قضايا سيد قطب التي تبناها، وعاش واستشهد ثمنًا لها - مدحت القصراوي
مدة
قراءة المادة :
39 دقائق
.
مقدمة:تبنى الأستاذ سيد قطب رحمه الله قضايا أوضحها وعاش من أجلها، وكانت علامات دالة على فكره وفهمه، بل ومات من أجلها.
ولكن ابتعد الناس عن مضمون ما قدّم تحت حجة وغبار التكفير وعدمه، والوقوف على ألفاظ بعينها، بسبب انحراف فكر هؤلاء الناظرين، أو استخدام أمني مقصود، أو لبدع غالبة، أو انحراف نفسي، أو جهل عقيم، أو قصور عقلي غير مسبوق.
وتحت هذا الغبار بين الاتهام ونفيه ضاعت القضايا الأصلية، وكانت علامة الخبث الواضحة هي أن من هاجمه لم يلتفت إلى القضايا التي حملها وتبناها، وهي محل إجماع الأمة ومنطوق النصوص المتكاثرة، وغيابُها هو سبب تخلف الأمة وتبعيتها.
هؤلاء الذين وقفوا على كلمة انتزعوها من سياقها، لم يتبنوا تلك القضايا ولم يحملوها مع تجنبهم لما يرونه خطأ بزعمهم، بل اكتفوا بالتشغيب والتغبير، ثم تواطؤوا على كتمان الحق، بل تمادوا أكثر من هذا فقالوا أن من يبين الحق فهو متهم بنفس الاتهامات الموجهة للأستاذ الشهيد رحمه الله، تهديداً ومنعاً لأي بيان للحق.
وما زال السؤال موجهًا لهؤلاء لماذا تركتم القضايا الكبيرة التي حملها الرموز وماتوا من أجلها مع تجنب ما ترون أنه خطأ على زعمكم؟! بل لماذا تسيرون تقررون شرعية فصل الدين عن الحياة وإقصاء شريعة الله والتولي بغير ولاية الإسلام وموالاة أعداء الله وتفتيت بلاد المسلمين؟ ولماذا تعطون شرعية للتخلف والتبعية والضعف والفقر والجهل والفساد؟ ولماذا ينحدر المسلمون في ظل دعوتكم وحمايتكم للعلمانية! ولماذا تقرر فيهم الإباحية ويصحو الناس كل يوم على تطور سلبي في أبنائهم وأجيالهم بينما أنتم تعطون شرعية لهذه الأنظمة والمؤسسات التي تقوم بهذا التغيير العميق؟!
لا إجابة، ولن تسمع إجابة، لأن هذه هي الصفقة؛ التغبير على القضايا حتى تضيع بين المتدارئين في الحق، وهي صفقة خسيسة مع جهات العداء الداخلي، ومنهم من يعقدها مع صليبيي وصهاينة الغرب أنفسهم تحت مسمى (مراكز الدراسات أو البحث) مع تطويع آلات إعلامية جبارة تحت أيديهم.
وبغض النظر عن المهاترات المقصودة بخبث! فلننظر في القضايا التي شغلت معظم كتابات الأستاذ الشهيد رحمه الله وشغلت مساحة كبيرة من تفكيره وبيانه، ثم دفع فيها حياته، ثم تركها الناس وانشغلوا عنها باتهامات يثبتها هذا وينفيها ذاك..
أما معظم قضاياه فهي
أولاً: إفراد الله بالتشريع والدينونة والإستسلام:
فقرر وأوضح مرارًا حقيقة الإسلام والمفاهيم الشرعية التي تواترت النصوص في بيانها وأجمعت عليها الأمة، وهي حقيقة الدين التي جاء بها جميع الأنبياء، وإن انحرفت عنها الأجيال المتأخرة وجهلتها، وهي أن قبول الشرائع وتقرير حاكمية رب العالمين التشريعية على الحياة كلها دون خروج أي جزء من الحياة عن هذه الحاكمية، وهذه الحاكمية بمعنى هيمنة شرائع رب العالمين القانونية والتربوية والتصورات والقيم على الحياة، وهذا التشريع تشريع عام للجانب الفردي والجماعي، والخاص والعام.
أن هذه الحاكمية هي المعنى المباشر لمعنى الدينونة لله تعالى والإسلام والإستسلام له، والذي لا يتحقق الا بقبول الأحكام، وأنها إفراد لله تعالى بحقه الخالص في التشريع فهي أحد أركان (لا اله الا الله).
وتقرير هذه الحاكمية يترتب عليها قيام جملة الحياة على وفق المنهج الرباني لتحقيق غاياته التي أنوله الله تعالى من أجلها (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
ثانيًا: الهوية والولاء ومعنى الأمة:
أوضح، رحمه الله، معنى إفراد الله تعالى بالولاء والمحبة، وتقرير معنى أن جنسية المسلم عقيدته، وأن الإسلام كما يمثل شريعة حاكمة فهو هوية جامعة، فقرر وأوضح معنى الأمة الواحدة وأن صلة العقيدة هي أول الصِلات التي تنبني عليها بقية الصِلات، وإذا انبتّت وانفصلت تلك (الوشيجة) صار كلٌ من أمة، وأن الأمة هي أمة عقيدة لا سياج أرضي ولا حدود مراعي وقطعان ولا نعرات جنس، وأن أشرف ما في الإنسان عقيدته، لأنها اختياره، وأن اللون والوطن والقوم واللغة والجنس ليست اختياره، فمن كرامة الإنسان أن يكون ولاؤه وهويته هي عقيدته التي يستطيع تحديدها، ومن ثم يستطيع تحديد الأمة التي ينتمي إليها، وأن الدعوة للّقاء والتجمع في الله تعالى ليست تعصبًا بل هي الدعوة الجامعة.
وبين عمق تاريخ هذه الأمة، وأن تاريخها يتمثل في موكب الإيمان وتاريخه مع جميع الأنبياء، فالمسلمون أمة واحدة عبر التاريخ، وهو تاريخ ضارب في أعماق الزمان، يبدأ منذ ظهور البشرية وبدايتها المؤمنة مع آدم عليه السلام.
واستعرض معنى الأمة الواحدة التي يتقدمها الرهط الكريم من الأنبياء الكرام يتقدمون هذا الموكب الكريم، وأن انتماء المسلم واعتزازه ليس لأرض أو جنس أو قومية بل لعقيدته ودينه، ويجب أن يتجرد لهذا الانتماء، وعلى وفق هذا الانتماء توضع بقية الانتماءات في مواضعها وترتيبها حيث أنزلها الله تعالى.
ثالثاً: البداية بالعقيدة، في الدعوة والتربية:
تكلم عن البداية في الدعوة، وفي التربية كذلك، بالعقيدة، ليس تكفيرًا للناس بل كنقطة بداية للدعوة والتربية وأساس راسخ ومتين ليُبنى عليه البناء الإسلامي الشخصي للفرد في التربية، وللدولة والأمة في شكل مؤسساتها ونظامها ومنهج حياتها الذي تتبناه.
فعندما تتقرر العقيدة كأساس متين ومقرر ومفهوم واضح، وتأخذ حقها في البيان والتربية، لا يرفض الناس أمرًا دون أمر أو يجادلون في حكم دون حكم أو يتأبى الفرد عن الامتثال، أو تجادل فئات في حكم شرعي وترفض قبوله.
فالتربية تبدأ من العقيدة، كما أن الدعوة تبدأ من تقرير العقيدة، وعليها يبنى هذا وذاك.
رابعًا: تعرية الخنادق المعادية للإسلام أصحاب الرايات المعلنة:
كما تكلم عن التوضيح الشرعي لحقائق الإسلام كما أسلفنا، تكلم عن الخنادق التي تعادي الإسلام وتقف له بالمرصاد، وأوضح حقيقتها وعرّاها، وبيّن أنها تختبيء خلف الإنتساب للإسلام لحربه وعدائه، وأن الأمر فيها بيّن من خلال مفاهيم هذا الدين التي قررتها عشرات إن لم تكن مئات النصوص عن أن حقيقة الإسلام هي قبول شرع الله ورفض ما سواه، فمن عادى شريعته ومنهجه وقيمه وأخلاقه وأحكامه وموازينه، ثم يدعي احترامه للإسلام فهو احترام كاذب وتستُر لحربه، وأن تلفظ هؤلاء بالإسلام لا يعطيهم شرعية، وأن القول بأن الإسلام بخير، وأن المسلمين بخير، مع هذا الحال، هو قول للتخدير.
أكد مرارًا أن معرفة أنك على الحق لا تكفي بل يجب أن تعرف أن عدوك على الباطل، وذلك لقوة المدافعة والثقة فيما معك، ولمعرفة مقدار النقلة البعيدة التي جاء الإسلام لنقل الناس إليها.
وأوضح أن هذا مقصود قرآني..
أن يعري الباطل ويسقط لافتاته ويوضح حقيقته ويكشف عن قبحه وتهافت معتقده وسوء عاقبته ومرارة مغبته.
خامسًا: غياب الوجود الشرعي، بما يعني إسقاط الشرعية، والتفريق بينه وبين الحكم على أفراد الأمة:
من أهم النقاط التي تدارأ الكثير لكي لا يوضحوها ولكي يعموا الناس عنها، وبل واستغلوها لتشويه الرجل والتغبيرعلى قضاياه، وهي أنه بيّن غياب الوجود الشرعي المؤسسي للإسلام، بمعنى غياب تحكيمه وقيام المؤسسات على وفقه ولخدمته وتطبيقه واستهدافه كرسالة، تحت ادّعاء الدولة الحديثة والتي أرادتها الخنادق والنخبة المتغربة دولة علمانية تجافي الدين وترى أنه لا حق للإسلام في حكمه للحياة وللنشاط الإنساني، القانوني والفكري والفني، وأوضاعه الإجتماعية والإقتصادية، فتكلم عن انقطاع هذا الوجود وغياب الإسلام بهذا المفهوم.
وأما أفراد الناس فهم أمته المسلمة التي يسعى لإحيائها، وذكر الإحياء كثيراً في كلماته، وهُم الذين يحمل قضاياهم ويبكي لآلامهم في الهند والصين وفلسطين ومن قبل في الأندلس والحلقات الإستعمارية الحديثة، ولو كفّرهم لما تألم من أجلهم ولما رآه عداءً للإسلام ولا حلقة من صراعه مع أعدائه.
فمن لم يفرق بين الأمرين إما قال أنه يكفر الناس! أو برر بما يجعل الأوضاع العلمانية كلها كأنها قريب من قريب! وأن الخلاف معها جزئي وهامشي فيعطى شرعية للنظم العلمانية!!
بينما الأستاذ الشهيد، رحمه الله، يفرّق تمامًا بين الأمرين، بين عموم المسلمين، وبين الوجود المؤسسي الشرعي للإسلام، فهذا هو الغائب، وبيّن المفاهيم الشرعية الصحيحة التي يجب أن يعرفها المسلمون لتصحيح تصوراتهم وعقائدهم إن لحق بها خلل أو غبش، ولتصحيح أوضاعهم على وفقها.
وقرر أن حقيقة الإسلام لا ترجع إلى عرف الناس بل إلى المقررات الشرعية، فإن وجدنا مع البيان بُعد الناس عن هذه الحقيقة أو الجهل بها فيجب ألا يمنع عن بيانها استبشاع الناس للفارق الكبير بين حياتهم وبين الحقائق الشرعية المطلوب فهمها وتطبيقها وقيام الحياة على وفقها، فالأوضاع المنحرفة هي انعكاس لخلل يجب إصلاحه ولجهل يجب بيانه، وأنه لا يُستغرب إن ساهمت مؤسسات دينية ورموز علمية في هذا التلبيس والجهل عندما تتخذ الدين حرفة وتكسبًا.
سادسًا: التصورات الإسلامية الأساسية والنظريات الإسلامية المقابلة للغرب:
ومن باب استقراء النصوص والجمع بينها لاستخراج النظريات الإسلامية، وهي أعم من القواعد، تكلم عن التصورات الإسلامية عن الله، والكون ، والإنسان، والحياة والموت، والدنيا والآخرة، والنفس البشرية ودوافعها وكوابحها، وعلاقة الخالق بالمخلوق، وبالكون والحياة والأحياء، كتصورات تمثل النظريات الإسلامية المقابلة للنظريات الغربية التي قامت عليها الحضارة الغربية، فأوضح النظريات الإسلامية التي قامت عليها الحضارة الإسلامية منذ فجر التاريخ، ثم مع الحلقة الأخيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي ستقوم عليها إن شاء الله تعالى دورة التمكين القادمة للإسلام؛ فواجه تصورات ماركس وفرويد ودوركايم ونيتشه وغيرهم.
كما واجه نزعات الإلحاد الغربية، واستند إلى العلوم الحديثة في الفلك والأحياء والجيولوجيا والكيمياء وغيرها لتقرير حقائق هذا الدين؛ بوجود خالق يدبر أمر الحياة والأحياء والوجود كله وعلاقاته المتشابكة، وأنه تعالى من العظمة والوضوح بحيث يجده كل عالم وباحث في نهاية كل طريق يسلكه، وتكلم عن آلاف التوافقات في الحياة والأحياء وأنها توافقات مقصودة لقيام هذه الحياة وهذا الإنسان وهذا العالم على وجه الخصوص، وأن من ورائها حكمة بالغة عليا.
وفي هذا السياق أشار كثيرًا إلى كتاب الله المقروء وكتاب الله المنظور..
أما الكتاب المقروء فالقرآن ودلالاته وخطابه المعجز والفطري والعميق.
وأما الكتاب المنظور فصفحة الكون الممتلئة دلالات وآيات تشير إلى رب العالمين وعظمته وتفرده، بل ودلالته على اليوم الآخر وحتمية لقاء الله تعالى.
سابعًا: عرضه الشفيف والسامي لمقومات التصور الإسلامي:
ومن أجمل وأرق، وأعلى وأسمى ما عرضه كان في مقومات التصور الإسلامي، وكان أشف ما عرضه كان في استعراض حقيقة الألوهية والربوبية، واستعراض البيّنة والإيمان في قلوب الأنبياء وهم يتكلمون عن شعورهم ورؤيتهم وإيمانهم، وشعورهم وذوقهم لأسماء الله وصفاته وعلاقتهم به وعلاقته بهم، وشعورهم بالآخرة.
لم يزد رحمه الله أن عرض القرآن وآياته، لكن عرضه عرض من فهمه وذاقه وزاول هذا الشعور، كان يعرض صفات رب العالمين وآثار أسمائه وصفاته وجليل صنعه، ويعرض الإيمان في قلب النبي ، ثم يقول: هل قلت شيئاً؟ هل زدت شيئاً؟ لا لأن الحقيقة أظهر من أن يضيف إليها شيئاً..
قال الكثير رغم أنه لم يشرح كثيرًا!! فكان قمة امتزاج العلم والفهم مع الشعور والإيمان..
رحمه الله.
ثامنًا: النظام الإجتماعي في الإسلام، وتحقيق العدالة الإجتماعية وفق منهجه:
تكلم عن النظام الاجتماعي وقيمة الأسرة ونظامها الإسلامي، وعلاقات الجنسين وقيمة العفة مع التواصل المجتمعي، والقيمة الكبرى التي أولاها هذا الدين للأسرة وأحكامها المختلفة وعلاقاتها المتشابكة.
كما تكلم عن العدالة الإجتماعية في الإسلام، والأدوات التي شرعها الإسلام لتحقيقها، ومن قبْلها تكلم عن التصور الإسلامي للمال ودوره في الحياة والمجتمع، وعن حق الفرد في التملك، كما قرر حق المجتمع في التدخل لتحقيق العدالة الإجتماعية ولعدم إساءة التصرف بالسفه أو الانحراف، وحق المجتمع وسلطة الحاكم المسلم في هذا التدخل وحدوده بما يحفظ الملكية الفردية الرشيدة..
كما أوضح الغايات التي يجب أن يستهدفها المجتمع ويستهدفها الحاكم المسلم في هذا المجال.
وأن الإسلام لا يعرف الإشتراكية العفنة التي تلغي دور الفرد وتسحقه -في ظل الشيوعية والالحاد- والتي ما قامت إلا في أحط البيئات الإنسانية ومع ذلك خالفت الفطرة فسقطت تحت مطارقها، ومعها ملايين الأرواح والنفوس وأنهار الدماء، ذلك أنها عاكست الفطرة وصادرت غريزة التملك في الإنسان وحريته الفردية.
والإسلام كذلك لا يعرف الرأسمالية المتوحشة التي تلغي اعتبار المجتمع وتقدس الفرد واللذة والمنفعة الفردية فتسحق ملايين الفقراء والعمال.
بل الإسلام يعتبر كل طرف بما لا يخل باعتبار الآخر، وله في هذا طريقه الخاص وأدواته وأحكامه وتوازنه.
كما واجه بشدة سيطرة وفساد الرأسمالية التي تعني قلة تتحكم في مصير البشرية ومن ورائها اليهود بأفكارهم الخبيثة ومآربهم العفنة والشريرة؛ فيمتلكون المال ومعه الإعلام وتوجيه الرؤوس، حتى تصير الحرية حرية مزيفة وخادعة، ومن ثم تحقق السيطرة السياسية، المحلية والدولية.
تاسعًا: ملامح النظام السياسي الإسلامي الراشد:
تطرق كثيرًا إلى ملامح النظام السياسي الإسلامي، وتقرير النظام الشورِي المؤسسي ودور الأمة، وأن الشكل الراشد في الحكم ممكن التكرار، وأن التطبيق الراشد في دقته الشخصية وسموه الشخصي هو التطبيق الفائق لهذا الدين، وأما التطبيق العام والمؤسسي الذي يقيم هذا الدين كما أراده الله تعالى فهو ممكن في المقدور العادي بمستويات إيمانية يمكن لمن بعد الصحابة القيام بها لإقامة هذا الدين، فهو ليس مشروطًا بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بصحابته الكرام، وإلا لما كان تكليفاً للأمة كلها ويحاسب الناس على التفريط فيه، وأن هذا التطبيق -المقدور لغير الصحابة- هو مستوى سامق للبشرية كلها، يمكن -بل يجب- أن تستهدفه.
المهم هو الملامح الأساسية للنظام الإسلامي، من حيث إفراد الله تعالى بالتشريع، مع وجود الشورى والحرية، وحرية اختيار الأمة لحكامها ونوابها ومن يقومون على إقامة أمر الدين والبلاد، مع سيادة القيم الإسلامية وأحكام الشريعة وأهداف وغايات المجتمع المسلم ودوره الرِسالي في العالم بالقيام بمهمة إبلاغ الرسالة للعالم كله والدفاع عنها.
مع الاستفادة بالتجارب البشرية فيما لا يمس أحكام أو تصورات أو قيم هذا الدين، بل فيما يخدم إقامة أحكام وتصورات وقيم هذا الدين من آليات يسمح بها الإسلام.
عاشرًا: المنظومة الأخلاقية في الإسلام:
كما أوضح التصور الأخلاقي في الإسلام، وأن العنصر الأخلاقي عنصر بارز في هذا الدين ومميز له وشامل لنشاط الانسان كذلك، وهو في نفس الوقت ليس قيدا على النشاط الإنساني، بل هو قوة إجابية وطاقة دافعة، فإن حجّم ورشّد بعضَ الاتجاهات المحرمة للنشاط الإنساني فهي دافع من جوانب أخر وتحرير لطاقات إنسانية معطلة.
وأوضح أن الأخلاق في الإسلام ليست متطورة أو متغيرة بل هي مستندة إلى قاعدة تضمن لها الثبات ومصدر عقدي رباني، وأنها أصيلة في النفس البشرية وفي الإسلام كذلك، وأنها في نفسها قيمة وليست تابعة لقيم مادية أو لذة منشودة أو أوضاع اقتصادية متغيرة أو أدوات إنتاج.
حادي عشر: التفسير الإسلامي للتاريخ:
تكلم عن التفسير الإسلامي للتاريخ ورؤية الإسلام لنشوء الأمم وهلاكها، وتفاعلها مع الهدى والضلال، وأوضح أن العامل الأول والأساس لقوة الأمم أو سقوطها هو كيفية تعاملها مع هذا الدين، التعامل مع الحق والهداية، وأن عامل الدمار والهلاك هو الزيغ والضلال، وليس العوامل الاقتصادية بالمقام الأول.
فكان التفسير الإسلامي للتاريخ في مقابل التفسير المادي له من خلال أدوات الإنتاج وتغير المجتمعات من وضع رعوي إلى زراعي إلى تجاري إلى صناعي وصراع طبقي وغيره؛ فأوضح رحمه الله عمق هذه الكلمة الربانية {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ}، كما استعرض التاريخ من خلال التصور الرباني والعرض القرآني له، من خلال ما قصه كتاب الله تعالى في شأن الأمم السابقة.
وفي خلال هذا عرّى الحضارة الغربية، مع اعترافه بعبقرية التنظيم والروح العلمية والمثابرة في البحث، مع وجود الأخلاق العلمية اللازمة للحضارة المادية، لكنْ خواؤها من الروح وحربها لله تعالى واستعلاؤها الظالم يجعل منها تجربة مكرورة من الأمم الهاكلة {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟! [فصلت، من الآية:15]، وأنها ذاهبة إلى الزوال لا محالة {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام، من الآية:44].
كما تكلم في هذا عن نشأة العلمانية في أوروبا وخصامها مع الدين وأن هذه ظروف محلية تخص أوروبا لا علاقة لها بالمسلمين، فالدعوات الأوربية للخصام مع الدين متفهَمة، وإن كانت غير مقبولة لوجود الدين الحق أمامها فرفضته تعصبًا وحقدًا.
أما في العالم الإسلامي فهي دعوات لا مبرر لها، فهي دعوات مغرضة، لأن الإسلام هو أساس نشأة هذه الأمة ومبرر وجودها وسبب حضارتها وعزها، وهو الدافع للتقدم العلمي والحضاري، ولم يكن يومًا في خصام مع العلم كما حدث مع الكنيسة الغربية.
ثاني عشر: صراع الإسلام التاريخي مع أعدائه:
تكلم عن صراع الإسلام مع أعدائه منذ فجر التاريخ في حلقات متتابعة، بينها تشابه كبير في طبيعة الصراع، ليتأسى اللاحق بالسابق {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت، من الآية:43].
وأن مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه هي حلقة في هذه الحلقات، وأن الصراع مع الجاهلية (الانحراف عن هذا الدين وعن حقيقته) هو أمر متوقع، وأن (الجاهلية) كائن عضوي يتحرك تحركًا متوقَعًا للدفاع عن وجوده أمام زحف الحق وهجمته عليه، لأن الباطل حينئذ مهدد في أساسه الذي قام عليه.
(الحلقة الأخيرة من التاريخ الإسلامي ورفض الإسلام لأي انحراف):
كما أشار إلى تاريخ الإسلام في حلقته الأخيرة، وأن الانحراف الذي حدث في تاريخ الأمة هو انحراف عن الإسلام وأنه تاريخ المسلمين البشري، وأن الإسلام لم يقر هذا الانحراف بل الإسلام واضح يحدد المسار الصواب ويحدد درجة الانحراف ويدعو الناس إلى العودة، ولا يقر بالخطأ ولايبرره، فضلاً عن أن يمجده.
ثالث عشر: العداء الصليبي والصهيوني، والوثني، المتحالف ضد الإسلام:
اهتم كثيرًا ببيان العداء العالمي للإسلام، من الصهيونية العالمية منذ خيبر الظافرة، ومن الصليبية العالمية منذ اليرموك الظافرة، ثم تحالفهما ضد الإسلام وتآمرهما عليه، وكذا الحقد الوثني، واستعرض معاناة المسلمين التاريخية مع الوثنيين التتار والحديثة مع الهند الوثنية والصين الشيوعية ومعاناة المسلمين مع روسيا إبّان الاتحاد السوفيتي.
كما استعرض الحقد الصليبي التاريخي مع الحملات الصليبية القديمة، وقال أن الاستعمار الحديث هو حلقة صليبية معاصرة هي في حقيقتها امتداد للحملات الأولى، وأن من الخداع للمسلمين القول أن هذه الحروب انتهت، بل الحقيقة أن الغرب رغم علمانيته ما زال يحتفظ بالحقد الصليبي ضد المسلمين بسببٍ تاريخي وما قام به الإسلام من اقتطاع مقاطعات في قلب أوروبا فيدخل أهلها في الإسلام طواعية ثم يصيرون جندا لهذا الدين، وأنه ما زالت ذاكرته تحتفظ بهذا إلى اليوم، وأن كثيرًا من تحركات الغرب ضد العالم الإسلامي لا تفسر إلا بهذا الدافع الصليبي.
رابع عشر: الجيل الفريد، عوامل نشـأته، وخصائصه:
تكلم كثيرًا عن خصائص الجيل الفريد وأثر القرآن فيه -جيل الصحابة الكرام، تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم- والفترة الراشدة، كجيل وفترة مقياس للأمة وأفق وضيء يُستهدف الوصول إليه، فيرتفع الناس وهم يسمون إليه، ومنهم من يصل إليه أو قريبًا منه.
وهو جيل كان للقرآن أثره الأساسي فيه، والسنة من أثر القرآن، وأن انطباعهم بالقرآن أعطاهم هذا التفرد، بجمعهم بين العلم والعمل وربط التوجيه بالخطأ ، واعتمادهم منهج التلقي للتنفيذ، وانفراد القرآن -بعمقه- بالتأثير عليهم في تكوينهم ومنهج حياتهم، ثم يتناولون بعد هذا الاطلاع على حضارات الغير فينظرون إليه من خلال ما قرره هذا الكتاب العظيم، كتاب هذه الدعوة.
وقال أن الجيل المهيأ للاقتراب من الخلافة الراشدة والجيل الأول والوصول قريبًا منه -مع تفرد الجيل الأول وأنه لا يتكرر- هو هذا الجيل الذي يواجه بالإسلام اليوم مواجهة شاملة أمام ذلك الانحراف الطاغي عن دين الله تعالى، سواء في العالم الغربي والشرقي، أو في داخل البلاد الإسلامية بابتعادها عن تحكيم هذا الدين وتسليمه قيادة الحياة بتصوراته وشرائعه وقوانينه وهويته ورابطته، والاكتفاء بالعقيدة المستكنة في الضمائر والشرائع التعبدية دون الأخذ بالشرائع الربانية التي جاءت لتلبي احتياج البشرية والتي بدونها تضل عن الجادة.
خامس عشر: ضرورة وجود فئة تحمل الإسلام، وتحمل الأمة كلها على الطريق، لتمكين دين الله تعالى:
تكلم الأستاذ الشهيد رحمه الله عن ضرورة وجود فئة وتيار يحمل بقية المجتمع، يحمل هذا الدين بفهم صافٍ، وتطبيق فائق، ورؤية بلا غبش، وتربية عميقة، وتضحية نبيلة بإخلاص وتجرد، وصدق في العمل مع الله تعالى، لإقامة الإسلام في الأرض بلا شهوة لمن يحمله ولا نصيب لنفسه في نصر الإسلام إلا مجرد القيام بالعبودية المطلوبة، سواء تم النصر على يد هذه الفئة أو استشهد البعض وأكمل الباقي، إنما هو العطاء في كل لحظة بحسب هذه اللحظة.
سادس عشر: معنى العزلة الشعورية، وضرورتها، مع معايشة الأمة وقضاياها:
أمام الانحراف عن هذا الدين أو محاربته ورفض شريعته ورفض حاكميته المهيمنة على الشرائع القانونية..
أمام رفض منهجه في الفن والفكر وتنظيمه الإجتماعي ونظامه الإقتصادي ونظامه السياسي، وأمام الإيغال في الإباحية أو الشرود أو الإعراض عن الاهتمام بقضاياه، وأمام حالة التماهي مع الباطل والغيبوبة العامة..
أمام هذا كله كان ما تكلم عنه من العزلة الشعورية، هي ليست استعلاء على الناس ولا عزلة عن جموع المسلمين وجماهيرهم، إنما هي تطبيق لقوله تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216] بمعنى التبري من الانحراف والوقوف بحسم أمام أهله، ولو بالقلب، حتى لا ينحني المسلم أو يشعر بضعف أمام تيار الانحراف وحالات الشرود، وهي براءة وحسم واستعلاء أمام الخنادق المعادية للإسلام الذين يحاربون من أجل الإباحية ويقاتلون من أجل العلمانية ومن أجل تنحية هذا الدين، بل ويحاربون من أجل التبعية للغرب.
في الوقت عينه يقول أننا يجب ألا نترك الناس ولا أن نستعلي عليهم أو نعتزلهم، فإننا حينئذ لم نصنع شيئاً ذا بال، بل يجب مخالطتهم والحنو على ضعفهم بل وأن نتلمس فيهم جوانب الخير لنخاطبهم من خلالها، ولو بحثنا عنها فلن نعدمها، وحينئذ يجب أن ننمي هذا الجانب الخيّر فيهم ونخاطبهم من خلاله، ولو علموا منا الصدق سيتجاوبون معه، نحن عندئذ لا نتملقهم بل نبحث عن الخير، وسنجده لنبني عليه.
هكذا يقول رحمه الله، أما العزلة التي أشار إليها فهي براءة من أي انحراف يراه، خاصة عندما تتبناه رايات محددة ورموز تدعو إليه وأشخاص يجندون أنفسهم من أجله، ويصبح له تيارات تحمله.
وهي أمر مهم ومطلوب كذلك لأنها تمثل القوة النفسية والروحية في مواجهة الباطل والبراءة منه حين يطغى الانحراف حتى يصير ظاهرة.
هذه البراءة وهذا الاستعلاء ضروري لئلا يتضعضع المسلم أو يهن أمام الباطل ورموزه وخنادقه؛ فيثق فيما معه ويسمو به ليصحح الانحراف ويعيد الأوضاع إلى دين الله تعالى بعزة وقوة.
سابع عشر: الإسلام هو الحضارة:
الإسلام هو الحضارة، هكذا أوضح وبيّن؛ فقرر رحمه الله أن الإسلام هو أسمى حالة تحضر للمخلوق البشري، وأن تحقيقه هو أسمى حالة حضارية للإنسان، وهو أسمى حالة حضارية كذلك للمجتمع الذي يستهدف إقامة هذا الدين وتحقيقه في شكل مؤسسي وجماعي وقيم سائدة وعمل عام، حتى يصبح الإسلام هو المشروع الحضاري للأمة وللمجتمع، وعندئذ فهو في قمة الحضارة في علاقته بربه تعالى وبنفسه وبالكون من حوله، وبالخلق، مؤمنهم وكافرهم.
الإسلام الذي يأتي للعرايا في أفريقيا فيستر عوراتهم ويعرفهم معنى العورة ووجوب سترها، ويعلمهم النظافة والتطهر للصلاة، وحرمة الأعراض والدماء، وحقوق الغير، والحياة الإجتماعية والانتصار للحق واحترام القيادة المسلمة مع احترام الحياة وترقيتها، فها هي الحضارة والتحضر يرفعهم إليها الإسلام؛ فما الحضارة غير ذلك؟
فمع أي مستوى مادي كان فيه الإنسان يستطيع أن يكون في قمة التحضر بهذا الدين..
ولهذا فالإسلام هو الحضارة.
الحضارة التي يحتاجها الرجل الغربي عندما يأتيه الإسلام فيربطه بالله تعالى ويؤلّه رب العالمين، لا المادة ولا الآلة ولا اللذة ولا المنفعة الخاصة الطاغية، ويلغي الإباحية المقيتة والظلم المرير واستعباد الشعوب..
الإسلام هو الحضارة.
ثامن عشر: واقعية وجدية وإيجابية الإسلام كما عرضه:
الإسلام الذي عرضه ليس تراتيلاً على مسابح، أو اعتقادًا منعزلاً، أو حملة مباخر لخدمة الطغيان والانحراف، بل الإسلام الذي عرضه هو نسيجٌ وحده، ومنهج متفرد، وفطري، وعميق التأثير في النفوس كما في التاريخ، منهج للبشر، بطاقاتهم وإمكانياتهم، يراعي ضعفهم ورغباتهم وأشواقهم، ومع معرفته بضعفهم فهو يعرف إمكاناتهم ويستطيع بمنهجه الفريد والفطري والناجح أن يرتفع بهم إلى أفق لم يتصوروا وصولهم إليه..
وتجربته ماثلة في التاريخ.
الإسلام الذي عرضه قوة إيجابية، وطاقة بنّاءة، ووسائل مكافئة، ودين واقعي، وتصحيح عميق لأصل الانحراف، ومواجهة جذرية مع الباطل، وموقف مبدئي مع الحق وضد الباطل.
ما عرضه ينهي التشغيب على الحق أو وضعه في موقف الدفاع والتبرير، بل كان يهاجم الباطل ويقض مضاجعه ويقلقه ويجتثه من جذوره في مواجهة لا تنقصها الحقيقة كما لا ينقصها الإيمان بالله تعالى والشعور به والتوكل عليه، بل والشعور بالملأ الأعلى ورفقة الأنبياء والصالحين.
إسلام شامل ومنهج كامل وعزيز، منهج يقرر ما يراه صالحًا من القيم والأخلاق والأحكام والأوضاع، ويلغي ما يراه خطأ، ويبني الحياة من جديد ويعيد صياغة النفوس والمجتمعات صياغة خالصة ومتفردة ودون تأثير عليه، مع مرونته واستيعابه لأي مرحلة حضارية من حيث الأدوات المادية.
قرر حقيقة الإسلام بالنصوص لا العرف، وقرر غياب الوجود المؤسسي للإسلام، وعرّى من يعادي الإسلام ومن يجهد في إلغاء وجوده شريعةً وهويةً مع القول باحترامه! وبيّن أن الطواغيت المحليين هم أدوات للصهيونية والصليبية المتحالفة ضد الإسلام، وأنهم قد يصطنعون عداء مع الغرب لقيام بطولة ورَقية زائفة للضحك على الشعوب المقهورة المستذلة لتزداد تمطيا لأعناقها ليركب هؤلاء الطواغيت ويقودوها لحتفها.
تاسع عشر: حقيقة الجهاد في سبيل الله وإيجابيته ودوره التحريري، والفرق بينه وبين الاكراه على العقائد:
أوضح رحمه الله بإسهاب وتكرار -لتجلية الأمر وتوضيحه- دور وحقيقة الجهاد في سبيل الله، واللعبة المكررة؛ حيث يقوم أعداء هذا الدين بمهاجمة الاسلام واتهامه أنه دين عدواني وأنه انتشر بحد السيف، وأن الدليل على هذا هو الجهاد في سبيل الله، وأن الجهاد هو أشبه بالهجمات البربرية المتوحشة وشواطىء تقذف جنودًا ينهبون البلاد وخيراتها ويذبحون الشعوب ويجبرونها على تغيير دينها وعقيدتها! وهو كذب مقيت.
والطرف الآخر من اللعبة هو قيام بعض منتسبي هذا الدين، من علمائه ورموزه -بخبث، أو بطيبة وحسن نية- فينفون عن الاسلام هذه الاتهامات -هو أمر صحيح- لكن لا على سبيل بيان الدور الحقيقي للجهاد وإنما على سبيل نفي دور الجهاد وحصره في (الدفاع) عن (حدود) (الأوطان الإسلامية)، كأن الاسلام قد انحصر دوره داخل حدود معينة.
فأوضح رحمه الله دور الجهاد بناء على حقيقة الاسلام، فالاسلام لو كان عقيدة فقط فالجهاد عندئذ لا يكون الا في إطار الدفاع فحسب، لكن الاسلام (عقيدة ومنهج) (عقيدة تنبثق منها شريعة يقوم على هذه الشريعة نظام ومنهج).
وبالتالي فالإسلام يواجه عقائد مخالفة، كما يواجه أنظمة وأوضاعًا قامت على تلك العقائد وهي حواجز مادية أمام الاسلام، كما أن للإسلام رسالته التحريرية للبشرية وواجب ملقى على أهله أن ينقذوا الخلق من الشرك ومن المصير الذي يقودهم إليه عند لقاء الله تعالى.
ولواقعية الاسلام فإنه يواجه كل عائق بما يكافئه، فالعقيدة لا يجدي معها العنف، فهي تقوم على الإقناع، ولهذا فلا إكراه في الدين، يعني على اعتناق عقيدته.
وأما الأنظمة والأوضاع المخالفة والباطلة والتي تمثل عائقا أمام هذا الدين فتمنع وصوله إلى الناس وتشوه الاسلام وتفتن من أراده، ولهذا فهي تواجَه بالوسائل المادية المكافئة، ولهذا كان الجهاد في سبيل الله تعالى لإزالة تلك العوائق من أجل حرية وصول هذا الدين إلى الناس والأفراد وحرية اعتناقه أورفضه بلا إكراه، لكن في ظل إقامة النظام السياسي والاجتماعي لهذا الدين ليراه الناس مطبقًا بنظامه ومنهجه المتفرد، ثم يترك الخيار للناس في اعتناقه أو عدمه، وقد فرق القرآن بين إعلاء كلمة الله، وهي مجموع ما أنزل تعالى لإقامة منهج الإسلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، وبين حرية الايمان والاعتقاد فهذا لا إكراه عليه.
فلا يجب نزع حركة الإسلام التحريرية عنه، كما لا يحصر عمل الإسلام داخل حدود معينة، فمجال عمل الإسلام هو الأرض كلها وموضوعه هو البشرية بجملتها.
عشرون: سماته المتفردة في الظلال:
كان من أبرز ما ميزه في (الظلال) هو النظر إلى السورة القرآنية نظرة كلية بحيث يحدد موضوعاتها الرئيسية ومحاورها، ويحدد خطوطها وشخصيتها وجوها وإيقاعها ومشاهدها وألوانها وصورها، وعلاقة هذا الجو والإيقاع والشخصية بالموضوعات والمحاور التي تتناولها.
كما تناول خصائص القرآن المكي وقضاياه العقدية وتناوله المتنوع لقضايا العقيدة تناولاً يجعله كل مرة جديدًا، كأنه أول مرة يطرقه، فخاطب الفطرة في حقيقتها ومعرفتها بربها من وراء ركام العقائد الزائفة والأوضاع المنحرفة والمظالم المتراكبة، فاستنقذها وعرفت ربها، وسما بها إلى أفق وضيء عظيم لم تحلم أن تصل إليه.
كما عرض العقيدة في التاريخ البشري ومصارع الأمم الغابرة، كما عرضه في ضعف النفوس في ظلمات الحاجة والاضطرار وهي عارية ضعيفة لا حول لها ولا قوة..
كما عرضها في مشاهد الآخرة وأهوالها.
كما عرض للقرآن المدني وتفصيلات أحكامه وملامح النظام الذي يستهدف الإسلام إقامته.
ثم أوضح من خلال (الظلال) المفاهيم العقدية لحقيقة الإسلام، والحركة بهذا الدين، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، ومستوى الإيمان الشفيف والسامق الذي سار عليه موكب الإيمان ورموزه عبر التاريخ.
كما تناول تفاصيل الأحكام التي جاء بها القرآن من حيث دلالته على المنهج الرباني والنظام الإسلامي كسِمات وخصائص.
كما تناول تعامل القرآن مع النفس البشرية ودروبها ومساربها والتواءاتها، وضعفها وطوحها وسموها، وكيف يسمو بها ويربيها وهو يعترف بضعفها كما يعترف بقوتها وإيجابياتها، والتأكيد على عدم تقديس الضعف بل هو لحظة يُعترف بها لا لتمجد بل للخروج منها إلى الخير الذي هو بدوره أصيل في النفس البشرية.
كانت ظلاله رحمه الله تتسم بخاصيتين متلازمتين: الأولى: العمق العلمي والقضايا الجادة التي استهدف بيانها، والثانية: الروح الإيمانية العميقة؛ فما قرأه قارىء إلا ازداد إيمانًا ويقينًا ودمعت عيناه، كما يتعلم ويستوعب قضايا مصيرية وحقائق هذا الدين وحركته عبر التاريخ وعبر النفوس البشرية..
هذا مع الأسلوب المتميز والتعبير الموحي والرائق.
واحد وعشرون: الفرق ما بين أوضحه وعاشه ومات من أجله، وبين ما يلتقطه البطّالون:
هذا بعض مما قرره وعاش من أجله..
فتركوا هذه الدرر الثمينة وهذا البيان المتزن لدين الله تعالى القويم، وذهبوا ليلتقطوا كلمة تحتمل أو تعبيرًا يفصلونه عن سياقه وعن بقية كتاباته ويضعون تحته آلاف الخطوط ويوجهون تهمًا وصلت لحد الإسفاف، ليهربوا من الحقيقة الماثلة التي لا يتحملون بيانها لأنها تحتاج إلى رجال، ولأنهم قد يخسرون دنياهم أو شهواتها القذرة ثمنًا لها.
كل من تكلم في تكفيره للمجتمعات أو عدم تكفيره لم يقتربوا من هذه الحقائق الضخمة التي ضاعت في زحمة الاتهامات الباطلة والدفاع عن الاتهامات.
هناك قضية يا أفاضل، هناك صرخة يا سادة، هناك دين محارَب وأمة ضائعة وشعوب تُذبح أو تجهز للذبح!! خلاصُها في هذا الحق فهلّا حملتموه؟ ألا بعض من جدية؟ ألا بعض من صدق؟ ألا نترك الدجل واللف والدوران، بينما الشهداء يتساقطون والمخططات تمر في الأمة مرور السكين في الجبن لا يوقفها إلا قلة استيقظت.
قطب لم يكفر المسلمين، قطب لم يكفر الأمة، بل حمل همّ الأمة وآلامها في قلبه، وقرر مفاهيم الإسلام الصافية لاستئناف الحياة على وفق هذا الدين الرباني، أمانة الله وكلمته ونجاة البشرية ورسالة المسلمين.
نعلم أن هذا الصفاء والوضوح لا يعجب فقهاء الميتة ولحى النصابين وشيوخ المخابرات، لكن في الأمة خير كثير وصادقون كثُر نأمل فيهم الخير والجدية.
كان يبحث عن الفئة التي تعزم العزمة وتمضي في الطريق وتعقد البيعة مع رب العالمين، وقد مضى الرجل موفياً -فيما نحسب- بما قاله وما اعتقده وما دعا إليه، فاتركوا بنيات الطريق وعليكم بالجادة.
وليكونن لهذا الحق شأن وإنه ما زال يحدد المسار ويهدي السائرين ويدل على الطريق..
وتعانقه القلوب ، وما اقترب منه قلب صادق إلا التقطه وعرفه، ما زال الناس ينهلون من هذا البيان ويميزون بينه وبين المموهين والمدجلين برغم حملات التشويه البشعة والضخمة، والتي تخدم الحق من حيث لا تدري!! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
وأخيرًا..
الخاتمة
وتبقى الشهادة
سيد قطب..
عندما تتكلم الشهادة
تكلم قطب رحمه الله عن الشهادة قبل أن يؤديها لربه تعالى ثم لأمته..
فللشهادة معانٍ وغايات، والشهادة تؤدي وظيفة في مسيرة هذا الدين وفي حياة هذه الأمة..
وفي الملأ الأعلى..
الشهادة جزء من حركة الحياة وجزء أصيل من تكوين هذا الكون.
حدث في الملأ الأعلى أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، وأنهم استفهموا عن كون أن يكون الخليفة يفسد ويسفك، فكان الجواب أن في علم الغيب من الغايات الحميدة ما لا يعلمونه الآن، وقد كانت الشهادة في سبيل الله بأن يقدم هذا الخليفة روحه ودمه لربه راضيًا، محارباً لمسخوطات ربه تعالى وحملاً لمنهجه وأمره، كانت هذه الشهادة بعض الإجابة العملية على سؤالهم، حتى إذا رأوها علموا بعض مرامي حكمة رب العالمين.
الشهادة توقيع عن عقيدة وموقف، توقيع بدم وروح وحياة..
الشهادة صدق عميق فلا تدع مجالاً لكذب النفس أو التوائها أو أن تعاهد فتغدر أو تفجر أو تتأخر أو تتقاعس أو تتلكأ أو تتردد..
الشهادة لحظة اختيار حاسم بين غيب وشهادة بين سماء وأرض بين خلود وفناء.
الشهادة صلة بمن له الوجود الأزلي والأبدي، ليخلد ذلك المخلوق الفاني بارتباطه بربه تعالى.
الشهادة طيبة عميقة وغريبة، شخص يحمل قضية ودعوة فلا يكتفي بها لنفسه بل يريدها للخلق كلهم، ثم ينفر المدعوون الشاردون عن الحق وعما يصلحهم، فيقدم الشهيد دعوته إليهم، ثم يقدم عمره كله لإيصال ذلك الخير، فما أحسن أثره على الناس وما أسوأ أثر الناس عليه.
لم يذكر ربك تعالى أن أحدًا يدعو قومه في حياته وبعد مماته إلا الشهيد، فصاحب يس دعا لربه في حياته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس، من الآية:20]، ثم بعد أن قتلوه ونال الشهادة لم يجد في قلبه حقدًا، بل وجد رغبة في إيصال الخير إليهم، لم يستطع هو إيصالها بنفسه لبعد الديار! لكن أوصلها ربك تعالى، فقال بعد الشهادة {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ .
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27].
ولما استشهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم نفس الشعور الكريم، روى البخاري قال: قَالَ أَنَسٌ: "أُنزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: «بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ»".
ثم نزل القرآن الناسخ الذي يُتلى إلى اليوم عندما وجدوا كرامة الله تعالى لم تضق صدورهم أن ينالها من لم يزل في الحياة بل استبشروا لهم وتمنوا لهم الخير {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169-171].
إنهم ينتظرون إخوانهم ويتمنون لهم الخير، طيبة عميقة تحتاج النفوس اليوم أن تتدرب عليها.
الشهادة أثر باق وانفعال متبادل وفعل مؤثر دائم.
الشهادة طاقة تتفجر كل حين.
الشهادة كلمة ثقيلة لا تستطيع الأفواه الكاذبة ولا الإعلام المضلل أن يمحوها.
الشهادة بقتل أولياء الله تعالى توجب غضب الرب وانتقامه فإن الله تعالى ذكر من ضمن حكمة المحن والشهادة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ .
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141]، قال ابن القيم أنهم بقتلهم أولياءه تعالى يستحقون غضبه فيمحقهم.
وقال عن المؤمن في سورة يس بعد دخوله الجنة وهناءته فيها؛ أنه وإن تنعم لكن غضب الله تعالى على قاتليه فقال تعالى بعده: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين .
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} [يس:28-29] فكأن الشهادة استعجال لخطو السماء، واستعجال لفصل القضاء، واستمطار لرحمة الله بالمؤمنين المستضعفين، واستنزال لعقوبته تعالى على المعرضين المحادّين لهذا الدين.
الشهادة كلمة صاخبة جدًا في هدوء شديد، وهادئة بين الصخب؛ حيث صخب النفوس وصراعها على نصيبها من هذه الحياة وتنافسها، فيتقدم الشهيد في هدوء شديد، كأنه يقول: فيم تتقاتلون؟! فيقدم تلك الحياة زهيدة رخيصة عن رضى وطواعية، مشترياً الآخرة والجنة، فتصل رسالة شديدة القرع على النفوس عالية الصخب على القلوب، فتظل تتساءل، حتى ولو هربت من السؤال، لكنه يظل يطاردها لماذا تخلى عن شيء نتنافس نحن ونحلم ببعضه؟ هل ثمة ما هو أغلى قد ذهب إليه واختاره؟
الشهادة صفقة يشتري الآخرة بما فيها ويبيع تلك الدنيا ، صفقة يشتري الغيب ويبيع الشهادة.
الشهادة قد تكون تتويجًا لعمر وجهد وعمل دؤوب، وقد تكون مكافأة لخبيئة خير في قلب طيب مخلص شفاف، أو لخبيئة خير يجازى أن يغسل صاحبها من ذنوبه بدمه..
لا تنسَ فالشهادة درجات.
الشهادة ليست نهاية فرد ولا نهاية قصة حياة بل هي طاقة جبارة وقوة ايجابية لتعديل مسار الحياة، وقرع صاخب للدلالة على الحق، وإزعاج داوٍ للباطل، وإسقاط عميق له، وإفقاد لشرعيته، وهزيمة لانتفاشته.
الشهادة انبلاج لصبح جديد، يرفع ستاره أطيب الخلق وخيرهم والفئة المصطفاة والمختارة، اتخذها الله شهداء لنفسه ولغيبه ولطريقه ومنهجه، يضعون بصمتهم فتحتفظ بها الحياة في حناياها والنفوس في ثناياها.
تبقى الشهادة ضمن قوله تعالى للملائكة {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
هذه الشهادة بالموت، وتبقى شهادة أخرى برحلة الحياة ذاتها واختيار الإنسان فيها لدين الله ومنهجه؛ يحيا من أجله لحظة بلحظة، ويعمل من أجله لحظة بلحظة، بل بكل قطرة من دمه؛ قطرةً قطرة، فيحيا شهيدا بحياته ذاتها، سواء توّجت حياته بقتل في سبيل الله أو بقي وفيا صادقا لآخر عمره حيث تسبّح أنفاسه، قال الحواريون {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة من الآية:83]، وهي نوع آخر من الشهادة أشار إليها الأستاذ الشهيد رحمه الله.
قال رحمه الله: "تبقى كلماتنا عرائس من الشموع، فإذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة".
بقيت كلماته وكلمات إخوانه من الشهداء حية صاخبة تزعج الباطل وتنير الطريق وتهز النفوس وتقرع الأسماع وتوصل الخير والحق إلى ما شاء الله..
عندما تتكلم الشهادة.