شرح كتاب التوحيد [18]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، وقول الله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس:106-107].

وقوله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]... الآية.

وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5]... الآيتان.

وقوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].

وروى الطبراني بإسناده: ( أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ) ].

تقدم لنا ما يتعلق بالاستعاذة بغير الله عز وجل.

قال: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره).

(من). هذه تبعيضية. وقوله: (أن يستغيث بالله). الاستغاثة: هو طلب الغوث، والغوث: هو إزالة الشدة.

قال: (أو يدعو غيره). الدعاء: هو سؤال الله عز وجل. والفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من مكروب، وأما الدعاء فإنه يكون من مكروب وغيره، وعلى هذا يكون الدعاء أعم من الاستغاثة، قال: (أو يدعو غيره). من صنم وضريح وقبر وغير ذلك.

ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة؛ فإن هذا الباب اشتمل على بيان بعض أنواع الشرك، وهو صرف عبادة الدعاء لغير الله عز وجل، أو صرف عبادة الاستغاثة إلى غير الله عز وجل، وهذا نوع من الشرك.

وسبق أن ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن يدعو الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا حكمه أنه أجل العبادات وأفضل القربات كما ذكر المؤلف رحمه الله الأدلة على ذلك.

القسم الثاني: أن يدعو الأموات من الأضرحة والقبور، وهذا حكمه أنه شرك أكبر، وذكرنا العلة في ذلك، وهي أن كونه يدعو هذا القبر هذا يدل على أنه اعتقد أنه يتمكن من الفعل دون أن يباشر السبب، وهذا من خصائص الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الذي يتمكن دون أن يباشر.

القسم الثالث: أن يدعو غير الله عز وجل في ما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذا شرك أكبر.

القسم الرابع: أن يدعو غير الله بذل ورهبة ورغبة لا تكون إلا لله عز وجل؛ فهذا أيضاً شرك أكبر.

القسم الخامس: أن يدعو الغائب؛ فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأن اتساع السمع لسماع البعيد هذا من خصائص الله عز وجل.

القسم السادس: أن يدعو غير الله في ما يقدر عليه؛ فهذا جائز ولا بأس به.

ومثل هذه الأقسام كما ذكرناها في الاستعاذة نذكرها أيضاً في الدعاء، كذلك تذكر في الاستغاثة كما هي في الاستعاذة والدعاء.

قال رحمه الله: (وقول الله تعالى: وَلا تَدْعُ [يونس:106]). لا: هذه ناهية. مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:106]. يعني: سوى الله، غير الله.

مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يونس:106]. يعني: لا يجلب لك نفعاً من مال أو صحة أو نحو ذلك، لا يجلب لك نفعاً لا دينياً ولا دنيوياً ولا بدنياً ولا مالياً إن عبدته من دون الله عز وجل.

وَلا يَضُرُّكَ [يونس:106]. يعني: لا يصيبك أيضاً بالضرر إن تركت عبادته، إن عبدته لا ينفعك، وإن تركت عبادته أيضاً لا ينفعك.

فَإِنْ فَعَلْتَ [يونس:106]. إن: هذه شرطية، وفعلت: فعل الشرط.

فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106]. أي: في هذه الحالة تكون من الظالمين، من المشركين الذي ظلم نفسه بالشرك، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

ومناسبة هذه الآية لما ترجم له المؤلف رحمه الله من قوله: باب من الشرك.. إلى آخره: أن فيها النهي عن دعاء غير الله عز وجل، وأن دعاء غير الله عز وجل شرك ينافي التوحيد.

قال رحمه الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ [يونس:107]. يصبك. وَإِنْ [يونس:107]. هذه شرطية.

قال: يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [يونس:107]. يعني: يصبك بضر، والضر: ما يضر الإنسان من فقر ومرض ونحو ذلك.

قال: بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ [يونس:107]. الفاء هذه واقعة في جواب الشرط. فَلا كَاشِفَ لَهُ [يونس:107] يعني: لا رافع له إِلَّا هُوَ [يونس:107] إلا الله عز وجل.

قال: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]. لا دافع لفضله سبحانه وتعالى.

قال: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].

مناسبة الآية للباب: فيه أن المستحق لأن يدعى هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي إذا أرادك بضر أو أصابك بضر فلا يكشفه إلا هو، وإذا أرادك بخير فلا يقدر أحد على دفعه، فإذا كان كذلك فإنه هو الذي يفرد بالدعاء، فدل ذلك على أن الدعاء من خصائصه؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي إذا مسك بضر لا يكشفه إلا هو، وإن أرادك بخير لا يقدر أحد من العباد على دفعه، فإذا كان كذلك فيجب أن يفرد بالدعاء، وأن دعاء غيره صرف لهذه الخصيصة التي اختص الله عز وجل بها، وهذا شرك، بل إن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حصر أن الذي يكشف الضر هو سبحانه، قال: إِلَّا هُوَ [يونس:107]. لا يكشف الضر إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع العباد أن يردوا ما أراده الله سبحانه وتعالى بعبده من خير.

قال رحمه الله تعالى: وقوله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]. (ابتغوا): اطلبوا. وقوله: عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]. الرزق: العطاء.

وقوله: وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]. يعني: أفردوه بالعبادة.

وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17]. الشكر: هو الاعتراف بالمنعم، والشكر يكون بثلاثة أمور: بالقلب وباللسان وبالجوارح.

فأما القلب فيعترف العبد ويوقن أنها من الله سبحانه وتعالى، وأما اللسان فإنه يشكر الله عز وجل على هذه النعم، وأما الجوارح فإنه يسخر جوارحه في طاعة الله عز وجل.

قال: وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]. يوم القيامة تردون إلى الله عز وجل فيجازي كل عامل بعمله.

وفي هذه الآية وجوب إفراد الله عز وجل بالعبادة، قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]. فيه وجوب إفراد الله عز وجل بالعبادة، والدعاء من العبادات، هذا من وجه.

ومن وجه آخر أيضاً في هذه الآية: وجوب إفراد الله عز وجل بالدعاء؛ لقوله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]. يعني: اسألوا الله عز وجل دون غيره، وإذا كان كذلك فصرف هذه العبادة لغير الله عز وجل شرك، ففيه: إفراد الله عز وجل بالعبادة، والدعاء من العبادات.

وفيه أيضاً: إفراد الله بالدعاء في قوله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]. وإذا كان كذلك فصرف هذه العبادة لغير الله عز وجل شرك.

قال رحمه الله: (وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5]). (من أضل): يعني لا أحد أشد ضلالاً، والضلال: هو مخالفة الطريق المستقيم.

مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف:5] يعني: يسأل غير الله عز وجل.

مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الأحقاف:5] يعني: لا يقدر على إجابة سؤاله.

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5] يعني هذه مصيبتان: المصيبة الأولى: أنه لا يقدر على إجابة سؤاله. والمصيبة الثانية أيضاً: أنه غافل عن عبادته ولا يسمع دعاءه.

وهذه مصيبة ثالثة: قال الله عز وجل: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ [الأحقاف:6]. يعني: جمعوا يوم القيامة [ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً [الأحقاف:6]. يعني: هؤلاء المدعوون يكونون أعداءً للداعين. وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]. أي: كانوا جاحدين لعبادتهم.

وفي هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى جعل الدعاء عبادة، قال: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]. والعبادة يجب صرفها لله عز وجل، وصرفها لغير الله عز وجل شرك أكبر: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو [الأحقاف:5]. ثم قال: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]. فسمى الله عز وجل الدعاء عبادة، وإذا كان كذلك فيجب إفراد الله عز وجل به، وصرفه لغير الله عز وجل شرك أكبر مخرج من الملة.

قال رحمه الله: (وقوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]). أم: هذه منقطعة، وهي بمعنى: بل.

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ [النمل:62]. المضطر: الذي وقع في الضرر، والمكروه، يعني: مسه الضر.

إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]. يزيل السوء، والسوء: هو ما يسوء الإنسان.

وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62]. الإضافة بمعنى: في، يعني: خلفاء في الأرض يخلف كل قرن القرن الذي قبله. فقوله: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [النمل:62]. يذهب هذا القرن ويخلفه قرن بعده خلفاء.

قال: أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]. يعني: لا إله مع الله سبحانه وتعالى. قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]. أي: تتذكرون تذكراً قليلاً في عظمة الله عز وجل ونعمه عليكم، وبهذا تقعون في الشرك.

في هذه الآية بين الله عز وجل أن الذي يجيب المضطرين ويكشف ما وقع بهم من ضرر هو الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

وقوله سبحانه وتعالى: أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62]. يعني: ليس هناك إله مع الله سبحانه وتعالى يفعل هذه الأشياء، وإنما الذي يختص بإجابة الداعين وكشف ضرر المضطرين هو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فإنه يجب أن يفرد بالعبادة سبحانه وتعالى، وأن صرف هذه العبادة من الدعاء والاستغاثة لغير الله عز وجل شرك.

قال رحمه الله: (وروى الطبراني بإسناده: ( أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق ). الطبراني اسمه سليمان بن أحمد الطبراني رحمه الله، وله كتب كثيرة، من علماء الحديث، وله معجم خاص في مشائخه، بلغ مشائخه ما يقربون من ألف شيخ، وله المعاجم الثلاثة: المعجم الكبير، والمعجم الصغير، والمعجم الأوسط.

قال: ( أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق ). وهذا المنافق هو عبد الله بن أبي ابن سلول .

( يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم ). يعني: نطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عنا أذى هذا المنافق. ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ). يعني: اللجوء في كشف الضرر.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل ). وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف لكن معناه صحيح، وهذا من تأدب النبي صلى الله عليه وسلم مع الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقدر على أن يغيثهم، فقد تقدم لنا في أقسام الاستغاثة: أن الاستغاثة بالمخلوق في ما يقدر عليه جائز ولا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقدر على أن يغيثهم من هذا المنافق، والذي يكون شركاً هو أن يستغاث بالمخلوق في ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.

ومناسبة هذا الحديث لما ترجم له المؤلف رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما يستغاث بالله ). فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الاستغاثة بالله عز وجل، فدل ذلك على أنها عبادة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفرد بالاستغاثة دونما سواه.

والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب التوحيد [22] 2372 استماع
شرح كتاب التوحيد [10] 2287 استماع
شرح كتاب التوحيد [36] 2246 استماع
شرح كتاب التوحيد [8] 2180 استماع
شرح كتاب التوحيد [19] 2169 استماع
شرح كتاب التوحيد [6] 2045 استماع
شرح كتاب التوحيد [29] 2022 استماع
شرح كتاب التوحيد [7] 1879 استماع
شرح كتاب التوحيد [27] 1826 استماع
شرح كتاب التوحيد [12] 1822 استماع