المرأة بين الحرية والعبودية


الحلقة مفرغة

الحمد لله المتفرد بعزته، المتعالي بعظمته، اللطيف برحمته، القوي بقدرته، خضعت له الرقاب، وذلت له الأعناق، وسجدت له الجباه، وخافت منه القلوب، وجارت إليه النفوس، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى على سائر آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.

وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!

حديثنا موصول في موضوع المرأة بين الحرية والعبودية، وبين الاستقلالية والتبعية، وحديثنا يختص ببعض ما يثار من الشبهات، وما يفهم خطأً لكثرة الجهالات، وأمر القوامة والطاعة من أهم الأمور التي تستقيم بها الحياة الأسرية الزوجية، وتنتظم بها الحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه يحقق العدالة الربانية، والمصالح الدنيوية التي جاء بها تشريع الله جل وعلا، وطبقه وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.

الطاعة والقوامة للزوج على زوجته، وللرجل على المرأة أمر من أمور الشرع، تتجلى فيه حكم، وتظهر فيه منافع، وتستخلص منه دروس وعبر، ومع ذلك فإن أصحاب قصر النظر، أو خلل الفكر، أو زيغ المعتقد، أو فتنة الهوى يرون في ذلك من وجهة نظرهم القاصر إنقاصاً لحق المرأة، وجعلها تابعة للرجل بلا استقلالية، أو يرون في ذلك صورة من صور العبودية مستشهدين بذلك القول الرباني زعموا وكذبوا في الوقت نفسه، قوله جل وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فقالوا: هذه درجة علو واستعلاء، وتسلط وتحكم.

وكذلك ما ورد في قول الله جل وعلا في شأن النساء اللائي ينشزن على أزواجهن: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، وقالوا: هذا ضرب من الرجل للمرأة كأنما هي أمة أو عبدة أو كأنما هي حيوان أو غير ذلك مما يقال.

ونحن نقف هنا وقفات عديدة نظهر فيها جهل أولئك أو تجاهل بعضهم؛ لأنهم ذكروا شقاً ونسوا غيره من الأحكام والتشريعات، ثم لم يصدقوا فيما ذكروه، بل لبسوا وأظهروا شيئاً وأخفوا أشياء أخرى.

نريد أن نقف على حقيقتين اثنتين مهمتين:

الأولى: ما هي حقيقة العلاقة بين الرجل والمرأة في شأن الزواج والحياة الأسرية؟

الثانية: في شأن الرجل مع المرأة بإطلاق.

المرأة طائعة مطاعة

إن طاعة المرأة لزوجها أمر مطلوب، لكن لما نظهر هذا الشق ونخفي آخر، استمع معي إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ فقال: زوجها، ثم سئل: أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ فقال: أمه)، فالمرأة هنا تطيع وهنا تطاع، فلم نغفل هذا الجانب الذي فيه إعزاز وإكرام للمرأة؟! وكذلك الجانب الأول سيظهر أثره وبيانه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في هذا الحديث أن أعظم حق على الرجل هو حق أمه، براً بها وطاعة لها، وحرصاً على رضاها.

والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجل يسأله: (يا رسول الله! أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأين أدعياء حقوق المرأة وحريتها من هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ وما من أحد من الرجال إلا وله أم مهما كبر سنه، أو علا قدره، أو زاد علمه، أو كثر ماله، فإنه ابن لها، عليه برها، والجنة تحت أقدامها، وطريق رضوان الله عز وجل في طاعتها، فأي إعزاز وأي إكرام لما ننظر لطاعة المرأة لزوجها ولا ننظر لطاعة الرجل لأمه؟

وجوب معاشرة النساء بالمعروف

أمر آخر: وهو أن قضية الضرب أو الولاية مسبوقة بتشريعات ربانية حكيمة بالغة في تقدير المرأة، معطية للمرأة أعظم الحقوق، وأكثرها طمأنينة لقلبها، وحفظاً لحقها، وحماية لعرضها، وإعلاءً لمنزلتها، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، والآية أمر رباني قرآني بصيغة الأمر الجازم الذي لا يحتمل تأويلاً، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فإن الله جل وعلا بالتشريع الإسلامي والآيات القرآنية أنزل هذه الأوامر الربانية التي تفرض وتلزم الرجال أن يحسنوا عشرة النساء.

وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن الآية مطلقة، وَعَاشِرُوهُنَّ [النساء:19]، أي: أيها الرجال عاشروا النساء بإطلاق، وإن كان يغلب على الآية تخصيصها بالأزواج في السياق؛ لكنها تشمل عشرة الأم وإحسان عشرتها بالبر والطاعة، وعشرة البنت وإحسان عشرتها بالعطف واللطف والرحمة والرعاية والتربية، وإحسان عشرة الزوجة، وذلك كما ذكر القرطبي في تفسيره: بتوفية حقها من مهرها والنفقة، وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: هي المخالطة والممازحة، فأمر الله جل وعلا بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن ليكون حسن الصلة فيما بينهم وصحبتهم على الكمال.

وقال بعضهم في المعاشرة بالمعروف -أي: في تفسيرها-: أن يتصنع لها كما يحب أن تتصنع له، أي: أن يتجمل لها ويريها منه ما يرغبها فيه كما يحب أن يرى منها ما يرغبه فيها.

ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]: طيبوا أقوالكم لهن، وأحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228].

ثم قال: وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسعهم النفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يجلس مع سائر نسائه بعد صلاة العشاء ويتعشى، ثم ينصرف إلى بيت التي هي ليلتها، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أين هذا التشريع المحكم الذي فيه إعزاز المرأة، وحسن الصلة بها، وتقديم حقها، والتلطف معها، واللين معها، من ذلك الجانب الذي يذكرونه بمعزل عن هذا كأنما يذكرون شقاً وينسون شقاً؟! كما قال قائلهم:

ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا

فقد ذكر فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ولم يتم الآية.

فالذي شرع القوامة شرع قبل ذلك أمراً من الله جل وعلا للرجال بأن يحسنوا معاشرة النساء، وأن يحافظوا على حقوقهن.

مسألة الضرب ومراحل تأديب المرأة

ثم ننتقل إلى الشق الآخر وهو أمر القوامة، وما قد يكون من حق الزوج على زوجته، وخاصة موضوع الضرب الذي يذكرونه.

أولاً: الآية القرآنية التي ورد فيها هذا الحكم وردت فيها قبل ذلك مراحل ومراتب، يقول الحق جل وعلا: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34] وهنا عدة أمور ينبغي أن نتنبه لها:

أولاً: أن هذا الحكم لا يكون إلا بسبب من الزوجة: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، فإن عقت زوجها، أو نفرت منه، أو عصت أمره، أو نكدت عيشه، أو أساءت تربية أبنائه، أو فرطت في حفظ ماله، فالأصل أنه لا شيء عليها إلا إن أساءت ابتداءً، وهذا ما ستوضحه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر في هذا التوجيه سواء كان بالضرب أو الهجر لهوىً في نفس الرجل أو تحكم أو تسلط منه، وإنما بما قد يقع من خلاف من المرأة فيما أمرها الله به في حق زوجها.

ثانياً: أن هناك مراحل سابقة: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]، قال الشافعي : وهو قوله لها: اتقي الله فإنه لا يحل لك.. ونحو ذلك من الوعظ، فإذا انزجرت به لم يجد أن يتجاوزه إلى غيره، فإن لم يجز ذلك نفعاً فإنه يهجرها في مضجعها، والحديث يقول: (ولا تهجروهن إلا في البيت)، لا يفعل كما يفعل بعض الناس أن يترك لها البيت كما يقولون، أو يشاهدون في التمثيليات، أنه يترك لها البيت وما فيه ويهرب أو يخرج، فليس هذا هو المقصود بهذه الآية، ثم إن لم يجد هذا ولا هذا فلنعلم أن طبائع النفوس تختلف، فامرأة لم تعرف حق زوجها، ولم تقدر قدره، ولم تذكر خيره، ولم تعترف بفضله، ثم عصت أمره، وأعرضت عن وعظه، ثم لم تأبه بهجره، فإن ضربها في مثل هذا الحال فله مشروعية فطرية منطقية عقلية وهي كذلك شرعية.

ثالثاً: هناك مواصفات محددة للضرب، فليس الضرب مصارعة حرة، ولا ملاكمة قاتلة كما قد يفعل بعض الرجال الذين ينسون شرع الله، ولا يتذكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر ليس مطلقاً على غاربه، فإن شرع الله محكم، وإن شرع الله عز وجل قد تضمن كل معاني الإنسانية، ومعاني حسن العشرة الأسرية حتى يحفظ مسيرة المجتمع كله.

يقول الرازي في تفسيره: الذي يدل على تخفيف الضرب الابتداء بالوعظ، ثم الترقي منه للهجر في المضاجع، ثم الترقي منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق.

ثم ما هو هذا الضرب؟

ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عمرو بن الأحوص في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على زوجها؟ قال: (أن يطعمها مما يطعم، وأن يكسوها مما يكتسي، وأن يؤدبها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت).

وورد عن ابن عباس في تفسير هذا الضرب غير المبرح الذي ورد تصريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: (الضرب بالسواك ونحوه)، فهل المقصود بالضرب بالسواك هو ذلك التعذيب والإيلام، أو التسلط والتحكم؟

إنه معنى تأديبي، إنه معنىً توجيهي، إنه معنىً فيه إشارة إلى أن الأمر قد بلغ حداً تجاوزت فيه المرأة ما ينبغي أن تكون عليه.

وورد أيضاً في بعض التفاسير عن هذا الضرب أنه الذي لا يكسر عظماً، ولا يشوه جارحة كاللكزة ونحوها، وكالضربة البسيطة التي قد تضربها لصديقك وأنت ممازح له.

بل قد ورد في التفسير عن بعضهم: أن يضربها بمنديل ملفوف، معنىً من المعاني وليس ضرباً من الضرب المعروف الذي سيأتي ذكر بعضه.

بل قد ورد في صحيح الإمام البخاري حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه معنىً عظيم، ولفتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ينسون أنفسهم، وينسون حق أزواجهم، وينسون حسن العشرة، وينسون ما ينبغي أن تبنى عليه الأسرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).

قال ابن حجر في تفسيره: في الحديث استبعاد الجمع بين الأمرين، كيف يضرب ثم يعاشر؟ فإن أراد هذا فليمنع هذا، فإن النفرة تقع في قلب المرأة من ذلك التسلط أو التجبر وليس هو من دين الله عز وجل في شيء.

فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم تعضيداً لما جاء في التشريع القرآني: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، فانظر إلى هذا الحديث العظيم كيف جعل خيريتك في المجتمع المسلم مرتبطة بخيريتك لأهلك، وإحسانك لزوجك وأبنائك وبناتك، إن لم يكن لك خير في أولئك فأي خير يرجى منك لغيره؟! وفي حديث عمرو بن الأحوص قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، وهذا لفت نظر وتنبيه منه عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن وبيانه.

وانظر إلى تطبيق عملي وقع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي في سننهما، وصححه الحاكم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضربوا إماء الله، قال: فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -عمر الذي كان يخفق الرجال بالدرة- فقال: يا رسول الله! ذئر النساء على الرجال) -أي: نشزن لما أمن العقوبة أو كما يقال: سحبت الصلاحيات من الرجل أو الزوج- (فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضربهن) أي: بنصف التشريع الذي ذكرناه في مرتبته وقدره وحده (فطاف بأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء يشكين أزواجهن) وهذا يدلنا على انفتاح المجتمع المسلم، وكرامة المرأة، جاءت تشكو مما قد يكون وقع عليها من ظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف بآل رسول الله سبعون امرأة، كلهن يشكين أزواجهن ثم قال: ولا تجدون أولئك خياركم)، هؤلاء الذين يضربون أزواجهم ليسوا من خيار الناس ولا من كرمائهم، أي: إذا تجاوزوا الحد المشروع.

أي كرامة، وأي شخصية، وأي مروءة عند هذا الرجل الذي يضرب زوجته ضرباً مبرحاً لا يتقي فيه وجهاً، ولا يخشى فيه أذىً أو جرحاً، فهذا لا شك أنه قد خرج عن حد المروءة المتعارف عليها بين الناس، الرجل في الجاهلية القديمة كان ربما يعف عن مثل هذا ويترفع عنه، ويقول شاعر العرب في ذلك:

سمعت بأقوام يضربون نساءهم ألا شلت يميني حين أضرب زينب

الرجل الشهم لا يرى ضرب المرأة إلا لوناً من ألوان الدناءة؛ لأن المرأة بطبعها وضعفها وقدرته عليها ينبغي أن لا يدفعه ذلك إلى مثل هذا.

إذاً: الأمر بسبب خلاف أو تقصير أو مخالفة من الزوجة، ثم قبله مراحل سابقة، ثم هو محدود بمواصفات معينة ليس مطلقاً لمن شاء أن يفعل كما يشاء.

وأخيراً: فإن له نهاية ملزمة، وله حد يتوقف عنده، وهذا الحد جاء في قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34]، أي: زال السبب الذي كان سبب العقوبة: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].

وتوقف أهل التفسير عند السر في ذكر اسم (العلي والكبير) من أسماء الله في هذا الموضع بالذات، رغم قلة تكرر تلازم الاثنين في خواتيم الآيات، فقال القرطبي رحمه الله: في هذا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد على امرأته فالله له بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر، وهذا أعظم إنصاف، وأعظم حرية، وأعظم حق يعطى للمرأة، فإن الله جل وعلا جعل مقام العلو والكبرياء الذي له تذكيراً وتنبيهاً وتهديداً وزجراً للأزواج أن لا يتجاوزوا الحد، فإن الله أعلى وأكبر منه.

وزاد الرازي على هذا الوجه وجوهاً أخرى فقال في تفسيره في سر هذا الختم للآية القرآنية: إن النساء عندهن ضعف وعجز عن الانتصاف، فلئن عجزن عنه فإن الله العلي الكبير ينتصف لهن ممن بغى عليهن.

وقال أيضاً: إن الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يكلفكم أيها الناس إلا ما تطيقون، فكذلك أيها الرجال إن كان لكم علو أو تكبر أو قوة فلا تكلفوا النساء إلا ما يطقن، وكذلك الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، فلا تأخذوا النساء إذا رجعن إلى الطاعة .. إلى غير ذلك من الأسرار الكثيرة التي ذكرت في تفسير هذه الآية، وتنبيه المسلمين إلى الحد الذي ينبغي أن يعرفوه وأن ينتهوا إليه، ولذلك ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، فهذا كله تذكير وتنبيه للمسلم ووضع لهذا التشريع في مكانه الصحيح، وفي موقعه الذي ينبغي أن يعرفه المسلم.

وقال الإمام ابن حجر في شرحه لبعض هذه الأحاديث: ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، يعني: إن كان يكفي التهديد بأني سأفعل وأفعل فتخاف وترتدع وتستقيم فيكفي هذا التهديد عن الفعل، قال: لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن العشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله عز وجل.

وفي حديث عائشة الذي يرويه النسائي في سننه قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئاً إلا في سبيل الله، أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله).

إذاً: لو تأملنا هذا لوجدنا أن هذه الطاعة للزوج من المرأة في مصلحتها، وهي كذلك في مقابل أمر آخر مهم، وهو قوله جل وعلا: وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالزوج الذي كلف بالنفقة والحماية والرعاية والدفاع عن الأسرة كان له في مقابل ذلك حق القوامة والطاعة.

والأمر الآخر: أن الطاعة ليست تسلطية تجبرية، بل هي في المعروف، ولا تجوز في معصية الله، ولا تجوز بالتشهي والهوى، وإنما بما يؤدي تحقيق قول الله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وأن لا يكون شيئاً مما قد يقع في نفس الرجل دافعاً للعدوان أو للتعدي على المرأة دون ما سبب مباشر منها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة-أي: لا يبغضها- إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).

ثم ينبغي أن ندرك أيضاً أن التشريع جاء بهذه المراتب المتدرجة، وجاء بالضرب بحدوده الخفيفة الهينة التي لا تتجاوز حد التأديب والتوجيه إلى حد الإهانة أو العبودية أو التسلط، وإنما بهذا المقدار فحسب، ثم جاء الأمر حاسماً بأنه إذا عادت الطاعة، وانسجمت الأسرة رفع هذا الوجه من وجوه التأنيب والتأديب، وبقي للمرأة إعزازها وكرامتها وحقها وحريتها وحسن معاشرتها.

وينبغي أن ندرك أيضاً أن الطاعة في هذا المجال أو في مجال الأسرة هي أمر أيضاً فيه اشتراك بين الرجل والمرأة، فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فالأمر فيه تكامل وتعاون لا تصادم وتضاد، فليس هناك عندنا في شرع الله عز وجل بحمد الله ما يفضي إلى وجود التسلط أو العبودية.

والمرأة لها حقها في مالها رغم زواجها، ولها حقها في التصرف في أمورها الخاصة فيما لا يتعارض مع حق الزوج، فلها أن تبيع من مالها أو تشتري، أو تهدي أو تتصدق، وليس للزوج أن يكرهها، له أن يوجهها أو أن ينصحها أو أن يرى لها الخير في ذلك، ولها أن توكله وأن تترك له الحق أن يتصرف في بعض شأنها، فالأمر على حسن العشرة ليس على هذا الفرض، وانظر إلى قضية استقلالية شخصية المرأة في بيئة الإسلام وبينما يدعونه أو يقولونه في هذه الحضارات المعاصرة.

موقف واحد أختم به الحديث لننطلق بعده إلى مواقف أخرى: المرأة اليوم في الإسلام وفي كل سائر عصوره تتزوج فتبقى شخصيتها واسمها ونسبها وصلتها بأسرتها وعائلتها، ورجال ونساء الحضارة الغربية اليوم إذا تزوجت المرأة شطب اسمها واسم أبيها وأسرتها إن كان لها اسم أب أو اسم أسرة، ثم صارت تنسب إلى هذا الرجل، كأنما هي في الحقيقة بهذا المعنى تمثل أعظم صور التبعية والذيلية والانقيادية، وسار على ذلك وللأسف بعض المسلمين، فصارت المرأة فلانة الفلانية يذكر بعد ذلك نسب زوجها أو تنسب إلى اسمه أو إلى عائلته، مع أنه ليس اسمها ولا عائلتها.

نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يعرفنا بتشريعات ربنا، وأن يلزمنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

إن طاعة المرأة لزوجها أمر مطلوب، لكن لما نظهر هذا الشق ونخفي آخر، استمع معي إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ فقال: زوجها، ثم سئل: أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ فقال: أمه)، فالمرأة هنا تطيع وهنا تطاع، فلم نغفل هذا الجانب الذي فيه إعزاز وإكرام للمرأة؟! وكذلك الجانب الأول سيظهر أثره وبيانه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في هذا الحديث أن أعظم حق على الرجل هو حق أمه، براً بها وطاعة لها، وحرصاً على رضاها.

والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجل يسأله: (يا رسول الله! أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأين أدعياء حقوق المرأة وحريتها من هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ وما من أحد من الرجال إلا وله أم مهما كبر سنه، أو علا قدره، أو زاد علمه، أو كثر ماله، فإنه ابن لها، عليه برها، والجنة تحت أقدامها، وطريق رضوان الله عز وجل في طاعتها، فأي إعزاز وأي إكرام لما ننظر لطاعة المرأة لزوجها ولا ننظر لطاعة الرجل لأمه؟

أمر آخر: وهو أن قضية الضرب أو الولاية مسبوقة بتشريعات ربانية حكيمة بالغة في تقدير المرأة، معطية للمرأة أعظم الحقوق، وأكثرها طمأنينة لقلبها، وحفظاً لحقها، وحماية لعرضها، وإعلاءً لمنزلتها، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، والآية أمر رباني قرآني بصيغة الأمر الجازم الذي لا يحتمل تأويلاً، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فإن الله جل وعلا بالتشريع الإسلامي والآيات القرآنية أنزل هذه الأوامر الربانية التي تفرض وتلزم الرجال أن يحسنوا عشرة النساء.

وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن الآية مطلقة، وَعَاشِرُوهُنَّ [النساء:19]، أي: أيها الرجال عاشروا النساء بإطلاق، وإن كان يغلب على الآية تخصيصها بالأزواج في السياق؛ لكنها تشمل عشرة الأم وإحسان عشرتها بالبر والطاعة، وعشرة البنت وإحسان عشرتها بالعطف واللطف والرحمة والرعاية والتربية، وإحسان عشرة الزوجة، وذلك كما ذكر القرطبي في تفسيره: بتوفية حقها من مهرها والنفقة، وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: هي المخالطة والممازحة، فأمر الله جل وعلا بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن ليكون حسن الصلة فيما بينهم وصحبتهم على الكمال.

وقال بعضهم في المعاشرة بالمعروف -أي: في تفسيرها-: أن يتصنع لها كما يحب أن تتصنع له، أي: أن يتجمل لها ويريها منه ما يرغبها فيه كما يحب أن يرى منها ما يرغبه فيها.

ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]: طيبوا أقوالكم لهن، وأحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228].

ثم قال: وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسعهم النفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يجلس مع سائر نسائه بعد صلاة العشاء ويتعشى، ثم ينصرف إلى بيت التي هي ليلتها، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أين هذا التشريع المحكم الذي فيه إعزاز المرأة، وحسن الصلة بها، وتقديم حقها، والتلطف معها، واللين معها، من ذلك الجانب الذي يذكرونه بمعزل عن هذا كأنما يذكرون شقاً وينسون شقاً؟! كما قال قائلهم:

ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا

فقد ذكر فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ولم يتم الآية.

فالذي شرع القوامة شرع قبل ذلك أمراً من الله جل وعلا للرجال بأن يحسنوا معاشرة النساء، وأن يحافظوا على حقوقهن.