لماذا نصلي؟ [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده.

أما بعد:

فقد تكلمنا فيما مضى عن خصائص وفضائل الصلاة بالنسبة لسائر العبادات، وذكرنا جملة من فضائل الإتيان بالصلاة وما يترتب عليها، ومن المناسب أن نتكلم بعد أن أخذنا الترغيب في الصلاة أن نتناول جانب الترهيب من ترك الصلاة، وبيان شؤم ترك الصلاة.

أول شؤم ترك الصلاة إنها تركها كفر، فقد قال الله سبحانه وتعالى في حق المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].

قوله: (فَإِنْ تَابُوا) أي: تابوا عن شركهم وكفرهم.

قوله: (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) معتقدين وجوبها آتين بأركانها.

قوله: (وَآتَوْا الزَّكَاةَ) أي: المفروضة.

قوله: (فإخوانكم في الدين) أي: إخوانكم في دين الإسلام، هذا منطوق الآية، ومفهومها أن من أصر على ترك الصلاة أو على ترك الزكاة فليس من إخواننا في دين الإسلام.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه.

فانظر كيف علق عصمة الدم والمال على الإتيان بالشهادتين وبالصلاة وإيتاء الزكاة.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم .

وقال صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، رواه مسلم أيضاً.

وفي لفظ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).

وعن محجن بن الأبرع الأسلمي : (أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فؤذن للصلاة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟! قال: بلى، ولكني صليت في أهلي -يعني: صلى في مسجد أهله- فقال له: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت).

قوله: (إذا جئت فصل مع الناس) يعني: من صلى ثم تحول إلى مكان آخر وأقيمت الصلاة فليصل مع الجماعة الحاضرة، ولا يتخلف عن ذلك، لكن الصلاة الثانية تكون بنية النافلة؛ لأن الفريضة لا تصلى مرتين.

والشاهد في هذا الحديث قوله: (ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟). يعني: لو كنت مسلماً لصليت.

وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) وروي عنه بلفظ: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من ترك الصلاة فلا دين له).

وعن عبد الله بن شقيق قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة).

وهذا المعنى استقر في قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حتى إن نجاة غير المصلي من النار في نظرهم مما يلغز به ويذكر على أنه خلاف الأصل، قال الدينوري : كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط؟ -يعني: كأن هذا شيء لا يتصور وقوعه- فسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن أقيش رضي الله عنه، كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، يعني قال: لن أدخل في الإسلام حتى أستوفي هذا المال الربوي، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد. قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد. قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته -وهي الدروع التي تلبس في الحرب- وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال لأخته: سليه: أقاتلت حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة) وهذا الأثر حسن.

الشاهد: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعتقدون أن الشخص الذي لا يصلي ويدخل الجنة لغز!

و أبو هريرة كأنه يتحداهم عندما قال: (حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فسكت الناس ولم يستطيعوا الجواب على أبي هريرة ، فحكى لهم قصة هذا الصحابي، وختمها بقوله: فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة!).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له).

وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: من ترك الصلاة فقد كفر.

وقال أيوب : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أخشى ألا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وتارك الصلاة على صحة البدن لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يزوجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف.

هذه المعادلة يستحقها المجرم الأثيم الذي تهون عليه الصلاة، فمن هانت عليه الصلاة لم يعز عليه شيء، كيف يهون عليه أن يعيش من غير صلاة وهو يتقلب في نعم الله سبحانه وتعالى، وفي العافية التي أعطاه الله إياها، والمال والرزق والشمس والهواء؟!

كل هذه النعم يتمتع بها وهو لا يستحقها؛ لأن تارك الصلاة لا مسوغ ولا معنى لحياته بدون صلاة،

ومعنى كلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: أن تارك الصلاة ينبغي أن تحصل له نوع من المقاطعة الجماعية من جميع المسلمين؛ زجراً له عن هذه الجريمة.

أقوال أهل العلم في تارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها

ليس هذا أوان مناقشة حكم تارك الصلاة من الناحية التفصيلية، فإن هذا له مناسبة أخرى نرجو أن تأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، وهو ما يتعلق بقضية الكفر والإيمان، ويعبر عنها أحياناً بالأسماء والأحكام، فأقول: قطعاً يطلق على تارك الصلاة أنه كافر، ولا شك في وصفه بأنه كافر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصفه بأنه كافر، لكن ما نوع هذا الكفر؟ هل من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها مسلم أم كافر خارج من الملة؟

يوجد خلاف بين العلماء كما هو معروف، والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها، أما من تركها جحوداً -بمعنى أنه لا يعتقد أن الصلاة واجبة عليه أصلاً- فهذا كفر مخرج من الملة؛ لأنه إنكار لما علم من الدين بالضرورة، لكن الكلام والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها، فهذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم من يرى كفره كفراً أكبر، وأنه كافر مشرك، وأنه إذا مات لا يورث، ولا يرث، وتنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، وأنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو مخلد في جهنم مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من أصناف أئمة الكفر، هذا مذهب بعض العلماء.

أما الفريق الآخر من العلماء فإنه يرى أنه فاسق، وأن كفره كفر دون كفر وليس كفراً مخرجاً من الملة، بل هو باق في دائرة الإسلام مع أنه فاسق عاص فاجر ينبغي أن يزجر عن هذا الفعل، وإن أصر على ترك الصلاة فيقتل حداً بسبب تركه الصلاة، لكن مع ذلك يقولون: إن ترك الصلاة أسوأ وأخطر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا، وترك الصلاة جريمة من أشنع الجرائم، هذا قول من يقول: إن تارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها لا يكفر كفراً أكبر، فنحن نهمس في أذن تارك الصلاة ونقول له: هل يرضيك أن يكون انتسابك إلى ملة الإسلام وإلى دين التوحيد وإلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل خلاف بين العلماء، فيه راجح ومرجوح، هذا يقول: كافر.

والثاني يقول: لا، بل هو فاسق؟!

فهل يقبل الإنسان الذي عنده كرامة ومروءة أن يكون انتماؤه للإسلام قضية خلافية؟!

فريق يقول: إنك كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنك لا تستحق الحياة، بل على ولي أمر المسلمين أن يقتلك ردة، ولا يجوز لك أن تتزوج من مسلمة، ولا تصلح ولياً شرعياً لأولادك، وإنك لا ترثهم ولا يرثونك، وإنك لا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن في مقابر المسلمين، وإنك مستحق للخلود في جهنم مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وسائر أعداء الدين، وفريق آخر يقول: بل أنت فاسق عاص فاجر يجب قتلك حداً إن أصررت على ترك الصلاة.

يقول بعض العلماء:

يا تاركاً لصلاته إن الصلاة لتشتكي

وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي

وإن كان هذا الكلام قد يتساهل فيه في جانب الترهيب، إلا أنه ينبغي ألا يخبر عنه إلا بوحي، لأن قوله: إن الصلاة تقول: الله يلعن تاركي، غيب، ولابد أن يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: هذا هو أول شؤم لترك الصلاة، وهو كونها كفراً بالله عز وجل، فتارك الصلاة كافر، ويطلق عليه كافر على القولين، سواء من يكفرونه كفراً أكبر أو من يكفرونه كفراً دون كفر.

ليس هذا أوان مناقشة حكم تارك الصلاة من الناحية التفصيلية، فإن هذا له مناسبة أخرى نرجو أن تأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، وهو ما يتعلق بقضية الكفر والإيمان، ويعبر عنها أحياناً بالأسماء والأحكام، فأقول: قطعاً يطلق على تارك الصلاة أنه كافر، ولا شك في وصفه بأنه كافر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصفه بأنه كافر، لكن ما نوع هذا الكفر؟ هل من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها مسلم أم كافر خارج من الملة؟

يوجد خلاف بين العلماء كما هو معروف، والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها، أما من تركها جحوداً -بمعنى أنه لا يعتقد أن الصلاة واجبة عليه أصلاً- فهذا كفر مخرج من الملة؛ لأنه إنكار لما علم من الدين بالضرورة، لكن الكلام والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها، فهذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم من يرى كفره كفراً أكبر، وأنه كافر مشرك، وأنه إذا مات لا يورث، ولا يرث، وتنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، وأنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو مخلد في جهنم مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من أصناف أئمة الكفر، هذا مذهب بعض العلماء.

أما الفريق الآخر من العلماء فإنه يرى أنه فاسق، وأن كفره كفر دون كفر وليس كفراً مخرجاً من الملة، بل هو باق في دائرة الإسلام مع أنه فاسق عاص فاجر ينبغي أن يزجر عن هذا الفعل، وإن أصر على ترك الصلاة فيقتل حداً بسبب تركه الصلاة، لكن مع ذلك يقولون: إن ترك الصلاة أسوأ وأخطر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا، وترك الصلاة جريمة من أشنع الجرائم، هذا قول من يقول: إن تارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها لا يكفر كفراً أكبر، فنحن نهمس في أذن تارك الصلاة ونقول له: هل يرضيك أن يكون انتسابك إلى ملة الإسلام وإلى دين التوحيد وإلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل خلاف بين العلماء، فيه راجح ومرجوح، هذا يقول: كافر.

والثاني يقول: لا، بل هو فاسق؟!

فهل يقبل الإنسان الذي عنده كرامة ومروءة أن يكون انتماؤه للإسلام قضية خلافية؟!

فريق يقول: إنك كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنك لا تستحق الحياة، بل على ولي أمر المسلمين أن يقتلك ردة، ولا يجوز لك أن تتزوج من مسلمة، ولا تصلح ولياً شرعياً لأولادك، وإنك لا ترثهم ولا يرثونك، وإنك لا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن في مقابر المسلمين، وإنك مستحق للخلود في جهنم مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وسائر أعداء الدين، وفريق آخر يقول: بل أنت فاسق عاص فاجر يجب قتلك حداً إن أصررت على ترك الصلاة.

يقول بعض العلماء:

يا تاركاً لصلاته إن الصلاة لتشتكي

وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي

وإن كان هذا الكلام قد يتساهل فيه في جانب الترهيب، إلا أنه ينبغي ألا يخبر عنه إلا بوحي، لأن قوله: إن الصلاة تقول: الله يلعن تاركي، غيب، ولابد أن يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: هذا هو أول شؤم لترك الصلاة، وهو كونها كفراً بالله عز وجل، فتارك الصلاة كافر، ويطلق عليه كافر على القولين، سواء من يكفرونه كفراً أكبر أو من يكفرونه كفراً دون كفر.

إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، يقول الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق.

فويل لهؤلاء الذين يتعمدون جمع بعض الصلوات الخمس آخر اليوم، ويأتون بها متتابعة عندما ينتهون من الشغل، فهذا من تلبيس إبليس، وهذا ضياع للدين، وارتكاب لأكبر الكبائر.

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة، ومقصوده أن هذا موضع إجماع من لعلماء.

وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فمؤخر الصلاة عن وقتها صاحب كبيرة، وتاركها بالكلية -يعني: الصلاة الواحدة- كمن زنى وسرق؛ لأن ترك كل صلاة أو تفويتها كبيرة، فإن فعل ذلك مرات فهو من أهل الكبائر إلا أن يتوب، فإن لازم ترك الصلاة فهو من الأخسرين الأشقياء المجرمين.

إن ترك الصلاة نفاق، يقول عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وجد المنافقون في مجتمع المدينة أما في مكة فلم يكن هناك نفاق؛ وذلك لأنه كان في المدينة سطوة وسلطة الدولة المسلمة، ولا يقوى أحد على المجاهرة بترك الصلاة، فحتى المنافقون كانوا يظهرون شعائر الإسلام في الظاهر وهم منافقون في الباطن، يقول عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، فالجزاء من جنس العمل، فهم يخادعون الله في الدنيا، وهو خادعهم يوم القيامة.

وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة الحديد في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، فهذا معنى قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ).

ثم يقول سبحانه واصفاً المنافقين مع الصلاة: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، وذلك لأن المنافق لا يقوم إلى الصلاة بدافع داخلي وإنما يقوم إليها خوفاً من سطوة الدولة المسلمة أن تعاقبه على ترك الصلاة،

فصلاتهم إنما هي مراءاة، يراءون الناس وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثواباً ولا يعتقدون على تركها عقاباً.

التكاسل عن الصلاة تشبه بالمنافقين

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح؛ فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه) يعني: إذا قام الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ففيه شبه بالمنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى؛ لذلك كان السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى لتحصيل الفضيلة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها).

قوله: (احضروا الذكر) يعني: احضروا مجالس الذكر.

قوله: (وادنوا من الإمام) فيه أمر بالقرب من الإمام في صلاة الجماعة، والإنسان العاقل الحريص على الثواب الأعظم ينبغي أن يحرص على الاقتراب من الإمام بقدر المستطاع.

نقف هنا وقفة نحتاجها، وهي أننا نرى بعض العوام أحياناً في صلاة الجماعة يأتي بعد أن تقام الصلاة ثم يذهب إلى أقصى المسجد من جهة اليمين، ويبدأ الصف من أقصى المسجد ويقول: من أجل أن يجعلنا الله من أهل اليمين! مع أن الصواب أن يكون خلف الإمام مباشرة، لا أن يذهب إلى أقصى اليمين ويقف هناك؛ لأن المقصود من الإمام المتابعة، فأنت كلما اقتربت من الإمام أكثر سمعته أكثر، وبذلك تستطيع أن تتابعه بدقة أكثر، لكن لو كنت بعيداً، ولا يوجد مثلاً كهرباء أو مكبر الصوت، فكيف ستسمع الإمام وتتابعه؟!

فمن السنة الدنو من الإمام، فالدنو من الإمام يقتضي أن يكون الصف خلف الإمام مباشرة، وإلا لو كان الصف في أقصى اليمين وهم قليل لبقي الإمام واقفاً ولا يوجد أحد خلفه! وهذا خلاف السنة، فالسنة أن نكون خلف الإمام، ولابد أن نحسن تطبيق المفاضلة بين اليمين واليسار بالنسبة للإمام، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم أفضل موضع لأفضل الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة فقال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) يعني: المكان الذي يكون خلف الإمام يخصص للعقلاء والفقهاء وحفظة القرآن الكريم، حتى إذا طرأ شيء أثناء الصلاة فهؤلاء نتيجة فقههم وحفظهم يتمكن الإمام من استخلافهم.

إذاً: لا بد أن يكون هناك نوع من التوازن بين الجناحين والوسط الذي هو خلف الإمام مباشرة، والدليل قوله في هذا الحديث: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام) يعني: اقتربوا من الإمام، وبلا شك أن من كان خلف الإمام مباشرة فهو أقرب ممن هو في أقصى الصف.

قوله: (فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) هذا يتأخر بمرتبته في الآخرة لعدم الهمة في الحرص على الأماكن المقدمة في العبادة؛ لأن القرب من الإمام والتسابق على ذلك علامة الإقبال والحرص على طاعة الله تبارك وتعالى، أما الكسل والتراخي فهو دليل على الزهد في الثواب، ويدل على أنه يتثاقل ويتشبه بالمنافقين إذا قام إلى الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) فالجزاء من جنس العمل، فإذا كنت تتعمد التأخر عن الصفوف الأولى وتتكاسل عن ذلك، ففي الآخرة يؤخرك الله في الجنة، فتضيع عليك مراتب أعلى كان يمكن أن تنالها.

النفاق يورث الكسل في العبادة

قال عز وجل في شأن المنافقين: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54].

قال ابن عباس : (إن كان في جماعة صلى؛ لأن الناس يراقبونه، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه يخشى الناس ولا يخشى الله).

هذا شأن المنافق، إن كان في جماعة صلى، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى في تركها عقاباً.

فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة، وإنما يدفعهم إلى الصلاة الرغبة في إرضاء الناس، والتظاهر بالإيمان، فراراً من الذنب، وسعياً إلى الكسب والمغنم، وإذا قاموا كسالى إلى الصلاة، فلن يؤدوها بخشوع وحضور قلب، بل وهم شاردون عن الخالق إلى المخلوق، كما قال تعالى في شأنهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]: إما ساهون عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما ساهون عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما ساهون عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي.

وهذا في حق من يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، فما بالك بمن يترك الصلاة بالكلية؟! فما بالك بعفيف الجبهة الذي لا يسجد لله أصلاً؟!

وقال صلى الله عليه آله وسلم ذاماً لمن أخر الصلاة عن وقتها: (تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان -أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) رواه مسلم وغيره، وهذه هي صلاة العصر.

وإذا كان المنافق شر البرية مع أنه يكسل في الصلاة أو يؤخرها عن وقتها، فشر منه من لا يصلي لله أصلاً، ولا يعرف السجود إلى جبهته سبيلاً.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في شأن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم .

يعني: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يحرصون على أداء صلاة الجماعة، مع أن الله سبحانه وتعالى قد عذرهم بالمرض الشديد الذي يعجزهم عن الخروج إلى الصلاة، ومع ذلك لم تطق قلوبهم أن يتخلفوا عن صلاة الجماعة، فكان الرجل منهم يؤتى به يهادى بين الرجلين، يعني: يسنده اثنان من اليمين ومن الشمال ويمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله، فهؤلاء هم المؤمنون الخلص، عذر الله أبدانهم، لكن مع ذلك لم تطق قلوبهم التخلف عن صلاة الجماعة!

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) وهذا الأثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يؤيد ما ذكرناه من أن التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، فكيف بترك الصلاة أساساً؟!

فما بال من لا يصلي لا جماعة ولا منفرداً؟!

لا شك أنه أولى بسوء الظن من هذا.

قوله: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) يعني: شككنا أنه من المنافقين.

موقف المنافقين من صلاة العشاء والفجر

قال صلى الله عليه وسلم مبيناً موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم .

يعني: لو علم أنه إذا ذهب إلى المسجد سيجد وليمة فيها عظم عليه لحم لسارع إلى ذلك؛ لينال حظاً من الدنيا، وليس لأجل الصلاة التي يترتب عليها الثواب العظيم، بل هو يزهد فيها!

إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا يأخذونه، وكانوا على يقين منه؛ لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، فدل على أن تكاسل المنافق عن الصلاة نتيجة عدم اليقين في الثواب الذي وعده الله به؛ لأنه لو كان على يقين من الثواب لبادر.

إن قلت: حي على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت: حي على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعات سكون وثبات!

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).

قوله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)، ظاهر الحديث أن المنافقين ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، لكن يكونون كسالى، وتكون الصلاة ثقيلة على قلوبهم، وربما يشهدونهما أحياناً، ويتخلفون عنهما في الغالب؛ لأن صلاة الفجر وصلاة العشاء في الظلام فلا يراهم الناس، ولأن صلاة العشاء في آخر اليوم وقد يشق عليهم الخروج من المنزل، وصلاة الفجر تقتضي مفارقة الفراش ونحو ذلك، فيفهم من الحديث أنهم ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، أما ما عداهما من الصلوات فإنهم يحضرونها ويشهدونها.

وإذا قارنا بين ظاهر الشخص الذي يدعي أنه مسلم وأنه مؤمن ولا يشهد الصلوات الخمس جماعة في المسجد، وبين ظاهر المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن ظاهر المنافقين أنهم كانوا يخرجون إلى الفجر والعشاء أحياناً، وهي أثقل الصلوات عليهم، فأيهما من حيث الظاهر أكمل؟

ظاهر المنافقين أكمل ممن لا يصلي الصلوات الخمس كلها في جماعة، لكن في الباطن يتفاوتون، لكن كيف ترضى أن يكون ظاهر المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار خيراً من ظاهرك؟!

يقول صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). متفق عليه.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبه عمل النهار، فيثقل عليه القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا.

فما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).

قوله: (إن الله يبغض) أي: يكره.

قوله: (كل جعظري) الجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر.

قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، يكثر جمع المال، ثم لا يؤدي حق هذا المال من الزكاة وغيرها.

قوله: (صخاب في الأسواق) يقال: تصاخبوا أي: كثر سخبهم، وصخبهم، بالسين والصاد، وهو الصياح والضجيج،

فالصخب في الأسواق مما يذم به الإنسان، كما ينادي الباعة على الخضروات والفواكه ونحوها، وللأسف الشديد ما يحدث في الأسواق يحدث أمام المساجد عند خروج المصلين من صلاة الجمعة، تجد رفع الأصوات عند بيع الكتب أو الأشرطة، تجد بعضهم يقول بصوت مرتفع: كتاب الشيخ فلان، وكأنه يبيع الشيخ نفسه، أو شريط الشيخ فلان، فرفع الصوت ليس من أخلاق المسلمين، كما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة: (ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق)، ورفع الصوت شيء مذموم؛ وذلك لقوله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]،

فالصخب ورفع الصوت لا يليق بوقار المسلم، وكذلك عندما يقف أمام بيت صاحبه في الشارع ويناديه بصوت مرتفع: يا فلان! سواء كان في الليل أو في أول النهار، فهذا أيضاً مما لا يليق بالمسلم؛ لأنه يسلك سلوك الأعراب الجفاة الغلاظ الذين كانوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، هذا مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم.

قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى الليل كله، ملقى على فراشه كأنه جيفة منتنة ميتة، جيفة بالليل لا صلاة عشاء ولا قيام ولا فجر ولا ذكر.

قوله: (حمار بالنهار) أي: طول النهار يعمل ويسعى وراء الدنيا، ويكد ويكدح كالحمار الذي يشقى ولا يتعبد.

قوله: (عالم بأمر الدنيا) أي: يعرف تفاصيل أتفه الأمور، لاعب الكرة الفلاني تزوج كذا، وعنده أولاد كذا، ويحب اللون كذا، والأكل المحبوب له كذا، وكل هذه التفاهات!

كذلك تجده يعرف أنواع الخشب وأنواع الأقمشة وأنواع كذا من علوم الدنيا، ثم هو لا يدري بما يجيب الملكين حينما يسألانه في قبره: (من ربك؟! وما دينك؟! وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم عليه الصلاة والسلام؟!).

فالمنافقون خشب بالليل صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا ورفعوا أصواتهم على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل حمار بالنهار).

قال قتادة : كان يقال: ما سهر الليل منافق،

أي: ما سهر الليل منافق في العبادة، كما جاء في الحديث: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين).

لا يمكن أن تجتمع هاتان الخصلتان في المنافق، قد يكون عنده حسن السمت، لكن ليس عنده فقه في الدين.

وعندما يحاول المنافقون مشاركة المؤمنين في سجودهم لربهم عز وجل يوم القيامة، يحال بينهم وبين هذا التكريم، وتصبح ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، كلما أراد أحدهم أن يسجد، خر على قفاه، فيبوءون بالذل والخزي والهوان، يقول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]. وهذه علامة بين المؤمنين وبين ربهم تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43].

قوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني: كانوا يسمعون الأذان في الدنيا (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي: وهم في صحة وعافية وإمكانية، ومع ذلك يتخلفون عن صلاة الجماعة، فلذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن الذم هنا على ترك صلاة الجماعة.

إذاً: الدعاء إلى السجود يكون عن طريق الأذان، والأذان يكون لصلاة الجماعة، فالجزاء من جنس العمل كما تركوا الصلاة اختياراً في الدنيا وهم قادرون؛ يجازون في الآخرة أنهم يمنعون من السجود في وقت التكريم والنجاة.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح؛ فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه) يعني: إذا قام الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ففيه شبه بالمنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى؛ لذلك كان السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى لتحصيل الفضيلة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها).

قوله: (احضروا الذكر) يعني: احضروا مجالس الذكر.

قوله: (وادنوا من الإمام) فيه أمر بالقرب من الإمام في صلاة الجماعة، والإنسان العاقل الحريص على الثواب الأعظم ينبغي أن يحرص على الاقتراب من الإمام بقدر المستطاع.

نقف هنا وقفة نحتاجها، وهي أننا نرى بعض العوام أحياناً في صلاة الجماعة يأتي بعد أن تقام الصلاة ثم يذهب إلى أقصى المسجد من جهة اليمين، ويبدأ الصف من أقصى المسجد ويقول: من أجل أن يجعلنا الله من أهل اليمين! مع أن الصواب أن يكون خلف الإمام مباشرة، لا أن يذهب إلى أقصى اليمين ويقف هناك؛ لأن المقصود من الإمام المتابعة، فأنت كلما اقتربت من الإمام أكثر سمعته أكثر، وبذلك تستطيع أن تتابعه بدقة أكثر، لكن لو كنت بعيداً، ولا يوجد مثلاً كهرباء أو مكبر الصوت، فكيف ستسمع الإمام وتتابعه؟!

فمن السنة الدنو من الإمام، فالدنو من الإمام يقتضي أن يكون الصف خلف الإمام مباشرة، وإلا لو كان الصف في أقصى اليمين وهم قليل لبقي الإمام واقفاً ولا يوجد أحد خلفه! وهذا خلاف السنة، فالسنة أن نكون خلف الإمام، ولابد أن نحسن تطبيق المفاضلة بين اليمين واليسار بالنسبة للإمام، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم أفضل موضع لأفضل الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة فقال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) يعني: المكان الذي يكون خلف الإمام يخصص للعقلاء والفقهاء وحفظة القرآن الكريم، حتى إذا طرأ شيء أثناء الصلاة فهؤلاء نتيجة فقههم وحفظهم يتمكن الإمام من استخلافهم.

إذاً: لا بد أن يكون هناك نوع من التوازن بين الجناحين والوسط الذي هو خلف الإمام مباشرة، والدليل قوله في هذا الحديث: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام) يعني: اقتربوا من الإمام، وبلا شك أن من كان خلف الإمام مباشرة فهو أقرب ممن هو في أقصى الصف.

قوله: (فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) هذا يتأخر بمرتبته في الآخرة لعدم الهمة في الحرص على الأماكن المقدمة في العبادة؛ لأن القرب من الإمام والتسابق على ذلك علامة الإقبال والحرص على طاعة الله تبارك وتعالى، أما الكسل والتراخي فهو دليل على الزهد في الثواب، ويدل على أنه يتثاقل ويتشبه بالمنافقين إذا قام إلى الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) فالجزاء من جنس العمل، فإذا كنت تتعمد التأخر عن الصفوف الأولى وتتكاسل عن ذلك، ففي الآخرة يؤخرك الله في الجنة، فتضيع عليك مراتب أعلى كان يمكن أن تنالها.

قال عز وجل في شأن المنافقين: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54].

قال ابن عباس : (إن كان في جماعة صلى؛ لأن الناس يراقبونه، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه يخشى الناس ولا يخشى الله).

هذا شأن المنافق، إن كان في جماعة صلى، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى في تركها عقاباً.

فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة، وإنما يدفعهم إلى الصلاة الرغبة في إرضاء الناس، والتظاهر بالإيمان، فراراً من الذنب، وسعياً إلى الكسب والمغنم، وإذا قاموا كسالى إلى الصلاة، فلن يؤدوها بخشوع وحضور قلب، بل وهم شاردون عن الخالق إلى المخلوق، كما قال تعالى في شأنهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]: إما ساهون عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما ساهون عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما ساهون عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي.

وهذا في حق من يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، فما بالك بمن يترك الصلاة بالكلية؟! فما بالك بعفيف الجبهة الذي لا يسجد لله أصلاً؟!

وقال صلى الله عليه آله وسلم ذاماً لمن أخر الصلاة عن وقتها: (تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان -أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) رواه مسلم وغيره، وهذه هي صلاة العصر.

وإذا كان المنافق شر البرية مع أنه يكسل في الصلاة أو يؤخرها عن وقتها، فشر منه من لا يصلي لله أصلاً، ولا يعرف السجود إلى جبهته سبيلاً.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في شأن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم .

يعني: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يحرصون على أداء صلاة الجماعة، مع أن الله سبحانه وتعالى قد عذرهم بالمرض الشديد الذي يعجزهم عن الخروج إلى الصلاة، ومع ذلك لم تطق قلوبهم أن يتخلفوا عن صلاة الجماعة، فكان الرجل منهم يؤتى به يهادى بين الرجلين، يعني: يسنده اثنان من اليمين ومن الشمال ويمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله، فهؤلاء هم المؤمنون الخلص، عذر الله أبدانهم، لكن مع ذلك لم تطق قلوبهم التخلف عن صلاة الجماعة!

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) وهذا الأثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يؤيد ما ذكرناه من أن التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، فكيف بترك الصلاة أساساً؟!

فما بال من لا يصلي لا جماعة ولا منفرداً؟!

لا شك أنه أولى بسوء الظن من هذا.

قوله: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) يعني: شككنا أنه من المنافقين.

قال صلى الله عليه وسلم مبيناً موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم .

يعني: لو علم أنه إذا ذهب إلى المسجد سيجد وليمة فيها عظم عليه لحم لسارع إلى ذلك؛ لينال حظاً من الدنيا، وليس لأجل الصلاة التي يترتب عليها الثواب العظيم، بل هو يزهد فيها!

إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا يأخذونه، وكانوا على يقين منه؛ لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، فدل على أن تكاسل المنافق عن الصلاة نتيجة عدم اليقين في الثواب الذي وعده الله به؛ لأنه لو كان على يقين من الثواب لبادر.

إن قلت: حي على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت: حي على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعات سكون وثبات!

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).

قوله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)، ظاهر الحديث أن المنافقين ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، لكن يكونون كسالى، وتكون الصلاة ثقيلة على قلوبهم، وربما يشهدونهما أحياناً، ويتخلفون عنهما في الغالب؛ لأن صلاة الفجر وصلاة العشاء في الظلام فلا يراهم الناس، ولأن صلاة العشاء في آخر اليوم وقد يشق عليهم الخروج من المنزل، وصلاة الفجر تقتضي مفارقة الفراش ونحو ذلك، فيفهم من الحديث أنهم ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، أما ما عداهما من الصلوات فإنهم يحضرونها ويشهدونها.

وإذا قارنا بين ظاهر الشخص الذي يدعي أنه مسلم وأنه مؤمن ولا يشهد الصلوات الخمس جماعة في المسجد، وبين ظاهر المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن ظاهر المنافقين أنهم كانوا يخرجون إلى الفجر والعشاء أحياناً، وهي أثقل الصلوات عليهم، فأيهما من حيث الظاهر أكمل؟

ظاهر المنافقين أكمل ممن لا يصلي الصلوات الخمس كلها في جماعة، لكن في الباطن يتفاوتون، لكن كيف ترضى أن يكون ظاهر المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار خيراً من ظاهرك؟!

يقول صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). متفق عليه.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبه عمل النهار، فيثقل عليه القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا.

فما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).

قوله: (إن الله يبغض) أي: يكره.

قوله: (كل جعظري) الجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر.

قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، يكثر جمع المال، ثم لا يؤدي حق هذا المال من الزكاة وغيرها.

قوله: (صخاب في الأسواق) يقال: تصاخبوا أي: كثر سخبهم، وصخبهم، بالسين والصاد، وهو الصياح والضجيج،

فالصخب في الأسواق مما يذم به الإنسان، كما ينادي الباعة على الخضروات والفواكه ونحوها، وللأسف الشديد ما يحدث في الأسواق يحدث أمام المساجد عند خروج المصلين من صلاة الجمعة، تجد رفع الأصوات عند بيع الكتب أو الأشرطة، تجد بعضهم يقول بصوت مرتفع: كتاب الشيخ فلان، وكأنه يبيع الشيخ نفسه، أو شريط الشيخ فلان، فرفع الصوت ليس من أخلاق المسلمين، كما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة: (ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق)، ورفع الصوت شيء مذموم؛ وذلك لقوله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]،

فالصخب ورفع الصوت لا يليق بوقار المسلم، وكذلك عندما يقف أمام بيت صاحبه في الشارع ويناديه بصوت مرتفع: يا فلان! سواء كان في الليل أو في أول النهار، فهذا أيضاً مما لا يليق بالمسلم؛ لأنه يسلك سلوك الأعراب الجفاة الغلاظ الذين كانوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، هذا مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم.

قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى الليل كله، ملقى على فراشه كأنه جيفة منتنة ميتة، جيفة بالليل لا صلاة عشاء ولا قيام ولا فجر ولا ذكر.

قوله: (حمار بالنهار) أي: طول النهار يعمل ويسعى وراء الدنيا، ويكد ويكدح كالحمار الذي يشقى ولا يتعبد.

قوله: (عالم بأمر الدنيا) أي: يعرف تفاصيل أتفه الأمور، لاعب الكرة الفلاني تزوج كذا، وعنده أولاد كذا، ويحب اللون كذا، والأكل المحبوب له كذا، وكل هذه التفاهات!

كذلك تجده يعرف أنواع الخشب وأنواع الأقمشة وأنواع كذا من علوم الدنيا، ثم هو لا يدري بما يجيب الملكين حينما يسألانه في قبره: (من ربك؟! وما دينك؟! وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم عليه الصلاة والسلام؟!).

فالمنافقون خشب بالليل صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا ورفعوا أصواتهم على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل حمار بالنهار).

قال قتادة : كان يقال: ما سهر الليل منافق،

أي: ما سهر الليل منافق في العبادة، كما جاء في الحديث: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين).

لا يمكن أن تجتمع هاتان الخصلتان في المنافق، قد يكون عنده حسن السمت، لكن ليس عنده فقه في الدين.

وعندما يحاول المنافقون مشاركة المؤمنين في سجودهم لربهم عز وجل يوم القيامة، يحال بينهم وبين هذا التكريم، وتصبح ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، كلما أراد أحدهم أن يسجد، خر على قفاه، فيبوءون بالذل والخزي والهوان، يقول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]. وهذه علامة بين المؤمنين وبين ربهم تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43].

قوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني: كانوا يسمعون الأذان في الدنيا (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي: وهم في صحة وعافية وإمكانية، ومع ذلك يتخلفون عن صلاة الجماعة، فلذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن الذم هنا على ترك صلاة الجماعة.

إذاً: الدعاء إلى السجود يكون عن طريق الأذان، والأذان يكون لصلاة الجماعة، فالجزاء من جنس العمل كما تركوا الصلاة اختياراً في الدنيا وهم قادرون؛ يجازون في الآخرة أنهم يمنعون من السجود في وقت التكريم والنجاة.

إن ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة، فترك الصلاة يظلم القلب، ويسود الوجه؛ لأن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت الحيرة حتى يقع تاركها في الضلالات وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة لوحده.

وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين وتعلو الوجه، فيصير سواداً يدركه أهل البصائر، وتحصل حين ذلك الوحشة بينه وبين الناس سيما أهل الخير، فيجد نفوراً من أهل الخير ومن الصالحين من عباد الله، لا يشعر بالأنس معهم، بل يشعر بالوحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم، وحرم بركة النفع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، إلى أن ينتهي به الحال في المآل إلى أن يقترن بصحبة السوء والأشرار يوم العرض على الملك الجبار، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف أي: يحشر مع هذه الصحبة الخبيثة.

يقول بعض أهل العلم: وإنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة: وهم قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ؛ لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو بتجارته، فإن اشتغل بماله عن الصلاة حشر مع قارون ، وإن اشتغل بملكه حشر مع فرعون، وإن اشتغل بوزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة.

فما أنقص عقل من باع مرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً!


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
لماذا نصلي؟ [11] 2198 استماع
لماذا نصلي؟ [6] 1601 استماع
لماذا نصلي؟ [8] 1565 استماع
لماذا نصلي؟ [10] 1526 استماع
لماذا نصلي؟ [1] 1438 استماع
لماذا نصلي؟ [2] 1415 استماع
لماذا نصلي؟ [4] 1097 استماع
لماذا نصلي؟ [3] 1002 استماع
لماذا نصلي؟ [5] 855 استماع
لماذا نصلي؟ [7] 563 استماع