أرشيف المقالات

{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا }

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا


﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].
 
﴿ وَإِذْ ﴾ اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي ﴿ جَعَلْنَا ﴾ صيرنا ﴿ الْبَيْتَ ﴾ عَلَمٌ بالغلبة على الكعبة، كما غلب النجم على الثريا، والكتاب للقرآن، وقد عُرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية، وأتى هنا بـ"ألــ" للتفخيم والتعظيم، ﴿ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ﴾ من ثاب يثوب إذا رجع، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به، والتاء في مثابة للمبالغة؛ لكثرة من يثوب إليه.
 
قال مجاهد وابن جبير: "يثوبون إليه من كل جانب"؛ أي: يحجونه في كل عام، فهم يتفرَّقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطرًا.
 
ولما كان المقصود من هذا ذِكْرَ منقبة البيت والمنَّة على ساكنيه، كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه.
 
﴿ وَأَمْنًا ﴾ أخبر به عن البيت باعتبار أنه سببُ أمنٍ، فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة؛ أي: وجعلناه أمنًا للناس؛ أي مكان أمنٍ يأمَن الناس فيه على دمائهم، وأموالهم، حتى أشجار الحرم، وحشيشه آمن من القطع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾ [إبراهيم: 35]، فالناس كانوا يقتتلون، ويُغِير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه؛ لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمنًا للناس والطير والوحش إلا الخمس الفواسق؛ فخُصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
وفيه ظهور رحمة الله؛ فإنه لما جعل هذا البيت مثابة، والناس لا بد أن يرجعوا إليه، رحِمهم بأن جعله أمنًا، وإنما أحلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار للضرورة؛ وهي ساعة الفتح؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ))؛ [البخاري]، ثم أورد صلى الله عليه وسلم سؤالًا قال فيه: ((فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ))، والحكم لله العلي الكبير؛ أذِن للرسول في تلك الساعة، ولكنه لم يأذن لأحد بعده كما لم يأذن لأحد قبله؛ ولهذا نُهي عن حمل السلاح في الحرم حتى يبقى كل إنسان آمنًا؛ ولما طُعِن ابن عمر رضي الله عنهما وهو على راحلته في مِنًى، طعنه أحد الخوارج بسنان الرمح في أخمص قدمه حتى لزقت قدمه بالركاب، جاءه الحَجَّاج يَعُوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟! فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: "حملت السلاح في يوم لم يكن يُحمَل فيه، وأدخلت السلاح الحرمَ ولم يكن السلاح يدخل الحرم"؛ وبهذا تعرف عِظَمَ جُرْمِ أولئك الذين يوقعون المخاوف بين المسلمين في مواسم الحج، وأنهم - والعياذ بالله - من أعظم الناس جرمًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا البلد آمنًا في كل وقت؛ فكيف في وقت أداء مناسك الحج التي ما أُمِّن - والله أعلم - إلا لأجلها؟
 
ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخْذَ القوي مالَ الضعيف، ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة، كان الأمن يومئذٍ هو الحيلولة بين القوي والضعيف، فجعل الله البيت أمنًا للناس يومئذٍ؛ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]، فهذه منَّةٌ على أهل الجاهلية، وأما في الإسلام، فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه، وما أقامه من حكَّامه، فكان ذلك أمنًا كافيًا؛ قال السهيلي: "فقوله تعالى: ﴿ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة، فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام".
 
والمراد من الْجَعْلِ في الآية إما الجعل التكويني؛ لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه، فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية، ويسرهم إلى تعظيمه، وإما الجعل أنْ أَمَرَ الله إبراهيم بذلك، فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل، وبثَّه في ذريته، فتلقَّاه أعقابُهم تلقِّي الأمور المسلَّمة، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام، إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان، وتم مراد الله تعالى.
 
فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير، ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة، حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنَّابي؛ نسبة إلى بلدة يُقال لها جنَّابة كبير القرامطة؛ إذ قتل بمكة آلافًا من الناس، وكان يقول لهم: يا كلاب، أليس قال لكم محمد المكي: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]؛ أي أمن هنا، وهو جاهل غبي؛ لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنًا في مدة الجاهلية؛ إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم، أو هو خبر مراد به الأمر؛ مثل: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228].
 
﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾ على الأمر، وفي قراءة بفتحها ﴿ واتَّخَذُوا ﴾، جعلوه فعلًا ماضيًا، أما قراءة: ﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾ على الأمر، فاختُلف مَن المواجه به، فقيل: إبراهيم وذريته؛ أي: وقال الله لإبراهيم وذريته: اتخذوا، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، أي: وقلنا اتخذوا.
 
ويؤيده ما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلًّى؟)).
 
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيدِ عمرَ، فقال: ((هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فقال: لم أُومَر بذلك، فلم تغِبِ الشمس حتى نزلت: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125])).
 
﴿ مِنْ ﴾ دخلت "من" لبيان المتَّخَذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى ﴿ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه؛ قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وخرجه البخاري، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى "مقام إبراهيم".
 
وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم.
 
قال أنس رضي الله عنه: "رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم"؛ حكاه القشيري.
 
﴿ مُصَلًّى ﴾ موضع صلاة، فمن السنةِ لمَنْ فرغ من الطواف بالبيت صلاة ركعتين خلف المقام.
 
وفيه أن الله سبحانه وتعالى يثيب العامل بأكثر من عمله؛ فإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم الكلمات جعله الله تعالى إمامًا للناس، وأمر الناس أن يتخذوا من مقامه مصلًّى؛ وهذا بعض من إمامته.
 
﴿ وَعَهِدْنَا ﴾ وصينا وصية بما هو هام، وليست مجرد الوصية، بل لا تكون عهدًا إلا إذا كان الأمر هامًّا؛ ومنه عهْد أبي بكر بالخلافة إلى عمر، ومعلوم أن أهم ما يكون من أمور المسلمين العامة الخلافةُ.
 
﴿ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ ابن إبراهيم، وأبو العرب، والذبيح عليه السلام، ﴿ أَنْ طَهِّرَا ﴾ المراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس؛ بأن يُحفَظ من القاذورات والأوساخ؛ ليكون المتعبد فيه مقبلًا على العبادة دون تكدير، ومن تطهير معنوي؛ وهو أن يبعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عُريًا دون ثياب للرجال والنساء.
 
وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلًا لعمارة المسجد الحرام؛ لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 34]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة: 28].
 
﴿ بَيْتِيَ ﴾ هذه إضافة تشريف، لا أن مكانًا محل لله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه، صار له بذلك اختصاص، فحسنت إضافته إلى الله بذلك، وصار نظير قوله: ﴿ نَاقَةُ اللَّهِ ﴾ [الأعراف: 73]، و﴿ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 87]؛ من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره، فناسب الإضافة إليه تعالى.
 
﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ بدأ بهم لأن عبادتهم خاصة بهذا المسجد، ﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾ الذين يقيمون فيه للعبادة، ﴿ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد؛ لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لِما هُيِّئ البيت له.
 
وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي؛ لأنهما أقرب أحواله إلى الله، وقدَّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان والترتيب، ولم يعطف السجود على الركع؛ لأن الوصفتين متلازمان، ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣