لماذا نصلي؟ [11]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد سبق لنا تدارس موضوع الصلاة وخصائصها وفضائلها، وبعض التنبيهات التي تمس الحاجة إليها فيما يتعلق بموضوع الصلاة، وأصل ذلك أن على الإنسان أن يبادر إلى التفقه في الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، والعلم الذي هو فريضة على كل مسلم هو العلم الذي تؤدى به الواجبات، وتصحح به العبادات، فيجب على المسلم أن يتعلم ما يصحح به عبادته، فمن أراد الحج وجب عليه أن يتعلم مناسك الحج من فرائض وأركان، وما يفسد الحج كي يتجنبه ونحو ذلك، ومن أراد الزواج يجب عليه أن يتعلم شروط عقد النكاح مثلاً، ومن أراد الطلاق يجب عليه أن يتعلم كيف الطلاق كي لا يقع في مخالفة الشرع الشريف، ومن أراد البيع والشراء يجب أن يتفقه في البيوع،... وهكذا.

ويوجد قاسم مشترك بين كل المكلفين رجالاً ونساءً، وهو الفروض العامة كالطهارة والصلاة مثلاً، فبعد تصحيح العقيدة يجب على كل مسلم أن يحصل هذا العلم الذي يصحح به عبادته.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين).

إذاً: لابد أن نتعلم من الفقه ما نصحح به الصلاة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) متفق عليه.

فكيفية الصلاة لا يمكن أن يصل إليها بالعقل أو التأمل أو التفكير أو التجارب، وإنما يصل إليها عن طريق الوحي الذي جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فكيف يعرف الإنسان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؟!

يعرف ذلك بسؤال العلماء أو بمطالعة كتب العلم أو الجلوس في مجالس العلم التي تتناول أحكام الصلاة والطهارة بأسلوب سهل وشيق وما أكثرها الآن، وما أكثر الكتب المختصرة والمبسطة في هذا الموضوع.

إن التناصح في أمر الصلاة أمر ضروري، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة) فإذا كانت الصلاة عمود الدين؛ فإن واجب المسلم إذا رأى من يقصر في صلاته ويخل بها أن ينصحه وأن يعلمه، فإذا رأيت من يسيء في صلاته فلا تسكت عليه، بل يجب عليك أن تنصح أخاك كي يصحح عبادته، خاصة أن معظم المخالفات تقع بسبب الجهل، فمثلاً لو سجد مصل على ظهر أصابع رجليه، وكانت الأظافر إلى جهة الأرض، فبعض العلماء يقول ببطلان الصلاة في مثل هذا؛ وذلك لما ورد في الحديث: (استقبل بأصابع رجليك القبلة) وترك الاستقبال بأصابع الرجلين بين السجدتين أو في جلسة التشهد الأمر أخف، لكن عند السجود لا بد أن يستقبل القبلة بأصابع رجليه، فتكون أظافره إلى جهة القبلة لا إلى جهة الأرض؛ لأن هذا فيه مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستقبل القبلة بأصابع قدميه، خاصة في السجود، ونحو ذلك من المخالفات بسبب الجهل بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والدليل على وجوب هذا التناصح هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل المسيء في صلاته، والحديث معروف ومشهور؛ فإنه قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع ففعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا، فعلمني) فعلمه كيفية الصلاة كما في الحديث المتفق عليه، وهو الحديث المشهور بحديث المسيء في صلاته، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم واجبات الصلاة، وهذا الحديث أصل في معرفة واجبات الصلاة.

وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: مثل الذي يرى الرجل يسيء في صلاته فلا ينهاه، مثل الذي يرى النائم تنهشه حية ثم لا يوقظه.

يعني: لو وجدت أخاك المسلم نائماً والحية تكاد أن تعضه بنابها وتهجم عليه ألا توقظه لتنقذه من ذلك؟! بلى، وكذلك إذا رأيت أخاك يسيء في صلاته فهو معرض للهلكة؛ لأنه يفسد أهم أركان الدين، ولا يصحح أهم واجبات العبادات، فإذا تركته فقد خذلته تماماً كما لو رأيته سيقع في بئر أو نار أو رأيت حية ستنهشه ثم لم تحذره ولم تنصحه.

ينسب إلى الإمام أحمد أنه قال: واعلموا أنه لو أن رجلاً أحسن الصلاة فأتمها وأحكمها، ثم نظر إلى من أساء في صلاته وسبق الإمام فيها فسكت عنه ولم يعلمه؛ شاركه في وزرها وعارها.

إذاً: المحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه ولم ينصحه.

وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب ، وذلك قبل أن يلي شيئاً من المناصب التي وليها فيما بعد، فجعل يركع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلم، أخذ سعيد بطرف ردائه، وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة، فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه، أي: كان سعيد لا يريد أن يقطع الورد الذي يقال عقب الصلاة، وفي نفس الوقت لا يريد أن ينشغل بمعاتبته على أخطائه في الصلاة عن الذكر الذي تعود أن يحافظ عليه، فأمسك بردائه حتى لا يفلت منه ويقوم.

يقول: حتى قضى سعيد ذكره ثم أقبل عليه فقال له: يا سارق يا خائن! تصلي هذه الصلاة؟! لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك، فلم يرد عليه.

ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائباً على الحجاز، فلما قتل ابن الزبير كر راجعاً إلى المدينة نائباً عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب، فخشي الناس على سعيد منه فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له الحجاج : أنت صاحب الكلمات، فضرب سعيد الحجاج في صدره بيده وقال: نعم، قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى.

فـالحجاج الدموي السفاح الشرير، انتفع بالنصيحة رغم شدتها عليه، لكنها أثرت فيه، والحجاج ليس كله عيوب، فقد كان له فضائل وصفات جيدة في جنب ظلمه وسفكه لدماء المسلمين، وهذه من حسناته، وقد كان يقول عند الاحتضار: اللهم إن الناس يقولون: إنك لا تغفر لي؛ فاغفر لي، أي: خيب ظنهم وارحمني برحمتك الواسعة.

وهذا الذي يسيء الصلاة سوف يعلمها لأولاده وأبنائه، وإن كان مدرساً سيعلمها للتلاميذ، فأنت إذا نصحته صححت عبادته وعبادة من وراءه ممن يعلمهم هذه الصلاة.

فإذا استحضرت أن جناية الذي يسرق صلاته ولا يطمئن فيها جناية متعدية على من تحت ولايته، أشفقت على نفسك من مغبة تقصيرك في نصيحته، فإنه إذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام.

عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى ! يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟! قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.

أي: لا شك أن أولاده سيسيئون الصلاة مثله؛ لأنه الذي يعلمهم، وهم يقتدون به.

تجب المحافظة على الصلاة في أول وقتها، يقول الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: فريضة مرتبطة بأوقات محددة لا بد من التزامها.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها) متفق عليه، يعني: في أول الوقت.

كل نص في القرآن والسنة يأمر بإقامة الصلاة، فإنما يعنى به في المقام الأول المحافظة على الصلاة في وقتها، ولذلك لم يرد أبداً لفظ: صلوا أو يصلون، وإنما يأتي بلفظ إقامة الصلاة كما في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، وقوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]، فأول معنى من معاني إقامة الصلاة -وهو الركن الركين فيها- أن يحافظ على الصلاة في أوقاتها، والله سبحانه وتعالى يقول: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لم تكن إضاعتها تركها، ولكن أضاعوا الوقت.

يعني: أخرجوا الصلاة عن وقتها، هذه هي جريمتهم.

وقال مسروق رحمه الله: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن.

وقال بعضهم: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فكأنما ملأ البر والبحر عبادة.

وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: سهو عنها حتى ضاع الوقت.. فهذا مصل يتطلع بصلاته إلى النجاة من الويل، لكن لما فرط في وقتها استحق الويل.

تجب المحافظة على صلاة الفجر جماعة في المسجد، ولا شك أن تعظيم الصلاة يكون على قدر تعظيم الدين في قلب المؤمن، فإذا كان هذا أمراً عاماً في الصلوات، فهو في صلاة الفجر مقياس في غاية الدقة، فهو أدق بكثير من المقياس العام، فالمقياس الحقيقي للالتزام وللإيمان ولحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحب طاعة الله هو المحافظة على صلاة الفجر جماعة في المسجد، فإذا أردت أن تقيس مدى تفريطنا معشر المسلمين في جنب الله عز وجل وتعدينا حدود الله فانظر إلى الصفوف في صلاة الفجر؛ تجدها خاوية إلا قليلاً ممن رحم الله تبارك وتعالى، حينئذٍ نتمثل قوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس:30] فكأن فريضة الفجر على غيرنا كتبت، وكأن صلاة الفجر في حقنا نسخت، بل القلوب قست، والعيون جمدت، والهمم خمدت، لقد صار المصلون بالنسبة إلى جملة المنتسبين إلى الإسلام قليلة، والذين يشهدون صلاة الجماعة من جملة المصلين أقل من هؤلاء، والذين يشهدون صلاة الفجر في المسجد أقل من الذين يصلون صلاة الجماعة، بل الذين يصلونها فرادى في بيوتهم أقل، فيا لله ماذا أصاب أهل الإسلام؟! وماذا دهى أمة خير الأنام صلى الله عليه وسلم؟! أليس من عدل الله فينا أن سلط علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا؟! وهل تمنينا العزة والنصر والتمكين وحالنا كما ذكرنا إلا من الانحراف عن نهج ربنا الكريم؟! وهل تنشأ يقظة عن غفلة، أو نهضة عن رقود، أو حركة وجهاد عن جمود وخمود، أو حياة من موت، أو انتباه وانتعاش من غشاوة وفتور؟!

يقول عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] إن الطريق إلى الفلاح والتمكين يبدأ من المحراب، وعلينا أن نبادر بالمصالحة مع الله والإنابة إليه قبل أن ينزل بنا سخطه، ويحل علينا غضبه، ولات حين مناص، يقول الشاعر:

بذنوبنا دامت بليتنا فالله يكشفها إذا تبنا

نذكر فائدة مهمة جداً تتعلق بالأشياء المرتبطة بالمواعيد، سواء في حياة الإنسان من حيث السلوك الشخصي أو الجماعي أو العبادي؛ لأن الخمس الصلوات لكل صلاة منها موعد، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

هناك قاعدة نستطيع أن نعممها إلا في استثناءات قليلة جداً تكون الأمور فيها جادة؛ لأن الشخص الذي يخلف موعداً إياك أن تصدق دائماً الأعذار التي يقولها، فهو عندما يبرر إخلافه للوعد يخادع نفسه دون أن يشعر؛ لأن هذا الموعد لو كان حبيباً إلى قلبه، لما كان هناك عائق يقف أمامه، لكن لعدم تعظيم هذا الأمر في قلبه لم يبال به، بدليل الطالب الذي يأتي دائماً متأخراً، ويعتذر مرة بموت عمه، ومرة بموت أخيه، وكل مرة يعتذر بموت أحد أقاربه، ومرة يعتذر بحصول حادث سيارة وغير ذلك من الأعذار المزعومة... إلى آخره، فمثل هذا لو كان مسافراً وعنده موعد طائرة، كيف سيحتاط لمثل هذا الموعد؟! نادراً ما يتخلف شخص عن الطائرة، ونادراً أن تجد طالباً ينام حتى يفوت عليه وقت الامتحان؛ لأن الامتحان شيء مهم عنده، وموعد محترم له مكانته وله أهميته وله جديته، فلذلك يأخذ بكل الأسباب كي لا يخلف هذا الميعاد، مع أنه يتخلف عن صلاة الفجر في المسجد جماعة، أو يخرجها عن وقتها فلا يصليها إلا بعد خروج الوقت، فهلا احتاط لمواعيد دينه كما يحتاط لمواعيد دنياه؟!

نلاحظ أن وقت الفجر فيه توقيت شتوي، وتوقيت صيفي، ففي الصيف يكون النهار طويلاً، والفجر يأتي والناس نيام؛ لأن الليل قصير، وهم يخرجون إلى العمل الساعة السابعة صباحاً أو الثامنة، فيتكاسلون عن حضور صلاة الفجر في جماعة، في حين أن الناس عندما تأتي مواعيد خروجها للعمل أو للدراسة في الشتاء في شدة البرد تجدهم يستيقظون عند صلاة الفجر، ويخرجون في البرد، حتى لا يتأخر على موعد عمله، لكن في الصلاة تجد الواحد لا يضبط نفسه على أن ينزل إلى الصلاة في موعدها.

فالشاهد من هذا الكلام أن كثيراً من الناس يتهاونون في صلاة الجماعة؛ وذلك لأن تعظيم الصلاة في قلوبهم ليس كما ينبغي؛ لأن هناك شيئاً من النفاق في القلب، وشيئاً من ضعف الإيمان؛ لأنه لو كان يعظم الصلاة ويعظم أمر الله كما ينبغي لما هان عليه أن يضيع الصلاة، ولحرص عليها تماماً مثل حرصه على العمل وموعد الطائرة؛ فانظر كيف يحتاط ويذهب المسافر إلى المطار قبل موعد إقلاع الطائرة بكذا ساعة، وكذلك آلاف الطلاب يحضرون الامتحانات مع السهر أثناء الليل للمذاكرة، ومع ذلك يقومون مبكرين، لكن كم من هذا العدد يصلي الفجر في وقتها في جماعة أو حتى في وقتها في البيت؟! كذلك الآباء تأخذهم بهم رأفة في دين الله، فيقول أحدهم: كيف أوقظه لصلاة الفجر وهو سهران، هذا فيه مشقة عليه.. إلى آخره؟!!

يقول الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فهذا شيء مذموم، فهؤلاء الآباء في مثل هذه الحالة يعتبر عدواً لابنه، فهذا عداوة وليست محبة، قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فهذه عداوة بصورة غير صريحة.

لو أن عندنا بصائر لراجعنا حسابنا والتزامنا بمواعيد الصلاة وبالذات صلاة الفجر، كما نلتزم بمواعيد العمل والسفر وغيرها؛ لكن لأننا لم نعظم الصلاة صرنا نتهاون عن الصلوات في أوقاتها مع الجماعة، وخاصة صلاة الفجر في جماعة.

السبب الأول: تشخيص أمراض القلوب والاجتهاد في علاجها

نذكر جملة من أسباب المحافظة على صلاة الفجر.

أن يفتش الإنسان عن أمراض قلبه وتشخيصها والاجتهاد في علاجها بما أمكن من الأدوية؛ لأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فكل أحوال الإنسان أساسها القلب، فليفتش الإنسان في قلبه، وينظف قلبه ويغسله مما يكدره، فالقلب هو القائد الذي إذا استقام استقامت جنوده من الجوارح والأركان، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، وشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، فمن أراد أن يحيا قلبه، وأن يلين جفاف قلبه وقسوته، فليسقه بالقرآن الكريم، فالقرآن هو الذي يحيي القلوب، فالجسد كل يوم محتاج إلى كمية من السوائل لا ينبغي أن تقل أبداً، وكذلك لا بد أن يصل القلب يومياً مدد وغذاء من القرآن الكريم؛ ليغذيه ويبقيه سليماً معافى من الآفات والأمراض، فشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، ويسقيها ذكر الله سبحانه وتعالى، ويقيمها على حفظ حدود الله عز وجل وتعظيم أمره ونهيه، فالإنسان يبادر أن يتوب عن كل معصية حتى لا تحول هذه المعاصي دونه ودون طاعة الله عز وجل؛ فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

السبب الثاني: التذكير الدائم بالآيات والأحاديث المرغبة في صلاة الفجر

أن يجدد الإنسان بين وقت وآخر ذكراً وعهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ترغب في المحافظة على الصلاة عموماً وصلاة الفجر خصوصاً، فلا بد من التذكير بين وقت وآخر، مثل الكتب التي فيها الأحاديث الشريفة التي تحض على المحافظة على الصلوات مثل كتاب (رياض الصالحين) وغيره من كتب العلم والأحاديث ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يقرأ في مثل هذه الكتب ليتذكر؛ لأن التذكير فيه انفعال القلب، وتجديد للعهد، وكل الناس يعرفون أنهم سيموتون، لكن ما أقل من يحس بالموت، فعلى المسلم أن يتذكر نصوص التحذير من طول الأمل أو الترغيب في كثرة ذكر الموت وما بعد الموت... إلى آخره، ويستمر في تذكير نفسه ليتعظ كما قال عز وجل: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، وقال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فالتذكير غير المعلومة؛ التذكير فيه تجديد العهد، فالإنسان يحتاج من وقت لآخر إلى أن يجدد العهد بالآحاديث الواردة في الحض على صلاة الجماعة وغير ذلك من أمور الدين كالتذكير ببغض البصر مثلاً، حتى يتأمل أكثر وبعمق، فتحدث له خشية وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان حينما يجدد العهد بالنصوص الواردة في أمر من أمور الدين؛ فإن هذه النصوص تعمل عملها في إحياء موات قلبه، يقول الله تبارك وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] وهذا تحريض على سماع أو تلاوة القرآن في الفجر، والمقصود بقرآن الفجر هو القرآن الذي يقرأ في صلاة الفريضة، ولذلك يستحب إطالة قراءة القرآن بالذات في صلاة الفجر؛ لأن الإطالة من أهم خصائص صلاة الفجر، فقوله تعالى هنا: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] أي: يشهدها ويحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار.

ولا بأس أن الإنسان إذا كان هناك حديث يهز كيانه أكثر من غيره أن يكتبه بخط جميل أو يجعل شخصاً يكتبه له، ويجعله أمامه باستمرار، بحيث ينشط همته إذا كسل، فإذا كان يتأذى من النزول في الظلام مثلاً، تذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) فيكون حافزاً له على الخروج في الظلمات إلى المساجد، ولا شك أن المؤمن الذي عنده يقين فمثل هذا يحركه ويحفزه على الإنجاز.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) رواه مسلم، فمثل هذا الحديث أيضاً لو كتب في ورقة وعلق في البيت لكان فيه تنبيه لأهل البيت وللأبناء، وتجسيد لأهمية هذا الموضوع الذي هو حديث اليوم، فيغرس هذا المفهوم في نفوس الأهل والأبناء ويذكرهم ويجدد العهد لديهم.

السبب الثالث: تذكر فضيلة المحافظة على صلاة الفجر في جماعة

قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه. قوله: (من صلى البردين) يعني: الصلاتين اللتين تصليان في وقت البرد، وهما: العصر والفجر. وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر -يا ابن آدم- لا يطلبنك الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم ، فهذا وعد بالحفظ والرعاية والحماية لمن يصلي الفجر، وهذا وعيد لمن يتعدى عليه أو يؤذيه، ولما كانت صلاتا الفجر والعصر من أفضل الصلوات وأعظم الطاعات ناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا والهبات ألا وهي رؤية الله عز وجل في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) متفق عليه. قوله: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم) والربط بالفاء هنا مسلك من مسالك التعليم، فيكون المعنى: كيف تدركون فضيلة رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة؟! وما الضريبة التي تدفع حتى تنالوا هذه الفضيلة؟! إن الضريبة هي المحافظة على صلاتي الفجر والعصر. قوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)؛ لأن هذا يتسبب أن تنالوا ثواب رؤية الله في الآخرة، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)، وهذا التعبير من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نوع من المغالبة والمصارعة والمعالجة مع شيء آخر، فيه صراع بين النوم وبين الاستيقاظ، بين أن يهب الإنسان للصلاة وبين أن يستجيب لنداء الشيطان: (عليك ليل طويل فارقد)، بين الإقدام وبين الإحجام. قوله: (ألا تغلبوا) يعني: اجتهدوا في الأخذ بالأسباب الكفيلة للاستيقاظ للصلاة.

السبب الرابع: الأخذ بالأسباب المعينة على المحافظة على صلاة الفجر

النبي صلى الله عليه وسلم حين قفل -أي: رجع- من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى وعرس -عرس يعني: نزل في آخر الليل للنوم والراحة- فقال للصحابة: (احفظوا علينا صلاتنا) يعني: لابد أن تبقى حراسة لكي ينبهونا لصلاة الفجر، والنائم مرفوع عنه القلم، لكن ما الذي يستطيعه من يريد أن ينام؟ الذي يستطيع هو أن يأخذ بالأسباب التي تعينه على القيام لصلاة الفجر، فالرسول عليه الصلاة والسلام هنا أخذ بالأسباب بقوله: (احفظوا علينا صلاتنا)، وليس هذا فحسب، بل عين شخصاً وهو بلال رضي الله تعالى عنه وقال له: (اكلأ لنا الليل) أي: احفظ لنا الليل، وإياك أن تغفل عن وقت صلاة الفجر، فظل بلال يحرسهم وينتظر الفجر، فأخذ يذكر الله وصلى ما شاء الله له أن يصلي من القيام، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما اقترب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجهاً إلى جهة الشرق، حيث يطلع شعاع الفجر والشمس، فغلبته عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس.. وهذا الحديث رواه مسلم .

فمثل هذا النوم الذي يغلب الإنسان رغم بذله وسعه في تحصيل أسبابه يقال فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الحادثة: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) فالنوم عذر قهري يغلب الإنسان، لكن ليس معنى ذلك أن يتعمد الإنسان السهر ويتمادى في السهر حتى إذا ما بقي إلا وقت يسير من الفجر نام بحيث لا يستطيع القيام لصلاة الفجر.

والإنسان الذي يعتاد على النوم مبكراً يستيقظ للصلاة ولا يحتاج في الغالب إلى الساعة، والأطباء يقولون: إن هناك شيئاً داخل جسم الإنسان اسمه الساعة الحيوية، وهذه مظهر من مظاهر ربوبية الله سبحانه وتعالى، وتدبير أمور خلقه.

فهذه الساعة الحيوية المزعومة هي التي تنذر من حافظ وداوم على صلاة الفجر في جماعة للاستيقاظ لها أو الاستيقاظ في وقت معين، حتى لو سهر في بعض الليالي تجده ينتبه في نفس المعاد،

وهذه معجزة ربانية، وهي نوع من الإعانة، وقد تكون الملائكة هي التي توقظه؛ لأنه لم ينو التفريط، وإنما هو حريص على المحافظة على الطاعة.

إذاً: من كانت عادته القيام إلى الصلاة فغلبته عيناه فنام، فإنه يكتب له أجر صلاته، ونومه عليه صدقة، أما الذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم حتى يضيع وقتها فبلا شك أن هذا مفرط؛ لأنه انتبه وقد دخل وقت الصلاة أو سمع النداء، ومثل هذا داخل في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

السبب الخامس: تعظيم الصلاة في القلب ومجاهدة الشيطان وحزبه

إن وقت الاستيقاظ في صلاة الفجر في خطين متعارضين: خط يدعوك إلى الانغماس في النوم، وخط آخر وهو الخط الشرعي، فهناك خط شيطاني، وخط رباني ورحماني، خط الشيطان كلما أراد الإنسان أن ينتبه يقول له: عليك ليل طويل فارقد، ويعقد ثلاث عقد كما سبق، فالشيطان يمنّيك في الاستمرار في النوم، ويصعب عليك مفارقة الدفء ويثقل عليك مشقة القيام إلى الصلاة وكذا وكذا، فالشيطان عدو لدود ومتربص بك، لكن الخط الرحماني دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا انتبه من النوم وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ فتنحل عقده كلها.

وينبغي لمن قام بإيقاظ زوجته أو أخيه أو ابنه أن يذكره بهذا الحديث، فإن انتبه فذكر الله انحلت عقدة، فإن انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت العقدة الأخيرة، قام فتوضأ انحلت العقدة الثانية، فإن قام فصلى انحلت العقدة الثالثة، فقام وهو نشيط النفس.

صحيح أن هناك عبئاً ومشقة عند الاستيقاظ، لكن لا شك أن الإنسان لو كان قلبه يعظم الصلا؛ لهان عليه الاستيقاظ للصلاة.

فهذا عمر لما أغمي عليه حين طعن وأرادوا أن يفيق من إغمائه، قال أحد الصحابة: إذا أردتم أن يصحو ويفيق من إغمائه فاذكروا له الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين! فأفاق فوراً وقال: آلله إذاً، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

إذاً: أول شيء يعين الإنسان على الاستيقاظ لصلاة الفجر فوراً بدون أي تأجيل هو أن يكون معظماً في قلبه للصلاة، حتى يتنعم ويتلذذ بالصلاة والمناجاة.

السبب السادس: الذكر والوضوء والصلاة عند الاستيقاظ

من الأسباب المعينة على المحافظة على صلاة الفجر: أنه أول ما يستيقظ يذكر الله، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، إلى آخر الأذكار المعروفة.

ثم يقوم فيتوضأ حتى تنحل العقدة الثانية، فإذا صلى ركعتين سواء سنة الفجر أو ركعتين للوضوء انحلت العقدة الثالثة، ويصبح نشيط النفس، فهذا هو الدواء النبوي الذي يحفزك للاستمرار في الطاعة والانتباه، وإن أصغيت إلى الشيطان فسيبول الشيطان في أذنيك كما جاء في الحديث، وتبوء بالإثم والخسران والويل؛ لقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى)، فمن كانت عادته القيام إلى الصلاة فغلبته عيناه فنام فإنه يكتب له أجر صلاته، ونومه عليه صدقه، أما الذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم فهذا مفرط.

وألفت النظر لشيء مهم جداً بالنسبة للالتزام بالإيمان، وهو أن الإيمان يزيد وينقص، فمن أراد أن يزيد إيمانه فلا بد أن يأخذ بأسباب الزيادة، لكن لو كان الهدم دائماً أكثر من البناء فإن البناء من جديد صعب، والهدم سهل، كذلك دخول الجنة يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، أما دخول النار فهو سهل جداً؛ لأن النار حفت بالشهوات، فهي تجذبه جذباً إلى الأرض، فلا بد من الخروج من جاذبية الأرض بصاروخ قوي حتى يستطيع أن يتحرك وينطلق، فالذي أريد أن ألفت النظر إليه أن الإنسان الذي عنده كمية كبيرة من شعب الإيمان والالتزام سواء من الهدي الظاهر أم الهدي الباطن كقراءة قرآن أو حفظه أو صلاة الجماعة أو حضور مجالس العلم ومدارسة العلم الشرعي أو صلة الرحم أو بر الوالدين أو أي شيء من الأعمال الخيرية؛ فحافظ عليها وإياك أن تتراجع؛ لأن الالتزام بعد التراجع صعب جداً.

يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فالشاهد أن الإنسان إذا حباه الله سبحانه وتعالى كمية كبيرة من شعب الإيمان فهي تجعل إيمانه في ازدياد.

والذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم حتى يضيع وقتها قد يتمادى في ذلك التفريط حتى يصبح ديدنه وعادته، ولا يأخذ بأسباب الاستيقاظ في صلاة الفجر، فهو متعرض لما ثبت في البخاري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في رؤياه رجلاً مستلقياً على قفاه، وآخر قائماً عليه بصخرة يهوي بها على رأسه، فيشدخ رأسه فيتدحرج الحجر، فإذا ذهب ليأخذه لا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان) يعني: يلتئم من جديد، فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى، وقد ذكر له جبريل وميكائيل عليهما السلام ما رآه بأنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.

قال الإمام ابن العربي رحمه الله: جعلت العقوبة في رأس هذا النائم عن الصلاة؛ لأن النوم موضعه الرأس، فالعقوبة في نفس المحل.

السبب السابع: الإيمان بالغيب وبما عند الله من الأجر والثواب

هناك أسباب كثيرة لمن أراد أن يحافظ على الموعد، وذلك إذا كان يحب الموعد أو يحترمه أو يخاف من فواته، فالدوافع لإنجاز المواعيد كثيرة، فالحب دافع، والرجاء والطمع في شيء له قيمه دافع أيضاً، فلو ضمن أحد المنافقين أنه يجد عظماً سميناً في المسجد لبادر إلى الذهاب إلى المسجد، ولو قيل: سيوزع لكل واحد يجيء إلى المسجد كذا وكذا جرامات من الذهب مثلاً؛ سنرى الناس يجرون إلى المساجد؛ لأن الدافع موجود، لكن المؤمن الدافع عنده الإيمان بالغيب، وأن هناك شيئاً خير من الدنيا وما فيها وهو ثواب الله سبحانه وتعالى والدرجات في الجنة، وإرضاء الله عز وجل، فالمؤمن عنده يقين بذلك، فلذلك هو يبادر إلى الطاعات.

إذاً: الحب هو الذي يدفع الإنسان إلى احترام هذا الموعد، أو رجاء ما يؤمله من الثواب أو المكسب من جراء الالتزام بهذا الموعد، أو الخوف من العقاب الذي يتعرض له إذا هو أخلفه، وكلها مجتمعة في الصلاة، فلذلك تجد أن الإنسان لا يعمل عملاً إلا بسبب واحد من هذه الأشياء أو بها مجتمعة، حب أو خوف أو رجاء، فالطالب مثلاً في الامتحان يذاكر ويجتهد في المذاكرة ولا يتخلف عن الحضور؛ لأنه يحب أن ينجح، ويخاف إذا تخلف أن يرسب أو يحصل له كذا وكذا وكذا، وهذا لا يقاس بالصلاة، فالصلاة أعظم أجراً، وعقابها أشد إذا فرط فيها، فالذي ينبغي على الإنسان أن يستحضر هذه المعاني.

السبب الثامن: استعمال الأمور المنبهة لصلاة الفجر

هناك أسباب كثيرة تعين الإنسان على المحافظة على صلاة الفجر، وبعض إخواني الأفاضل لكي يحافظ على صلاة الفجر كان يشرب سوائل كثيرة جداً؛ حتى يحتاج إلى قضاء الحاجة بسبب هذه الكمية من السوائل، فيستيقظ فينتبه لصلاة الفجر، وكان نفس الأخ ينام ويدلي حبل من الشباك إلى خارج المنزل، حتى يمر أحد إخوانه فيحرك الحبل حتى يستيقظ، فهذه مجاهدة، يقول عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

وأعرف شاباً قابلته قبل سنة (1975م) في أحد المساجد، وكان المسجد بعيداً جداً عن بيته، فحتى يضمن صلاة الفجر في المسجد، كان يبيت في المسجد من أجل المحافظة على صلاة الفجر!

فالشاهد أن الأسباب كثيرة، مثل أن يتخذ الإنسان منبهاً كالهاتف، ويوصي من يتصل به، فهذا من تعاون المسلمين فيما بينهم، وأنا أعتقد أن وزر أصحاب العمارات التي يكون فيها إخوة متجاورون مضاعف إذا لم يتعاونوا على البر والتقوى، فعليهم أن يوقظ بعضهم بعضاً، والوسائل الآن كثيرة جداً، وممكن يكون هناك اشتراك في (السنترال) من أجل أن يوقظهم في موعد معين مثل وقت صلاة الفجر أو غيرها من المواعيد، فهناك مائة وسيلة، هناك ساعات للأذان توقظ لصلاة الفجر، فالأسباب كثيرة جداً، وليس شرطاً أن تكون مكلفة من الناحية المالية، لكن من كان جاداً وحريصاً فإنه يستطيع أن يتغلب ولا يتعلل بالأعذار، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر: (لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل) فإذا كان ثواب ركعتي سنة الفجر خيراً من الدنيا وما فيها، فكيف بثواب الفريضة؟!

والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، ومن أجل ذلك كله، ومن أجل أن المؤمن تمس حاجته إلى مزيد من التنبيه للاستيقاظ لصلاة الفجر ليتغلب على وسوسة الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء؛ شرع الأذان الأول قبل دخول وقت الفجر، وهذه خصيصة من خصائص صلاة الفجر، فقد شرع الأذان الأول من أجل إعانة الناس على تحصيل الثواب العظيم لصلاة الفجر، ومن أجل التغلب على وسوسة الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء، ثم زيد في الأذان الأول للفجر هذه العبارة الوجيزة الحاسمة التي تسري في قلب المؤمن سريان الكهرباء، فتطرد عنه النوم، فيهب للصلاة، ألا وهي عبارة (الصلاة خير من النوم).

فلا شك أن الإنسان لو وعى هذه الكلمة، (الصلاة خير من النوم) لعرف ولعلم أن لذة الصلاة خير عند أرباب الذوق وأصحاب الشوق من لذة النوم، أما من سمعها ولم تعمل في قلبه، فآثر لذة الدنيا على نعيم الآخرة، فإنه يعاقب بأن يبول الشيطان في أذنيه ويصبح خبيث النفس كسلان.

السبب التاسع: المسارعة إلى النوم أول الليل

من أسباب القيام لصلاة الفجر والمحافظة عليها: المسارعة إلى النوم أول الليل بعد أن يصلي العشاء وسنته البعدية، ثم الوتر أخذاً بالعزيمة، ويتجنب السمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) رواه البخاري .

له أن يسمر في مذاكرة علم أو محادثة ضيف أو مؤانسة أهل إذا كان عنده من يوقظه للصلاة، أو عرف من عادة نفسه أنه يستيقظ، ولا يسمر إذا غلب على ظنه أنه يضيع الصلاة، بل لا يسهر في قيام الليل سهراً يضر بشهود صلاة الفجر، وفي الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) رواه البخاري .

وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة : (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غدا إلى السوق، وبيت سليمان بين السوق والمسجد النبوي، فمر على الشفا أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصباح...).

وهذا تفقد للرعية، ولإخوانه المسلمين، لماذا ما حضر الصلاة؟! وهذا موجود حتى الآن في بعض مناطق نجد، وبالذات في القصيم، فمن غاب من الناس في صلاة الفجر، قالوا له: لماذا لم تأت للصلاة؟ وحققوا في الأمر.. إلى آخره.

الشاهد: أن على الناس أن يتعاونوا على أداء صلاة الفجر، وأن يتعهد الناس بعضهم بعضاً.

كذلك صلاة الجماعة هي علاج من الانعزال الاجتماعي، أو الخوف من المواقف الاجتماعية، فأفضل علاج لها صلاة الجماعة؛ لأنه يعتقد أن صلاة الجماعة أمر واجب عليه، وغير مستعد بأن يرتكب إثماً فيفرط في صلاة الجماعة أو صلاة الجمعة، والمسلم مع إخوانه كالجسد الواحد، فالناس عندما يغيب الإنسان بسبب مرض أو سفر أو حصل له أي شيء يفتقدونه ويسألون عنه عندما لا يجدونه في الجماعة، بخلاف ما لو كان الناس منعزلين ولا يتقابلون في المسجد، فإنه يغيب الواحد أو يموت دون أن يحس به أحد!

قال لها: (لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه، فقال عمر : لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة كاملة) يعني: عند التعارض بين النافلة والفريضة تقدم الفريضة على النافلة، وهذا من فقه الإنسان أنه لا يشتغل بالنوافل ويضيع الفرائض، فإن من سهر سهراً شديداً وصلى الفجر مرهقاً؛ فإنه يتعرض لمشابهة المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.

كذلك يتجنب الإنسان استقبال الضيوف الذين لا يبالون بتضييع صلاة الفجر، ويؤثمونه بالإفراط في السهر والسمر.

قال الشعبي رحمه الله: من فاتته ركعتي الفجر فليلعن الدخلاء.

والدخلاء هم الضيوف الذين يأتون بعد العشاء، ويسهرون سهراً طويلاً إلى أن يشق ذلك على هذا الإنسان، فبالتالي يتأخر وتفوته ركعتي الفجر.

إن موضوع تنظيم الوقت مهم جداً، فمن ثم لابد للإنسان ألا يجالس إلا من يفيده أو من يستفيد منه، ويترك ما عدا ذلك هو من فضول الزيارات وتضييع الأوقات، ولذلك الإنسان العاقل يجعل محبس الوقت في يديه، ولا يجعل محبس الوقت في أيدي الفوضويين الذين لا يبالون بظروف الناس.

إذاً: على الإنسان ألا يترك نفسه ووقته نهباً لكل طارق؛ لأنه لو فعل ذلك فلن ينجز شيئاً لا في دين ولا في دنيا، لكن ينبغي لكل إنسان أن يكون محبس الوقت في يديه، وهو الذي يتحكم في وقته، ويحدد الشيء المناسب لظروفه، ويفرض على الناس ذلك، ويجبرهم على احترام النظام، بخلاف ما لو عاش في فوضى فإنه تمر عليه السنوات تلو السنوات، وهو لا يتقدم لا في دين ولا في دنيا، وتضيع أوقاته هدراً.

السبب العاشر: الإتيان بأذكار النوم

من الأسباب التي تعين على المحافظة على صلاة الفجر: أن يحافظ المسلم على الإتيان بآداب النوم وأذكاره، خصوصاً قراءة آية الكرسي والمعوذات عند النوم.

وكذلك عند الاستيقاظ يوقظ امرأته أو هي توقظه، ولا بأس أن ينضح الماء في وجهها أو تنضح الماء في وجهه، لكن هناك أناس عصبيون فيجب مراعاة أحوالهم؛ لأنه لو نضحت زوجته الماء عليه لانقلبت الدنيا، لكن لها أن تستبدل الماء بطيب مثلاً فتدهن يدها بطيب وتدلك وجهه برائحة طيبة وبهدوء؛ فإن بعض الناس قد يكون عصبياً جداً، فتصدر منه أشياء يندم عليها بعد ذلك.

السبب الحادي عشر: المواظبة على صلاة الفجر في مسجد واحد

من الأسباب المهمة للمحافظة على صلاة الفجر: أن يواظب المرء على شهود صلاة الفجر في مسجد واحد؛ كي يحس إخوانه بتخلفه عن الصلاة إذا وردت عليه أعراض ضعف الإيمان، فلا يبقى كالشاة التي انفرد بها الذئب، والشيطان ذئب الإنسان، لا يأكل من الغنم إلا القاصية، فهو يحوط نفسه بإخوانه كي يحموه ويحرسوه، فإذا حصل له نوع من التكاسل أو التفريط أو الضعف؛ فإن إخوانه سيحسون بأنه يتخلف، وبالتالي يبدءون ينبهونه وينصحونه ويعينونه على طاعة الله تبارك وتعالى.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه: (أوصيك أن تستحيي من الله تعالى كما تستحيي رجلاً من صالح قومك).

وقال مجاهد : لو أن المسلم ما يصيب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه.

وهذه بركة صحبة الأخ الصالح، حتى إن مجرد صحبته تجعل الإنسان لا يتجرأ على أن يرتكب معصية.

تذكر فضيلة المحافظة على صلاة الفجر في جماعة

قال صلى الله عليه وسلم: من صلى البردين دخل الجنة متفق عليه.

قوله: (من صلى البردين) يعني: الصلاتين اللتين تصليان في وقت البرد، وهما: العصر والفجر.

وقال صلى الله عليه وسلم: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر -يا ابن آدم- لا يطلبنك الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم رواه مسلم ، فهذا وعد بالحفظ والرعاية والحماية لمن يصلي الفجر، وهذا وعيد لمن يتعدى عليه أو يؤذيه، ولما كانت صلاتا الفجر والعصر من أفضل الصلوات وأعظم الطاعات ناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا والهبات ألا وهي رؤية الله عز وجل في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ قوله تعالى: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ))[ق:] متفق عليه.

قوله: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم) والربط بالفاء هنا مسلك من مسالك التعليم، فيكون المعنى: كيف تدركون فضيلة رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة؟! وما الضريبة التي تدفع حتى تنالوا هذه الفضيلة؟!

إن الضريبة هي المحافظة على صلاتي الفجر والعصر.

قوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)؛ لأن هذا يتسبب أن تنالوا ثواب رؤية الله في الآخرة، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)، وهذا التعبير من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نوع من المغالبة والمصارعة والمعالجة مع شيء آخر، فيه صراع بين النوم وبين الاستيقاظ، بين أن يهب الإنسان للصلاة وبين أن يستجيب لنداء الشيطان: (عليك ليل طويل فارقد)، بين الإقدام وبين الإحجام.

قوله: (ألا تغلبوا) يعني: اجتهدوا في الأخذ بالأسباب الكفيلة للاستيقاظ للصلاة.

نذكر جملة من أسباب المحافظة على صلاة الفجر.

أن يفتش الإنسان عن أمراض قلبه وتشخيصها والاجتهاد في علاجها بما أمكن من الأدوية؛ لأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فكل أحوال الإنسان أساسها القلب، فليفتش الإنسان في قلبه، وينظف قلبه ويغسله مما يكدره، فالقلب هو القائد الذي إذا استقام استقامت جنوده من الجوارح والأركان، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، وشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، فمن أراد أن يحيا قلبه، وأن يلين جفاف قلبه وقسوته، فليسقه بالقرآن الكريم، فالقرآن هو الذي يحيي القلوب، فالجسد كل يوم محتاج إلى كمية من السوائل لا ينبغي أن تقل أبداً، وكذلك لا بد أن يصل القلب يومياً مدد وغذاء من القرآن الكريم؛ ليغذيه ويبقيه سليماً معافى من الآفات والأمراض، فشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، ويسقيها ذكر الله سبحانه وتعالى، ويقيمها على حفظ حدود الله عز وجل وتعظيم أمره ونهيه، فالإنسان يبادر أن يتوب عن كل معصية حتى لا تحول هذه المعاصي دونه ودون طاعة الله عز وجل؛ فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.