أرشيف المقالات

فضل الحسنة بعد السيئة وتقوى الله - خالد بن عبد الرحمن الشايع

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الخطبة الأولى:
الحمد لله.
أما بعد فيا أيها الناس:

المؤمن في هذه الدنيا يتقلب بين الحسنة والسيئة، فالدنيا مليئة بالفتن والشهوات، كما هي مليئة بالأعمال الصالحات، والعبد من خروجه من منزله ورجوعه إليه، تمر به مناظر وفتن يبتلى بها، فناجٍ برحمة الله، ومفتون بخذلان الله له، فما موقف المسلم مع تلك السيئات التي كُتبت على ابن آدم كل يوم؟
معاشر المؤمنين:
إنه الحبيب صلى الله عليه وسلم، لم يدع شيئًا من الخير إلا ودل الأمة عليه، ولم يدع شيئًا من الشر إلا وحذرهم منه.
فقد أخرج الترمذي في سننه وحسَّنه من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (الأمالي المطلقة [131]).
عباد الله:
نجد الجواب واضحًا في هذا الحديث، فعلى العبد أن يتقي الله ما استطاع لذلك سبيلاً، ثم متى ما تعثر في معصية فليتبع السيئة الحسنة؛ فإنها من رحمة الله تمحها، فكلما أخطأ المؤمن فليحدث عملاً صالحًا، فالمؤمن واقع في الذنب لا محالة، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ( صحيح مسلم [2749]).
وليس المعنى من الحديث إباحة الذنوب للناس، ولكنه رفع للقنوط عنهم، وبيان أن الذنوب قد قُدّرت على الناس، وأن عليهم أن يتوبوا إلى الله مباشرة، وأن يلتزموا التقوى ، فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، و"كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا".
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم.
ولما وعظ الناس، قالوا له: "كأنها موعظة مودع فأوصنا"، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة» (شرح السنة [181/1]).
وقال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قُبْلَة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: "هذا له خاصة؟" قال: «بل للناس عامة».
وفي "الصحيح" من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أيْ رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؛ اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة "اعمل ما شئت» (صحيح مسلم [2758]).
والمعنى فليعمل ما شاء ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عليّ قال: "خياركم كل مُفتن توَّاب"، قيل: "فإذا عاد؟" قال: "يستغفر الله ويتوب"، قيل: "فإن عاد؟" قال: "يستغفر الله ويتوب"، قيل: "فإن عاد؟" قال: "يستغفر الله ويتوب"، قيل: "حتى متى؟" قال: "حتى يكون الشيطان هو المحسور".
وقيل للحسن: "ألا يستحيي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود"، فقال: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا الاستغفار ".
وروي عنه أنه قال: "ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين"، يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب.
وفي (الصحيحين) عن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: "يا رسول الله إني أصبت حدًّا، فأقمه عليَّ"، قال: ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فقال: "يا رسول الله إني أصبت حدًّا، فأقم فيّ كتاب الله"، قال: «أليس قد صليت معنا؟» )) قال: "نعم"، قال: «فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدّك».
وخرجه ابن جرير الطبري من وجه آخر عن أبي أمامة، وفي حديثه قال: «فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تعد» فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
عباد الله: أتبعوا السيئات بالحسنات، فإنها تمحها، ولا يقنطكم الشيطان من رحمة الله فيجري بكم في أودية الضلال، والله غفور رحيم.
اللهم اغفر لنا زللنا وخطئنا، أقول قولي هذا.
 
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: إن العبد لا يدري متى تخرج روحه من جسده، ولكنه إذا كان كثير التوبة ، متبعًا للسيئة الأعمال الحسنة، أوشك أن يختم له بتوبة، فعلى العبد أن يعوّد نفسه كلما أذنب ذنبًا أحدث بعده توبة، وكلما أحدث توبة، أحدث بعدها حسنة، فالحسنات يذهبن السيئات، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء» قالوا: "لا يبقى من درنه شيء"، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا».
وفي (صحيح مسلم) عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره».
وفيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات» قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط».
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله».
وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يعمل السيئات، ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل حسنة أخرى، فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض».
ومما يكفّر الخطايا ذكر الله عز وجل، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
وفيهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك».
وفي "المسند" وسنن ابن ماجه بسند ضعيف والمعنى صحيح عن أم هانئ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا إله إلا الله لا تترك ذنباً، ولا يسبقها عمل».
وخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها» والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.
وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى من معصية إلا أن لسانه لا يفتر من ذكر الله، فقال: "إن ذلك لعونًا حسنًا"، يعني: أنه يعينه على التوبة والإقلاع عن المعصية.
وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالاً من شبهة: هل صلاته وتسبيحه يحط عنه شيئًا من ذلك؟ فقال: «إن صلى وسبح يريد به ذلك، فأرجو، قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]».
وقال مالك بن دينار: "البكاء على الخطيئة يحطّ الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس".
وقال عطاء: "من جلس مجلساً من مجالس الذكر ، كفّر به عشرة مجالس من مجالس الباطل".
عباد الله: إننا نتعامل مع رب كريم رحيم، يقبل القليل ويجزي عليه الكثير، ويقبل توبة التائبين، فعلينا أن نُقبل على ربنا بقلوب تائبة، وأن نعوّد أنفسنا كلما أذنبنا أن نبادر بعده بعمل صالح يمحه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢