من الأدب الفرنسي
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
والحب. ؟ لأناتول فرانس قرأت فيما قرأت كتيباً ألمانياً عنوانه (على هامش سفر الحياة) للأستاذ جرهار دامنتور، فيه عرض قوي صادق لمعيشة النساء اليومية المضنية، وقد ترى معي أن الحزن باد على هذا الجانب المظلم من الجنس اللطيف: (في سبيل مطالب الأسرة وحاجات الزوج والأولاد تفقد ربة البيت سناء جمالها، وتذهب غضارة وجهها، وتستهلك قوة بدنها، وتنخر مخ عظامها.
فهذا السؤال الخالد المعاد (ماذا عسى أن نطبخ اليوم من طعام، ونهيئ من أدام) وذلك الاضطرار الملح إلى مسح البلاط، وتنظيف الغرف، ونفض الثياب، وغسل الأواني إنما، هما قطرة من ماء تتساقط دائمة دائبة، لا تفتأ تعمل في بطئ على انحلال جسد المرأة وعقلها حتى لا تبقى منها شيئاً، ولا تذر لها أثرا، وأمام الموقد المشبوب، في المطبخ المشؤوم يستحيل هذا المخلوق الصغير، الناصع الوردي، ذو الضحكة الساحقة البلورية إلى مومياء هزيلة سوداء تبعث في الرائي الكآبة والألم!! وبين يدي ذلك الوجاق الأدخن الأسخم، يطبخ عليه اللحم في القدر تناثرت ضحايا كريمة: (الشباب، الحرية، الجمال، اللذة). هذه عبارات جرهار دامنتور، وهذا حظ الكثرة الغامرة في الدنيا من بنات حواء.
فأن الحياة عسيرة ملتوية عليهن كما هي عسيرة ملتوية على الرجال، كل يئن من وعوثة الطريق ويرفع عقيرته بالشكوى والصراخ! ولو راح باحث يستعلم وجه العلة في ذلك لأيقن أن ليس في الإمكان أن يكون غير ما كان، وأن الحياة لا بد أن تكون مضنية لأن جميع مقوماتها ضئيلة تندر فوق كوكب صعب إنتاجه واستثماره؛ ولن يرجى تخفيف عبء الشقاء لأن أسباباً عميقة متغلغلة مصدرها شكل الأرض، وطبيعة تركيبها، ونوع نباتها وحيوانها تحتم وا أسفاه دوام هذا الحال، وتقتضي عسر المعاش إلى يوم القيامة.
ومهما يكن من أمر توزيع العمل في الناس فأن جمهرة الرجال وعامة النساء لتنوء كواهلهم بحمل أعبائه، ولن ترى غير امرأتين أو ثلاث قد خلصن من متاعب البيت ثم تسللن إلى مواطن اللهو وخرجن إلى باحة الحياة ينشرن الظرف والجمال، على مواطن العطر الندى واللذة المتجددة، ويدخلن إلى النفوس الأماني والأحلام!! وإنما اللوم كله لا شك عائد على الطبيعة وحدها والحب، ما عسى أن يكون مصيره؟ لا نريد أن نعرف مصيره المنحدّر إليه ما دام الجوع عدوه اللدود وخصمه العنيد.
ومن الواقع الذي لا يتطاول إليه الريب أن النساء جائعات أبداً، قد وكل إليهن أمر الطبخ في القرن العشرين كما وكل إليهن أمره في القرن التاسع عشر، اللهم إذا لم يرجع عهد هاتيك العصور النائية حين كان الصيادون يلتهمون فرائسهم ساخنة نيئة، وحين كانت فينوس - آلهة الحب والجمال - تجمع العشاق جميعاً وسط الإحراج ثم تفيض عليهم من وحيها ما شاءت لها العاطفة المشبوهة أن تفيض! يومئذ، ويومئذ فقط، كانت المرأة حرة طليقة قد تنصلت من تكاليف الحياة وخرجت على حدود الأسر والانكماش. وهاأنذا أعترف إليكم بما يدور في خلدي، فاستمعوا لما أقول: لو كنت أنا خالق الجنسين من ذكر وأنثى لأبدعتهما على نحو يباين ما نعهده الآن فيهما من فقاريات لبون.
كنت لا أخلق الرجل والمرأة على غرار القردة، وإنما أنشئهما على صورة الحشرات التي تكد وتعمل إذ تكون ديدانا، صغيرة ثم تنقلب إلى فراش جميل طائر يحيا حياة التشرد والهيام، لا شاغل له غير أن يحب وأن يحب! وكنت أضع طور الطفولة والشباب في آخر مراحل الوجود البشري.
والواقع أن نوعاً معلوماً من الحشرات أثناء نموه وتطوره تبيد منه المعدة وتقوي الأجنحة، فهو إنما جاء إلى الدنيا بهذا الشكل المهذب ليتمتع منها ساعة أو ساعتين ثم يموت! أجل! لو كنت إلهاً (أو أُليها (بالتصغير) لأن فلسفة الإسكندرية تعزو صنع هذا الكون إلى آله صغير أو شيطان مبدع) لو كنت أُليها لما اتخذت غير هذه الحشرات نمطاً أنسج على منواله الإنسان، وكنت أجعل المرء يتم جميع أموره المعيشية الغذائية وهو جنين، وفي هذا الطور الابتدائي لا أثر للغريزة الجنسية البتة ولا جوعيغشى الحب أو يلتهم معالمه، ثم أدفع الحياة إلى حيث يطير الرجل والمرأة على أجنحة رفافة، يتنقلان فوق الزهور، ويتذوقان ما يشتهيان ثم يموتان في معانقة وتقبيل.
وهكذا أكون قد أكسبت الحياة الفانية جزاء وفاقا، ووضعت الحب تاجا على رؤوس الأحياء من بني آدم.
ولعلك توافقني على أن ذلك خير وأبقى!! بيد أنني وا حسرتاه لم أخلق الكون، والإله المبدع لم يشاورني في الأمر، وأنا أشك فيما بيني وبين نفسي أن يكون قد استشار أحدا من الفلاسفة، ورجالات العلم والمعرفة. حمص محمد روحي فيصل