أرشيف المقالات

محنة اليتم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تعلم فن الحياة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) محنة اليُتْم


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد قدوة المسلمين وإمام المرسلين، صاحب السيرة العطرة، الذي قال فيه ربُّ العالمين: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، أما بعد:
فالناظر المدقِّق في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها جوهرٌ ثمين، وجوهر السيرة - في نظري - هو خلاصتها، وخلاصتها أنها "مجموعة كبيرة من المِحَنِ والتحديات التي اعترضت طريقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من المولد إلى الوفاة، وقدرة فائقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على تخطِّيها، مُستعينًا بربِّه، متوكِّلًا عليه"، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدوتنا ومعلِّمنا، فلنستفِدْ من سيرته على نحوٍ يساعدنا على تخطِّي المحن والملمَّات الكثيرة التي تعترض طريقَنا هذه الأيامَ الصعبة.
 
لذلك سوف أعرض في هذه السلسلة - التي أرجو أن تصير كتابًا - لأهمِّ التحديات والصعاب التي واجَهَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته، وكيف نجح - بأبي هو وأمي - في تخطيها؛ وذلك حتى نستفيد من تجرِبته الخِصبة في صناعة مستقبل أفضلَ يليق بأُمَّةٍ قائدُها محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
وأول هذه التحديات التي اعترضت طريقَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال جنينًا في بطن أُمِّه: مسألة "اليُتْم"؛ فقد مات أبوه عبدالله بن عبدالمطلب وهو حملٌ لم يُولد بعد، فخرج رسول الله للدنيا يتيمَ الأب، ثم ماتت أمُّه السيدة آمنةُ بنت وهب وهو في سن السادسة من عمره، فأصبح يتيمَ الأب والأم، فترى: كيف تغلَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المحنة؟ وهل ترَكَت مسألة اليُتْم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أثرًا؟ وكيف تستفيد الأمَّةُ من تجربة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد؟
 
هيَّأ الله سبحانه وتعالى الأسباب المعينة لرسوله الكريم حتى يتغلَّب على هذه المحنة، فأحاطه بحبِّ أمِّه وحنانها في الأوقات القليلة التي قضتْها معه قبل وفاتها، تلك الوفاة المبكِّرة التي تشي بتعرُّضها لمرضٍ ما عقب وفاة زوجها عبدالله؛ ممَّا منعها من إرضاع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هيَّأ الله للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة أمِّه أسرةً بديلةً، وهي أسرة السيدة حليمة بنت أبي ذؤيب مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، التي قدَّمت له الحب والحنان، وعوَّضته لحد ما عمَّا يفتقده مثله من دفء الأسرة؛ فالسيدة حليمة أحاطت النبيَّ بحبِّها، ومثَّلت أسرتها أسرة بديلة لرسول الله، فزوجُها الحارث كان يرعى النبيَّ ويحيطه بحبه، وكذلك إخوته من الرضاعة عبدالله وأنيسة والشيماء مثَّلوا محيطه الصغير، فتراه يلعب مع عبدالله، وتراه بين يدي أخته الشيماء التي كانت تهدهده بكلماتها الطيبة[1]، فعوض هذا النبي صلى الله عليه وسلم عن جو الأسرة المفقود، وجعله ينشأ نشأةً سويَّةً صلى الله عليه وسلم.
 
وبعد وفاة أمِّه رعاه جدُّه عبدالمطلب زعيم مكة، الذي أحاطه بحبه ورعايته، وجعل رسول الله ينظره ويكتسب منه صفات القيادة والشعور بالأنفة وطهارة النسب، ثم لما مات جده كفله عمُّه أبو طالب؛ ليواصل ما انقطع من رعاية جده وحدبه عليه.
 
وهذا الذي تقدَّم يُشعرنا برعاية الله عز وجل لنبيِّه الكريم في هذه الفترة الدقيقة من حياته، فهو بفضله وعنايته يُوفِّر له الأيادي الحانية من مرضعة كريمة كثويبة أول مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حليمة السعدية، ثم رعاية جده، وحضانة أم أيمن برَكةَ الحبشية له آنذاك، ثم كفالة عمِّه...
وهؤلاء جميعًا جندٌ جنَّدهم الله لرعاية نبيه وتخفيف أثر اليُتْم عنه...
فما أعظَمَ نعمَ الله! وما أجمل لطفَه الخفيَّ!
 
ولا نجد فيما تقدَّم كبيرَ صنعٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لا يزال طفلًا، لكنا نجد رعاية إلهية فائقة، ولعلَّ هذا يطرح سؤالًا: ما الحكمة فيما قدَّره الله عز وجل على نبيِّه من يُتْم؟! يبدو أن ذلك كان لحكمة بالغة الرقيِّ، تظهر ملامحها في جملة نقاط؛ منها: ليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية الله، ويُصنع على عينه، وحتى لا يقول المُبطِلون: علَّمه أبوه، وكذلك حتى لا ينعم بمال أو نسب فيفسد؛ فالشدائد تصنع الرجال، وأضيف إلى هذا أن لكل يتيمٍ أن يفتخر أنه يشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة اليُتْم، فيُتْم النبي صلى الله عليه وسلم تشريفٌ لكل يتيم، وبارقةُ أملٍ لتحقيق مستقبل أفضلَ باتِّباع خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم.
 
والآن، ما مدى تأثُّر النبي صلى الله عليه وسلم بمسألة اليُتْم؟ لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثَّر بمسألة اليُتْم، وما أعنيه بالتأثُّر هنا هو التأثُّر المعروف من فاجعة فقدان الوالدين، والشعور بفقد السند، ويبدو هذا واضحًا من نصٍّ هامٍّ أَورَده ابن إسحاق؛ إذ يذكر "أن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجرًا، فلمَّا تهيَّأ للرحيل وأجمع السير، هبَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عمِّ: إلى من تَكِلُني؟ لا أب لي ولا أم، فرقَّ له أبو طالب، وقال: والله لأخرجنَّ به معي، ولا يُفارقني ولا أفارقه أبدًا"[2]، ومن هذا يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثَّر كما يتأثَّر غيرُه بفقدان والديه.
 
لكن وعلى الرغم من هذا الأثر الذي يبدو لغير المتبصِّر أثرًا سلبيًّا فإنه حمل في طيَّاته خيراتٍ كثيرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالطفل اليتيم رغم تأثُّره السلبيِّ بفقدان أحد والديه أو كليهما في نواحٍ عدة، فإنه يتأثَّر تأثُّرًا إيجابيًّا في نواحٍ أخرى، فالناظر لتراجم المبدعين يجد أن كثيرًا منهم أيتام، فهناك علاقة ما بين اليُتْم والإبداع؛ فاليتيم يمتلك طاقة هائلة، ويميل للجدية، وهو شخص يمتاز بسَعة الأفق والخيال، ولديه حلم، وصاحب رسالة، وهو فوق هذا هادئ الطبع، شديد الحساسية، على ما يذهب علماء النفس.
 
ولا شك أن وجود بيئة حاضنة بديلة - يُنمِّي هذه النواحيَ الإيجابية ويقوِّيها، ويُقلِّل من الآثار السلبية[3]، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئةَ متمثِّلةً في أسرة السيدة حليمة - على نحو ما أسلفنا - ثم في رعاية أم أيمن حاضنته بعد وفاة أُمِّه، ورعاية جده ثم عمه.
 
ومن ثم أثَّرت مسألة اليُتْم تأثيرًا إيجابيًّا في تشكيل شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتراه يتحدَّى الصعاب، ويتغلَّب عليها، ويستشعر أنه صاحب قضية، وتراه مهتمًّا بالفقراء والمستضعَفين، وقبل هؤلاء الأيتام الذين أوصى بهم، وحضَّ على رعايتهم.
 
ولنختتم الآن هذا التحديَ الأول الذي تخطَّاه رسول الله بعدة رسائلَ:
أولها: أن المحنة قد تتحوَّل لمنحة، فانظر كيف استفاد رسول الله من محنته، وخرج منها شعاع نور، ينشر الحب والعطف بين الناس، ويُعلِّمهم الرحمة، والرفق بالضعيف وصاحب الحاجة، وقبل ذلك يعلِّمهم الصلابة والقوة في مواجهة كافة تحديات الحياة.
 
وثانيها: أن المسلم - المسلم الحق - ينبغي أن يدرك يقينًا أن الصانع هو الله؛ فليحسن التوكُّل عليه، وليعلم أن الله لن يضيعه.
 
وثالثها: أن طريق النجاح قد تعتريه الصعابُ والعقبات، وهذا هو الطبيعي، لكن كما تخطَّى النبي صلى الله عليه وسلم الصعابَ، يمكن للمسلم تخطيها والوصولُ إلى القمة بالإصرار والعمل، وقبل هذا التوكُّل على الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].

[1] انظر: ابن حجر؛ الإصابة فى تمييز الصحابة، حـ 4، ص 457، مكتبة مصر، القاهرة د.
ت.

[2] السيرة النبوية، حـ 1، ص 122، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009 م.

[3] انظر: د/ منال بنت عمار الشريف؛ كيف يمكن الإسهام في تنمية الشخصية الإيجابية لليتيم، بحث منشور ضمن الأوراق العلمية للمؤتمر السعودي الأول لرعاية الأيتام، 22 - 24 جمادى الأولى 1432 هـ / 26 - 28 أبريل، 2011م، ص 473.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣