وقفات مع أخطر المهمات


الحلقة مفرغة

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، أحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، جعل العلم طريقاً إلى حياة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، واستقامة الجوارح، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، المعلم الأمثل، والمرشد الأكمل، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فبين أيدينا وقفات مع أخطر المهمات، مهمة شرفها أن أعظم من حملها رسل الله وأنبياؤه، مهمة من معالم أهميتها وخطورتها أنها من أعظم أسباب القوة والحفظ للأمم، وتضييعها من أعظم أسباب الضياع والهوان للأمم.

إنه حين تبدأ الدراسة ينطلق الملايين من الطلاب والطالبات ومعهم عشرات ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات، وتدور الأيام وتتوالى وهذه المدارس والمعاهد والجامعات تعمل، ثم نرى ونسمع شكوى من ضعف الأخلاق، وانحلال الروابط الاجتماعية، ورقة الدين، وغلبة الهوى، بل نسمع كذلك شكوى من ضعف العلوم العصرية المدنية الحضارية، وتدني المستويات الطلابية، وكثرة المشكلات التعليمية، وتمضي هذه العجلة ولكنها في مثل هذا الوقت على وجه الخصوص تكتسب أهمية أكبر وخطورة أعظم، وتحتاج إلى جهود متكاتفة متكاملة، وإلى وقفات متبصرة متأنية.

تحتاج إلى قلوب غيورة محترقة، وإلى نفوس فتية قوية، وإلى عزائم ماضية عالية، وحتى ندرك ذلك نقف بعض الوقفات التي تكشف لنا عن كثير من هذه المهمات نحن أمة الإسلام، أمة العلم والتعليم، أمة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] أول ما نزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

نحن أمة: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] نحن أمة إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأمي الذي علم البشرية كلها.

نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل التعليم وراثة للنبوة فقال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، نحن هذه الأمة، نحن أمة العلم والحضارة المادية المدنية، ونحن أمة العلم والتزكية النفسية القلبية، نحن الأمة الذين أخذت عنها الحضارات المعاصرة علوم المادة والتجربة، لكننا نسمع ما يسمى اليوم العالمي لمحو الأمية، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن سبعين مليوناً من أمة العرب أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وهذا العدد يعادل بحد أدنى الخمس، وقد يصل إلى قريب من الربع، ويأتي أيضاً تصريح للمسئول عن منظمة التربية والعلوم ليقول لنا: إن الأمية تزداد في جل الدول الإسلامية، وإنه لم تسجل زيادات في القضاء على الأمية إلا في ست دول إسلامية فحسب، وأن نحواً من (50%) يعدون في صفوف الأميين من حيث القراءة والكتابة، أو من حيث الاتصال بالتقنيات المعلوماتية المعاصرة.

أليست هذه المفارقات الكبيرة والأوضاع المحزنة في ظل عصر المعلومات والتقنيات والعلوم المتقدمة جديرة بأن تجعلنا نقف مع أنفسنا؟!

إنني لا أدعو إلى وقوف وزارات التربية والتعليم والحكومات فحسب، بل أدعو إلى وقوفك أنت وأنا وتلك الأم في بيتها وابني وابنك.

لماذا تمضي الأيام، ولماذا تتدرج بالطلاب المراحل ثم يخرجون بعد سنوات وهم جهلة معممون أو مزينون بزينة وحلية ظاهرية، ولم يخلص العلم إلى قلوبهم، ولم تدخل التزكية إلى نفوسهم، ولم يصبح في عقولهم اتزان واعتدال، ولم نجد في سلوكهم استقامة ولا قوامة؟ لِمَ ذلك؟

لنقف هذه الوقفات المهمة.

أول هذه الوقفات أجعلها في أمر مهم أساسي، وهو الذي نريد أن نقول فيه: لم سمينا مهمة التربية والتعليم أخطر المهمات؟

إن ذلك لأمرين اثنين:

الأول -وهو ما نريده بالصورة الإيجابية-: إدراك الأثر والقوة التأثيرية للعلم والتعليم، فإن مقياس قوة الأمم اليوم لا يعد بكثرة جيوشها وأسلحتها، بل قبل ذلك بكثرة المتعلمين فيها، وبوجود مؤسسات التعليم التطبيقية الراقية العالية، وبوجود مراكز الأبحاث والدراسات المستمرة المتتابعة، تلك التي جعلت القرن الماضي الذي ربما شهد أكبر مخترعات في تاريخ البشرية تستأثر دولة واحدة فيه بنحو (30%)، ومجموعة من الدول الغربية بنحو (30%)، ثم يتوزع الباقي على كل بلاد الدنيا، ثم يكون حظ دولة الغصب الصهيونية معادلاً لمجموعة الدول العربية كلها وأكثر!

ولا بد أن ندرك أن ذلك ليس من مجرد هذه الحقائق الواقعية فحسب، بل من آياتنا القرآنية ومن إرشادات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].

إن التحليل في هذه الآية ومثيلاتها يعطينا الأهمية القصوى والمفاتيح الأساسية الرئيسة التي بها تغير الأمم وتبدل أحوالها من ضعف إلى قوة، ومن تفكك إلى ترابط، ومن تراجع إلى تقدم.

فالأول السمع، والمقصود به تلقي العلوم وأخذها من كل جهة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ويكون مع السمع التدبر والتحليل والتقسيم والتبويب، وأما النظر والبصر فالمقصود به المعاينة والمشاهدة والتجربة والاستنباط والدقة في معرفة ما يرى ويشاهد، نحن نرى كل شيء في هذا الكون، فلا يكاد يسترعي انتباهنا ولا يلفت نظرنا، ولا يشغل تفكيرنا، بينما نرى الأمم المتقدمة المدنية من حولنا وهي تدرس الظواهر تنظر بعين البصيرة لا بعين البصر فحسب.

ثم يأتينا من بعد ذلك البصر والفؤاد، والفؤاد المقصود به القلب والعقل الذي يحدد ويقوم المسار، والذي يكشف عن آثار هذه المعرفة المستقاة من الجوارح في تأثيرها النفسي والقلبي والسلوكي من بعد ذلك، والتي تضبط المسيرة، وتحدد المعالم وترسم المناهج، وترمي إلى الغايات النبيلة السامية.

وأمر آخر في هذه الأهمية، فنحن نرى اليوم -كما قلنا- أن أصحاب القوة هم أصحاب العلم والتقنية والمعلومات، ويعرفون عنا .. عن بلادنا وعن ثرواتنا وعن إحصاءاتنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.

لكن جانباً آخر يكشف عن الأهمية والخطورة، وهو ضرورة التميز، فالعلوم المدنية المادية مشترك واحد، فالماء تكوينه عندي وعند غيري من غير المسلمين وعند أهل الشرق والغرب واحد، لكن ما وراء ذلك من التصور والاعتقاد والفكر، وما وراء هذه الظواهر الكونية، بل ما وراء الكون كله والحياة كلها يختلف عندنا -معاشر المسلمين- عن غيرنا من الأمم، والأمم التي تقدمت اليوم في المادة فشلت في الجملة أن تتقدم في ميدان الخلق، فلا القلوب مشرقة مضيئة، بل هي في جملتها مظلمة كدرة، ولا النفوس زاكية طاهرة بل كثير منها متدنسة قذرة، ولا الصدور منشرحة طيبة بل كثير منها ضيق حرج.

نحن الأمة التي أعطينا التميز في الجمع بين جانب المادة والروح، بين جانب العلم المادي والعلم المعنوي، ولقد لخصت آيات القرآن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل معلم وداعية من بعده: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] وتلاوة الآيات هي نقل العلوم والمعرفة وسردها وعرضها بفنون مختلفة وبأساليب متنوعة.

كان قدوتنا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تدرج في التعليم واستخدم وسائله المختلفة، يوم رأف بالجهلة والذين عندهم شيء من التسرع، يوم كانت سيرته وشخصيته أنموذجاً فريداً للمعلم الحاني البصير.

ثم وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] فلا خير في علم لا يخلص إلى القلب، ولا ينفذ نوره إلى النفس، ولا يظهر أثره في السلوك.

تلك هي المعادلة المهمة، كل آية تقرأ، كل حديث يروى، كل معلومة تحفظ، كل حقيقة علمية تتجلى ينبغي أن تسكب مزيداً من الإيمان في القلب، ومزيداً من الطمأنينة في النفس، ومزيداً من التعظيم للخالق، ومزيداً من الثقة بالمنهج وارتباطاً بالكتاب والسنة.

أين هذا من ممارساتنا التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا؟!

أين هذا مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم روى أصحاب أصحابه رضوان الله عليهم من التابعين (كان الذين يقرءوننا القرآن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كـأبي وعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نفقه ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً).

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] وذلك هو التطبيق العملي، والمقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كما أوجزت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) قرآن يمشي على الأرض، سلوك راق، خلق سام، قيم فاضلة، معاملة لا مثيل لها، إنسانية لا يبلغ أحد مبلغها، تلك هي الصورة المثلى للمعلم الأمثل صلى الله عليه وسلم.

إذاً فقيادة المجتمعات في داخل الأمم وقيادة الأمة لغيرها من الأمم مربط فرسها ومحور رحاها هو التعليم والتربية، والأخذ بأسباب القوة العلمية المادية في العلوم الدنيوية، لكن بمنهج متميز في الارتباط بالله.

تلك الآية الأولى، (اقرأ)، تعلم وخذ، لكن باسم ربك لا باسم الهوى، لا باسم النزعة الإنسانية الطاغية، لا باسم الشهوة التي فيها نوع من العدوان البشري باستخدام القوة والتسلط على البشر، هذه مزيتنا نحن أمة الإسلام.

في مقتبل بداية هذا التعليم وأيامه، وفي كل عام دراسي جديد نوجه الحديث أيضاً في وقفات أخرى، وأكرر أن أهميتها تخصنا جميعاً، وأن خطابنا فيها موجه لكل واحد منا بشخصه وذاته، فضلاً عمن يكون مسئولاً عن هذه المهمات فإن مسئوليته مضاعفة، وإن مهمته أكبر وأكبر، ونريد من المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات والآباء والأمهات أن يحرصوا على هذه المعاني.

الإخلاص لله وإدراك الغاية من العمل

أولاً: الإخلاص والغاية.

فإن منطلق كل تعليم لا بد أن يتوافر فيه إخلاص لله، وغاية مشدودة إلى طلب رضوان الله، ورغبة مخلصة في الامتثال لأمر الله والتزام شرع الله سبحانه وتعالى، تلك الغاية هي التي تفرق بين مسلم مؤمن يأخذ العلوم من كل حدب وصوب ومن كل فن ولون، لكنه لا يأخذ ما يعارض شرع الله، ولا يأخذ إلا ما يستخدمه في مصلحة عباد الله.

تلك الغاية المهمة التي ينبغي أن نغرسها في أبنائنا وبناتنا، وقد غلبت المادة على الناس إلا من رحم الله، فلم يعد أحد يتعلم إلا لوظيفة، بل أصبح تخصصه وتوجهه مرتبط بما سيئول إليه حاله بعد هذا العلم من اكتساب رزق وحظوة اجتماعية ومكانة دنيوية وغير ذلك، حتى إنك لو سألت طالباً اليوم -لا أقول في المدرسة بل في الجامعة، بل ربما حتى في الدراسات العليا-: لم تدرس لأعطاك تفصيلات من الفروع الدقيقة المتعلقة بهذه الأمور الدنيوية المادية الاجتماعية، ولم تجد في ذهنه ولا في قوله شيئاً من الغايات السامية ولا الأمور العظيمة المتعلقة برسالته ودوره في هذه الحياة ودوره تجاه أمته وتجاه تاريخه وحضارته، فشتان في كثير من الأحوال ما بين جيل اليوم وأجيال خلت، ولذلك عندما نقول: إن هذه المهمة أخطر المهمات فلابد أن ننقل تعريفها، وهذا ليس منا، بل من الغرب أنفسهم، ففي دائرة المعارف البريطانية تعريف للتربية يقول: هي الجهد الذي يبذله ويقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرته للحياة التي يؤمنون بها.

إنها جهد يقوم به الآباء والمربون، لماذا؟ لينشأ جيل يترجم ويمثل نظرتهم للحياة التي يؤمنون بها، فهل يدرك المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات -بل والآباء والأمهات- هذا المعنى المهم الذي يبين فيه هذا القول أن التربية ليست مجرد معرفة ومعلومات، بل هي فكر وسلوك وقيم ومعان وضوابط تنتقل من جيل إلى جيل عبر هذه المؤسسات التعليمية والتربوية في الأسرة وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام وغير ذلك.

إن المهمة الأساسية للمدرسة أن تضخ القوة الروحية، وتجعل لها تأثيراً في التلاميذ حتى يواصلوا الاستمرار على نهج جيلهم السابق بذات النظرة التي يعيشون بها ويتقدمون إلى الأمام.

إذاً أول هذه الأمور ما نريد أن نثبته في هذه القضية، وهو الإخلاص وإدراك الغاية.

المعرفة بالأثر والخطورة في سوء التربية

والأمر الثاني: المعرفة بالأثر والخطورة.

فإن المعلم اليوم يمكن أن ينشئ جيلاً صالحاً أو طالحاً، وإن المدرسة اليوم يمكن أن تعيد إلينا أبناءنا إلى بيوتنا وقد تشوشت أفكارهم وانحرفت سلوكهم، أو تعيدهم إلينا وقد ثبت إيمانهم ورسخ يقينهم وسمت أخلاقهم، بل قبل ذلك نحن -معاشر الآباء والأمهات- عندما كان أبناؤنا في صغرهم قبل المدارس وحتى في أثناء المدارس نحن الذين وضعنا بصماتنا عليهم، فإن وجدت ابناً بذيء القول سيئ الفعل فاعلم أن لذلك حظاً من أسرته وبيته، إما تفريطاً في المهمة وإما إكساباً لهذه الأخلاق من سلوك الآباء والأمهات، ومن هنا فإن المهمة خطيرة وعظيمة، فإن أبناءنا الصغار لا أقول في الثالثة والرابعة من العمر والخامسة قبل الدراسة، بل حتى وهم في بطون أمهاتهم، تبدأ التربية من هناك، وقد يعجب بعض الناس من ذلك، فنذكر بما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء عند معاشرة الرجل أهله، وقال فيه عليه الصلاة والسلام: (فإن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان) وعندما أخبرنا وسن لنا أن يؤذن في أذن الوليد ويقام في أذنه اليسرى حتى ينطبع في نفسه ونفس الإنسان وخلقه شيء عجيب، فلم يعرف الناس بعد إلا القليل من أسراره، فيكون ذلك موطئاً لما يكون في هذا، بل قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه باختيار المرأة الصالحة؛ لأنها المحضن لهذه التربية.

الجدية والاهتمام في العملية التعليمية

الأمر الثالث: الجدية والاهتمام.

إن من الصور السليبة في معاهدنا التعليمية اليوم أن اللامبالاة قد تقع من المعلمين والمعلمات، ولكنها أكثر في صفوف الطلبة والطالبات، فيسهرون ليلهم وينامون نهارهم، ويؤجلون دروسهم، ويحفظون من أسماء اللاعبين واللاعبات والفنانين والفنانات ومواقع الدورات والمباريات أكثر مما يحفظون من المناهج والمقررات.

إن صور ونسب الرسوب وتدني المستويات مع توفر الإمكانيات يدل على خسارة كبيرة وهدر عظيم للثروة القومية، فكيف نعلم مليوناً -على سبيل المثال من الطلاب- وفي آخر العام يكون القريب من نصفهم راسباً يعيد عاماً كاملاً ويستهلك مرة أخرى من المال والجهد مثل ذلك.

أليس هذا جديراً بأن نفكر فيه؟

ألسنا معنيين بأن نعالج الأمور المهمة التي سأشير إلى بعض منها أيضاً؟

أين هذه الجدية؟!

أين نحن من منهج الإسلام الذي يريد منا أن نكون أقوياء؟! يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63] دين يدعو إلى المسابقة في الخيرات والمسارعة إليها وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

دين يريد الهمم العالية والعزائم الماضية، دين جعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يضربون المثل، فيرحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصر ليلقى صحابياً من الصحابة، يقول: جئت أسألك عن حديث لم يعد أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنت، ثم يروي له ذلك الحديث، فيرجع من وقته من مصر إلى المدينة.

إن أمر العلم وطلبه وتحصيله لا ينال بالنوم والكسل ومشاهدة المسلسلات ومتابعة الفضائيات واللعب بالإلكترونيات كما شاع وراج بين أبنائنا اليوم إلا من رحم الله، ومن هنا نريد أيضاً أمراً ثالثاً، وهو أمر الهمة العالية، فكثير من أبنائنا في صورة ربما تتضمن شيئاً من الطرفة لكنها محزنة.

ما هو شعار كثير من الطلاب؟! يقولون: نسأل الله القبول. لا يعنون به ما نعنيه بالدعاء، وإنما القبول هو أدنى الدرجات فوق الرسوب، وأقل التقديرات أن ينجح بتقدير (مقبول) ويقولون: نسأل الله القبول.

أين المراتب العالية؟! وأين التنافس؟! وأين الذين سيخرجون متعلمين أو علماء أو مبتكرين أو مخترعين؟!

إنهم أقل من القليل، والنسبة في ظروف وفي أحوال كثيرة تزداد سوءاً، وذلك ما ينبغي الالتفات إليه.

الاستمرار في التعلم والتطوير

وأخيراً في هذا الجانب: مسألة الاستمرار والتطوير.

فهي قضية مهمة، لا ينبغي أن نعلم اليوم كتباً قديمة قد جاءت العلوم الحديثة بعد خمس أو عشر من السنوات بمعلومات جديدة وفروع وقضايا وحقائق وتجارب مختلفة ونحن ما زلنا ندرس ذلك العلم القديم، ونحن أيضاً ليست عندنا المراكز البحثية التي تتابع كل جديد بالقدر الكافي، وإن الذي يصرف على البحث العلمي يعد اليوم من أسباب تقييم الأمم وجعلها في المصاف العليا أو الدنيا، والمعدل الذي يذكر عالمياً أنه ينبغي أن يصرف (1%) من الدخل القومي لكل دولة على الأبحاث العلمية وتطويرها، وليس هناك دولة من بلاد العالم الإسلامي في جملتها تبلغ مثل هذه النسبة، وكما قلت فإن الذي يصرف على دولة الغصب الصهيونية في البحث العلمية يعادل كل ما يصرف في البلاد العربية ويفيض عليه.

وعندما جعل تقييم لأحسن مائة جامعة في العالم كله -بغض النظر عن هذا التقييم- لم يكن بينها جامعة في بلاد إسلامية مطلقاً، بينما اشتملت على سبع جامعات في ذلك الكيان الغاصب.

أولاً: الإخلاص والغاية.

فإن منطلق كل تعليم لا بد أن يتوافر فيه إخلاص لله، وغاية مشدودة إلى طلب رضوان الله، ورغبة مخلصة في الامتثال لأمر الله والتزام شرع الله سبحانه وتعالى، تلك الغاية هي التي تفرق بين مسلم مؤمن يأخذ العلوم من كل حدب وصوب ومن كل فن ولون، لكنه لا يأخذ ما يعارض شرع الله، ولا يأخذ إلا ما يستخدمه في مصلحة عباد الله.

تلك الغاية المهمة التي ينبغي أن نغرسها في أبنائنا وبناتنا، وقد غلبت المادة على الناس إلا من رحم الله، فلم يعد أحد يتعلم إلا لوظيفة، بل أصبح تخصصه وتوجهه مرتبط بما سيئول إليه حاله بعد هذا العلم من اكتساب رزق وحظوة اجتماعية ومكانة دنيوية وغير ذلك، حتى إنك لو سألت طالباً اليوم -لا أقول في المدرسة بل في الجامعة، بل ربما حتى في الدراسات العليا-: لم تدرس لأعطاك تفصيلات من الفروع الدقيقة المتعلقة بهذه الأمور الدنيوية المادية الاجتماعية، ولم تجد في ذهنه ولا في قوله شيئاً من الغايات السامية ولا الأمور العظيمة المتعلقة برسالته ودوره في هذه الحياة ودوره تجاه أمته وتجاه تاريخه وحضارته، فشتان في كثير من الأحوال ما بين جيل اليوم وأجيال خلت، ولذلك عندما نقول: إن هذه المهمة أخطر المهمات فلابد أن ننقل تعريفها، وهذا ليس منا، بل من الغرب أنفسهم، ففي دائرة المعارف البريطانية تعريف للتربية يقول: هي الجهد الذي يبذله ويقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرته للحياة التي يؤمنون بها.

إنها جهد يقوم به الآباء والمربون، لماذا؟ لينشأ جيل يترجم ويمثل نظرتهم للحياة التي يؤمنون بها، فهل يدرك المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات -بل والآباء والأمهات- هذا المعنى المهم الذي يبين فيه هذا القول أن التربية ليست مجرد معرفة ومعلومات، بل هي فكر وسلوك وقيم ومعان وضوابط تنتقل من جيل إلى جيل عبر هذه المؤسسات التعليمية والتربوية في الأسرة وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام وغير ذلك.

إن المهمة الأساسية للمدرسة أن تضخ القوة الروحية، وتجعل لها تأثيراً في التلاميذ حتى يواصلوا الاستمرار على نهج جيلهم السابق بذات النظرة التي يعيشون بها ويتقدمون إلى الأمام.

إذاً أول هذه الأمور ما نريد أن نثبته في هذه القضية، وهو الإخلاص وإدراك الغاية.

والأمر الثاني: المعرفة بالأثر والخطورة.

فإن المعلم اليوم يمكن أن ينشئ جيلاً صالحاً أو طالحاً، وإن المدرسة اليوم يمكن أن تعيد إلينا أبناءنا إلى بيوتنا وقد تشوشت أفكارهم وانحرفت سلوكهم، أو تعيدهم إلينا وقد ثبت إيمانهم ورسخ يقينهم وسمت أخلاقهم، بل قبل ذلك نحن -معاشر الآباء والأمهات- عندما كان أبناؤنا في صغرهم قبل المدارس وحتى في أثناء المدارس نحن الذين وضعنا بصماتنا عليهم، فإن وجدت ابناً بذيء القول سيئ الفعل فاعلم أن لذلك حظاً من أسرته وبيته، إما تفريطاً في المهمة وإما إكساباً لهذه الأخلاق من سلوك الآباء والأمهات، ومن هنا فإن المهمة خطيرة وعظيمة، فإن أبناءنا الصغار لا أقول في الثالثة والرابعة من العمر والخامسة قبل الدراسة، بل حتى وهم في بطون أمهاتهم، تبدأ التربية من هناك، وقد يعجب بعض الناس من ذلك، فنذكر بما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء عند معاشرة الرجل أهله، وقال فيه عليه الصلاة والسلام: (فإن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان) وعندما أخبرنا وسن لنا أن يؤذن في أذن الوليد ويقام في أذنه اليسرى حتى ينطبع في نفسه ونفس الإنسان وخلقه شيء عجيب، فلم يعرف الناس بعد إلا القليل من أسراره، فيكون ذلك موطئاً لما يكون في هذا، بل قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه باختيار المرأة الصالحة؛ لأنها المحضن لهذه التربية.