لعلكم تتقون


الحلقة مفرغة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102].. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، العز والشرف في التقوى، والسعادة والعلى عند أهل التقوى.

التقوى -أيها المسلمون- كنز عظيم، وجوهر عزيز، إن خيري الدنيا والآخرة مجموع فيها: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] والقبول عند الله معلق بها: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] والغفران والثواب موعود عليها: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5]

أهلها هم الأعلون في الآخرة والأولى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] غير أن أزمنتنا المتأخرة، وعصورنا المادية، كست قلوب أصحاب كثير من أهلها طبقات من الغفلة، وغشت على أبصارها سحباً من الصدود كثيفة؛ فعموا عن الطريق، وحسن ظنهم بالترقي في جاه الدنيا وسلطانها، فالشقي في ميزانهم من قلت مادته وقدر عليه رزقه، وهذا لعمر الحق غفلة شنيعة، وجهل في المقاييس عريضة: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

نعم. أيها الإخوة! المتقون تقر أعينهم بالطاعات في الدنيا، وبعالي الدرجات من الجنة في الأخرى، يقال ذلك أيها المسلمون وقد أظلكم هذا الشهر الكريم المبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه لعلكم تتقون.

غاية الصيام

أيها الإخوة! غاية الصيام: تقوى الله عز وجل.. تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

تقوى صادقة دقيقة يترك فيه الصائم ما يهوى حذراً مما يخشى، ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب..!

صوم القلب والجوارح

أيها الإخوة! جوارح الإنسان عين وأذن، ويد ولسان، وبطن وفرج، والقلب من ورائها أصلها وحاكمها، صام القلب واتقى إذا جرد العبودية لله وحده، وخضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته، وخلص من الشرك، وسلم من البدع، وتطهر من المعاصي.

قلب تقي يرى الهوى والشهوة، والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والغل والحسد، والمراء والجدل، يرى كل ذلك أمراضاً قلبية فتاكة، تقتل الأفراد وتهلك الأمم.

القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها ويتقيؤها، وصيامه ينفيها ويجفوها، قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي، عبودية لله خالصة، لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمانٍ ولا مطامع، قلب قوي تقي، لله صلاته وصيامه، ونسكه ومحياه ومماته، {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه }

وإذا صلح القلب صلحت الجوارح؛ فقامت بحق الطاعة، وكفت عن الآثام، فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، تقى عال يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام، لقد كان على الهدى وائتمر بالتقوى، من منع جسده تخمة الغذاء؛ ليمنع جوارحه السوء والأذى.

قلة الشبع تكبح الجماح، وتبعد نزغات الشياطين: {والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } قلة الشبع تجعل الجوارح أقرب لفعل القربات.. يرق القلب، ويغزر الدمع، ويخذل الشيطان.

وانظر -حفظ الله دينك وزاد في تقاك- في ضعاف المهازيل، ممن جاع نهاره، وملأ في الليل بطنه، فهو صريع لذة عارمة، وعبد لشهوة جامحة، هل حقق معنى التقوى حين تفنن بأطايب الطعام وألوان الموائد؟ بينما قليل منه قد يشبع جياعاً، ويسعد أسراً، قليل منه قد يكفكف دموعاً، ويوقف عبرات، هل أعطى واتقى أم كيف أعطى، وماذا اتقى من جعل رمضانه تبذيراً وفطره تخمة؟! مسكين بائس.. لا يرى في الصوم إلا جوعاً لا تتحمله معدته، وعطشاً لا تقوى عليه عروقه، أي تقوى وأي مقاومة عند أمثال هؤلاء المهازيل؟! أولئك أقوام انهزمت عزائمهم أمام جوع بطونهم، لقد أورثهم الشبع قسوة فجعلهم نئومين، وأقعدهم كسالى، ألا فاقعدوا فأنتم الطاعمون الكاسون.

من أعلن استسلامه في معركة لقيمات، لا تدوم سوى سويعات، فليس جديراً أن يعيش عزة المتقين، وعلياء الشهداء المجاهدين.

الله أكبر! لقد فرض الصيام لتمحيص التقوى، وليصبح المسلم صائماً تقياً في مطعمه ومشربه، قصده رضا محبوبه {الصوم لي وأنا أجزي به } .

هذا حال البطن وما حوى، فيا ترى ما بال الرأس وما وعى؟

من لم يدع قول الزور والعمل به كيف صام؟ وماذا اتقى؟ حظه من صيامه الجوع والعطش، ونصيبه من قيامه السهر والنصب، أين التقوى في أسماعهم وأبصارهم؟ لغو ولهو، وقيل وقال، وأصوات معازف، وصور ماجنة، وقصص خالعة، في النهار نوم في تقصير، وفي الليل سهر في غير طاعة، متبرمون في أعمالهم، سيئون في معاملاتهم، متثاقلون في أداء مسئولياتهم، نشاط في اللهو والسمر، وكسل في الجد والعبادة.

أيها الإخوة! غاية الصيام: تقوى الله عز وجل.. تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

تقوى صادقة دقيقة يترك فيه الصائم ما يهوى حذراً مما يخشى، ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب..!