أرشيف المقالات

الداعية وخدمة الناس

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
الداعية وخدمة الناس

الداعية لا يستقيم له حال، أو تنجح له دعوة إذا كان بمعزلٍ عن المجتمع، وإذا كان الإنسان مدنيًّا بالطبع - أي: لا بدَّ له مِن الاجتماع - فإنَّ الداعية يجب أن يكون أَلصقَ الناس بهذه الطبيعة، يَغشى الناسَ ويُخالطهم، ويَصبر على ما يكون منهم.
 

وتتعدَّد أساليب الدَّعوة إلى الله، وتختلف باختلاف المدعوِّين؛ فالدَّعوة منذ عصر الرسالة لها منهجُها الواضح في الكتاب والسُّنَّة، والدَّاعية مأمورٌ بالأخذ بكل الأسباب التي تُعِين على نجاح دعوته، وهذا مِنَ الحكمة التي أُمر بأن يلزمها؛ كما قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
 
على أنَّ الدَّعوة لم تَلزم طريقةً واحدة تَسير عليها لا تَعْدُوها؛ بل تنوَّعت الطرائق بحسب الأحوال والأزمنة والأمكنة، والإحسانُ إلى المدعوِّين بالقول والعمل والقدوة مِن ركائز الدَّعوة، وإنَّ مما يُجمع عليه الناسُ محبَّةَ الناس لِمَن يُحْسن إليهم، ويقضي حوائجَهم.
 
إنَّ بذْل المرْء نفسَه لخدمة الناس والسَّعي في حاجاتهم مِن مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهي للداعية بابٌ إلى قلوب المدعوِّين، وهي دعوةٌ إلى مكارم الأخلاق في هذا الأمر، وإنما يَكمُل أثرُ الداعية إذا اقترن إحسانه بالهداية بإحسانه بالخِدمة وقضاء حوائج المدعوِّين، فالداعية يقترب مِن قلوب الناس إذا أَحسَن إليهم بشتَّى صُوَر الإحسان؛ القولي والفعلي؛ ولذلك ينبغي للداعية إلى الله أن يكون هاجسُه خدمةَ المجتمع الذي يعيش فيه، لا أن يكون عالةً على مدعوِّيه.
 
إنَّ خدمة الناس ترتبط بعلاقة الدَّاعية الفعليَّة مع المدعوِّين، مِن بذْل المعروف لهم، وقضاء حوائجهم، والقيام على شؤونهم، والسعي في حاجاتهم، والإحسان إليهم؛ امتثالًا لأمر الله تعالى، وأمر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ورجاء للثواب، وتصديقًا بالوعد، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّة؛ قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
 
وأَمَرَ تعالى بفعل الخير والإحسان؛ قال تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، وقال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
 
وفي "صحيح البخاري" قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أربعون خَصْلةً، أَعْلاهنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، ما مِن عاملٍ يعمل بخَصْلة منها رجاءَ ثوابها، وتصديقَ مَوْعُودها، إلا أَدْخَلَه اللهُ بها الجَنَّة))، قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز مِن ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمسَ عشرةَ خصلةً.
 
قال الإمام النووي رحمه الله: (المنيحة: أنْ يُعطِيَه إيَّاها لِيشْرب لبنَها، ثم يردَّها إليه).
وعدَّ العلماء من هذه الخصال: إعانةَ الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء شِسع النعل، والستر على المسلم، والذَّبَّ عن عِرْضه، وإدخال السُّرور عليه، والتفسُّح في المجلس، والدلالة على الخير، والكلام الطيِّب، والغرس والزرع، والشفاعة، وعيادة المريض، والمصافحة والمحبَّة في الله، والبُغض لأجْله، والمجالسة لله والتزاور، والنُّصْح والرحمة.
 
وفي "فيض القدير": (ولم يفصِّل الأربعين بالتعيين؛ خوفًا مِن اقتصار العاملين عليها، وزهدِهم في غيرها مِن أبواب الخير، وتطلَّبها بعضُهم في الأحاديث فزادتْ على الأربعين، منها: السعيُ على ذي رحم قاطع، وإطعامُ جائع، وسقيُ ظمآن، ونصرُ مظلوم، ونُوزِعَ بأنَّ بعض هذه أعلى مِن المنحة، وبأنه رجْم بالغيب، فالأحسَنُ ألَّا يعدَّ؛ لأن حكمة الإبهام أن لا يُحتقر شيءٌ مِن وجوه البِرِّ وإنْ قلَّ، كما أبهم ليلة القدْر، وساعة الإجابة يوم الجمعة).
ولعل ذلك أقرب إلى الصواب، وهي تعمُّ هذه وغيرَها، وتتفاوَت بحسب ما يقوم بقلْب فاعِلِها مِن نيَّةٍ صادقة.
 
ومن هنا، فإنَّ قيام الدَّاعية بالإحسان إلى الناس، وبذْل كل أنواع المعروف لهم، وقضاء حوائجهم، وتفقُّدهم، والسعي في جلْب مَصالحهم، ودفْع الأذى عنهم - سبيلٌ إلى نجاحِ دعوتِه، والداعيةُ عندما يقُوم بذلك؛ فإنما يتأسَّى بأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢