أرشيف المقالات

من الجزيء إلى الذرة

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
للدكتور محمد محمود غالي مستقبل الكون والمبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ شيء ورجوع الحياة شيء آخر - اختلاط الجزيئات عملية طبيعية واتحاد الذرات عملية كيميائية - ملاحظة (بروست) - الفكرة الذرية عند (دالتون) إن ما يستشعر القارئ أحياناً من الصعوبة بينا يتابع هذه الأحاديث عن وصف الكون وما يكتنفه من مظاهر لأمر هين، بجانب معرفته في النهاية شيئاً جديداً عما يحيط به من أسرار فهذه غاية تكون بلا شك مدعاة لارتياحه أذكر أن في مارس الماضي عندما كنا نواجه القارئ بأحدث ما نعرفه عن الكون وعن تمدده وأبعاد ما فيه من عوالم بعضها عن بعض - حدث أن اضطررنا عند الكلام عن حيز (ريمان) وحيز (لوباتشفسكي) وعند الكلام عن الحيز الطبيعي وفق رأى (أينشتاين) ووفق رأى (دي سيتير) إلى اللجوء إلى مناقشة مسائل لا شك في أن القارئ وجد في إدراكها شيئاً من الغموض - هذا الغموض الذي اضطررنا إليه اضطراراً كان لزاماً علينا أن نذهب إليه كما كان لزاماً علينا أن نخفف على القارئ بعض الشيء فيما تبع ذلك في مقالاتنا عن الكون الممتد، ولم يكن في طوقي أن ألج موضوعاً دقيقاً كهذا وأخطو بالقارئ فيه خطوات أخرى دون أن يتخلل حديثي فيه فترة من الراحة كذلك كان مقالنا الأخير عن الجزيء الذي لجأنا فيه إلى تفسير بعض القضايا التي يلاقي فيها القارئ بعض الصعوبة، ولم يكن هناك بُد، وقد أخذت على عاتقي أن أقص عليه أهم ما وصل إليه الإنسان من تفكير مُنَظَّم، من أن نذكر فلسفة ليبنز وألا نغفل رأيه القائل بأن الحرارة هي الحركة، وألا نغفل أيضاً كيف فسَّر بولتزمان انتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة، وكيف بين عدم إمكان العملية العكسية. لقد طالعت المقال السابق بعد نشره أكثر من مرة وأعتقد أن الكثيرين من القراء قد فهموا هذا التفسير لبولتزمان وأدركوا هذا النزول الحتمي في الحرارة كنتيجة حتمية لما يحدث من تعديل في حركة جزيئات الجسمين المتلاصقين، بحيث لو تصورنا فريقين مزدحمين من لاعبي كرة القدم، فريقاً سريع الحركة وآخر بطيئها، اختلطا في فناء واحد فإن النت الحتمية لتصادم الفريقين في أثناء اللعب أن يكتسب الفرق البطيء شيئاً من السرعة ويفقد الفريق السريع جانباً منها، ولا يمنع هذا وقوع بعض الحوادث الفردية التي تشاهد أثناء اللعب من أن ينقل لاعب بطئ سرعته إلى لاعب سريع الحركة، إنما النتيجة الحتمية للمجموعة هو اقتراب من تعادل سرعتهما ما دام الصدام مستمراً بينهما. هذا التفسير البولتزماني مفهوم للقارئ، ولكن مما قد لا يستوعبه بالدرجة التي أرغبها هو النتيجة المرتقبة لمصير الكون من أثر هذا القانون الحتمي القائل بالتعادل الحراري، أي التعادل في حركة جزيئات المادة، وهي النتيجة التي لخصناها في أن الكون في مجموعة - الكون الذي فيه نسمع ونرى - سائر حتماً إلى خاتمة يسمونها الموت الحراري، أو الاقتراب من السكون، أو - عند ظن بعض العلماء - عدم إمكان عودة أي شكل من أشكال الحياة بالنسبة لمجموع الحيز.
هذه الخاتمة التي تتلخص في التساوي الحراري مع مرور الزمن نتيجة الانخفاض في الدرجات المرتفعة، والارتفاع في الدرجات الخفيضة، يجعل من الكون في مستقبل العمر وعاء لا تصلح الحياة فيه. وإنما ذكرت للقارئ هذه النتيجة التي يحتملها المبدأ الثاني للترموديناميكا مما يبعث الأسف في نفوسنا ليعرف شيئاً عن تفكير العلماء - هذا التفكير الذي يلجأون إليه نتيجة للمشاهدات والحوادث كل ما أريد أن أطمئن إليه: هو ألا تؤثر هذه النتائج العلمية على القارئ، فتزعزعه عن بعض عقائده الموروثة والخاصة بعودة الحياة.
تلك الفكرة التي لا تتعارض عندي والمبدأ الثاني للترموديناميكا، لأنني كما قدمت لم ألجأ في تعريف الحياة بالحركة بل أعتقد أن ثمة اختلافاً جوهرياً، وغير مفهوم لنا، بيننا وبين التفاحة التي نأكلها، أو المحبرة التي نُملي منها هذا المقال.
إنما أردت في مناقشة علاقة المبدأ الثاني للترمودينا ميكا بمستقبل الكون أن أوجه نظر القارئ إلى ناحية م نواحي تفكير العلماء: كيف يتسنى أن تكون لمسائل نعتبرها طفيفة نتائج خطيرة على تفكيرنا وفهمنا للكون.

وله أن يتأمل الآن قليلاً: كيف، من حقيقة يلمسها كل يوم تتلخص في أن الجسم الحار يعمل دائماً على تسخين الجسم البارد، وأن العكس غير صحيح، يجد العلماء من هذا الموضوع على بساطته منفذاً للحكم على مستقبل الكون؟ ألان قطعة من الثلج تعمل على تبريد فنجان من الشاي الساخن بوضعها فيه يسير الكون في مجموعة إلى نوع من الموت بلا رجعة؟! هذا ما يقرر العلم، فهو يقرر أن من اختلاط وتصادم مجموعتين من الأفراد، مجموعة دأبها السرعة وأخرى ديدنها البطء، تنشأ مجموعة جديدة لا هي بالسريعة وهي بالبطيئة بل لمجموعة أفرادها سرعة متوسطة واقعة بين سرعة المجموعتين أود أن يستشعر القارئ أنه إذا كانت المشاهدات تدل على هذا التعادل في الحركة أي هذا التساوي في الحرارة، وإذا كانت الرياضة والمنطق يحتمان هذا النوع من التعادل نتيجة لحساب دقيق، فإن جسيمات الكون في مجموعه مصيرها الهدوء وأن الكون مصيره الموت الحراري.
أما أن نقرر أن الحياة مصيرها فناء بلا عودة فهذا أمر آخر لا نستطيع في سهولة أن نقبله أو أن نساير العلماء فيه أجل إنما أردنا أن ندل القارئ على طرائق التفكير الحديث، كيف نتسلسل المسائل، وكيف يرتبط بعضها ببعض، وكيف يتعلق المعقد منها على البسيط، وكيف يقسمون الظواهر في منطق العلم إلى ظواهر حتمية وأخرى احتمالية، وكيف يفرق القارئ بين الظواهر العكسية والأخرى غير العكسية، وكيف، من أبسط المعارف والمشاهدات، نجد سبيلاً للتحدث عن أروع المسائل المعلقة بعميق الفلسفة ومستقبل الكون؟ والآن ننتقل من الكلام عن الجزيء إلى الكلام عن الذرة قدمنا عند الكلام عن الجزيء أن فكرة تقسيم المادة إلى جزيئات لم تكن حاصل المشاهدات المباشرة بقدر ما كانت حاصل البحث العلمي العميق والوسائل الطبيعية الدقيقة.
لئن تكن المادة منفصلة غر متصلة، أو بعبارة علمية لئن تكن مكونة من جزيئات منفصلة ومستقلة فهذا أمر لم نكن نعرفه بداهة أو مشاهدة، وإنما كان لدراستنا للتطورات الحرارية أكبر الأثر في معرفته كذلك لا يمكن بالعين المجردة أن نُقيم الدليل على تقسيم الجزيء إلى ذرات.
وكما أن نظرية الجزيئات والاستدلال عليها جاء عن طريق العمليات الحرارية كذلك صادفت النظرية الذرية أي تقسيم الجزيء إلى ذرات مستقلة نجاحها في العمليات الكيميائية ففي هذا العلم - الكيمياء - شبت النظرية الذرية وترعرعت، ولقد كان ذلك في بادئ الأمر راجعاً إلى قانون معروف بقانون النسب الثابتة ظل الأساس الذي بُنِيت عليه النظرية الذرية، وهو يعلمنا الفرق بين المخلوط والمركب الكيميائي: عندما نشرب الماء ممزوجاً بقليل من ماء الورد فإنه ليس ثمة حدود تقف عندها درجة المزج للحصول على المزج.
إننا نستطيع أن نحصل على المزيج من الماء وماء الورد بنسب مختلفة فنستطيع أن نجعل النسبة من ماء الورد 1 إلى 10 من ماء أو 1 إلى 100 وهكذا.
كذلك عندما نصنع لوحاً أحمر من الزجاج فإنه بقدر كمية اللون التي نضعها في مواد الزجاج، وهو في حالته السائلة وقبل أن يتجمد، نحصل على لوح تتعلق درجة احمراره بنسبة ما وضعناه من مادة ملونة، ولنا حرية مطلقة في الحصول على مئات بل وألوف الأنواع من الأنواع من الألواح الزجاجية كلها حمراء ولك تتفاوت في درجة الاحمرار.
هذه العمليات اختلاط طبيعي بين جزيئات المادة. ولكن عندما تتحد كمية من الهيدروجين بكمية أخرى من الأكسيجين اتحاداً كيميائياً تحت تأثير شرارة كهربائية ليتكون الماء جرامين اثنين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين، بحيث لو تعمدنا أن تكون كمية الهيدروجين الموجودة مع كمية الأكسيجين السابقة خمسة جرامات فإن جرامين اثنين يتحدان منها فقط الـ 16 جراماً من الأكسيجين الموجودة لدينا وتبقى الثلاثة الجرامات الأخرى من الهيدروجين حرة لا تتحد هذه النسبة الثابتة في المركبات الكيميائية تختلف كما يرى القارئ عن موضوع مزج الجزيئات الطبيعي الذي يمكن أن نحصل عليه بأي نسبة في أنواع المعادن المختلفة (فالبرونز) مثلاً نحصل عليه من الهيدروجين والأكسيجين بالنسبة التي تعينها لنا الطبيعة والتي لا تتغير هذه الأجسام البسيطة كالأكسيجين والهيدروجين التي تدخل كيميائياً في المركبات المختلفة والتي يمكن بوسائل كيميائية الحصول عليها منفردة مرة أخرى، عرفها العلماء بالعناصر حيث كان من المشاهد منذ لافوازبيه أن كمية معينة من عنصر معين يمكن إدماجها في عشرات التركيبات الكيميائية كما يمكن الحصول عليها مرة ثانية بحيث لا يزيد وزنها أو يقل مهما كان نوع التركيبات الكيميائية التي دخلت فيها.
فإذا كانت الكمية من الأكسيجين التي اتحدت في المركبات في بادئ الأمر 16 جراماً فإنه من المعروف أننا نحصل دائماً وبالطرق الكيميائية المختلفة على 16 جراماً من الأكسيجين وأن هذه الكمية غير قابلة بأي حال للزيادة أو النقصان كذلك يتكون الغاز الكاربوني من احتراق الفحم في الأكسيجين بنسبة 3 جرامات من الأول إلى 8 جرامات من الثاني، وظلت هذه النسبة هي الأساس في تركيب الغاز الكربوني بحيث لم يتسن للكيميائيين بوسائل مختلفة وأساليب متباينة (مثل وضع هذه المجموعة من الكاربون والأكسيجين تحت ضغط شديد أو غير ذلك) أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون مع 1.
8 جرامات من الأكسيجين مثلاً.
وليس معنى هذا أن الكاربون والأكسيجين يتحدان دائماً بنسبة 3 إلى 8 فإنه يصح للحصول على مركب غير الغاز الكاربوني أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون بأربعة جرامات من الأكسيجين، ولكن الفارق بين الحالتين عظيم.
فثمة حالة غير متصلة تختلف عن حالة الخلط والمزج المعروفة في اختلاط الجزيئات كان لا بد تحت هذه العوامل والمشاهدات من أن يُعمم العلماء هذه الوقائع المقدمة ويحصونها ويدرسونها، وهكذا توصلوا إلى قانون النسب الثابتة الذي يحدد النسب التي تتحد بها العناصر الكيميائية المختلفة، هذا القانون المعروف منذ العالم (دالتون والذي كان الفضل الأكبر فيه للعام (بروست يتلخص في أن النسبة التي يتحد به عنصران لا يمكن أن تتغير بحالة مستمرة وهكذا كان من الصعب ألا نفترض أن هذا الأكسيجين المتحد مع الهيدروجين ليكون الماء استقل دائماً بنفسه وحافظ على استقلاله في أثناء هذه العملية الكيميائية ما دمنا نستطيع أن نعيده سيرته الأولى وهكذا أمكننا أن نرجح أن هذا الذي نسميه عنصر الأكسيجين كان مستقلاً في كل المركبات الأكسيجينية التي يمكن أن تدخل فيها مثل الماء والماء الأكسيجيني والأوزون وثاني أكسيد الكاربون والسكر الخ بحيث إذا كان السكر مركباً من جزيئات مشابهة تمام التشابه فإنه من المتعين أن في كل جزئ من هذه الجزيئات قد دخل الأكسيجين كشخصية مستقلة كما دخل الكاربون والهيدروجين اللذان هما المركبان الآخران للسكر شخصيات أخرى مستقلة.
من هنا ومن أمثال ذلك حاول العلماء أن يعرفوا الصورة التي يجب أن تكون عليها هذه المواد الأولية أو العناصر البدائية التي تتفق أجزاء منها تحت عوامل لا محل لذكرها وتتقارب لتكوين جزئ من السكر، هذا المولود الجديد والمركب من هذه العناصر المتقدم ذكرها هذه الملاحظة من جانب (بروست) الفرنسي في وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها أدت بالعالم الإنجليزي (دالتون) إلى أن يفرض فرضاً ذرياً يمكن أن يجيب على هذه الحالة المتقدمة: كل العناصر مكونة من ذرات، ويحدث في مختلف العمليات الكيميائية المتباينة أن تجتمع ذرات الأجسام وتكوَّن كل مجموعة جديدة جزيئات من جزيئات المركب الجديد، بحيث يجوز لذرة من مادة معينة أن تلتصق أو تجتمع بذرة واحدة من مادة أخرى كما يمكن أن تجتمع باثنتين أو أكثر، فالماء مثلاً يتحد فيه ذرتان من الهيدروجين بذرة واحدة من الأكسيجين (إن اجتماع جرامين من الهيدروجين مع 16 جراماً من الأكسيجين راجع إلى وزنهما ذلك أن قوة الكائنة بين هذه الذرات وبعضها هي بحيث أن اجتماعهما في هذه الحالة اجتماع واحد باثنين، وإذا اجتمعت ذرة واحدة من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسيجين تكون الماء الأكسجيني الذي نستخدمه في الجروح بدل الماء العادي الذي نشربه. هذه الخطوة الموفقة من جانب العالم الكبير دالتون التي مهد لها (بروست) ظلت أساساً للعلوم الكيميائية، وفي آلاف المواد التي نستخدمها والتي هي في الواقع مركبات من عناصر مختلفة متحدة بنسب ثابتة أو ممزوجة أمكن تقسيم العالم المادي إلى 91 عنصراً تبدأ بالهيدروجين والهيليوم وتنتهي بالبروتوكتينيوم والإيرانيوم.
هذه العناصر تقوم لنا كمرجع دائم يدلنا على هذه المركبات المكونة لكل ما نراه ونعثر عليه من مادة في الكون، كما تدلنا الشمس والنجوم الثابتة بمواضعنا المختلفة في الأفق بالنسبة لها على معرفة الوقت نهاراً أو ليلاً وسنرى فيما سيأتي ما استفاده العلماء من هذا الفرض الذري ونحاول أن ندرك كنه الذرة وما يجري بها ونستخلص من أعمال العلماء سيرة ما يحدثونه اليوم فيها من تهدم، ما سيكون له أكبر الأثر في تقدم معارف الإنسان محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم المهند سخانة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١