مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
2 - الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
مصاير الأيام - قصائد سورية - قصائد لبنانية - مصرع
شوقي - شعور شوقي بالوجود - بين أحمد شوقي وحافظ
إبراهيم
مصاير الأيام
هذا عنوان قصيدة صور بها شوقي صروف الحياة من عهد الطفولة إلى عهد المشيب. ابتدأ الشاعر بحياة الطفل في (المكتب)، والمكتب كلمة جديدة يراد بها المدرسة الأولية، وهي كذلك في عرف وزارة المعارف، فهي تقول المكاتب العامة بعد أن كانت تقول المدارس الأولية.
وكان العرف المدرسي قبل سنين يعمم كلمة المكتب بحيث تشمل حجرة الدرس، ولو كانت في مدرسة عالية وشوقي في هذه القصيدة يتمثل حياة الأطفال، ويحسها أصدق إحساس ألاَ حبذا صحبةُ المكتبِ ...
وأحبِبْ بأيامها أحبِبِ ويا حبذا صِبْيةٌ يلعبون ...
عِنانُ الحياة عليهم صَبي كأنهم بَسَمات الحياة ...
وأنفاس ريحانها الطيّب وعبارة (عِنان الحياة عليهم صَبِي) عبارة طريفة، والمراد بصبا العنان هو الرقة واللين ثم يلتفت الشاعر فيرى أن الأطفال لا يفرحون بالمكتب كل الفرح، ولا يرتاحون إليه كل الارتياح، وكيف والأمر كما قال: يُراح ويُغدَى بهم كالقطيع ...
على مشرق الشمس والمغربِ إلى مرتعٍ ألِفُوا غيره ...
وراعٍ غريب العصا أجنبي وهذان البيتان من أروع ما صورت به حياة الأطفال في رعاية المعلمين! وصور اختلاف قواهم باختلاف أسنانهم فقال: فراخٌ بأيكٍ فمن ناهضٍ ...
يروض الجناح ومن أزغب وصور غفلتهم عن المصير المرتقب فقال: مقاعدهم من جَناح الزمان ...
وما علموا خَطَر المركب وقد جاد الوحي على شوقي ببيتين في غاية من العذوبة والصدق، أما البيت الأول فهو قوله في تلوين حيوية الأطفال: عصافير عند تهجّي الدروس ...
مهارٌ عرابيد في الملعبِ وأما البيت الثاني فهو قوله في اختلاف الإحساس باختلاف أوقات الجرس: لهم جرَسٌ مُطربٌ في السراح ...
وليس إذا جدَّ بالمطربِ وهل ينسى المدرسون لا التلاميذ أن جرس الانصراف محبوب الرنين، وأن جرس الدرس بغيض الضجيج؟ وأذكر من باب الفكاهة أني كنت أشرح لأحد نظار المدارس قيمة الطرافة في هذا البيت فقال: إن شوقي نسي جرس الغداء! ثم قال شوقي: جنون الحداثة من حولهم ...
تضيق به سَعةُ المذهب عدا فاستبدّ بعقل الصبيّ ...
وأعدى المؤدب حتى صبى والغرض قد التوى على شوقي في هذين البيتين بعض الالتواء، لأنه ساوى بين الجنونين: جنون الأطفال وجنون المعلمين وأخطأ شوقي في اختيار كلمة (المؤدب)، والصواب أن يقول (المعلم).
فهناك فرق بين التأديب والتعليم، فالتأديب هو التثقيف، والتعليم هو الترتيب.
وفي كلام الجاحظ عبارة تفصح عن الفرق بين المؤدب والمعلم، وتدل بوضوح على أن المؤدبين أكبر من المعلمين ثم نقل شوقي تلاميذه من المكتب إلى المدرسة ثم إلى الحياة فقال: فيا ويحهم! هل أحسوا الحياة ...
لقد لعبوا وهي لم تلعب تجرب فيهم وما يعلمون ...
كتجربة الطب في الأرنب سقتهم بسم جرى في الأصول ...
وروَّى الفروع ولم ينضب ودارَ الزمان فدال الصِّبا ...
وشب الصغار عن المكتب وجدَّ الطِّلاب وكدَّ الشبا ...
ب وأوغل في الصعب فالأصعب وعادتْ نواعمُ أيامه ...
سنينَ من الدأَب المنصِب وعُذِّبَ بالعلم طُلابهُ ...
وغصُّوا بمنهله الأعذَب والمجال يضيق عن تشريح هذه القصيدة، القصيدة التي قال فيها شوقي: وكم منجب في تَلقي الدروس ...
تَلَقّى الحياةَ فلم يُنجبِ فأرجو أن يلتفت إليها المتسابقون، لأنها من غرو الشوقيات قصائد سورية في المقال السالف نصصنا على السر في اهتمام شوقي بأخبار سورية ولبنان، فلنذكر اليوم أن الشعر تحدث عن سورية في قصائد جياد، منها القصيدة التي تحدث فيها عن الشهداء في سبيل الاستقلال: بني سوريةَ التئموا ليومٍ ...
خرجتم تطلبون به النزالا سلوا الحرية الزهراء عنا ...
وعنكم هل أذاقتنا الوصالا وهل نِلنا كلانا اليومَ إلا ...
عراقيب المواعد والمطالا عرفتم مهرها فمهرتموها ...
دماً صَبَغ السباسب والدغالا وقمتم دونها حتى خضبتم ...
هوادجها الشريفة والحجالا دعُوا في الناس مفتوناُ جباناً ...
يقول: الحرب قد كانت وبالا أيطلب حقهم بالروح قومٌ ...
فتسمع قائلاً ركبوا الضلالا ومنها القصيدة الأموية، وقد أشرنا إليها في المقالة الماضية.
ومنها القصيد الذي لا يطاوله قصيد، فما نظم شاعر أروع مما نظم شوقي في (نكبة دمشق)، ولا ارتاع شاعر كما ارتاع شوقي لنكبة دمشق: لحاها الله أنباءً توالتْ ...
على سمع الوليِّ بما يَشُقُّ يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ ...
ويجملها إلى الآفاقِ بَرقُ تكاد لروعة الأحداث فيها ...
تخال من الخرافة وهي صدق وقيل معالم التاريخ دُكَّتْ ...
وقيل أصابها تَلفٌ وحَرْق ألستِ دمشق للإسلام ظئراً ...
ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعَق وفي هذه القصيدة يقول شوقي في وصف ما صنعت النكبة بنساء دمشق: بَرزْنَ في نواحي الأيك نارٌ ...
وخَلْفَ الأيك أفراخ تُزقُّ إذا رمنَ السلامةَ من طريقٍ ...
أتتْ من دونه للموتِ طُرْق بليل للقذائفِ والمنايا ...
وراء سمائه خطفٌ وصعْق إذا عَصَف الحديد احمرَّ أُفقٌ ...
على جَنَباتِهِ واسودَّ أُفق ثم توحي إليه ملائكة الشعر أن يقول: بني سورية اطّرحوا الأماني ...
وألقوا عنكم الأحلامَ ألقُوا فمن خِدَع السياسة أن تُغَرُّوا ...
بألقاب الإمارة وهي رِقُّ وكم صَيَدٍ بدا لك من ذليل ...
كما مالتْ من المصلوب عُنْق نصحت ونحن مختلفون داراً ...
ولكن كلنا في الهمِّ شرق ويجمعنا إذا اختلفتْ بلادٌ ...
بيانٌ غيرُ مختلف ونُطْق وقفتم بين موتٍ أو حياةٍ ...
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقُوا ومن يسقى ويشرب بالمنايا ...
إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقُوا ففي القَتْلى لأجيالٍ حياةٌ ...
وفي الأسرى فدًى لهم وعتق وللحرية الحمراء بابٌ ...
بكل يَدٍ مضرَّجة يُدقُّ هل يحتاج هذا الشعر إلى شرح؟ هيهات! قصائد لبنانية المذاق يختلف بعض الاختلاف أو كل الاختلاف بين قصائد شوقي السورية وقصائده اللبنانية، فهو في الشام يعاني نارين: الذكريات للأمجاد الأموية، ونار الحقد على الاستعمار الفرنسي، وقد جاهده السوريون أصدق الجهاد، وعانوا في دفعه مكاره لا تطاق ولا كذلك حال شوقي في لبنان، فهو هنالك شاعر يصدح فوق أفنان الجمال، ولا يرى ما يسوءه من الاضطهاد، لأن الظواهر كانت تزعم أن الفرنسيين واللبنانيين على وفاق كان لبنان لعهد زيارات شوقي وطن الشعر والجمال والأمان والرخاء.
وكان اللبنانيون على فطرتهم الأصيلة من الترحيب الصادق بكل من يزور وطنهم الجميل، فأنس بهم شوقي كل الأنس، واطمأن إليهم كل الاطمئنان أيام شوقي في سورية كانت أيام جهاد، أما أيامه في لبنان فكانت أيام شهاد كان شوقي يكره أن يقول إن شبابه إلى أفول، وإن جاوز الستين، ثم شاء شيطانه أن ينقله إلى (زحلة) وطن الرحيق، ومعه المحامي فكري أباظة والموسيقار محمد عبد الوهاب.
وفي لحظة من لحظات الصراع بين العيون والقلوب هان عليه أن يبكي الشباب الذاهب فيقول: شيعتُ أحلامي بقلبٍ باكِ ...
ولممت من طُرُق الملاح شباكي ورجعتُ أدراجَ الشباب ووَردهُ ...
أمشي مكانهما على الأشواك وبجانبي واهٍ كأن خفوقه ...
لما تلفت جهشة المتباكي شاكي السلاح إذا خلا بضلوعه ...
فإذا أهيبَ به فليس بشاكي قد راعه أني طويت حبائلي ...
من بَعد طول تناولٍ وفكاك ويح ابن جنبي، كل غاية لذة ...
بعد الشباب عزيزة الإدراك لم تبق منا يا فؤاد بقية ...
لفتوّة أو فضلةٌ لِعراك كنا إذا صَفقتَ نستبقُ الهوى ...
ونَشُدّ شدَّ العُصبة الفُتّاك واليومَ تبعثُ في حين تهزّني ...
ما يبعث الناقوس في النُّسّاك وكان الرأي أن تُلقى هذه القصيدة في حفلة أعدها أهل زحلة لتكريم شوقي، وكان الأستاذ فكري أباظة هو الأثير عند شوقي حينذاك في إلقاء شعره البليغ، فاعترض الموسيقار عبد الوهاب قائلاً إن هذه القصيدة للغناء، وليست للإلقاء، ثم صدح بصوته الرنان: يا جارة الوادي طربت وعادني ...
ما يشبه الأحلام من ذكراك مثّلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى ...
والذكريات صدى السنين الحاكي لم أدر ما طيبُ العناق على الهوى ...
حتى ترفّقَ ساعدي فطواك لا أمس من عمر الزمان ولا غدٌ ...
جُمِع الزمان فكان يوم لقاك وفي هذه القصيدة يقول شوقي على عادته في التخوف من محجب الغيوب: لبنان ردَّتني إليك من النوى ...
أقدار سير للحياة دِرَاكِ نمشي عليها فوق كل فجاءةٍ ...
كالطير فوق مكامن الإشراك مصرع شوقي في مكتبة الدكتور طه بك حسين ظرف مختوم كتب عليه: (مصرع شوقي) فما الذي يحتويه ذلك الظرف المختوم؟ في إحدى العصريات من صيف سنة 1925 أو سنة 1926 حدثني الدكتور طه حسين أن شوقي أسفّ أبشع الإسفاف بقصيدة نشرتها جريدة المقطم عن هوى شوقي في لبنان وأعترف أني كنت أرى ما يرى الدكتور طه في تلك القصيدة يومذاك، فقد نشرت في المقطم على أسوأ حال من التحريف ثم دارت الأيام وعرفنا إنها أجود مما كنا نتوهم، وأنها في كل خاطر وعلى كل لسان في لبنان ثم دارت الأيام مرة ثانية فعرفنا أن الأريحية اللبنانية سمحت بأن يكثر من يقولون إن شوقي عناهم بذلك القصيد، القصيد الذي يهتف: وأغرَّ أكحلَ من مَها (بكْفَّية) ...
عَلِقَتْ محاجرُه دمى وعَلِقْتُه لُبنانُ دارتُهُ وفيه كِناسهُ ...
بين القنا الخطاّر خُطّ نَحيتُهُ السلسبيلُ من الجداول وِردهُ ...
والآسُ من خُضْر الخمائل قوتُه دخلَ الكنيسة فارتقبت فلم يُطل ...
فأتيت دون طريقه فزحمتُه فازورَّ غضبانا وأعرض نافراً ...
حالٌ من الغِيد الملاح عرفتُهُ فصرفت تلعابي إلى أترابه ...
وزعمتُهنّ لبانتي فأغرتُه فمشى إليَّ وليس أول جؤذر ...
وقعت عليه حبائلي فقنصته قد جاء من سحر الجفون فصادني ...
وأتيت من سِحر البيان فصدته لما ظفرت به، على حَرَم الهدى ...
لابن البَتُول وللصلاة وهبتُه إلى آخر القصيد شعور شوقي بالوجود بين قصائد شوقي في سورية ولبنان وقصائده في البلاد التركية والفرنسية آماد طوال، ومع هذا نجد أن إحساسه بالوجود على اختلاف الأزمان غاية في القوة والبريق وهل ننسى أن الجرائد المصرية لم تجد عند مصرع باريس في الحرب الحاضرة غير ما توجع به شوقي لباريس في الحرب الماضية؟ ولقد أقول وأدمعي منهلَّةٌ ...
باريسُ لم يعرفك من يغزُوكِ زعموك دار خلاعةٍ ومجانةٍ ...
ودعارةٍ، يا إفكَ ما زعموكِ إن كنتِ للشهوات رِيَّا فالعُلاَ ...
شهواتُهنّ مروَّياتٌ فيكِ ومن هذا الكلام نعرف أن للعلا شهوات أعنف من شهوات الأهواء. وقصيدة شوقي في غاية بولونيا قديمة العهد، وهي مع ذلك لطيفة النفس، ذكية الروح وأبياته في (شبه أمينة) أبيات لطاف، وقد رأيت بعيني صورة أمينة في غرف كثيرة من دار شوقي، بدون استثناء لحجرة الاستقبال، وهي البنية التي قال فيها ذلك الأب الحنان: وكم قد خلَتْ من أبيك الجيوب ...
وليست جيوبك بالخاليهْ ثم ماذا؟ ثم يبقى الحديث عن القصيدة التي حفظها غريم شوقي في الشعر والبيان، وهو حافظ إبراهيم، مع تفاصيل يوجبها التاريخ، ليعرف المتسابقون سرائر هذين الشاعرين، وليواجهوا يوم الامتحان مدرعين بالبصيرة واليقين.
والله عز شأنه هو القادر على أن يجعلهم طلائع الفكر والرأي في هذا الجيل. زكي مبارك