدس، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، وخيم هناك، وضيق على الإفرنج المسالك، ونصب المجانيق، وضرب على المدينة حصاراً انتهى بتسليم الصليبيين إياها يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاتفق الفتح في اليوم الذي كان فيه حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومما يرطب قلوبنا ويحيي الأمل في نفوسنا أن نطالع ما حدث في ذلك اليوم العظيم، كما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وقد صحح الحافظ ابن كثير أن صلاة الجمعة أقيمت في الجمعة المقبلة، وليس في أول جمعة؛ لأنهم لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي .

يقول ابن كثير : لكن المسلمين نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، وأنزل الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها.

وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها، ثم قبض -أي: السلطان صلاح الدين - من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير منهم فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتنى ويدخر؛ فقد كان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2628 استماع
دعوى الجاهلية 2564 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2562 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2506 استماع
محنة فلسطين [2] 2468 استماع
انتحار أم استشهاد 2439 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2409 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2397 استماع