خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [66]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) ].
هذه العبارة فيها نظر، وسيأتي استدراك الشارح عليها، فقول الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) ليس على إطلاقه كما قد يفهم منه، فظاهر العبارة يفهم منه أن أي ذنب من الذنوب دون ما يخرج من الملة لا يكفر به المرء، وهذا فيه نظر؛ لأن مسألة الاستحلال ليست شرطاً دائماً لتكفير من ارتكب بعض الذنوب، فالمسألة فيها نظر، وسيأتي الكلام عنها عند استدراك المؤلف.
قال رحمه الله تعالى: [ أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب، واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية ].
يقصد: أن مسألة التكفير من المسائل التي تميز فيها أهل الأهواء عن أهل السنة على اختلاف درجات أهل الأهواء، وأهل الأهواء أغلبهم مكفرة، ومنهم من لا يكفر بأي ذنب، أي: لا يكفرون بالذنوب مطلقاً، وربما لا يكفرون بأي عمل من الأعمال، كالمرجئة، فعلى هذا يكون من السمات التي تشترك فيها الأهواء جميعاً مخالفة أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير، وغالب أهل الأهواء يقولون بالتكفير ولوازمه، أو بلوازم التكفير فقط كما سيأتي، وبعض الأهواء لا يكفر، لكنه يشارك المكفرة كالخوارج والمعتزلة في كثير من الأصول، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموقف من الولاة، والسمع والطاعة لهم، والموقف من أهل السنة ونحو ذلك، حتى المرجئة الجهمية الذين لا يكفرون أبداً، ويرون أن كل من عرف الله فقد آمن ولو ارتكب أي ذنب، فإن مواقفهم فيها ما يدخل في لوازم التكفير، أعني مواقفهم التاريخية مع أهل السنة والجماعة.
فقول الشيخ: إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة، يشير به إلى أن جميع أهل الأهواء يتسمون بمخالفة أهل السنة في مسألة التكفير، وأول الأهواء خروجاً في تاريخ الأمة كان مبدؤها مسألة التكفير.
ذكر القائلين بامتناع تكفير أحد من أهل القبلة مطلقاً
الذين لا يكفرون من أهل القبلة أحداً صنفان: أولهم: غلاة المرجئة الذين هم الجهمية ومن سلك سبيلهم، وعلى طريقهم الفلاسفة الجهمية، وعلى طريقهم الزنادقة وبعض أهل الكلام، وكثير من غلاة الصوفية.
والصنف الثاني: من يترددون في إطلاق الكفر على من حكم الشرع بكفره من الذين يتسمون بالإسلام، كالجهمية وغيرهم، فهؤلاء بعضهم من مرجئة الفقهاء وبعضهم من الفقهاء الذين لا يتبعون المرجئة لكن لهم بعض الاجتهادات، خاصة فقهاء أهل الكلام الذين عندهم نزعة كلامية، فأغلبهم يتردد في إطلاق الكفر حتى على من حكم بكفره شرعاً ممن يتسمى بالإسلام.
تكفير اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين
فلذلك بعض الناس يفهم خطأ أن هذا الحديث كله ينطبق على جميع الكفار، وأن هناك خلافاً بين المسلمين في مسألة تكفير الكفار، وهذا غير وارد، فلم يرد البحث هنا عن مسألة تكفير الكفار الخلص؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة تكفير اليهودي وتكفير النصراني وتكفير المشرك وتكفير من لم يسلم ولا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا تكفيره ليس محل البحث، وهذا الخلط الذي ذكرته هو الذي أوقع كثيراً من المثقفين وبعض المفكرين وبعض أدعياء العلم وبعض قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي في أن يترددوا في الحكم بكفر الكافرين الخلص؛ لأنهم ظنوا أن هذه الأحكام في إطلاق الكفر تنسحب على اليهود والنصارى.
وهذا جهل مطبق، بل رأيت وسمعت وقرأت عن بعض المنتسبين للعلم أنه يشكل عليهم هذا الأمر، وأتعجب حقيقة: لماذا يشكل عليهم هذا الأمر؟! حيث ظنوا أن قواعد التكفير تنسحب على اليهود والنصارى! وهذا أمر غير وارد، بل أمر مفروغ منه، فما بعد حكم الله حكم ولا بعد قول الله قول، إنما نتردد في الأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها؛ والأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها هي رد بعض أفراد العمل والاعتقادات التي تصدر من الناس إلى قواعد الشرع ونصوص الشرع الصادرة ممن يتسمون بأهل القبلة، أما الكفار الخلص فليسوا محل حديث، ولا يجوز لأحد أن يتردد في كفرهم؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المجمع عليه عند المسلمين جميعاً، حتى الفرق الضالة تقول بكفر الكفار الخلص من اليهود والنصارى والمشركين.
قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً ].
لو أن إنساناً يدعي الإسلام أنكر أو تردد في إثبات وجوب الزكاة أو في إثبات وجوب الصيام أو في ثبوت وجوب الحج أو في ثبوت وجوب الجهاد أو في ثبوت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما تواترت به النصوص، بمعنى: أنه اعتقد أن هذا لا يجب شرعاً، ونفى ما تواترت به النصوص من الواجبات؛ فإنه بذلك يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا محل اتفاق، وكذلك من أنكر المحرمات القطعية أو تردد في ذلك أو شك تديناً لا شك جهل؛ إذ قد يوجد جاهل لا يدري، لكن الذي يدين بعدم تحريم الربا أو بعدم تحريم الزنا أو بعدم تحريم الخيانة والغدر أو بعدم تحريم دم المسلم ونحو ذلك، أو يشك في ذلك؛ فإنه بذلك يكفر، وإذا أنكره فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
إذاً: الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة -أو القطعية على تعبير كثير من أهل العلم- من أنكرها يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان جاهلاً يعلم.
التكفير بالذنوب بين النفي العام ونفي العموم
يقصد بذلك أن الذين تكثر عندهم البدع بحيث تكون هي الأصل عندهم يكثر عندهم الفجور بحيث يكون هو الأصل؛ فإن هؤلاء مظنتهم النفاق والردة، وليس جزماً؛ لأننا لابد من أن نقيم عليهم الحجة، لكنه يقصد بذلك أننا نعرف ظواهر النفاق والردة بالبدع والفجور، فالناس الذين تكثر عندهم البدع إلى حد أنهم لا يعملون بالسنة ويكثر عندهم الفجور إلى حد أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ولا يحلون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله؛ فهؤلاء يظن بهم أنهم أهل نفاق وأهل ردة، لكن مع ذلك لا نحكم بنفاق الواحد منهم وردته إلا بعد استنفاذ الأصول الشرعية من إقامة الحجة والتأكد من توافر شروط الكفر وانتفاء موانعه.
قال رحمه الله تعالى: [ وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ].
يقصد بهذا: أن العبارة التي أوردها الطحاوي رحمه الله قد تفهم أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا قول المرجئة، والشيخ رحمه الله قد يميل إلى قول مرجئة الفقهاء في بعض الألفاظ وإن كان يوافق أهل السنة عملياً، فهذه اللفظة محتملة، فقد يقصد بها الانتصار لقول مرجئة الفقهاء من الأحناف، وهو حنفي، وقد يقصد التعبير عن مذهب أهل السنة والجماعة بتعبير يقرب الأحناف إلى أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية.
وقول الشارح: [ وفرق بين النفي العام ونفي العموم ] يقصد به أن هناك فرقاً بين أن نقول: إن المسلم لا يكفر بأي ذنب مطلقاً، وبين أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً، فالنفي العام: هو أن يقال بأنا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، هذا نفي عام، وهذا لا يجوز، فليس بصحيح أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، بدليل أن الذنوب تتفاوت، فالشرك هو أعظم الذنوب، ولاشك في أنه مكفر.
بل هناك ما هو دون الشرك من المكفرات، فالنفي العام هو الممنوع الذي لا يقره أهل السنة، وهو أن نقول بأنه لا يكفر أهل القبلة بأي ذنب مطلقاً.
لكن نفي العموم هو أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً إلا إذا استحل الذنب ولو كان صغيراً وقامت الحجة، وهذا قول صحيح؛ لأن الخوارج والمعتزلة وكثير من الأهواء يكفرون بكل ذنب، وأهل السنة لا يكفرون بكل ذنب، كما أن المرجئة لا تكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا هو النفي العام الذي لا يجوز، والصحيح هو نفي العموم، أي: ليس كل ذنب يكفر به صاحبه.
قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)، وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يضمن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك ].
قال رحمه الله تعالى: [ فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك بحيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين ].
الذين لا يكفرون من أهل القبلة أحداً صنفان: أولهم: غلاة المرجئة الذين هم الجهمية ومن سلك سبيلهم، وعلى طريقهم الفلاسفة الجهمية، وعلى طريقهم الزنادقة وبعض أهل الكلام، وكثير من غلاة الصوفية.
والصنف الثاني: من يترددون في إطلاق الكفر على من حكم الشرع بكفره من الذين يتسمون بالإسلام، كالجهمية وغيرهم، فهؤلاء بعضهم من مرجئة الفقهاء وبعضهم من الفقهاء الذين لا يتبعون المرجئة لكن لهم بعض الاجتهادات، خاصة فقهاء أهل الكلام الذين عندهم نزعة كلامية، فأغلبهم يتردد في إطلاق الكفر حتى على من حكم بكفره شرعاً ممن يتسمى بالإسلام.
أما الذين ليسوا بمسلمين فلم ينطقوا بالشهادتين أصلاً -كاليهود والنصارى والمشركين وعامة الكفار غير المسلمين- فهؤلاء ليسوا محل الحديث هنا؛ ولذلك ينبغي التنبه ما دمنا في أول الكلام عن مسألة التكفير في الطحاوية، ينبغي التنبه إلى أن كل الكلام الذي سيرد إلا القليل يرد في أهل القبلة من يكفر منهم ومن لا يكفر، ومتى يخرج مدعي الإسلام الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله من الملة، أو متى يكفر كفراً دون كفر أو كفراً مغلظاً؟ هذا هو موضوع الحديث.
فلذلك بعض الناس يفهم خطأ أن هذا الحديث كله ينطبق على جميع الكفار، وأن هناك خلافاً بين المسلمين في مسألة تكفير الكفار، وهذا غير وارد، فلم يرد البحث هنا عن مسألة تكفير الكفار الخلص؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة تكفير اليهودي وتكفير النصراني وتكفير المشرك وتكفير من لم يسلم ولا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا تكفيره ليس محل البحث، وهذا الخلط الذي ذكرته هو الذي أوقع كثيراً من المثقفين وبعض المفكرين وبعض أدعياء العلم وبعض قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي في أن يترددوا في الحكم بكفر الكافرين الخلص؛ لأنهم ظنوا أن هذه الأحكام في إطلاق الكفر تنسحب على اليهود والنصارى.
وهذا جهل مطبق، بل رأيت وسمعت وقرأت عن بعض المنتسبين للعلم أنه يشكل عليهم هذا الأمر، وأتعجب حقيقة: لماذا يشكل عليهم هذا الأمر؟! حيث ظنوا أن قواعد التكفير تنسحب على اليهود والنصارى! وهذا أمر غير وارد، بل أمر مفروغ منه، فما بعد حكم الله حكم ولا بعد قول الله قول، إنما نتردد في الأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها؛ والأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها هي رد بعض أفراد العمل والاعتقادات التي تصدر من الناس إلى قواعد الشرع ونصوص الشرع الصادرة ممن يتسمون بأهل القبلة، أما الكفار الخلص فليسوا محل حديث، ولا يجوز لأحد أن يتردد في كفرهم؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المجمع عليه عند المسلمين جميعاً، حتى الفرق الضالة تقول بكفر الكفار الخلص من اليهود والنصارى والمشركين.
قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً ].
لو أن إنساناً يدعي الإسلام أنكر أو تردد في إثبات وجوب الزكاة أو في إثبات وجوب الصيام أو في ثبوت وجوب الحج أو في ثبوت وجوب الجهاد أو في ثبوت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما تواترت به النصوص، بمعنى: أنه اعتقد أن هذا لا يجب شرعاً، ونفى ما تواترت به النصوص من الواجبات؛ فإنه بذلك يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا محل اتفاق، وكذلك من أنكر المحرمات القطعية أو تردد في ذلك أو شك تديناً لا شك جهل؛ إذ قد يوجد جاهل لا يدري، لكن الذي يدين بعدم تحريم الربا أو بعدم تحريم الزنا أو بعدم تحريم الخيانة والغدر أو بعدم تحريم دم المسلم ونحو ذلك، أو يشك في ذلك؛ فإنه بذلك يكفر، وإذا أنكره فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
إذاً: الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة -أو القطعية على تعبير كثير من أهل العلم- من أنكرها يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان جاهلاً يعلم.
قال رحمه الله تعالى: [ والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ].
يقصد بذلك أن الذين تكثر عندهم البدع بحيث تكون هي الأصل عندهم يكثر عندهم الفجور بحيث يكون هو الأصل؛ فإن هؤلاء مظنتهم النفاق والردة، وليس جزماً؛ لأننا لابد من أن نقيم عليهم الحجة، لكنه يقصد بذلك أننا نعرف ظواهر النفاق والردة بالبدع والفجور، فالناس الذين تكثر عندهم البدع إلى حد أنهم لا يعملون بالسنة ويكثر عندهم الفجور إلى حد أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ولا يحلون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله؛ فهؤلاء يظن بهم أنهم أهل نفاق وأهل ردة، لكن مع ذلك لا نحكم بنفاق الواحد منهم وردته إلا بعد استنفاذ الأصول الشرعية من إقامة الحجة والتأكد من توافر شروط الكفر وانتفاء موانعه.
قال رحمه الله تعالى: [ وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ].
يقصد بهذا: أن العبارة التي أوردها الطحاوي رحمه الله قد تفهم أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا قول المرجئة، والشيخ رحمه الله قد يميل إلى قول مرجئة الفقهاء في بعض الألفاظ وإن كان يوافق أهل السنة عملياً، فهذه اللفظة محتملة، فقد يقصد بها الانتصار لقول مرجئة الفقهاء من الأحناف، وهو حنفي، وقد يقصد التعبير عن مذهب أهل السنة والجماعة بتعبير يقرب الأحناف إلى أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية.
وقول الشارح: [ وفرق بين النفي العام ونفي العموم ] يقصد به أن هناك فرقاً بين أن نقول: إن المسلم لا يكفر بأي ذنب مطلقاً، وبين أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً، فالنفي العام: هو أن يقال بأنا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، هذا نفي عام، وهذا لا يجوز، فليس بصحيح أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، بدليل أن الذنوب تتفاوت، فالشرك هو أعظم الذنوب، ولاشك في أنه مكفر.
بل هناك ما هو دون الشرك من المكفرات، فالنفي العام هو الممنوع الذي لا يقره أهل السنة، وهو أن نقول بأنه لا يكفر أهل القبلة بأي ذنب مطلقاً.
لكن نفي العموم هو أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً إلا إذا استحل الذنب ولو كان صغيراً وقامت الحجة، وهذا قول صحيح؛ لأن الخوارج والمعتزلة وكثير من الأهواء يكفرون بكل ذنب، وأهل السنة لا يكفرون بكل ذنب، كما أن المرجئة لا تكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا هو النفي العام الذي لا يجوز، والصحيح هو نفي العموم، أي: ليس كل ذنب يكفر به صاحبه.
قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)، وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يضمن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك ].
قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر! وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار ].
الفرق بين المعتزلة والخوارج فرق فلسفي، وليس فرقاً علمياً، فكلهم يكفرون بالكبيرة، لكن الخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر خالص، والمعتزلة ينفون عنه الإيمان، ونحن نقول: يلزم من نفي الإيمان الكفر، لكن المعتزلة جاءت بأسلوب فلسفي كعادة أهل البدع، حيث يأتون من عندهم باختراعات في الدين، فنظراً لأنهم ما توافر عندهم النص القطعي على كفر من ارتكب الذنب قالوا بأنه لا مؤمن ولا كافر، وهذه المنزلة بين المنزلتين التي ما استطاعوا أن يفسروها إلى الآن؛ لأن نصوص الشرع كلها ليس فيها أن هناك حالة ثالثة، بل إما أن يكون المرء مؤمناً، ودرجات الإيمان تتفاوت تفاوتاً عظيماً، أو يكون كافراً، ودرجات الكفر تتفاوت.
فهم يقولون: لا نسميه مؤمناً، فأخرجوه من الإيمان، ونلزمهم شرعاً بأن يدخلوه في الكفر، لكنهم فروا مما قالت الخوارج؛ لأنهم قاموا بردة فعل ضد الخوارج، ومسألة الحوار بينهم وبين الخوارج هي التي جعلتهم يتكلفون مذهباً وسيطاً بزعمهم، وهو أنه -أي: مرتكب الكبيرة- إذا لم يتب في الدنيا فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، وفي الآخرة بينهم تشابه، لكن عند التفصيل نجد أن بينهم شيئاً من الفروق الفلسفية، فالخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وعذابه عذاب الكافرين والمشركين، وليس بينه وبينهم فرق، والمعتزلة تقول بأنه مخلد في النار أيضاً، وتقول بمنع الشفاعة كما تقول الخوارج، لكنها تقول بأن عذاب مرتكبي الذنوب في الآخرة -وإن كانوا مخلدين في النار ولا تشملهم الشفاعة- غير عذاب المشركين، وهذه من عندهم جاءوا بها تخلصاً من موافقة الخوارج.
ذكر القائلين بحصر التكفير في الاعتقاد دون العمل
يعني: لا يكفرون بالأعمال، إنما يحصرون التكفير في الاعتقادات البدعية.
قال رحمه الله تعالى: [ لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً ].
هذه النزعة ظهرت الآن على ألسنة بعض المنتسبين للعلم، وكتبوا فيها مؤلفات، وأثيرت القضية بين المشايخ وطلاب العلم بشكل فيه لبس وفيه غموض، وأنا أشم في رائحة إثارة هذه القضية تأثراً بجماعة التبين والتوقف، حيث تثار الآن قضية العذر بالجهل وعدم العذر بالجهل، وقضية أن الكفر هو الكفر الاعتقادي فقط، فهذه مسألة -في الحقيقة- تحتاج إلى تفصيل.
فهناك من يتبنون أن الكفر لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، وألفت في هذا مؤلفات، والمسألة فيها لبس، حتى إن بعضهم انتزع من بعض المشايخ والعلماء موافقة على مثل هذا القول مع أن الأمر يتضمن مذهباً آخر هو أشبه بمذاهب الواقفة ومذاهب بعض أهل الكلام القديمة؛ بل بمذاهب بعض معتدلة الخوارج إن صح التعبير أو غيرهم، بل أحياناً قد يوافقون مذاهب بعض المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء، فالمسألة فيها لبس.
فلذلك أقول: لا ينبغي أن نسلم بهذا المبدأ، وهو القول بأنه لا يكون الكفر كفراً إلا إذا كان اعتقادياً، فهذا غير صحيح ولا تدل عليه النصوص، بل هناك نصوص تدل على أن بعض الأعمال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، وبعض الأقوال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، ثم إن ترك الأعمال إذا كثر، وفعل الموبقات إذا كثر، بحيث صار الإنسان يفعل كل الموبقات مما يقدر عليه ويترك جميع الواجبات فإنه بذلك يكفر ولو لم نعرف اعتقاده.
إذاً: المسألة فيها تفصيل، فالكلام ليس على إطلاقه، وأقول: إن المسألة أثيرت الآن وتأثر بها كثير من طلاب العلم غير المتخصصين في العقيدة، فصار فيها لبس، وأرجو التنبه لذلك، والحذر من إطلاق مثل هذه الأحكام، كالقول بأنه لا يكون الكفر إلا بالاستحلال أو لا يكون الكفر إلا إذا كان اعتقادياً، أو القول بمسألة عدم العذر بالجهل مطلقاً، فهذه مسائل تحتاج إلى تحرير؛ لأن الناس يتلاعبون فيها بالألفاظ، ولكل إنسان فيها مفهوم، فينبغي أن تحرر أولاً، ويحرر المقصود ثانياً، ويفصل فيها ثالثاً، من ادعى أن هذه قواعد لازمة وأنها هي التي عليها السلف فأظنه ما صدق، السلف يفصلون، فقد تختلف أحوال الناس في مسألة العذر بالجهل أو الاستحلال أو الكفر الاعتقادي والعملي، تختلف أحوال الناس من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة.
قال رحمه الله تعالى: [ فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة؛ فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) ].
قال رحمه الله تعالى: [ وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ].
يعني: لا يكفرون بالأعمال، إنما يحصرون التكفير في الاعتقادات البدعية.
قال رحمه الله تعالى: [ لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً ].
هذه النزعة ظهرت الآن على ألسنة بعض المنتسبين للعلم، وكتبوا فيها مؤلفات، وأثيرت القضية بين المشايخ وطلاب العلم بشكل فيه لبس وفيه غموض، وأنا أشم في رائحة إثارة هذه القضية تأثراً بجماعة التبين والتوقف، حيث تثار الآن قضية العذر بالجهل وعدم العذر بالجهل، وقضية أن الكفر هو الكفر الاعتقادي فقط، فهذه مسألة -في الحقيقة- تحتاج إلى تفصيل.
فهناك من يتبنون أن الكفر لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، وألفت في هذا مؤلفات، والمسألة فيها لبس، حتى إن بعضهم انتزع من بعض المشايخ والعلماء موافقة على مثل هذا القول مع أن الأمر يتضمن مذهباً آخر هو أشبه بمذاهب الواقفة ومذاهب بعض أهل الكلام القديمة؛ بل بمذاهب بعض معتدلة الخوارج إن صح التعبير أو غيرهم، بل أحياناً قد يوافقون مذاهب بعض المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء، فالمسألة فيها لبس.
فلذلك أقول: لا ينبغي أن نسلم بهذا المبدأ، وهو القول بأنه لا يكون الكفر كفراً إلا إذا كان اعتقادياً، فهذا غير صحيح ولا تدل عليه النصوص، بل هناك نصوص تدل على أن بعض الأعمال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، وبعض الأقوال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، ثم إن ترك الأعمال إذا كثر، وفعل الموبقات إذا كثر، بحيث صار الإنسان يفعل كل الموبقات مما يقدر عليه ويترك جميع الواجبات فإنه بذلك يكفر ولو لم نعرف اعتقاده.
إذاً: المسألة فيها تفصيل، فالكلام ليس على إطلاقه، وأقول: إن المسألة أثيرت الآن وتأثر بها كثير من طلاب العلم غير المتخصصين في العقيدة، فصار فيها لبس، وأرجو التنبه لذلك، والحذر من إطلاق مثل هذه الأحكام، كالقول بأنه لا يكون الكفر إلا بالاستحلال أو لا يكون الكفر إلا إذا كان اعتقادياً، أو القول بمسألة عدم العذر بالجهل مطلقاً، فهذه مسائل تحتاج إلى تحرير؛ لأن الناس يتلاعبون فيها بالألفاظ، ولكل إنسان فيها مفهوم، فينبغي أن تحرر أولاً، ويحرر المقصود ثانياً، ويفصل فيها ثالثاً، من ادعى أن هذه قواعد لازمة وأنها هي التي عليها السلف فأظنه ما صدق، السلف يفصلون، فقد تختلف أحوال الناس في مسألة العذر بالجهل أو الاستحلال أو الكفر الاعتقادي والعملي، تختلف أحوال الناس من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة.
قال رحمه الله تعالى: [ فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة؛ فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) ].
هنا بعض التعليقات التي يقتضيها المقام، وهي متعلقة بالتكفير، وموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة، وهو من أعظم بواعث الفتنة قديماً وحديثاً -كما ذكر الشارح- بين المسلمين، وكما قرر أهل العلم، ومعروف سلفاً أن أول خروج عن أهل السنة والجماعة وأئمة المسلمين ظهر في التاريخ كان بسبب التكفير، وهو خروج الخوارج، وأول فتنة ظهرت في التاريخ -وهي الفتنة السبئية- كان من سماتها التكفير ونزعات التكفير، فموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة التي يجب التحذير منها في كل وقت ويبصر بها المسلمون على جهة العموم، وعندما تأتي مناسباتها على جهة الخصوص أرى أنه يتعين الكلام عنها، كمثل ظروفنا الراهنة الآن.
والحديث عن التكفير كان يجب أن يكون قبل هذا الوقت من قبل طلاب العلم وأهل العلم المعنيين بأمر الأمة، وأظن أن المشايخ وكثيراً من طلاب العلم قد أدوا بعض الواجب في ذلك، لكن ليس بالقدر الكافي في نظري.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [68] | 3357 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [43] | 3122 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [64] | 3029 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [19] | 2989 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2852 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [23] | 2846 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [45] | 2829 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [80] | 2793 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [92] | 2782 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [95] | 2756 استماع |