لماذا نصلي؟ [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الصلاة نجاة من عذاب القبر، فطاعة الله تبارك وتعالى هي خير ما يقدمه الإنسان ويدخره في قبره، يقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44].

قال مجاهد : فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44] يعني: في القبر.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله) متفق عليه.

وقد وصف لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل ما يجري في أول لقاء يتم في القبر، بين المؤمن وبين عمله الصالح الذي يصحبه ولا يفارقه، ففي حديث البراء الطويل قال صلى الله عليه وسلم في المؤمن: (فيأتيه من روحها وطيبها -يعني: من روح الجنة وطيبها وهو في قبره- ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟! فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة)، وهذا الحديث صحيح.

فالشاهد فيه: أنه في اللقاء الأول الذي يدوم إلى وقت الخروج من القبور يبقى العمل الصالح مؤنساً للإنسان في قبره بهذه الحيثية، يقول: (أنا عملك الصالح فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله) أي: يبادر إلى الطاعات.

قوله: (بطيئاً في معصية الله فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة) ولاشك أن الصلاة تأتي في مقدمة الأعمال الصالحة التي تحفظ صاحبها من عذاب القبر.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه -أي: تأتيه ملائكة العذاب من قبل رأسه- فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل) أي: لا يوجد طريق للمرور من ناحيتي، لا سبيل لكم إلى تعذيبه من ناحيتي؛ لأنه لم يكن يقصر في الصلاة هذا معنى: (ما قبلي مدخل) لأن الصلاة قوية وكاملة، ولا يوجد ثغرات بحيث ينفذ منها العذاب إلى هذا المؤمن.

ثم قال: (ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس: ما قبلي مدخل) وهذا حديث حسن.

إن من فضائل الصلاة وشرفها أن الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، الأموات والمعذبون يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا لكي يصلوا ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد فيهما كثير من الناس.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) يعني: لو أن هذا الميت خير بين أن يعود إلى الدنيا لفترة وجيزة جداً ليركع فيها ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد الناس في أجرهما، وبين أن يؤتيه الله سبحانه وتعالى ملك الدنيا بما عليها إلى أن تقوم القيامة؛ لاختار أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين ثم يعود إلى القبر مرة ثانية؛ لما رأى من ثواب الطاعة وثواب الصلاة حتى لو كانت نافلة.

وقال إبراهيم بن يزيد العبدي : أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه فأتى إلى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق! ما ترى هذا متمنياً لو تمنى؟ قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح في عمله، قال: فها نحن، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات.

وكلمة يستمتع إشارة إلى أن العبادة لها طعم ومتعة ولذة يجدها من يخلص لله سبحانه وتعالى فيها.

كذلك قوله: ويصلح في عمله أي: لنفرض أننا متنا ودفنا ثم سألنا الكرة إلى الدنيا فرجعنا فأخذنا فرصة جديدة، مع أنه في الواقع لا يحصل هذا أبداً، لكن افترض ذلك واعتبر أنك الآن قد مت ودفنت وقامت القيامة وأدخلت النار ثم سألت الله سبحانه وتعالى الكرة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] فافترض أن الله سبحانه وتعالى قال: قد فعلت وأذن لك بالعودة من جديد إلى الدنيا لتأخذ فرصة جديدة، هكذا ينبغي أن يعالج الإنسان مرض الفتور والتواني عن العبادة بأن يفترض هذا الافتراض، إن الموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفاصل بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس لأحد بعده من مستعتب ولا اعتذار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] يعني: إن هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وإنما هي كلمة هو قائلها مثل قوله تعالى: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

ومن يغادر الدنيا وتوافيه الآخرة فلا سبيل إلى رجوعه مرة ثانية، قال الله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

قوله: (بَرْزَخٌ) هي فترة التواجد في القبر إلى يوم البعث والنشور.

وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

فعلى أحد التفسيرات فمعنى قوله تعالى: (لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) أي: أن أجل الله لا يؤخر.

وقال عز وجل: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44] فهم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

وكذا يتمنون الرجعة إذا عرضوا على ربهم تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].

وكذا يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، كما قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

وعن سبحانه وتعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11].

وقال قتادة في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100] قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى.

وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها.

من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) يعني: اغتنم كل واحدة من هذه الخمس قبل أن تخلفها الثانية ولا تعود الأولى.

قوله: (شبابك قبل هرمك) لأن الإنسان إذا دخل في حد الشيخوخة فلا سبيل إلى استرداد الشباب، يقول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب

فالشباب إذا ولى لا يعود، والشباب هو فترة العمل، وفترة الإنتاج والبناء، وفترة القوة بين الضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، وفترة مجاهدة النفس، وفترة الاجتهاد في العبادة وتحصيل الأعمال الصالحة ونحو ذلك.

والشباب ضيف سريع الزوال كما قال الشاعر:

ما قلت للشباب في كنف اللـ ـه وحفظه غداة استقل

زائر لم يزل مقيماً حتى سود الصحف بالذنوب وولى

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما رأيت الشباب إلا كشيء كان في كمي فسقط. يعني: ما شعر به لسرعان انقضاء الشباب، فالإنسان لا يغتر بشبابه، ولا ينصت إلى تلبيس الشيطان ورفقاء السوء عندما يقولون له: استمتع بشبابك ثم تب بعد ذلك، واغتنمه في اللهو والضياع؛ وهذا من تلبيس إبليس، ومن اغتنم شبابه في طاعة الله كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث: (وشاب نشأ في عبادة الله تبارك وتعالى).

قوله: (وصحتك قبل سقمك)؛ لأن الصحة أيضاً لا تدوم، حتى وإن سلم الإنسان من الآفات في فترات العمر الأولى ففي الغالب هناك الأمراض التي تهجم عليه في فترة الشيخوخة، ولنفرض أن الزرع سلم في مرحلة البذر، وفي مرحلة النمو، وفي مرحلة كذا وكذا وكذا إلى أن استوفى نموه، فنهاية الزرع الحصاد.

فأنت -أيها الإنسان- حتى لو سلمت من الآفات كلها فأنت عند تمام الزرع محصود بالموت.

قوله: (وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال، فمن فاته العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد في الشباب وفي الصحة والغناء والفراغ والحياة، فإنه لن يدركها عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه تمني الأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبينما ما يشتهون من الرجعة والتوبة والإخبات.

قال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:47-48].

إن من خصائص الصلاة وفضائلها أنها نجاة من عذاب الله تبارك وتعالى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحترقون تحترقون) -يعني: تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة التي ترتكبونها- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) وهذا حديث حسن.

قوله: (ثم تنامون) يعني: وقد كفرت الصلوات الخمس ما بينها من الذنوب، فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا؛ لأن الإنسان الذي يفعل المعاصي باستمرار ظالم، ونوم الظالم عبادة كما يقولون؛ لأنه يكف شره عن نفسه أو عن غيره، فهذا المعنى نفهمه من قوله: (ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها).

قوله: (قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها) أي: بالذنوب.

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفاً: (ألا إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره فتوضأ، ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله عز وجل لملائكته: ما حمل عبدي هذا على ما صنع؟ فيقولون: ربنا! رجاء ما عندك وشفقة مما عندك -يعني: رجاء ما عندك من الثواب، وشفقة مما عندك من العذاب- فيقول: فإني قد أعطيته ما رجاه، وأمنته مما يخاف).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لم ترع -يعني: اطمئن لا تخف-، نعم الرجل أنت لو كنت تتقن الصلاة من الليل، فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم ...) إلى آخر الحديث، وهو متفق عليه.

وفي آخر الحديث: (فما ترك عبد الله بن عمر بعد ذلك قيام الليل أبداً)، فاستفاد رضي الله عنه من هذا الحديث؛ لأنه علم من هذه الرؤية أن الصلاة بالليل منجاة من العذاب.

ويروى عن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وكنا في صفة بالمدينة فقام علينا، وقال: إني رأيت البارحة عجباً.. -إلى أن قال-: ورأيت رجلاً من أمتي احتوشته ملائكة العذاب -أي: أحاطت به- فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم).

وقد ضمن الله عز وجل النجاة من النار لمن حافظ على صلاتي الفجر والعصر، فعن عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر.

وورد في الحديث: (من صلى البردين دخل الجنة).

حتى أهل المعاصي وأهل الفساد الذين كانوا لا يتركون الصلاة مع مقارفة المعاصي تنفعهم صلاتهم، فالإنسان في حالة المعصية لا يغفل عن ذكر الله؛ لأن المعصية مع ذكر أفضل من معصية مع غفلة، وعسى الذكر أن يوقظ قلبه من سباته وغفلته.

فالإنسان لا يقنط من روح الله؛ لأن بعض الناس يريد أن يستغفر أو يدعو الله سبحانه وتعالى أو يسأله من رحمته فيقول: وأنى يستجيب الله لي وأنا أفعل كذا وكذا من المعاصي والتقصير؟! لا، هذا من تلبيس الشيطان، لكن على الإنسان دائماً أن يكون عنده أمل في رحمة الله تبارك وتعالى، وطمع في عفوه عز وجل، ويطرق باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يرحم، ممن كان شهد أن لا إله إلا الله؛ أمر الله أن يخرجوهم) يعني: يأمر الله الملائكة أن تخرج من النار من قال: لا إله إلا الله بشروطها، فالملائكة تعرف هؤلاء المذنبين الذين ماتوا مصرين على الكبائر ولم يتوبوا منها، أما لو تابوا توبة صحيحة فتقبل توبتهم، فمن لم يتب فهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، فهناك فئة من الموحدين سيدخلون النار ويعذبون، وهم الذين كانوا يفعلون كثيراً من الذنوب والمعاصي والكبائر الموبقات والمهلكات، لكن الله سبحانه وتعالى يأمر الملائكة أن تخرجهم من النار، فالملائكة تتعرف على هؤلاء بعلامة السجود في وجوههم، فيميزونهم عن غيرهم بعلامة السجود فيخرجونهم من النار، فهؤلاء كانوا يرتكبون المعاصي وأصروا عليها حتى ماتوا، لكن ما كانوا يقصرون أبداً في الصلاة.

إذاً: العاصي حثه أن يصلي، ولا تقل له: لا تنفعك صلاتك؛ لأنك تفعل كذا وكذا، لا بالعكس، عليك أن تحثه على الصلاة حتى ولو كان مقصراً؛ لأن الصلاة مع المعاصي سوف تنفعه، إما في الدنيا بأن تنهاه عن الفحشاء والمنكر كما في حديث الرجل الذي كان يسرق، فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إن صلاته ستنهاه) أي: ستنهاه عن هذا المنكر، وإما أنها ستنفعه في الآخرة بهذه الحيثية التي ذكرت في الحديث: (أمر الله أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود).

فانظر أثر السجود كيف أنه حبيب إلى الله سبحانه وتعالى، حتى إنه ليعذب جسمه ما عدا الموضع الذي كان يسجد عليه،وليس هذا معناه: أن يجتهد الإنسان في العبادة حتى يكون له علامة الصلاة في الجبهة، لا، بل علامة الصلاة كما في قوله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] هي الخشوع والتواضع والمسكنة، وإلا فإن هذه العلامة المعروفة -كما قال بعض السلف- قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، يعني قد تكون لإنسان منافق، لكن المقصود موضع السجود.

ثم يقول: (فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا) يعني: تفحموا واحترقوا من العذاب والعياذ بالله!

ثم يقول: (فيصب عليهم من ماء يقال له: ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)، وهذا الحديث متفق عليه.

فالصلاة تشفع لصاحبها وتحفظه كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:110] وأهم الخير ما ذكر في سطر الآية، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

قوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ) يعني: أن العبادة تنفعك أنت أما الله فغني عنك وعن العالمين، فصلاتكم لا تنفعه ولا تفيده شيئاً وإنما هي لأنفسكم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار).

إن من فضائل الصلاة أنها رافعة الدرجات، ولا تقتصر على إدخال المؤمن إلى الجنة، لكنها تكون سبباً في رفع درجاته حتى بعد دخوله الجنة، وذلك برفع درجاته، يقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] فأعطي صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل المقام المحمود، ونال أشرف المنازل.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدثني بعمل يدخلني الجنة، قال: بخ بخ! لقد سألت عن أمر عظيم وهو يسير لمن يسره الله له، تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، ولا تشرك بالله شيئاً).

وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفر، أربعة من موالينا وثلاثة من عربنا، مسندي ظهورنا إلى مسجده، فقال: ما أجلسكم؟ قلنا: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرم قليلاً -يعني: سكت قليلاً صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ فقلنا: لا، قال: فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافاً بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافاً بحقها فلا عهد له علي، إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له).

وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: من الصديقين والشهداء).

وعن ربيعة بن كعب قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سلني -يعني: يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه كما أحسن إليه- فقال: أسألك مرافقتك في الجنة -يعني: أسألك أن تدعو الله لي أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة- قال: أو غير ذلك؟! -يعني: اطلب حاجة أسهل- قلت: هو ذاك -يعني: ليس عندي أمنية أو طموح أقل من هذا- قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: أن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد معها من عمل صالح، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] يعني: لا تقتصر على دعائي فقط، لكن أعني على إنجاز هذا الطموح وهذا الأمل بكثرة السجود، وهذا الحديث رواه مسلم .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري : لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام).

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم .

وهاتان الركعتان سنة الوضوء.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.

والبردان: الصبح، والعصر، وسميا بذلك؛ لأنهما يصليان في طرفي النهار حيث يطيب الهواء، وتذهب ثورة الحر.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) أي: لو استطعت أن تحفظ لسانك من الصلاة إلى الصلاة التي تليها عن اللغو يكتب لك كتاب في عليين.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كان رجلان أخوين، فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول منهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يكن الآخر مسلماً؟ قالوا: بلى وكان لا بأس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟).

قوله: (وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟) يعني: أن الصلاة رفعت مقامه أراد أن يلفت نظرهم إلى أن الثاني قد عاش بعد الأول فترة من الزمان وأقام الصلاة فيها، ونال ثواباً بسبب امتداد عمره، لعله يربو على ثواب هذا الذي مات أولاً.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقى من درنه؟!) يعني: أن الصلاة طهرته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رجلان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأُخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله : فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك! فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة صلاة سنة؟).

وفي زيادة صحيحة لـابن حبان : (بينهما أبعد مما بين السماوات والأرض) أي: بينهما في الفضيلة والمنزلة بالعمل الصالح الذي عمله بعد موت صاحبه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـبلال: يا بلال ! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي غير أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) رواه البخاري .

يعني: كان يتنفل عقب كل غسل أو وضوء تنفلاً مطلقاً، قوله: (ما كتب لي) يعني: ما استطعت؛ لأنه كان يكثر من نوافل الصلاة المطلقة؛ لأن النوافل المقيدة لا يزيد الإنسان فيها، مثل: ركعتي الفجر، وسنة المغرب ركعتين بعدية، وسنة العشاء ركعتين بعدية، وسنة الظهر أربع ركعات قبلها وركعتين بعدها، فهذه النوافل مقيدة بعدد،

لكن إذا أراد الإنسان في أي وقت خارج أوقات الكراهة أن يزيد ما شاء في الصلاة فله أن يصلي ما شاء.

وهذا هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، يعني: من الصلوات المشروعة، لا أن يبتدع صلاة من عنده، وإنما يستكثر من النوافل المطلقة التي لم تقيد بعدد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم وغيره.

قوله: (إسباغ الوضوء على المكاره) تقول: ثوب سابغ إذا كان يغطي البدن، فإسباغ الوضوء يعني: أنك تبلغ الماء إلى أعضاء الوضوء ولا تقصر في ذلك، رغم أنك تتألم من الماء في شدة البرد، فهذه هي المكاره؛ لأن المشقة فيه أكثر، والأجر على قدر النصب والمشقة، بخلاف الماء البارد في شدة الحر، فإن الإنسان يستمتع بذلك؛ لأنه يلطف من شدة الحر.

إذاً: معنى إسباغ الوضوء على المكاره: أن يوصل الماء إلى مواضع الوضوء بحدودها الشرعية، رغم الألم الذي يجده بسبب شدة البرد.

قوله: (وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: يمكث في المسجد بعد الفراغ من الصلاة، وينتظر الصلاة التي تليها؛ حماية لنفسه من شر الفتن، وحماية للناس من شر نفسه، ويجلس في المسجد يذكر الله تعالى.

قوله: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) شبهه بالرباط في الجهاد وحراسة الثغور من الأعداء، فكذلك هو يجلس في المسجد يرابط؛ ليحمي نفسه من الفتن، ويحمي الآخرين من شره.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) متفق عليه.

النزل هو ما يعد للضيف من طعام ونحوه من الإكرام، يقول عز وجل: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] قال: (أرض الجنة يرثها الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات).

قوله تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106] أي: بشارة لقوم عابدين، وهم الذين يصلون الصلوات في الجماعات، ولذلك قال بعض السلف: (من صلى الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة).

إن من فضائل الصلاة أن الصلاة تؤهل من يقيمونها لرؤية الله تبارك وتعالى في الجنة، فلا شك أن رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى هي الغاية العظمى، التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم.

وحرمانها والحجاب عنها لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، فأهل الجنة على رغم ما هم فيه من النعيم المقيم الذي لم تسمع به أذن، ولم تقع عليه عين، ولم يخطر على قلب بشر، ومع ذلك إذا كشف الله سبحانه وتعالى الحجب وتجلى لأهل الجنة، ورأوا وجهه الكريم؛ نسوا وتلهوا عن كل ما في الجنة من نعيم؛ لأن هذه هي النعمة العظمى، يقول عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.

إذاً: أهل الجنة إذا رأوا ربهم نسوا ما هم فيه من النعيم، أما الحرمان من هذا النعيم -الذي هو رؤية الله في الآخرة- فهو أشد على أصحاب الجحيم من عذاب الجحيم نفسه، ولذلك قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وهذا أشد عذاب يقع على أهل النار.

وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لماتوا،يعني: من الحزن؛ لكن لأنهم يعبدون الله على أمل أن يتشرفوا برؤية الله تبارك وتعالى، فهذا يحدوهم إلى السعي إلى مرضاته وطاعته، أما إذا علموا أنهم لن يروا ربهم يوم القيامة لماتوا من الغم والحسرة.

وفي رواية عنه: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لذابت أنفسهم.

وعن نافع -وكان من عباد الجزيرة- أنه كان يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة مني إليه، ثم يقول لي: يا نافع ! كن تراباً.

انظر إلى شدة الشوق إلى رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة!

يعني: كل العمل الصالح الذي عملته في كل عمري، يجعل ثوابي فقط أن أنظر إليه نظرة واحدة مني إليه، ثم يقول لي بعد ذلك: يا نافع ! كن تراباً.

الصلاة تطهر القلوب وتزكي النفوس والوجدان

إن المحافظة على الصلاة بقالبها وروحها والإكثار من النوافل لها تأثير لا يعرف لغيرها في صفاء القلب وزكاء النفس وطهارة الوجدان، وسمو الروح، والاتصال بعالم القدس.

فالصلاة تؤهل النفس لتلقي التجليات الأخروية، واستقبال النفحات الإلهية، لاسيما رؤية الله تعالى في الآخرة، وقد ربط صلى الله عليه وسلم بين رؤية الرب تبارك وتعالى وبين الصلاة، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الفجر وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]). متفق عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) المشبه رؤية الله في الآخرة، والمشبه به رؤية القمر في ليلة صافية لا سحاب فيها، ووجه الشبه الصفاء والوضوح.

قوله: (لا تضامون في رؤيته) يعني: إما لا يصيب أحد منكم الضيم وهو الظلم، بحيث لا يحرم من الرؤية، بل كل المؤمنين سيستوون في هذه الرؤية؛ لأنها واضحة مثل رؤية القمر في السماء دون سحاب ليلة البدر، فهو في غاية الوضوح، المعنى: لا ينضم بعضكم إلى بعض حتى يؤيد ما يشهده وما يراه بشهادة غيره له، فعلى كلا المعنيين فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: شبهت رؤية المؤمنين ربهم برؤيتهم القمر في الدنيا، وضرب لنا هذا المثل لأجل الوضوح، فمن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم).

إذاً: من أراد أن يحظى برؤية الله في الآخرة فليحافظ على الصلاة لقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) رواه مسلم .

الشاهد هنا: أن هذا يحدث في يوم الجمعة، فهم يجتمعون في وقت صلاة الجمعة، ويوم الجمعة عند أهل الجنة اسمه: يوم المزيد، وقد روي في بعض الأحاديث: (أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لهم في يوم المزيد ويحاضر كل منهم محاضرة).

نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.