ألا أخبركم عن النفر الثلاثة (4)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
بسم الله الرحمن الرحيم عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه». وعن أبي هريرة -رضي الله عليه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (1) قال ابن قتيبة: إن الحياء يمنع صاحبه من المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه، وأفرده بالذكر لأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر وهو أساس التقوى، وهو من مبادئ الإيمان، ووجود المبدأ غير وجود الشيء، والأساس غير البنيان، نعم وجود المبدأ والأساس يدل أن الشيء كاد أن يوجد، فلا يغرنك كون بعض الكفرة ذا حياء لأن الانهماك والاشتغال في الدنيا لم يرزقه الإيمان، وإن وصل إلى فيه، والغفلة تمنعه أن تنبت فيه شجرة الإيمان وتثمر وتذهو، فالكافر الحيي كاد أن يدخل الباب ولما يدخل، فمن استحيى من الله لا يفقده حيث أمره ولا يجده حيث نهاه (2) وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار» (3) قال المناوي: «الحياء من الإيمان»قال الزمخشري: جعل كالبعض منه لمناسبته له في أنه يمنع من المعاصي كما يمنع الإيمان، وقال ابن الأثير: جعل الحياء -وهو غريزة- من الإيمان، وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له نقية، فصار كالإيمان الذي يقطع بينهما وبينه، وجعله بعضه لأن الإيمان ينقسم إلى اتئمار بما أمر اللّه وانتهاء عما نهى عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان أخص الإيمان «والإيمان في الجنة» أي يوصل إليها (والبذاء) الفحش في القول (من الجفاء) أي الطرد والإعراض وترك الصلة والبر (والجفاء في النار) وسئل بعضهم: هل يكون الحياء من الإيمان مقيد أو مطلق؟ فقال: مقيد بترك الحياء في المذموم شرعاً وإلا فعدمه مطلوب في النصح والأمر والنهي الشرعي، فتركه في هذه الأشياء من النعوت الإلهية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة: 26]، {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}[الأحزاب:53] (4) وقال ابن عطاء: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء، قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:14] (5) وعن سلمان -رضي الله عليه- قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرا أو هلكة نزع منه الحياء، فلم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا كان مقيتا ممقتا نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظا غليظا، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا كان كذلك نزعت ربقة الإسلام من عنقه، فكان لعينا ملعنا (6) وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: أبرار الدنيا الكذب وقلة الحياء، من طلب الدنيا بغيرهما فقد أخطأ الطريق والمطلب، وأبرار الآخرة الحياء والصدق، فمن طلب الآخرة بغيرهما قد أخطأ الطريق والمطلب (7) الحياء خلق الإسلام قال -صلى الله عليه وسلم-: {إن لكل دين خلقا، وإن خلق الإسلام الحياء}(8) قال المناوي {إن لكل دين خلقاً} أي طبعاً وسجية {وإن خلق الإسلام الحياء} أي طبع هذا الدين وسجيته التي بها قوامه أو مروءة هذا الدين التي بها جماله الحياء، فالحياء أصله من الحياة فإذا حيي القلب باللّه تعالى فكلما ازداد حياؤه باللّه ازداد منه حياة، ألا ترى أن المستحي يعرق في وقت الحياء، فعرقه من حرارة الحياة التي هاجت من الروح، فمن هيجانه تفور الروح فيعرق منه الجسد، ويعرق منه أعلاه لأن سلطان الحياة في الوجه والصدر، وذلك من قوة الإسلام، لأن الإسلام تسليم النفس والدين خضوعها وانقيادها، فلذلك صار الحياء خلقاً للإسلام فيتواضع ويستحي، وقيل: يعني الغالب على أهل كل دين سجية سوى الحياء، والغالب على أهل ديننا الحياء، لأنه متمم لمكارم الخلاق، وإنما بعث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لإتمامها، ولما كان الإسلام أشرف الأديان أعطاه اللّه أسنى الأخلاق وأشرفها، وهو الحياء (9) وعن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم الأسود بن يزيد كان مجتهدا في العبادة يصوم حتى يخضر جسده ويصفر. وكان علقمة بن قيس يقول له: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: راحة هذا الجسد أريد.. فلما احتضر بكى، فقيل له" ما هذا الجزع؟! قال مالي لا أجزع، ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمني الحياء منه مما قد صنعته، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيا منه، ولقد حج الأسود ثمانين حجة (10) وكان أحمد بن عاصم يقول: أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي، وليست المعرفة الإقرار به، ولكن المعرفة التي إذا عرفت استحييت (11) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالهوامش والمصادر: (1) رواه البخاري ومسلم ــ كتاب الإيمان برقم 51 (2) من فضل الله الصمد 2/55 (3) رواه الترمذي عن أبي هريرة ــ كتاب البر والصلة برقم 1932وقال حديث حسن صحيح (صحيح )حديث رقم: 3199 في صحيح الجامع (4) فيض القدير للمناوي 2/587 بتصرف يسير (5) شعب الإيمان ج: 6 ص: 147 (6) حلية الأولياء ج: 1 ص: 204 (7) شعب الإيمان ج: 4 ص: 233 (8) رواه ابن ماجة عن أنس وابن عباس (حسن) انظر حديث رقم: 2149 في صحيح الجامع.
(9) فيض القدير للمناوي 2/458 (10) حلية الأولياء ج: 2 ص: 103 (11) حلية الأولياء ج: 9 ص: 282 بتصرف