من أسس العمل الصالح


الحلقة مفرغة

الحمد لله الحليم الغفار، النافذ قضاؤه بما يجري من الأقدار، يدني ويبعد ويشقي ويسعد وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل إنعامه، وعطائه المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يكور النهار على الليل ويكور الليل على النهار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والمصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وارغبوا فيما عنده، ولا تغرنكم الحياة الدنيا فطالبها مكدود، والمتعلق بها متعبٌ مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوىً مطاع، وعمرٍ مباع، ورحم الله عبداً أُعطي قوةً وعمل بها في طاعة الله، أو قَصُر به ضعفٌ فكف عن محارم الله.

أيها المسلمون! للمسلم في كل ساعةٍ من عمره وظيفة لربه عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].

ناهيكم أيها المسلمون! بما امتنَّ الله به على عباده من مواسم الفضل ونفحات الدهر في شهر رمضان كله، ثم في عشره الأخيرة ، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة، ثم في الحج ومناسكه، في كل هذه المواسم والنفحات مزيد الفضل ومضاعفات الأجر، إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمس الأعمال الصالحات ويتحراها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها.

أيها المسلمون حجاج بيت الله! الأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله وأثره وثمرته وجزاؤه: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] وكتاب الله العزيز وسنة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد قضى في بيان حقيقة ذلك ومتطلباته، وأثره وثماره، وسعة دائرته، وعلامة صحته، وأسباب قبوله.

أيها الإخوة! إن الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق وإخلاص العمل، ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، وإتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار، والبكاء على الخطيئة؛ كل أولئك علائم ومنارات، وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح، فمن عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تم له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكب على الذنوب لم ينتفع.

عباد الله! لا يرجو القبول إلا مؤمنٌ بربه وبآياته، عابد مخلص، وجه مشفق يستصغر عباداته، ويستغل طاعاته، مدركٌ لجلال الله وعظمته، وعلمه وإحاطته، رقيبٌ له في شعائره ومشاعره.

خلوه من الشرك

أيها المسلمون حجاج بيت الله! العمل الصالح لا بد أن يكون سليماً من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيه وجليه فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] وفي الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه }

المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

ولا بد في العمل الصالح: أن يكون سليماً من البدع ومحدثات الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } وفي رواية: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ويقول: {وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } فلا بد من لزوم متابعة المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التنزيل العزيز: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] بالمتابعة يتحصن المسلم من البدع كلها، فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها.

الإخلاص فيه لله تعالى

والعمل الصالح أيها الإخوة المسلمون! لا بد فيه من الإخلاص، فإن من أشد المفسدات ومانعات القبول ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص، والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: {إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر رجل إليه فذلك شرك الصغائر } رواه ابن خزيمة في صحيحه .

وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعاً خطيراً ذلك هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه ويبتغي حظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغايتها.

الإخلاص حفظك الله: أن يستوي حال الظاهر والباطن، فإن المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أو لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجه إلا لله، وليس له طمعٌ إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، وليس له هربٌ إلا من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله، المخلص لن يزيد عمله لأجل حظوظ عاجلة ولا ينقص بنقصها، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يثقل.

أيها المسلمون حجاج بيت الله! إن موضوع النيات ومعالجاتها موضوعٌ خطيرٌ ودقيق، هو أساس القبول والرد، وهو سبيل الفوز والخسران، يقول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تنقلب عليَّ.

وعن يوسف بن أسباط : تخليص النية وفسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

وما أتي كثيرٌ من الناس إلا من ضياع نياتهم وضعف إخلاصهم.

الله الله في أنفسكم عباد الله، إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب وإخلاصها؛ فبالإخلاص -بإذن الله- يورث القوة في الحق والصبر والمصابرة والمداومة، وبالإخلاص يتضاعف أجر العمل ويعظم وثوابه، بل الإخلاص يجعل المباحات طاعات وعبادات وقربات، ومن ثم تكون حياة العبد كلها لله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].

طيب المأكل والملبس

أيها الإخوة! ويقترن بالإخلاص تحري الطيبات، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، والطيب ما طيبه الشرع لا ما طيبه الذوق، والطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

ومن صفات نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، والمؤمن طيب كله؛ قلبه ولسانه وجسده، فقلبه طيب لما وقر فيه من الإيمان، ولسانه طيب لما يقوم به من الذكر، وجسده طيب لما تقوم به الجوارح من كل عملٍ صالح.

ومن أعظم ما يحصل به طيب العمل: طيب المطعم وحل المأكل، فالعمل الصالح لا يزكو إلا بأكل الحلال، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال آمراً رسله عليهم السلام: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51] وقال آمراً عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].

يقول بعض السلف : لو قمت قيام السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك، { وكل لحمٍ نبت من سحت فالنار أولى به }.

الاعتدال والمداومة على العمل

ولا تنس -رعاك الله- وأنت تتحرى الأعمال الصالحة المداومة عليها، ففي الخبر الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل } وقد كان عمله عليه الصلاة والسلام ديمة.

يقول الإمام النووي رحمه الله: بدوام القليل تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة.

ويقول ابن الجوزي رحمه الله: مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقتٍ ما كمن لا زم يوماً كاملاً ثم انقطع.

ويقترن بالمداومة تحري القصد، والاعتدال، والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسئوليات {فإن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه } فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب {فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا } {وإن الله لا يمل حتى تملوا } {واكلفوا من العمل ما تطيقون }.

أيها الإخوة! هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } الموقفون للعمل الصالح ذوو قلوبٍ مخلصة، وتوحيدٍ خالص، وهممٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57].

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون َ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أيها المسلمون حجاج بيت الله! العمل الصالح لا بد أن يكون سليماً من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيه وجليه فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] وفي الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه }




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3697 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3088 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3072 استماع
الطلاق وآثاره 3013 استماع
لعلكم تتقون 2999 استماع
الماء سر الحياة 2957 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2873 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2851 استماع
لا لمؤتمر بكين 2721 استماع