حق الطريق وآداب المرور


الحلقة مفرغة

الحمد لله تفرد بكل كمال، تفضل على عباده بجزيل النوال، بيده الخير؛ ومنه الخير فله الحمد على كل حالٍ، وفي كل حال، في الحال وفي المآل، أحمده سبحانه على ما منح من النعماء، وأشكره على واسع العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقدس في الذات والصفات والأسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، وإمام الحنفاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأوفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء.

أما بعــد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، استيقظوا بقوارع العبر، وتفكروا في حوادث الغير، ففي تقلبات الدهر معتبر، وفي طوارق الجديدين مزدجر، وتدبروا مواعظ السنة والكتاب فإنهن صوادق الخبر، فتزودوا بزاد التقوى، وخذوا أهبة التحول وانتبهوا من الغفلة فرحم الله امرأً أحيا سنة مأثورة، وقدم لنفسه أعمالاً صالحةً مبرورة، وراقب مولاه فمولاه على كل شيءٍ شهيد، وحاسب نفسه حذراً من العذاب الشديد.

أيها المسلمون: الحياة السعيدة والعيش الرغيد قوامها ظلال الأمن الوارفة بعد الإيمان بالله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] بالأمن على الأنفس، والأمن في الأوطان تتفتح دروب الإنتاج، وتتفتق مهارات الإبداع، ويتحقق بإذن الله النماء.

الأمن هو الركيزة التي يقوم عليها استقرار المجتمعات ورخاء الشعوب: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4].

وفي نظرة فاحصة يدرك المتأمل أن الأمم تتعرض في حياتها لمتاعب ومشقات بعضها هينٌ يسير وبعضها ثقيلٌ عسير، ولكن الكيان يتزلزل، والرشاد يتخلخل، حين تسترخص الدماء، وتزهق الأرواح.

السلامة بين المبدأ والتطبيق

أيها الإخوة المسلمون: الحفاظ على المهج من أغلى المطالب إن لم يكن أغلاها، والإنسان أكرم المخلوقات على الله، خلقه وكرمه وفضله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] والنفس الإنسانية ليست ملكاً لصاحبها وليست ملكاً لأحدٍ من الناس وإنما هي ملكٌ لله وحده، ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قبل صاحبها: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ * وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:28-29]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المائدة:32].. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] ومع وضوح ذلك وجلائه في أصول الديانة، وثباته ورسوخه في فقه الشريعة، إلا أنه مع الأسف، وفي خضم الغفلة والإهمال وقلة المبالاة من المرء نفسه وممن حوله من أهله ومن له سلطانٌ عليه، ترى من يجازف ثم يمارس أفعالاً وسلوكيات تلقي بالنفس إلى التهلكة، وتوقع الغير في الهلكة، ترى أرواحاً تزهق، ونساءً تترمل، وأسراً تفنى، وأطفالاً تيتم، وأمراضاً مزمنة، وإعاقاتٍ مستديمة، ترى منشآتٍ تهدم، ومنجزاتٍ تتلف، وآلاف الملايين من الدراهم والدنانير تهدر، فواجع تصل إلى حد الهلع، وخسائر تصل إلى حد الإفلاس، أطفال في مقتبل الحياة، وشباب في نضرة العمر، ما حال البيت وقد فقد عائله؟

وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها؟

وما حال الوالدين وقد زهقت روح شابهم اليافع وصبيهم الأمل؟

ما حال الأسرة وقد حل بها معاقٌ علاجه مكلف، والكد عليه مرهق؟ أصبح مقعداً عاجزاً عالة على أهله ومجتمعه ودولته، حسرة في القلوب، وعبء في الكاهل بسبب ماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا كل هذه المعاناة؟ بسبب فعلٍ متهور، وتصرفٍ طائش، وعملٍ غير مسئول، ماذا يبقى إذا هانت الأرواح، واسترخصت الدماء؟ وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون؟ لقد فاضت نفوسٌ زكية، ودماء بريئة، فمتى تفيض دوافع العقلانية؟ ومتى تستيقظ مشاعر الإحساس بالمسئولية؟ ومتى يهتدي الضالون؟ ومتى يستفيق الغافلون؟ كل هذه المصائب وجل هذه المآسي راجعة إلى الإخلال بحق الطريق، والتفريط في آداب المسير، والإهمال في قواعد المرور.

حقيقة الطريق ورعاية الدين لآدابها

يخيل لفئة من الناس عن رعونة وجهلٍ واستهتار وإهمال أن الطريق هو المكان الذي يتحرر فيه من الضوابط وقواعد التعامل، يتحلل من الآداب والمسئوليات ليعطي نفسه حق التصرف كما يريد والفعل كما يشاء، متجاوزاً الخلق الحسن ومبتعداً عن الذوق الرفيع، الطرق هي مسالك الناس إلى شئونهم، ومعابرهم إلى قضاء حوائجهم، وهي دروبهم في تحركاتهم وتحصيل منافعهم، هي سبيلهم إلى أسواق التجارة وكسب المعاش، وهي منافذهم إلى المعاهد والمدارس ودور العلم والمساجد والمتنزهات، في الأسفار والرحلات، وكل أنواع الحركة والتنقلات.

أيها الإخوة المسلمون: إن رعاية الطريق وأداء حقه والالتزام بآدابه من أوضح ما اعتنى به ديننا الحنيف، في مظهرٍ حضاري، وسلوكٍ متحضر، وأدب عالٍ وخلقٍ سامٍ، جاء ليرقى بالمسلمين ويهذب مسالكهم ويحملهم إلى مستوى من الحضارة من قبل أربعة عشر قرناً.

استمعوا حفظكم الله إلى هذا القبس من مشكاة النبوة، ترغب به القلوب، وتشنف به الأسماع، يقول عليه الصلاة والسلام: {عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها، الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئها النخاعة في المسجد لا تدفن }.

ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح عن النار } أخرجه مسلم .

وقال عليه الصلاة والسلام: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } متفق عليه.

وفي خبرٍ عند مسلم رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام: {لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين }.

وفي رواية في الصحيحين : {بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له فغفر له }.

آداب ديننا في هذا عالية، والأخلاق في الإسلام فاضلة، جاءت لتهذب مسالك المسلمين وتحملهم إلى مستوى من المسئولية والشعور نحو الآخرين ورعاية حقوقهم ومصالحهم، وإنك لتعجب أن تكون مثل هذه الآداب والتوجيهات في منهج أهل الإسلام ثم لا ترى التزاماً، بل ترى في كثيرٍ من المواقع إهمالاً وتقصيراً، فمدن المسلمين وقراهم وطرقهم ومسالكهم مع الأسف تزخر بالمعوقات، وتمتلئ بالمؤذيات والمزعجات؛ من مركباتٍ عاطلة، وأتربة متراكمة، وبقايا ومخلفات، مع حفرٍ مهملة، وأحجار ملقاة، لا يكلف المسلم نفسه أن يضع الشيء في موضعه، ويبعد الأذى عن طريق إخوانه، قياماً بالمسئولية وابتغاء الثواب العظيم من الرب الكريم، وتأملوا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رحمه الله: [[لو عثرت دابة بشاطئ الفرات لظننت أني مسئول عنها لم لم أعبد لها الطريق ] هذا في تعبيد الطريق للدواب فما بالك بحقوق المسلمين!

إن حقوق الطريق وآداب المسير في ديننا كثيرة ودقيقة من غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله كثيراً، وإرشاد الضال، وهداية الأعمى، وإسماع الأصم، وإغاثة المظلوم، ومساعدة العاجز في حمل متاعه، والمشي على الأرض هوناً، والقصد في السير، وخفض الصوت، والكلمة الطيبة، والماشي يسلم على القاعد والراكب على الراجل والصغير على الكبير: {واتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل، وإذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة } وكثرة الالتفات في الطريق يخل بالمروءة، واجتنبوا السخرية بالمارة، والاستهزاء بالعابرين، لا بعبارة ولا بإشارة، واسعَ رحمك الله بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، واحمل بقوة ساعديك مع العاجز الضعيف، وعليك بمراعاة أدب السير مع الأصحاب، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خرج من المسجد بعد الصلاة فسار الناس خلفه، فالتفت إليهم وقال: [[لا تفعلوا، إن السير خلفي ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع ]].

آداب وحقوق أخرى للطريق

أيها المسلمون: والأمر في الإسلام لا يقتصر على إماطة الأذى وإزالة العوائق في أعمال فردية، ولكنها ترقى إلى المطالبة بإصلاح وتحسين المرافق، وهو مطلوبٌ من كل قادرٍ عليه وحسب مسئوليته، قياماً بالمسئولية وابتغاء للمثوبة، من المسئولين من ولاة أمور المسلمين ومن دونهم من الأثرياء والموسرين والقادرين، فالدعوة في الإسلام عالية في إنشاء المرافق وبنائها ورعايتها وصيانتها وتحصينها، وهذه سمة من سمات الدين بارزة، وغاية في الأوقاف وسياساتها، أكثر ما تتجلى في إنشاء المرافق وصيانتها: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له }.

ولقد قرر أهل العلم رحمهم الله أن من الصدقة الجارية: حفر الآبار، وشق الأنهار، وغرس الأشجار، وتوسيع الطرق، وبناء الجسور والقناطر، وإنشاء المظلات، وإقامة دور العلاج والاستشفاء، وكل ما تدعو إليه الحاجة وظروف الحياة ومتغيراتها ومستجداتها مما يوافق الشرع وينفع الناس.

معاشر الأحبة: ومن إعطاء الطريق حقه ومراعاة آدابه: بذل المزيد من التنبه والحذر وتوقع المفاجآت، وصيانة الطرق والمركبات، والسير في الجانب المخصص من أرصفة المارة، وجسور المشاة، والانتباه من السيارات المسرعة، والاهتمام بوسائل السلامة في الحل والترحال، والسفر والإقامة في النفس والمركبة والراكبين، وتفقد المركبة بأجهزتها وآلاتها وأجزائها وزيادة أحمالها وأوزانها، وحفظ البهائم من التسيب.

ومن إعطاء الطريق حقه: تجنب قيادة المركبات في حالات التعب والإعياء والظروف النفسية العصيبة، ولزوم السيطرة على النفس أمام نزواتها الجامحة وغفلتها السادرة.

المسئول الحقيقي عن الأرواح والممتلكات

معاشر المسلمين: إن الحفاظ على الأرواح وأمن الجماعة وصيانة الممتلكات مسئولية مشتركة، أساسها الدين وصحة المعتقد، ويقظة الضمير، ثم الوعي الصادق بالمسئولية والتعاون على مستوى الفرد والجماعة، كل مطالب بالقيام بمسئوليته؛ رجل الأمن، ورجل التربية، ورجل الأعمال، ورجل الإعلام، ورب الأسرة، وربة البيت؛ رجل الأمن ينفذ بوعيٍ وفقه وعدالة، ورب الأسرة يرعى بحزم ويراقب بصرامة، ورجل التربية يعلم بإخلاص ويربي بتفانٍ، ورجل الأعمال يدعم ويساند ويبذل، ورجل الإعلام يكتب ويثقف وينشر بمصداقية وتوازن، الأمن غاية الجميع، والسلامة هدف الجميع، ولن يتم ذلك على وجهه إلا بالتعاون بين كل فئات المجتمع وطبقاته في رفع مستوى الوعي وتنمية الحس الأمني، وحفز الهمم من أجل بناء جسورٍ من التعاون والثقة بين فئات المجتمع.

لم يكن الخلل ولم تحدث المآسي المفجعة إلا بسب الإهمال والإتكالية وعدم المبالاة، فهذا قد قصر في تبليغ الجهات المسئولة، ومسئول قد قصر في التفاعل مع التبليغ، ومبلغٌ يخشى من تبعات التبليغ، والروتين يصدق ذلك أو يكذبه، وما أدى إلى هذه النتائج الوخيمة إلا التقاعس في أخذ الحيطة، والتهاون في لزوم طريق الحذر، وعدم الأخذ بالحزم في الأمر والعزم على الرشد.

ومما لا يمكن إغفاله في هذا الصدد رعاية الأنظمة وتطبيقها بصرامةٍ وعدالة، عقوباتٍ وزواجر جزاءً لمن يخالف وردعاً لمن يريد أن يجازف، حزمٌ شديد يقارنه وعيٌ شديد تتولد من خلالهما رقابة ذاتية، وبمجازاة أفراد ترتدع أمم.

لا بد من الحزم في تنفيذ الجزاءات الرادعة، ولا سيما في حق المتهورين وغير المبالين وأصحاب السوابق.

لا بد من الاطمئنان على حسن القيادة وفقه الأنظمة وإدراك التعليمات وحسن تطبيقها ودقة الالتزام بها.

وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:18-19].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العزيز وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أيها الإخوة المسلمون: الحفاظ على المهج من أغلى المطالب إن لم يكن أغلاها، والإنسان أكرم المخلوقات على الله، خلقه وكرمه وفضله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] والنفس الإنسانية ليست ملكاً لصاحبها وليست ملكاً لأحدٍ من الناس وإنما هي ملكٌ لله وحده، ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قبل صاحبها: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ * وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:28-29]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المائدة:32].. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] ومع وضوح ذلك وجلائه في أصول الديانة، وثباته ورسوخه في فقه الشريعة، إلا أنه مع الأسف، وفي خضم الغفلة والإهمال وقلة المبالاة من المرء نفسه وممن حوله من أهله ومن له سلطانٌ عليه، ترى من يجازف ثم يمارس أفعالاً وسلوكيات تلقي بالنفس إلى التهلكة، وتوقع الغير في الهلكة، ترى أرواحاً تزهق، ونساءً تترمل، وأسراً تفنى، وأطفالاً تيتم، وأمراضاً مزمنة، وإعاقاتٍ مستديمة، ترى منشآتٍ تهدم، ومنجزاتٍ تتلف، وآلاف الملايين من الدراهم والدنانير تهدر، فواجع تصل إلى حد الهلع، وخسائر تصل إلى حد الإفلاس، أطفال في مقتبل الحياة، وشباب في نضرة العمر، ما حال البيت وقد فقد عائله؟

وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها؟

وما حال الوالدين وقد زهقت روح شابهم اليافع وصبيهم الأمل؟

ما حال الأسرة وقد حل بها معاقٌ علاجه مكلف، والكد عليه مرهق؟ أصبح مقعداً عاجزاً عالة على أهله ومجتمعه ودولته، حسرة في القلوب، وعبء في الكاهل بسبب ماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا كل هذه المعاناة؟ بسبب فعلٍ متهور، وتصرفٍ طائش، وعملٍ غير مسئول، ماذا يبقى إذا هانت الأرواح، واسترخصت الدماء؟ وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون؟ لقد فاضت نفوسٌ زكية، ودماء بريئة، فمتى تفيض دوافع العقلانية؟ ومتى تستيقظ مشاعر الإحساس بالمسئولية؟ ومتى يهتدي الضالون؟ ومتى يستفيق الغافلون؟ كل هذه المصائب وجل هذه المآسي راجعة إلى الإخلال بحق الطريق، والتفريط في آداب المسير، والإهمال في قواعد المرور.