شرح العقيدة الطحاوية [92]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فسبق أن وعدتكم أن نقرأ جملة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك؛ لأن هذه المسألة من المسائل المعضلة التي كثر الخلاف فيها قديماً وحديثاً، وأيضاً نسب إلى شيخ الإسلام فيها قول قد لا يصح في الجملة، والآن سنقرأ جملة من كلام الشيخ في الرسالة؛ لأن الرسالة طويلة، وبعضها قد لا تلزم قراءته؛ لأن فيها شيئاً من الاستطرادات، لكن قبل أن نبدأ بالقراءة أحب أن أنبه أن شيخ الإسلام حينما تكلم عن هذا الموضوع تكلم عنه بناء على إشكال ورد عند تلميذه ابن القيم في مسألة القول بفناء الجنة والنار، أو القول بفناء النار، فلما تهيأت فرصة لـشيخ الإسلام تكلم عن هذا الموضوع بلسانه، وهذه الرسالة اشتهرت عند الناس قديماً وحديثاً، لكنها لم تطبع وتخرج محققة إلا في الآونة الأخيرة في كتاب تحت عنوان: (الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك) تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ، دراسة وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الله السمهري .

وقد وضع المحقق جزاه الله خيراً مقدمة جيدة، درس فيها هذه المسألة وأقوال الناس، وما قيل في شيخ الإسلام بسببها ما بين ناف أو مثبت، ثم حقق الرسالة، وشيخ الإسلام ابن تيمية بدأ رسالته في الكلام عن القول بفناء الجنة والنار بذكر أقوال أهل العلم جملة، كما ذكرها ابن القيم في (حادي الأرواح) فذكر أن الناس تنازعوا في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: القول ببقائهما مطلقاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول جمهور السلف وجمهور المسلمين، فالجمهور -وهم الأغلب- قالوا ببقاء الجنة والنار إلى ما لا نهاية بإذن الله وبقدرته سبحانه.

والقول الثاني: من قال بفنائهما معاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول منكر، وهو قول الجهم بن صفوان ومن تابعه القول بفنائهما مطلقاً، بأن الجنة والنار تفنيان، وبالتبع يفنى النعيم والعذاب.

وهذا قول منكر، فقد كفر السلف من قال به.

والقول الثالث: من قال ببقاء الجنة مطلقاً لصراحة النصوص في ذلك إلى ما لا نهاية بإذن الله، والقول بفناء النار أو بانقطاع عذابها.

وأصحاب هذا القول لم يميزوا بين الأمرين تمييزاً واضحاً، ثم أشار شيخ الإسلام إلى أن القول بفنائهما من الأقوال الشاذة، فما رأينا أحداً حكاه عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان وأتباعه الجهمية، وهذا مما أنكره عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، ثم ذكر كلاماً لـعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة، والآن نقرأ كلام شيخ الإسلام بالتفصيل حول القول بفناء النار، بعد أن قرر الإجماع والقول الجزم بأن الجنة لا تفنى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين ومن بعدهم.

وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة، قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها ].

يعني: هذه المسألة ليست واضحة، وليست هناك أقوال صريحة فيها، والآن سيسوق أسماء من أُثِرَ عنهم القول بانقطاع العذاب، وتضمن هذا القول بفناء النار، لكنهم ما صرحوا بفناء مطلق، فقولهم يتوجه إلى أمرين: إلى خروج أهل النار منها بعد أحقاب طويلة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وانقطاع العذاب عن المعذبين، لكن ما صرحوا بأن النار تفنى، وربما يقول قائل: إذا كان أهل النار بعد أحقاب طويلة يخرجون منها فما فائدة بقائها؟ نقول: هذا شيء ليس لنا أن نعلقه على فائدة نتحكم بها، وأيضاً أننا نجد في هذا حكمة وهي: أن في بقاء النار -وإن كان ليس فيها أحد- تذكيراً لأهل الجنة الذين فيها بنعمة الله عليهم؛ حتى يداوموا على حمد الله وشكره.. وغير ذلك من الفوائد التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما أن هناك من المخلوقات ما لا يفنى كالكرسي والقلم وغير ذلك، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم ].

هؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم القول بذلك، وإن كان كثير من أهل العلم طعنوا في أسانيد النقل إليهم، لكن الكلام فيها بين الصحابة وبين التابعين مشهور، بغض النظر عمن ثبت عنه القول ومن لم يثبت، مع أن بعض أهل العلم صحح القول المنسوب إلى عمر رضي الله عنه في بعض أسانيده.

أثر عمر في خروج أهل النار منها

قال رحمه الله تعالى: [ وقد روى عبد بن حميد -وهو من أجل علماء الحديث- في تفسيره المشهور، قال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه.

وقال: أنبأنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه.

ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].

وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة، مثل: سليمان بن حرب ، الذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل: حجاج بن منهال في كلامهما، عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم والسنة، والذي يروى من وجهين:

من طريق ثابت ، ومن طريق حميد ، هذا عن الحسن البصري الذي يقال: إنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه، يرويه عن عمر بن الخطاب ، وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين، فسواء كان قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظ،كان مثل هذا الحديث متداولاً بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.

وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة.

فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا، لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس ].

قصد الشيخ هنا: أن الإرسال بين الحسن وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يضر في ثبوت أصل القضية بين السلف، وأنها مسألة يتكلم فيها؛ لأن هذا السند رجاله ثقات إلى الحسن ، والحسن رحمه الله نسبه إلى عمر ، وسواء صحت النسبة أو لم تصح فهذا لا يضر بأصل القضية؛ لأن الحسن تكلم بها وأسندها إلى عمر ، ثم كلامه بها اشتهر، ورواه عنه هؤلاء الثقات الذين يميزون، وهم صيارفة الأسانيد والحديث، ومع ذلك ما أنكروا أصل القضية حينما رووها، فلو كان هذا الكلام عندهم بدعة لبدعوه وردوه.

قال رحمه الله تعالى: [ وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]؛ ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفد، ليست كالرزق الذي ما له من نفاد، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها.

فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريباً من ذلك.

والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره البخاري ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون).

وقوله: (يخرجون منها) أي: يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع.

فهم لا يخرجون منها -يعني: جهنم- بل هم خالدون في جهنم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية، ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال.

كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وهم لا يعدمون، بل يموتون ويهلكون، وكما قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فإذا أنفده الرجل فقد نفد ما عنده، إن كان لم يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.

أثر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله..)

وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو معروف مشهور- ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون التفسير كـابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، والبيهقي ، والذين يذكرون الإسناد مجملاً كـالثعلبي ، والبغوي ، والذين لا يسندون كـالماوردي ، وابن الجوزي قال: قوله: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].

قال: وفي هذه الآية أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

قال الطبري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يتأول في هذا الاستثناء:

أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته ].

إذاً: ينبغي أن نستصحب في أذهاننا أمرين:

الأمر الأول: أن شيخ الإسلام هنا لم يؤيد هذا القول ولم يعارضه، بمعنى أنه لم ينتصر له انتصاراً يرى أنه هو الراجح، ولم يظهر منه أنه يرى أن هذا القول باطل، إنما ساقه على أنه قول قيل من أهل العلم، وأنه ثبت أنه قال به من لهم اعتبارهم من أهل العلم.

الأمر الثاني: أن هذا القول بحد ذاته ليس من الأقوال المنكرة، بغض النظر عن كونه راجحاً أو مرجوحاً، وإن كان غير قول الجمهور، لكنه قول له اعتباره؛ لعموم الأدلة، وهذا الاعتبار لا يعني أنه صحيح بالضرورة، قد يكون الصحيح هو رأي الجمهور، لكن يريد رحمه الله أن يقرر أن هذه المسألة مسألة مشهورة، وقال بها من لهم علمهم وفضلهم من السلف، وطائفة أقروها ولم ينكروها وإن لم يقولوا بها، ورووها بأسانيد صحيحة ولم ينكروا أصل القول، إنما سكتوا عنه، فغاية ما يقال: إن هذا القول اجتهادي، وإن من قال به خلاف رأي الجمهور يمكن أن يقال: إنه أخطأ، لكن ليس ببدعة؛ لأن الدلالة على قول هذا الفريق وجيه، ويكون قول الجمهور أوجه منه وأصح.

إذاً: لا بد من أن نضع في أذهاننا أن سياق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة، وذكر أقوال الذين قالوا بفناء النار وانقطاع عذابها وذكر أدلتهم لا يعني أنه ينتصر لهذا القول، ولا أنه هو القول الراجح، وكثيراً ما يسلك شيخ الإسلام هذا المسلك في المسائل الخلافية، يسردها دون أن ينتصر لها أو يرد عليها، ينبغي أن نفهم هذا؛ لئلا يلتبس الأمر علينا.

قال رحمه الله تعالى: [ قال الطبري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا [الأنعام:128].

قال في هذه الآية: إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصاً بأهل القبلة، فإنه قال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:128-129]، (فأولياؤهم من الإنس) لفظ يدخل فيه الكفار قطعاً، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين.

وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].

وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41].

وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

وقال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].

فأمر بقتال أولياء الشيطان، وهم الكفار، وقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

وقال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

فأخبر أنهم يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فهذه وأمثالها تبين أن الكفار أولياء الشيطان، فهم أحق الناس بالدخول في قوله: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].

وقد قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية تقتضي أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

فدل على أن هذا الاستثناء عنده دفع العذاب عنهم، وهذا مدلول الآية، وأنه لأجل هذه الآية يجب أن يتوقف، فلا يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً، وهذا يناقض قول من يقول سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وإلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا، فإن ذلك معلوم أنه قبل الدخول لم يكونوا فيها، وقول من يقول في أهل الجنة، فإنها صريحة في تناول الكفار.

لكن ذكر البغوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله، وأنهم يسلمون فيخرجون من النار، ولم يذكر من نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فإن أريد بذلك من أسلم في الدنيا فليس كذلك، فإن الخطاب إنما هو لمن كان من أولياء الشيطان، والجن الذين استمتع بعضهم ببعض، وهؤلاء من جملة المسلمين، وجميع من أسلم سبق فيه علم الله أنه يسلم، وكأن قائل هذا القول ظن أن هذا خطاب للأحياء، وليس كذلك، بل هذا خطاب لهم يوم القيامة، وإن أراد أنهم يسلمون في جهنم فيخرجون منها، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن في غير موضع.

الآثار الواردة عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما في خلو جهنم من المعذبين بعد مضي الحقب

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. قال البغوي : ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: ألا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.

فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ:21-28].

وهذا وصف الذين كذبوا بآيات الله، كِذَّابًا [النبأ:28] أي: تكذيباً، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد.. وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي عن مرة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا.

وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: سنين.

وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها.

قال ابن أبي حاتم ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهلال الهجري والضحاك وذكوان والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة.

وعن هشام عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] فقال: الله أعلم بالأحقاب، فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون.

وعن هشام عن الحسن قال: الأحقاب لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون.

وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري أحد ما هي؟ يقتضي أن لها عدداً الله أعلم به، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل واحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن عن عمر بن الخطاب كما تقدم.

قول الحسن : (ليس فيها عدد إلا الخلود) حق أيضاً، فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضاً.

وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله.

وعن السدي : لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون.

وعن عبد الله بن عمرو قال: الحقب: أربعون سنة.

أقوال الناس في الأحقاب المذكورة في آية النبأ من حيث تحديدها وعدمه

وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة مقدرة، وهو قول الزجاج وغيره، لكن قال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً.

قال الزجاج : وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب.

وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشراب حينئذٍ، وهذا باطل قطعاً، ثم إذا ذاقوا البرد والشراب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها بعد ذلك؟

وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: هي في أهل التوحيد.

قال عبد الحق بن عطية في تفسيره: ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان : الحقب سبع عشرة ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول ].

لا يمكن أن يرد نسخ الأخبار؛ فالله عز وجل إذا قال خبراً لا يمكن نسخه؛ لأن النسخ لا يرد إلا في الأوامر والنواهي والأحكام، فالكلام في النسخ مستبعد.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقاباً عصاة المؤمنين. قال: وهذا أيضاً ضعيف؛ فما بعده من السورة يرد عليه.

وقال آخرون: إنما المعنى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] غير ذائقين برداً ولا شراباً، فبهذه الحال: يلبثون أحقاباً، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم.

والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية؛ لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.

قال أبو الفرج بن الجوزي : وهذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، كقوله تعالى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، ومثل هذا أن كلمات الله داخلة تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية له يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أُخِذَ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد، كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة.

وقوله: (كلمات الله داخلة تحت العدد) ممنوع؛ إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها، مثل: الآيات المنزلة، وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً، وكلما عد بقدر معدود فهو ما حدّ، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.

استدلال القائلين بفناء النار وانقطاع عذابها بقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك..)

وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن جعفر بن سليمان عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

وقد روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وعن قتادة في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:106-107] الله أعلم بتثنيته على ما وقعت.

وروى الطبري عن يونس أنبأنا ابن وهب حدثنا ابن زيد في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] فقرأ حتى بلغ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وعن السدي : إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] إن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج.

قوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23]، وذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثاراً عن الصحابة والتابعين، مثل ما روى حرب الكرماني ، وأبو بكر البيهقي ، وأبو جعفر الطبري .. وغيرهم عن الصحابة في ذلك.

وفي المسند للطبراني : ذكر فيه: (أنه ينبت فيها الجرجير) وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة.

منها ما رواه حرب والبيهقي ، قال حرب الكرماني : سألت إسحاق عن قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ [هود:107]، قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.

قال إسحاق : حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد ، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

قال المعتمر : قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن.

ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في قوله سبحانه: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: خَالِدِينَ فِيهَا [هود:107]، تأتي عليه.

وقال ابن جرير حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن

قال رحمه الله تعالى: [ وقد روى عبد بن حميد -وهو من أجل علماء الحديث- في تفسيره المشهور، قال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه.

وقال: أنبأنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه.

ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].

وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة، مثل: سليمان بن حرب ، الذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل: حجاج بن منهال في كلامهما، عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم والسنة، والذي يروى من وجهين:

من طريق ثابت ، ومن طريق حميد ، هذا عن الحسن البصري الذي يقال: إنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه، يرويه عن عمر بن الخطاب ، وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين، فسواء كان قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظ،كان مثل هذا الحديث متداولاً بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.

وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة.

فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا، لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس ].

قصد الشيخ هنا: أن الإرسال بين الحسن وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يضر في ثبوت أصل القضية بين السلف، وأنها مسألة يتكلم فيها؛ لأن هذا السند رجاله ثقات إلى الحسن ، والحسن رحمه الله نسبه إلى عمر ، وسواء صحت النسبة أو لم تصح فهذا لا يضر بأصل القضية؛ لأن الحسن تكلم بها وأسندها إلى عمر ، ثم كلامه بها اشتهر، ورواه عنه هؤلاء الثقات الذين يميزون، وهم صيارفة الأسانيد والحديث، ومع ذلك ما أنكروا أصل القضية حينما رووها، فلو كان هذا الكلام عندهم بدعة لبدعوه وردوه.

قال رحمه الله تعالى: [ وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]؛ ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفد، ليست كالرزق الذي ما له من نفاد، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها.

فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريباً من ذلك.

والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره البخاري ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون).

وقوله: (يخرجون منها) أي: يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع.

فهم لا يخرجون منها -يعني: جهنم- بل هم خالدون في جهنم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية، ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال.

كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وهم لا يعدمون، بل يموتون ويهلكون، وكما قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فإذا أنفده الرجل فقد نفد ما عنده، إن كان لم يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.

وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو معروف مشهور- ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون التفسير كـابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، والبيهقي ، والذين يذكرون الإسناد مجملاً كـالثعلبي ، والبغوي ، والذين لا يسندون كـالماوردي ، وابن الجوزي قال: قوله: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].

قال: وفي هذه الآية أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

قال الطبري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يتأول في هذا الاستثناء:

أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته ].

إذاً: ينبغي أن نستصحب في أذهاننا أمرين:

الأمر الأول: أن شيخ الإسلام هنا لم يؤيد هذا القول ولم يعارضه، بمعنى أنه لم ينتصر له انتصاراً يرى أنه هو الراجح، ولم يظهر منه أنه يرى أن هذا القول باطل، إنما ساقه على أنه قول قيل من أهل العلم، وأنه ثبت أنه قال به من لهم اعتبارهم من أهل العلم.

الأمر الثاني: أن هذا القول بحد ذاته ليس من الأقوال المنكرة، بغض النظر عن كونه راجحاً أو مرجوحاً، وإن كان غير قول الجمهور، لكنه قول له اعتباره؛ لعموم الأدلة، وهذا الاعتبار لا يعني أنه صحيح بالضرورة، قد يكون الصحيح هو رأي الجمهور، لكن يريد رحمه الله أن يقرر أن هذه المسألة مسألة مشهورة، وقال بها من لهم علمهم وفضلهم من السلف، وطائفة أقروها ولم ينكروها وإن لم يقولوا بها، ورووها بأسانيد صحيحة ولم ينكروا أصل القول، إنما سكتوا عنه، فغاية ما يقال: إن هذا القول اجتهادي، وإن من قال به خلاف رأي الجمهور يمكن أن يقال: إنه أخطأ، لكن ليس ببدعة؛ لأن الدلالة على قول هذا الفريق وجيه، ويكون قول الجمهور أوجه منه وأصح.

إذاً: لا بد من أن نضع في أذهاننا أن سياق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة، وذكر أقوال الذين قالوا بفناء النار وانقطاع عذابها وذكر أدلتهم لا يعني أنه ينتصر لهذا القول، ولا أنه هو القول الراجح، وكثيراً ما يسلك شيخ الإسلام هذا المسلك في المسائل الخلافية، يسردها دون أن ينتصر لها أو يرد عليها، ينبغي أن نفهم هذا؛ لئلا يلتبس الأمر علينا.

قال رحمه الله تعالى: [ قال الطبري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا [الأنعام:128].

قال في هذه الآية: إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصاً بأهل القبلة، فإنه قال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:128-129]، (فأولياؤهم من الإنس) لفظ يدخل فيه الكفار قطعاً، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين.

وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].

وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41].

وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

وقال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].

فأمر بقتال أولياء الشيطان، وهم الكفار، وقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

وقال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

فأخبر أنهم يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فهذه وأمثالها تبين أن الكفار أولياء الشيطان، فهم أحق الناس بالدخول في قوله: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].

وقد قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية تقتضي أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

فدل على أن هذا الاستثناء عنده دفع العذاب عنهم، وهذا مدلول الآية، وأنه لأجل هذه الآية يجب أن يتوقف، فلا يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً، وهذا يناقض قول من يقول سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وإلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا، فإن ذلك معلوم أنه قبل الدخول لم يكونوا فيها، وقول من يقول في أهل الجنة، فإنها صريحة في تناول الكفار.

لكن ذكر البغوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله، وأنهم يسلمون فيخرجون من النار، ولم يذكر من نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فإن أريد بذلك من أسلم في الدنيا فليس كذلك، فإن الخطاب إنما هو لمن كان من أولياء الشيطان، والجن الذين استمتع بعضهم ببعض، وهؤلاء من جملة المسلمين، وجميع من أسلم سبق فيه علم الله أنه يسلم، وكأن قائل هذا القول ظن أن هذا خطاب للأحياء، وليس كذلك، بل هذا خطاب لهم يوم القيامة، وإن أراد أنهم يسلمون في جهنم فيخرجون منها، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن في غير موضع.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. قال البغوي : ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: ألا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.

فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ:21-28].

وهذا وصف الذين كذبوا بآيات الله، كِذَّابًا [النبأ:28] أي: تكذيباً، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد.. وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي عن مرة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا.

وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: سنين.

وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها.

قال ابن أبي حاتم ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهلال الهجري والضحاك وذكوان والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة.

وعن هشام عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] فقال: الله أعلم بالأحقاب، فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون.

وعن هشام عن الحسن قال: الأحقاب لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون.

وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري أحد ما هي؟ يقتضي أن لها عدداً الله أعلم به، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل واحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن عن عمر بن الخطاب كما تقدم.

قول الحسن : (ليس فيها عدد إلا الخلود) حق أيضاً، فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضاً.

وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله.

وعن السدي : لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قال: سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون.

وعن عبد الله بن عمرو قال: الحقب: أربعون سنة.

وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة مقدرة، وهو قول الزجاج وغيره، لكن قال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً.

قال الزجاج : وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب.

وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشراب حينئذٍ، وهذا باطل قطعاً، ثم إذا ذاقوا البرد والشراب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها بعد ذلك؟

وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: هي في أهل التوحيد.

قال عبد الحق بن عطية في تفسيره: ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان : الحقب سبع عشرة ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول ].

لا يمكن أن يرد نسخ الأخبار؛ فالله عز وجل إذا قال خبراً لا يمكن نسخه؛ لأن النسخ لا يرد إلا في الأوامر والنواهي والأحكام، فالكلام في النسخ مستبعد.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقاباً عصاة المؤمنين. قال: وهذا أيضاً ضعيف؛ فما بعده من السورة يرد عليه.

وقال آخرون: إنما المعنى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] غير ذائقين برداً ولا شراباً، فبهذه الحال: يلبثون أحقاباً، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم.

والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية؛ لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.

قال أبو الفرج بن الجوزي : وهذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، كقوله تعالى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، ومثل هذا أن كلمات الله داخلة تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية له يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أُخِذَ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد، كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة.

وقوله: (كلمات الله داخلة تحت العدد) ممنوع؛ إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها، مثل: الآيات المنزلة، وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً، وكلما عد بقدر معدود فهو ما حدّ، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.

وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن جعفر بن سليمان عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

وقد روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وعن قتادة في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:106-107] الله أعلم بتثنيته على ما وقعت.

وروى الطبري عن يونس أنبأنا ابن وهب حدثنا ابن زيد في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] فقرأ حتى بلغ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وعن السدي : إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] إن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج.

قوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23]، وذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثاراً عن الصحابة والتابعين، مثل ما روى حرب الكرماني ، وأبو بكر البيهقي ، وأبو جعفر الطبري .. وغيرهم عن الصحابة في ذلك.

وفي المسند للطبراني : ذكر فيه: (أنه ينبت فيها الجرجير) وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة.

منها ما رواه حرب والبيهقي ، قال حرب الكرماني : سألت إسحاق عن قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ [هود:107]، قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.

قال إسحاق : حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد ، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].

قال المعتمر : قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن.

ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في قوله سبحانه: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: خَالِدِينَ فِيهَا [هود:107]، تأتي عليه.

وقال ابن جرير حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهم: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، قال: استثنى الله عز وجل، قال: يأمر النار أن تأكلهم.

قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.

وقال: حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعهما خراباً.

وقال حرب الكرماني عن إسحاق بن راهوية حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.

وقال إسحاق حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ [هود:106] الآية ].

يعني: الآية التي فيها الاستثناء.