شرح العقيدة الطحاوية [16]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري:

ظاهر كلام الشيخ رحمه الله تعالى: أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان)، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولاشك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار؛ لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.

وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها من القائلين بحوادث لا آخر لها؛ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما؛ فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد كما وصف بذلك نفسه حيث يقول: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16] ].

ملخص هذا الكلام أنه يجب أن نفرق في التسلسل بين أمرين: بين التسلسل في أفعال الله تعالى وبين التسلسل في الأسباب والمؤثرات، فالتسلسل في أفعال الله تعالى واقع، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أفعاله لا تنتهي، كما أنها في الأزل، ولا يمكن أن نقول: إنها حدثت استئنافاً، خاصة فيما يتعلق بقدرة الله على الأفعال، فالله سبحانه وتعالى خالق قبل أن يوجد الخلق، وحينما وجدت المخلوقات علم أن قدرة الله على الخلق متجددة، وهذا في الأزل وإلى الأبد؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وأوليته أولية مطلقة في أفعاله وأسمائه وصفاته.

وكذلك التسلسل في أفعال الله الأخرى غير مسألة الخلق، كمثل مسألة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متكلم على ما يليق بجلاله، حتى قبل أن يحدث الكلام منه سبحانه فيما يخص الخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمنا بأنه تكلم فيما يتعلق بمصالح العباد، كتكلمه بالقرآن، وندائه لخلقه يوم القيامة ونحو ذلك، فهذا ما نعلمه، وما لا نعلمه لا ينتهي، فالله قدرته مطلقة، وهو متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى ما لا نهاية، وهذا يعني: أن الله يتكلم متى شاء، فهذا معنى التسلسل في أفعال الله تعالى، فأفعال الله تعالى ليس لها بداية وليس لها نهاية، وهذا يعني الكمال المطلق.

لكن الممنوع هو التسلسل في المؤثرات، أي: في المخلوقات، في تأثر المخلوقات، أو تأثير بعض المخلوقات في بعض، فالمخلوقات قد يكون بعضها علة لآخر، فالإنسان مخلوق من طين ثم يعود إلى طين ثم يبعث يوم القيامة، وهكذا تتسلسل أحواله، فهذا التسلسل في المخلوقات لابد من أن ينتهي، بمعنى: أن علة الشيء لا تبقى علة إلى الأبد.

إذاً: فالتسلسل في الأسباب والمؤثرات ممتنع، أما التسلسل في أفعال الله تعالى فلا نهاية له، وهذا أمر لا يمكن أن يدرك على وجه التفصيل والإحاطة، فأفعال الله لا يمكن أن تدرك على وجه التفصيل والإحاطة، وكل ما تكلم به المتكلمون في أفعال الله تعالى إنما هو رجم بالغيب وتوهم لا حقيقة له، فالله أعظم وأجل من أن تحيط عقول البشر بما يتعلق بذاته وأفعاله سبحانه.

فالتسلسل في المخلوقات وربط بعضها ببعض أو انبثاق بعضها عن بعض أمر لابد من أن يكون له نهاية، وإلا وقعنا في الدور؛ لأن كل سبب له سبب إلى ما لا نهاية، وهذا لا يمكن، من أجل أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الفعال لما يريد.

أما أفعال الله تعالى فلا يجوز أن نتصور أن لها نهاية ولا بداية بمفهومنا المحدود بالبداية الزمنية، والأولى ألا نخوض بمثل ما خاض به الخائضون، لكن دفعاً لشبهاتهم التي لا تندفع إلا بمثل هذا الكلام الضروري كان لابد من الكلام، والسلف اضطروا للكلام في هذه المسائل لمقاومة تيار المتكلمين الذي ساد في الأمة، حتى إنا نجد الآن ومنذ زمن بعد القرون الثلاثة الماضية أن أغلب من ينسبون إلى العلم مبتلون بعلم الكلام، فإذا كان كذلك فلابد من البيان.

فالقول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي معناه: أنه يمتنع أن تكون المخلوقات بعضها سبباً لبعض إلى ما لا نهاية له في الماضي، فلابد من أن تكون المخلوقات قد بدأت بخلق الله تعالى بكلمة (كن) أو بما قدره الله سبحانه وتعالى في خلقه وفعله.

وأما في المستقبل فالله أخبرنا بأن هناك أبدية لا تنتهي، وهي أبدية الجنة والنار، فهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا بأن هناك من مخلوقاته ما لا ينتهي، فيبقى احتمال التسلسل في المفعولات في المستقبل وارداً بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي بعض أهل العلم، ومع ذلك فإن أمر المستقبل اللامتناهي أمر لا يمكن أن تحيط به العقول.

لكن نظراً لأن جهماً زعم أنه لا يمكن أن تتسلسل الحوادث مستقبلاً، ومن هنا قرر بزعمه أن الجنة والنار تنتهيان وتبيدان؛ تكلم بعض أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: إن التسلسل في المستقبل ليس له نهاية بقدرة الله سبحانه وتعالى في بعض المخلوقات.

وهذه المسألة لولا أنها في الكتاب والتزمنا أن نقرأ الكتاب لما جئنا بها أبداً، فأنتم -بحمد الله- كلكم على الفطرة ويجب أن تبقوا كذلك، لكن نظراً لوجود اللبس ووجود من تكلم قد يضطر من يقرر العقيدة أن يتكلم في هذه الأمور، فمن استطاع منكم أن ينسى ما ورد من مسائل كلامية فالأولى له أن ينسى، ومن لم يستطع فيكفيه أن يقول: آمنت بالله، ثم يستقيم على دين الله.

قال رحمه الله تعالى: [والآية تدل على أمور:

أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.

الثاني: أنه لم يزل كذلك؛ لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن.

الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله، فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر، فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية وخبطوا في مسألة القدر لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلاً، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى ].

ملخص هذه المسألة: أن إرادة الله -كما هو معلوم- لا حدود لها، فالله يفعل ما يريد، وكل ما تكلم به المتكلمون من القدرية وغيرهم في مسألة فعل الله تعالى وقدرته إنما هو أوهام في أذهانهم لا تتعدى أن تكون مجرد وساوس.

أما كلامه في هذه المسألة ففيما يتعلق بفعل العبد وإرادة الله أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً، أراد بهذا التفريق بين الإرادة الكونية العامة وبين إرادة خلقه.

فالله سبحانه وتعالى أراد كل شيء إرادة كونية عامة، وكل ما أراده الله كوناً لابد من أن يقع، لكن هناك إرادة أخرى وهي الإرادة الشرعية الدينية، فهذه الإرادة الشرعية الدينية يريدها الله من العبد، ولكن قد لا يفعلها العبد لأسباب الضلالة التي تسلط على العباد، فالله سبحانه وتعالى جعل من أسباب الضلالة الهوى ووساوس الشيطان.

ومثال ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يريد من العباد الإسلام، والكافر لم يفعل ما يريده الله، فكون الكافر لم يفعل ما يريد الله يعني: أنه تخلف عن إرادة أرادها الله شرعاً، والله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء على العباد، ومن الابتلاء أن أعطى الناس القدرة على تمييز الخير من الشر، ثم القدرة على فعل الخير باختيار وعلى فعل الشر باختيار، وإرادته الدينية متعلقة بما يرضاه ويحبه.

وقد لا يفعل كثير من العباد ما يريده الله ويحبه مما أمر الله به، وهذا هو الفرق بين الإرادتين، فلم يستطع القدرية أن يفرقوا بينهما؛ لأنهم حكموا عقولهم كما هو معروف.

فالشارح يقول: [الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله؛ فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله].

فالله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً إرادة كونية فعله، وهي المشيئة، فإذا شاء شيئاً فعله، هذا معنى الإرادة هنا.

قال رحمه الله تعالى: [وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر].

فإرادة الله تعالى المتعلقة بفعل العبد على نوعين.

قال رحمه الله تعالى: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه] أي: أراد إرادة دينية أن يطيعه العبد -كأن يصلي- ولكن لم يرد سبحانه وتعالى أن يهدي هذا العبد؛ فإن هذه الإرادة تتخلف؛ لأنها أنيطت بفعل المكلف، وهو العبد الذي أمر أن يفعل ما يريده الله أو ما يرضاه الله ويحبه، فلما لم يفعل تخلفت الإرادة، فالله لم يرد في نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً ولم يوجد الفعل، فلو أوجد المعصية في العبد العاصي بغير اختياره صار مجبوراً، والمجبور لا يكلف، فلو أن الله سبحانه وتعالى جعل العباد يصلون قصراً دون إرادة التغت إرادتهم، فصاروا كالأنعام.

فالشارح رحمه الله تعالى يقول: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية] فالجبرية يزعمون أن كل شيء بإرادة الله، ولا يقرون بإرادته الدينية، فيزعمون أن العاصي قسره الله وأجبره على المعصية.

وهذا خطأ يدركه كل إنسان عاقل؛ لأن العاقل يدرك أنه يميز بين الخير والشر، وإذا لم يميز فإنه يجد الهادي إلى الخير والمحذر من الشر وهو الوحي، حتى ولو لم يدركه عقله، فكل عبد عاقل يجد من نفسه الميل إلى فعل الطاعات التي هي بمقدوره، كما أنه يجد من نفسه الميل إلى الهوى والشهوات، فإذا كان كذلك فإن الإرادة الدينية متعلقة بفعل العبد، فإن فعلها وقعت، فإن لم يفعلها لم تقع، لا لأن الله عاجز كما يزعم القدرية، بل لأن الله أناطها بفعل العبد، وهذا هو سر التكليف وهو سر الابتلاء، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق، فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.

الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد.

السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله، فإنه تعالى فعال لما يريد، وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، وإثبات ما يشاء، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] سبحانه وتعالى].

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق).

يعني: أن الله تعالى موصوف بأنه (الرب) قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه (خالق) قبل أن يوجد مخلوق، قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون (الخالقية)؛ لأن (الخالق) هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، و(الرب) يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية، وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية. انتهى.

وفيه نظر؛ لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضاً].

التفريق بين العبارتين فيه شيء من التكلف، وإن كان الإمام الطحاوي رحمه الله قد يكون راعى أموراً في تعبيره عن الربوبية بالمصدر وعن الخالق باسم الفاعل، ولعل من هذه الأمور: أن الربوبية أشمل معنى، لا على نحو ما ذكره الشارح لكنها (أشمل)؛ لأنها تشمل الخلق وزيادة.

وهناك معنى آخر، وهو أن مسألة الربوبية قد يختلط مفهومها عند الناس، بمعنى أنهم قد يزعمون الربوبية أو شيئاً من بعض خصائص الربوبية لغير الله.

فلذلك جاء بلفظ المصدر ليعم، أما مسألة الخلق فليس هناك من يزعم من الأمم الضالة أن الخالق غير الله، وإن نسبوا بعض الخلق إلى غير الله فإنهم مع ذلك يعترفون بأن الخالق الأول والخالق القادر الباقي سبحانه وتعالى هو الله سبحانه وتعالى.

فعبر بلفظ (الربوبية) ولم يقل: الرب؛ ليزيل ما في ذلك من مفهوم كثير من الذين ضلوا بأن أعطوا بعض الخلق شيئاً من خصائص الربوبية، فحصر الربوبية كلها لله سبحانه وتعالى، أما الخلق فالناس معترفون بأنه وحده الخالق.

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم):

يعني: أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه (محيي الموتى) قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه (خالق) قبل خلقهم، إلزاماً للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم، وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء].

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]):

(ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام على (كل) وشمولها وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.

وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم! وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء!

وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته -مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة-؛ فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء.

ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال.

وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج ].

هذا كله من باب السفسطة والجدال العقيم الذي لا ناتج وراءه، بل مما هو يمرض القلوب، فالذين تكلموا بهذه الأمور الكلامية تأثروا بكلام الفلاسفة الملاحدة المشركين الذين لا يؤمنون بالوحي أصلاً ولا يهتدون بهدي الله، فهؤلاء خاضوا في أمور الغيب بغير علم فتأثر بهم أصحاب هذه الاتجاهات من المتكلمين المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم.

لذلك تنازعوا في أمورٍ الكلامُ كله فيها تحصيل حاصل، بل هو تضييع للوقت والجهد وإماتة للقلوب، كتنازعهم في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا، فهذا كله من الفلسفة التي لا تثمر؛ لأن المعدوم الممكن في الذهن وليس في الواقع، مثاله: أن يفترض إنسان أن الله سبحانه وتعالى قادر على خلق جنة أخرى غير الجنة التي ذكرها، فهذا ممكن، ويقولون: هذه الجنة المفترضة معدومة؛ لأنها لم توجد، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى أنها ستوجد.

إذاً: ما الذي يترتب على تصورها أو تصور أنها شيء أو غير شيء؟! كل ذلك إنما هو من السفسطة التي لا داعي للكلام فيها أبداً، بل الكلام في مثل هذه الأمور لغير ضرورة ملحة -كالبيان والرد على الشبهات- هو من الإثم، ويجب على المسلم أن يتجنب مثل هذه الافتراضات.

قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق أن المعدوم ليس بشيء في الخارج].

يقصد بالخارج خارج الذهن، وهذه -أيضاً- من مشاكل المتكلمين وعباراتهم التي تموه على الناس، فإذا تصورت معدوماً -كجنة غير الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى- فهذا أمر ممكن، لكن تصوره لا يخرج عن الوهم الذي هو في خواطر الإنسان وذهنه، ومعنى (لا وجود لها في الخارج) كونها غير مخلوقة، أو فيما هو خارج الذهن من الموجودات، أو الحيز الذي فيه الموجودات.

قال رحمه الله تعالى: [ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9] أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كان شيئاً في علمه تعالى.

وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] ].


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [68] 3357 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [43] 3122 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [64] 3029 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [19] 2991 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2852 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [23] 2846 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [45] 2830 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [80] 2799 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [92] 2782 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [95] 2756 استماع