لماذا نصلي؟ [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فنستأنف بإذن الله تعالى ما كنا بصدده من ذكر خصائص الصلاة وفضائلها، وقد ذكرنا أن الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وأنها أهم أمور الدين، وأنها توءم الفرائض والأركان، وأنها أم العبادات، وأنها أمر الله تبارك وتعالى، وأنها الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وأنها دعامة جميع الشرائع السماوية، وأنها شعار دار الإسلام، وأنها إيمان، وأنها براءة من النفاق، وأنها سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وأنها القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، وأنها خير موضوع، وأنها زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وأنها مدرسة خلقية، وأنها راحة وسعادة وقرة عين، وأنها نور وبرهان ووضاءة، وأنها من سنن الهدى، وأنها منحة ربانية، وأنها شكر لنعم الله تعالى، وأنها إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين، وأنها تحرير للبشرية، وأنها ناهية عن المنكرات وعاصمة من الشهوات، وأنها كفارة للسيئات وماحية للخطيئات، وأنها ملجأ المؤمن في الكربات، وانتهينا إلى بيان أن الصلاة حفظ وحماية للمصلي.

أيضاً من خصائص وفضائل الصلاة: أنها مجلبة للرزق، لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس على المؤمنين، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ومن رحمته بعباده أنه خففها عز وجل من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات.

ولو بقي الأمر على ما كان عليه، وفرض علينا في اليوم والليلة خمسين صلاة، لكان حتماً واجباً علينا أن نحافظ عليها، وإلا حق علينا الوعيد الإلهي، فمن رحمة الله تبارك وتعالى أنه خففها من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات، كما أمرنا بالمداومة على إقامتها في أوقاتها، قال تعالى: والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، وليس المراد من المداومة استغراق الليل والنهار بها، ولكن المطلوب فقط هو أداؤها في أوقاتها؛ كي يستطيع الإنسان أداء الواجبات الأخرى كتحصيل معاشه ونحو ذلك.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه) رواه البخاري .

هذا الحديث هو ميزان ومقياس الوسطية التي امتاز بها الإسلام، لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستطرد ويقول: وإن لوالديك عليك حقاً، وإن لإخوانك عليك حقاً، وإن لكذا عليك حقاً، لكن بعدما ذكر هذه النماذج من أصحاب الحقوق، ختمها بذلك القول الجامع: (فأعط كل ذي حق حقه).

نتوقف قليلاً عند هذا الحديث؛ لأنه يمس موضوعاً مهماً جداً نبينه إن شاء الله تعالى، هذا الحديث كما ذكرنا يعطي كل مؤمن ميزاناً ليزن به الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك) فالإنسان ليس له وظيفة واحدة، بل له وظائف متعددة، ودوائر الالتزام بالحقوق والواجبات لديه متعددة، فالإنسان المتوازن لا يميل كل الميل إلى وظيفة، ثم يهدر باقي الوظائف، فالطالب مثلاً: وظيفته أنه طالب، يحضر المدرسة، ويذاكر دروسه، هذه وظيفته كطالب، لكن في نفس الوقت هناك واجبات أخرى متنوعة في حقه كابن تجاه والديه وأقاربه وأرحامه، وقبل ذلك كله عليه واجبات تجاه ربه كعبد، والأب مثلاً: عليه واجبات تجاه أولاده كأب، وهو كزوج عليه واجبات تجاه زوجته وتجاه أهله، وواجبات تجاه صلة رحمه وأقاربه، وكعبد لله سبحانه وتعالى عليه واجبات تجاه ربه عز وجل، أيضاً مجال النوافل مفتوح للمتقرب لله سبحانه وتعالى، كذلك إذا أتاه الضيوف عليه واجبات تجاههم، وهكذا، فلكل طرف من هذه الأطراف التزامات على الإنسان، لكل منهم حق نفسه لها حق.

طلب العلم الشرعي لا يعارض الدراسة المنهجية لتحصيل الوظيفة والعمل

بعض الإخوة عندهم نوع من الخلل في مفهوم التوازن والوسطية، ويظنون أنهم ينجزون شيئاً عظيماً، فبعضهم يقول: أنا لا أستطيع إيجاد التوازن بين الدراسة وبين تعلم العلوم الشرعية أو حضور دروس العلم، فتجد الواحد من هؤلاء إما أن ينقطع تماماً إلى العلوم الشرعية ولو أخل بكل الواجبات الأخرى، وإما أن ينغمس تماماً في الدنيا ويخل بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا السؤال ليس له محل من البداية أصلاً؛ لأن هذا السؤال لا نحتاجه إلا عند حصول التعارض بين واجب وواجب آخر، فعند التعارض نحتاج إلى الترجيح، لكن متى ما أمكن الجمع فيجب أن نجمع بين الواجبات، والأصل أن المسلم بحكم كينونته عبداً مسلماً طائعاً لله سبحانه وتعالى، ومنفذاً لشريعته على نفسه ومن يليه؛ تتعدد وظائفه، ولا يصح أن يقول: أنا أقوم بواجبي كأب ويضيع واجبه كابن، فينشغل بحقوق أولاده عن بر والديه، أو العكس ينشغل ببر والديه ويضيع تماماً حقوق زوجته وأولاده، وهكذا.

أنا أتعجب لماذا دائماً نفترض التعارض بين الواجبات، في حين أن الحديث يحسم هذه القضية تماماً: (فأعط كل ذي حق حقه)؟!

كذلك هناك من الناس من ينشغل بالرزق وتحصيل الرزق ويخدع نفسه ويقول: العمل عبادة، ويريد بهذا القول ألا يصلي مع الجماعة، وكأن الصلاة ليست عبادة، والعمل هو العبادة.

هذا المفهوم في غاية الخطورة، وهو ناشئ عن التصور القاصر في العلاقة بين الأمور.

أما بالنسبة للإخوة الطلبة الذين لا يريدون أن يتحملوا المسئولية، ويريدون أن يكون كل شيء على هواهم، فإذا كانت الدراسة لا يستسيغها ولا يحبها، فتراه يستتر خلف القراءة في كتب الدين، حتى إذا ما انتهت الامتحانات التي كان يهرب منها، فلا يقرأ في دين ولا يقرأ في دنيا ولا يعمل أي شيء، فهو ينكشف مع الوقت أنه كان يهرب، فالهروب لا يحل المشكلة، بل ستظل ماثلة أمامه، فالإنسان يكون صريحاً مع نفسه.

نقول: إن فترة الطلب سواء في جامعة أو في مدرسة من أخطر فترات حياة الطالب ويستطيع أن يغتنمها في تحصيل أمور كثيرة جداً؛ لأنه بعد ذلك في الغالب ينشغل، ويكون الأمر بعد التخرج أصعب، وتكون مشاغل الحياة أكثر، خاصة إذا تزوج ورزق أولاداً، فالهموم تزداد، وقدراته على التحصيل في الغالب تقل، إلا من يسر الله عليه.

فالشاهد أن فترة الدراسة فترة مثمرة جداً، ولو أحسن المرء استخدامها يكون النجاح إلى حد كبير، ويستطيع أن يجمع بين كثير من الأمور الخيرية.

لكن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الإخوة الطلبة يقولون: كيف نترك الدراسة الدينية ونذاكر الكلام الفارغ، نقول: إن حكم الدين، أن الابن إذا بلغ النكاح، وصار مكلفاً، فعليه أن ينفق على نفسه، لكن بما أن ظروف الحياة حالياً انتهت إلى أن فترة الطفولة الاقتصادية قد طالت؛ وذلك لأن الوظائف الآن لا تنال إلا بشهادات في الغالب، والطالب يظل يتلقن هذه العلوم إلى حد فترة بعيدة قد تمتد أكثر من أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة.

ونحن نلاحظ أن الأب في بلادنا الإسلامية هو الذي يتحمل نفقة ابنه ليفرغه لطلب العلم، فما على الابن إلا أن يشتغل بدراسته، وأن يحفظ دروسه ويذاكر؛ لأن هذا عمله ووظيفته، ولأجل تفريغه لهذه الوظيفة يتكفل والده بالنفقة عليه، فيفرغه لمصلحه الدراسة.

إذاً: على الإنسان أن يكون واضحاً مع نفسه، وألا يهرب من الدراسة ويقول: أنا سأقرأ كتباً دينية؛ لأنه مهما كان إقبالك على طلب العلم الشرعي فلا بد في النهاية أن تكون لك وظيفة تشتغلها، وإلا هل سيبقى المتدينون من العاطلين عن العمل أو سيرتزقون من وراء الدين؟!

لو كان الأمر هكذا فليدخل كلية أزهرية من البداية، ويسلك المسلك الطبيعي الذي يؤدي به إلى أن يطلب العلم، وفي نفس الوقت تكون له وظيفة، لكن معظم الناس ليسوا كذلك.

إذاً: وظيفة الطالب الأساسية هي الدراسة والمذاكرة، فالدراسة ليس لها حل إلا أن ينهيها ويكملها، قال الفقهاء: من شرع في فرض كفاية لزمه أن يتمه.

خلاصة الكلام: ترك الدراسة والبحث عن عمل بدون شهادة فيه مشقة شديدة، والتعرض للفتن يكون أكبر في الغالب؛ لأنك ستكون محكوماً، وستواجه صعوبة في التعامل معك، والعمل في القطاع الخاص يكون الوقت فيه أوسع، وبالتالي ينهك أكثر، ويحرم من دروس العلم، ويحرم من طلب العلم، فلو جاء يقارن بين من يشتغل وبين من يدرس، يجد أنه في فترة الدراسة يكون في سن الشباب، ويبذل للدعوة ويجتهد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحرية، وفي نفس الوقت إذا قارن الشغل الذهني الذي يستخدمه في المذاكرة يجده أخف بكثير من الشغل المفروض، فلو قطع علاقته بالمذاكرة والدراسة وذهب ليشتغل ففي الغالب يكون شغله شاقاً، وأنتم تعرفون ظروف البطالة والأوضاع التي نحن فيها، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الآباء يتعذبون مع أولادهم عذاباً شديداً، تجد الأب كل رغبته أن يضحي ويبذل من أجل أن يكمل ولده الدراسة، وهو لا يريد من ابنه شيئاً، بينما تجد الابن ينفر من تحمل مسئوليته وهي الدراسة والمذاكرة!

فأقول للذي يهرب من المذاكرة ويترك الدراسة ويذهب ليعمل: عليك أن تراجع نفسك، وأن تكون صريحاً معها؛ لأن بعض الناس يغتنم فترة الدراسة، فتجد أن أباه يبعث له نقوداً من أجل الدراسة، وهو مع ذلك لا ينفق هذه النقود على كتب الدراسة، بل ينفقها لشراء كتب دينية، فأقول: أنت مؤتمن على هذا المال، وأبوك إنما بذله لكي تتفرغ لدراستك وتشتري كتبك وهذه الأشياء، فلا يجوز لك أن تخدعه ولا تأتي بالكتب الدراسية؛ لأنها كتب علوم دنيوية.

أنا لا أنفر من العلوم الشرعية؛ لأنها أشرف العلوم على الإطلاق، لكن أقول: إن فترة الدراسة أفضل فرصة يحصل فيها الإنسان العلم الشرعي، ويجتهد في العبادة، ولا تعارض على الإطلاق بينها وبين العلوم الدنيوية، فلماذا دائماً نفترض التعارض؟

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: { إن لجسدك عليك حقاً } يعني: عليك أن تحافظ على صحتك؛ لأنك مطالب بحماية صحتك والاعتناء بها.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ولربك عليك حقاً, ولضيفك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, صم وأفطر، وصل وائت أهلك، فأعط كل ذي حق حقه).

فخلاصة الكلام: إن ظاهرة الهروب من الدراسة تكثر أيام الامتحانات، فترى الواحد يراجع نفسه ويقول: هل أدرس أم لا أدرس؟

ونقول: إن أيام الامتحانات أسبوع أو أسبوعان ثم تأتي إجازة طويلة عريضة، فما عليه لو توقف عن قراءة العلم الشرعي الآن وبعد أسبوعين أو ثلاثة يرجع إلى قراءة الكتب الدينية، ويرينا همته الحقيقية؟! على الطالب أن يستغل النعمة العظيمة التي هي نعمة الصحة والفراغ، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فإذا جمع الله لك النعمتين فاستغلهما كما ينبغي.

هذا تنبيه لزم التنويه عليه؛ نظراً لما يدور في أذهان كثير من الناس، ترى الواحد منهم لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يذاكر، ولا يريد أن يدخل الامتحان بحجة طلب العلوم الشرعية!

أقول: كن صريحاً مع نفسك، إن كنت تريد الهروب من هذه الأمور فلا تتستر وراء العلم الشرعي، اترك الدراسة واسلك طريقاً آخر ولا تقل: إن العلوم الشرعية هي التي عطلتني.

وجوب ترك العمل لأداء الصلاة المفروضة

إن الاشتغال بالصلاة يقطع الإنسان مؤقتاً عن عمل الدنيا، وبعض الناس قد يفتنون بالدنيا وراء تحصيل المال ولو على حساب إقامة الصلاة، فتجد أهل الدنيا ينشغلون وينهمكون في عمل الدنيا إلى حد اللهف والجري وراء الرزق ولو على حساب إقامة الصلاة، ولو ضيع صلاة الجماعة اشتغالاً بالرزق. من هنا لم يغفل الشرع الشريف هذه الجزئية، فبين الله سبحانه وتعالى أن ترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، وليس العمل عبادة، إذ لو كان العمل فعلاً عبادة لما كان الاشتغال بهذا العمل ساعة دخول وقت الصلاة حراماً، فترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. في جلسة من جلسات مجلس الشعب في عهد السادات قام أحد الناس الطيبين أثناء الجلسة التي كانت بعد العصر وقال: الصلاة يا رئيس، فقال له الرئيس: نحن في عبادة، واستمرت هذه العبادة حتى غربت الشمس! فما بالك بالذي يشتغل بالمباراة ومتابعة الكرة حتى تغرب الشمس أو غير ذلك من هذه الأشياء، فمن يقول: إن العمل عبادة فأوضح رد على تلبيسهم من القرآن الكريم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ))[الجمعة:9] وتدبروا كلمة (فاسعوا)، فالسعي المقصود به الجدية والمبادرة، لكن انظر في طلب الرزق كيف جاء التعبير: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فأمرنا بطلب الرزق بالمشي، فعلى الإنسان ألا يستميت في طلب الرزق إلى الحد الذي يقطعه عن أداء العبادات. قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) عبر عن طلب الرزق بالمشي، أما العبادة فعبر عنها بالسعي، وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فالبيع الذي تسميه عبادة يجب عليك الآن أن تترك هذه العبادة التي هي العمل وطلب الرزق، فالدليل على أن ترك اكتساب الرزق من أجل الصلاة المفروضة فرض قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وبعد أداء حق الله تبارك وتعالى أُمروا أمر إباحة أن ينتشروا في الأرض في حوائجهم، فيقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم وبخ سبحانه من ترك العبادة وانصرف إلى التجارة فقال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

حق الله مقدم على حق غيره

نعود إلى موضوع التوازن بين حقوق الأولاد والأهلين وحقوق العمل وحقوق الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر حق الله يلغى كل عمل آخر، ومن ثم قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فهي تقدم على غيرها من الواجبات أو الحقوق، بل تلغى الحقوق الأخرى ويقدم حق الله تبارك وتعالى.

وهذا الإنسان الذي يؤجل الصلاة عن أول وقتها ويظن أنه إذا أخرها سينجز حاجته وعمله، نقول: بالعكس، إن البركة تنزع من وقته، ولا يحصل منه الصلاة في وقتها، ولا يحصل منه إنجاز عمل عطل الصلاة من أجله، فتنزع البركة من الوقت فلا ينجز لا هذا ولا ذاك، فالإنسان يعود نفسه أنه متى ما جاء وقت الصلاة فليتذكر معنى كلمة: الله أكبر، فيقدم حق الله وحق الله أكبر على أي حق آخر في هذه اللحظة، يقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله تعالى: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) هنا الصلوات الخمس، فمن اشتغل عن الصلاة بماله كبيعه أو صنعته أو ولده،كان من الخاسرين وذلك لقوله تعالى في آخر الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، فانظر إلى هؤلاء الذين يقولون: إن العمل عبادة ويضيعون الصلاة، وانظر إلى قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، والبيوت في الآية هي المساجد.

الثناء على التجار الصالحين

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( (ضرب الله هذا المثل في قوله: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35]) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم) قوله: (كانوا أتجر الناس) يعني: كان الصحابة أشد الناس خبرة بالتجارة.

قوله: (وأبيعهم) يعني: أقدرهم على البيع والعمل وهذه الأشياء، ولكن مع ذلك كانوا إذا أتى وقت الصلاة فإنها لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.

ثم يقول: (وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله).

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (إن ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]).

وعن إبراهيم قال: هم قوم من القبائل في الأسواق إذا حانت الصلاة لم يشغلهم شيء.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في جماعة.

وتأمل كيف ربط الله سبحانه وتعالى بين تركهم الارتزاق لأجل الصلاة في قوله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] وبين قوله بعدها لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38] فهؤلاء التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل أو غيره من الطاعات، يكافئون بالرزق؛ لأنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فهم إذا جاء وقت الصلاة أغلقوا محلاتهم وخرجوا إلى الصلاة ثم عادوا، فما جزاؤهم؟ يقول الله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]، فالله سبحانه وتعالى يبارك لهم في الرزق، حتى لو كان الرزق قليلاً فتحصل فيه البركة، والبركة شيء لا يوصف، لكن نستطيع أن نشعر بهذه البركة، وذلك لو أن إنساناً رزق مالاً كثيراً لكن نزعت منه البركة، فتراه ينفق هذه الأموال على الأدوية والأمراض، وينفق هذا المال في اللهو والمعاصي ويكون وبالاً عليه، أو ينفق هذا المال فيما لا فائدة منه، بخلاف المال القليل الذي يكون فيه البركة من الله سبحانه وتعالى.

وجوب ترك اكتساب الرزق لأداء الصلاة المفروضة

إن الاشتغال بالصلاة يقطع الإنسان مؤقتاً عن عمل الدنيا، وبعض الناس قد يفتنون بالدنيا وراء تحصيل المال ولو على حساب إقامة الصلاة، فتجد أهل الدنيا ينشغلون وينهمكون في عمل الدنيا إلى حد اللهف والجري وراء الرزق ولو على حساب إقامة الصلاة، ولو ضيع صلاة الجماعة اشتغالاً بالرزق.

من هنا لم يغفل الشرع الشريف هذه الجزئية، فبين الله سبحانه وتعالى أن ترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، وليس العمل عبادة، إذ لو كان العمل فعلاً عبادة لما كان الاشتغال بهذا العمل ساعة دخول وقت الصلاة حراماً، فترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].

في جلسة من جلسات مجلس الشعب في عهد السادات قام أحد الناس الطيبين أثناء الجلسة التي كانت بعد العصر وقال: الصلاة يا رئيس، فقال له الرئيس: نحن في عبادة، واستمرت هذه العبادة حتى غربت الشمس!

فما بالك بالذي يشتغل بالمباراة ومتابعة الكرة حتى تغرب الشمس أو غير ذلك من هذه الأشياء، فمن يقول: إن العمل عبادة فأوضح رد على تلبيسهم من القرآن الكريم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ))[الجمعة:9] وتدبروا كلمة (فاسعوا)، فالسعي المقصود به الجدية والمبادرة، لكن انظر في طلب الرزق كيف جاء التعبير: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فأمرنا بطلب الرزق بالمشي، فعلى الإنسان ألا يستميت في طلب الرزق إلى الحد الذي يقطعه عن أداء العبادات.

قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) عبر عن طلب الرزق بالمشي، أما العبادة فعبر عنها بالسعي، وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فالبيع الذي تسميه عبادة يجب عليك الآن أن تترك هذه العبادة التي هي العمل وطلب الرزق، فالدليل على أن ترك اكتساب الرزق من أجل الصلاة المفروضة فرض قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وبعد أداء حق الله تبارك وتعالى أُمروا أمر إباحة أن ينتشروا في الأرض في حوائجهم، فيقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم وبخ سبحانه من ترك العبادة وانصرف إلى التجارة فقال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

بعض الإخوة عندهم نوع من الخلل في مفهوم التوازن والوسطية، ويظنون أنهم ينجزون شيئاً عظيماً، فبعضهم يقول: أنا لا أستطيع إيجاد التوازن بين الدراسة وبين تعلم العلوم الشرعية أو حضور دروس العلم، فتجد الواحد من هؤلاء إما أن ينقطع تماماً إلى العلوم الشرعية ولو أخل بكل الواجبات الأخرى، وإما أن ينغمس تماماً في الدنيا ويخل بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا السؤال ليس له محل من البداية أصلاً؛ لأن هذا السؤال لا نحتاجه إلا عند حصول التعارض بين واجب وواجب آخر، فعند التعارض نحتاج إلى الترجيح، لكن متى ما أمكن الجمع فيجب أن نجمع بين الواجبات، والأصل أن المسلم بحكم كينونته عبداً مسلماً طائعاً لله سبحانه وتعالى، ومنفذاً لشريعته على نفسه ومن يليه؛ تتعدد وظائفه، ولا يصح أن يقول: أنا أقوم بواجبي كأب ويضيع واجبه كابن، فينشغل بحقوق أولاده عن بر والديه، أو العكس ينشغل ببر والديه ويضيع تماماً حقوق زوجته وأولاده، وهكذا.

أنا أتعجب لماذا دائماً نفترض التعارض بين الواجبات، في حين أن الحديث يحسم هذه القضية تماماً: (فأعط كل ذي حق حقه)؟!

كذلك هناك من الناس من ينشغل بالرزق وتحصيل الرزق ويخدع نفسه ويقول: العمل عبادة، ويريد بهذا القول ألا يصلي مع الجماعة، وكأن الصلاة ليست عبادة، والعمل هو العبادة.

هذا المفهوم في غاية الخطورة، وهو ناشئ عن التصور القاصر في العلاقة بين الأمور.

أما بالنسبة للإخوة الطلبة الذين لا يريدون أن يتحملوا المسئولية، ويريدون أن يكون كل شيء على هواهم، فإذا كانت الدراسة لا يستسيغها ولا يحبها، فتراه يستتر خلف القراءة في كتب الدين، حتى إذا ما انتهت الامتحانات التي كان يهرب منها، فلا يقرأ في دين ولا يقرأ في دنيا ولا يعمل أي شيء، فهو ينكشف مع الوقت أنه كان يهرب، فالهروب لا يحل المشكلة، بل ستظل ماثلة أمامه، فالإنسان يكون صريحاً مع نفسه.

نقول: إن فترة الطلب سواء في جامعة أو في مدرسة من أخطر فترات حياة الطالب ويستطيع أن يغتنمها في تحصيل أمور كثيرة جداً؛ لأنه بعد ذلك في الغالب ينشغل، ويكون الأمر بعد التخرج أصعب، وتكون مشاغل الحياة أكثر، خاصة إذا تزوج ورزق أولاداً، فالهموم تزداد، وقدراته على التحصيل في الغالب تقل، إلا من يسر الله عليه.

فالشاهد أن فترة الدراسة فترة مثمرة جداً، ولو أحسن المرء استخدامها يكون النجاح إلى حد كبير، ويستطيع أن يجمع بين كثير من الأمور الخيرية.

لكن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الإخوة الطلبة يقولون: كيف نترك الدراسة الدينية ونذاكر الكلام الفارغ، نقول: إن حكم الدين، أن الابن إذا بلغ النكاح، وصار مكلفاً، فعليه أن ينفق على نفسه، لكن بما أن ظروف الحياة حالياً انتهت إلى أن فترة الطفولة الاقتصادية قد طالت؛ وذلك لأن الوظائف الآن لا تنال إلا بشهادات في الغالب، والطالب يظل يتلقن هذه العلوم إلى حد فترة بعيدة قد تمتد أكثر من أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة.

ونحن نلاحظ أن الأب في بلادنا الإسلامية هو الذي يتحمل نفقة ابنه ليفرغه لطلب العلم، فما على الابن إلا أن يشتغل بدراسته، وأن يحفظ دروسه ويذاكر؛ لأن هذا عمله ووظيفته، ولأجل تفريغه لهذه الوظيفة يتكفل والده بالنفقة عليه، فيفرغه لمصلحه الدراسة.

إذاً: على الإنسان أن يكون واضحاً مع نفسه، وألا يهرب من الدراسة ويقول: أنا سأقرأ كتباً دينية؛ لأنه مهما كان إقبالك على طلب العلم الشرعي فلا بد في النهاية أن تكون لك وظيفة تشتغلها، وإلا هل سيبقى المتدينون من العاطلين عن العمل أو سيرتزقون من وراء الدين؟!

لو كان الأمر هكذا فليدخل كلية أزهرية من البداية، ويسلك المسلك الطبيعي الذي يؤدي به إلى أن يطلب العلم، وفي نفس الوقت تكون له وظيفة، لكن معظم الناس ليسوا كذلك.

إذاً: وظيفة الطالب الأساسية هي الدراسة والمذاكرة، فالدراسة ليس لها حل إلا أن ينهيها ويكملها، قال الفقهاء: من شرع في فرض كفاية لزمه أن يتمه.

خلاصة الكلام: ترك الدراسة والبحث عن عمل بدون شهادة فيه مشقة شديدة، والتعرض للفتن يكون أكبر في الغالب؛ لأنك ستكون محكوماً، وستواجه صعوبة في التعامل معك، والعمل في القطاع الخاص يكون الوقت فيه أوسع، وبالتالي ينهك أكثر، ويحرم من دروس العلم، ويحرم من طلب العلم، فلو جاء يقارن بين من يشتغل وبين من يدرس، يجد أنه في فترة الدراسة يكون في سن الشباب، ويبذل للدعوة ويجتهد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحرية، وفي نفس الوقت إذا قارن الشغل الذهني الذي يستخدمه في المذاكرة يجده أخف بكثير من الشغل المفروض، فلو قطع علاقته بالمذاكرة والدراسة وذهب ليشتغل ففي الغالب يكون شغله شاقاً، وأنتم تعرفون ظروف البطالة والأوضاع التي نحن فيها، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الآباء يتعذبون مع أولادهم عذاباً شديداً، تجد الأب كل رغبته أن يضحي ويبذل من أجل أن يكمل ولده الدراسة، وهو لا يريد من ابنه شيئاً، بينما تجد الابن ينفر من تحمل مسئوليته وهي الدراسة والمذاكرة!

فأقول للذي يهرب من المذاكرة ويترك الدراسة ويذهب ليعمل: عليك أن تراجع نفسك، وأن تكون صريحاً معها؛ لأن بعض الناس يغتنم فترة الدراسة، فتجد أن أباه يبعث له نقوداً من أجل الدراسة، وهو مع ذلك لا ينفق هذه النقود على كتب الدراسة، بل ينفقها لشراء كتب دينية، فأقول: أنت مؤتمن على هذا المال، وأبوك إنما بذله لكي تتفرغ لدراستك وتشتري كتبك وهذه الأشياء، فلا يجوز لك أن تخدعه ولا تأتي بالكتب الدراسية؛ لأنها كتب علوم دنيوية.

أنا لا أنفر من العلوم الشرعية؛ لأنها أشرف العلوم على الإطلاق، لكن أقول: إن فترة الدراسة أفضل فرصة يحصل فيها الإنسان العلم الشرعي، ويجتهد في العبادة، ولا تعارض على الإطلاق بينها وبين العلوم الدنيوية، فلماذا دائماً نفترض التعارض؟

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: { إن لجسدك عليك حقاً } يعني: عليك أن تحافظ على صحتك؛ لأنك مطالب بحماية صحتك والاعتناء بها.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ولربك عليك حقاً, ولضيفك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, صم وأفطر، وصل وائت أهلك، فأعط كل ذي حق حقه).

فخلاصة الكلام: إن ظاهرة الهروب من الدراسة تكثر أيام الامتحانات، فترى الواحد يراجع نفسه ويقول: هل أدرس أم لا أدرس؟

ونقول: إن أيام الامتحانات أسبوع أو أسبوعان ثم تأتي إجازة طويلة عريضة، فما عليه لو توقف عن قراءة العلم الشرعي الآن وبعد أسبوعين أو ثلاثة يرجع إلى قراءة الكتب الدينية، ويرينا همته الحقيقية؟! على الطالب أن يستغل النعمة العظيمة التي هي نعمة الصحة والفراغ، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فإذا جمع الله لك النعمتين فاستغلهما كما ينبغي.

هذا تنبيه لزم التنويه عليه؛ نظراً لما يدور في أذهان كثير من الناس، ترى الواحد منهم لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يذاكر، ولا يريد أن يدخل الامتحان بحجة طلب العلوم الشرعية!

أقول: كن صريحاً مع نفسك، إن كنت تريد الهروب من هذه الأمور فلا تتستر وراء العلم الشرعي، اترك الدراسة واسلك طريقاً آخر ولا تقل: إن العلوم الشرعية هي التي عطلتني.

إن الاشتغال بالصلاة يقطع الإنسان مؤقتاً عن عمل الدنيا، وبعض الناس قد يفتنون بالدنيا وراء تحصيل المال ولو على حساب إقامة الصلاة، فتجد أهل الدنيا ينشغلون وينهمكون في عمل الدنيا إلى حد اللهف والجري وراء الرزق ولو على حساب إقامة الصلاة، ولو ضيع صلاة الجماعة اشتغالاً بالرزق. من هنا لم يغفل الشرع الشريف هذه الجزئية، فبين الله سبحانه وتعالى أن ترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، وليس العمل عبادة، إذ لو كان العمل فعلاً عبادة لما كان الاشتغال بهذا العمل ساعة دخول وقت الصلاة حراماً، فترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. في جلسة من جلسات مجلس الشعب في عهد السادات قام أحد الناس الطيبين أثناء الجلسة التي كانت بعد العصر وقال: الصلاة يا رئيس، فقال له الرئيس: نحن في عبادة، واستمرت هذه العبادة حتى غربت الشمس! فما بالك بالذي يشتغل بالمباراة ومتابعة الكرة حتى تغرب الشمس أو غير ذلك من هذه الأشياء، فمن يقول: إن العمل عبادة فأوضح رد على تلبيسهم من القرآن الكريم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ))[الجمعة:9] وتدبروا كلمة (فاسعوا)، فالسعي المقصود به الجدية والمبادرة، لكن انظر في طلب الرزق كيف جاء التعبير: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فأمرنا بطلب الرزق بالمشي، فعلى الإنسان ألا يستميت في طلب الرزق إلى الحد الذي يقطعه عن أداء العبادات. قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) عبر عن طلب الرزق بالمشي، أما العبادة فعبر عنها بالسعي، وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فالبيع الذي تسميه عبادة يجب عليك الآن أن تترك هذه العبادة التي هي العمل وطلب الرزق، فالدليل على أن ترك اكتساب الرزق من أجل الصلاة المفروضة فرض قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وبعد أداء حق الله تبارك وتعالى أُمروا أمر إباحة أن ينتشروا في الأرض في حوائجهم، فيقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم وبخ سبحانه من ترك العبادة وانصرف إلى التجارة فقال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

نعود إلى موضوع التوازن بين حقوق الأولاد والأهلين وحقوق العمل وحقوق الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر حق الله يلغى كل عمل آخر، ومن ثم قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فهي تقدم على غيرها من الواجبات أو الحقوق، بل تلغى الحقوق الأخرى ويقدم حق الله تبارك وتعالى.

وهذا الإنسان الذي يؤجل الصلاة عن أول وقتها ويظن أنه إذا أخرها سينجز حاجته وعمله، نقول: بالعكس، إن البركة تنزع من وقته، ولا يحصل منه الصلاة في وقتها، ولا يحصل منه إنجاز عمل عطل الصلاة من أجله، فتنزع البركة من الوقت فلا ينجز لا هذا ولا ذاك، فالإنسان يعود نفسه أنه متى ما جاء وقت الصلاة فليتذكر معنى كلمة: الله أكبر، فيقدم حق الله وحق الله أكبر على أي حق آخر في هذه اللحظة، يقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله تعالى: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) هنا الصلوات الخمس، فمن اشتغل عن الصلاة بماله كبيعه أو صنعته أو ولده،كان من الخاسرين وذلك لقوله تعالى في آخر الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، فانظر إلى هؤلاء الذين يقولون: إن العمل عبادة ويضيعون الصلاة، وانظر إلى قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، والبيوت في الآية هي المساجد.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( (ضرب الله هذا المثل في قوله: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35]) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم) قوله: (كانوا أتجر الناس) يعني: كان الصحابة أشد الناس خبرة بالتجارة.

قوله: (وأبيعهم) يعني: أقدرهم على البيع والعمل وهذه الأشياء، ولكن مع ذلك كانوا إذا أتى وقت الصلاة فإنها لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.

ثم يقول: (وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله).

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (إن ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]).

وعن إبراهيم قال: هم قوم من القبائل في الأسواق إذا حانت الصلاة لم يشغلهم شيء.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في جماعة.

وتأمل كيف ربط الله سبحانه وتعالى بين تركهم الارتزاق لأجل الصلاة في قوله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] وبين قوله بعدها لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38] فهؤلاء التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل أو غيره من الطاعات، يكافئون بالرزق؛ لأنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فهم إذا جاء وقت الصلاة أغلقوا محلاتهم وخرجوا إلى الصلاة ثم عادوا، فما جزاؤهم؟ يقول الله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]، فالله سبحانه وتعالى يبارك لهم في الرزق، حتى لو كان الرزق قليلاً فتحصل فيه البركة، والبركة شيء لا يوصف، لكن نستطيع أن نشعر بهذه البركة، وذلك لو أن إنساناً رزق مالاً كثيراً لكن نزعت منه البركة، فتراه ينفق هذه الأموال على الأدوية والأمراض، وينفق هذا المال في اللهو والمعاصي ويكون وبالاً عليه، أو ينفق هذا المال فيما لا فائدة منه، بخلاف المال القليل الذي يكون فيه البركة من الله سبحانه وتعالى.