خطبة عيد الفطر


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، والله أكبر كبيراً.

الحمد لله خلق كل شيء وقدره تقديراً.

الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

الله أكبر كلما صلى مؤمن وأناب.

الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب.

الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

الحمد لله على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

معاشر المؤمنين! العيد فرحة، والفرحة لا تكون إلا بالنعمة، والنعمة نعمتان: نعمة باطنة، وأخرى ظاهرة، نعمة معنوية وثانية حسية، نعمة روحية وأخرى بدنية، ولقد أتم الله علينا نعمته، وزادنا من فضله، فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً.

إن المتأمل من أهل الإيمان يستشعر عظمة نعمة الحق سبحانه وتعالى في نعمة الإيمان والإسلام، ونعمة الطاعة والعبادة، ونعمة الأمن والأمان، ونعمة الرزق ورغد العيش، ونعم أخبر الله جل وعلا أن أحداً لا يستطيع حصرها، ولا يمكن أن يقدر قدرها، ولا أن يوفيها حق شكرها، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].

أحبتنا! إخواننا! أهل ملتنا وديننا! العيد فرحة عظمى؛ لكنها فرحة دين، لكنها فرحة طاعة، لكنها فرحة عبادة، قال عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فلا تخرج أفراحنا عن ديننا، بل إن ديننا هو سبب أفراحنا، فما من عيد إلا بعد ركن وطاعة وعبادة من العبادات العظمى التي تجمع أهل الإسلام والإيمان في كل الأقطار على صفة واحدة وهيئة واحدة، فما أجلها من نعمة! وما أعظمها!

تأمل أخي! هذه النعم: نعمة الإيمان والإسلام، قال عز وجل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، والله جل وعلا يسوق لنا النعم في سياق منته وفضله سبحانه وتعالى علينا، كما قال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، أليست نعمة الإيمان نشعر بها طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، واستقامة جوارح، وبركة رزق، ورغد عيش، وخيراً كثيراً ليس له أول ولا آخر؟ ألسنا نشعر بهذه النعم ونستحضر قول الحق جل وعلا: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]؟

إننا نستشعر هذه النعمة كلما رأينا قسوة القلوب، وظلمة النفوس، وضلال العقول، وانحراف السلوك فيما نراه في هذا العالم من حولنا يموج بالكفر، ويفيض بالعهر والفسق.. نسأل الله عز وجل السلامة!

فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53].

وحتى تستشعر هذه النعم تحتاج منك إلى ذكرها، وتحتاج منك إلى شكرها، قال عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فمن أراد هذه النعمة أن تبقى وأن تحفظ، وأن تزاد وأن تضاف؛ فإن طريق ذلك شكرها، وشكر النعم يكون في الباطن إقراراً واعترافاً ورضاً وتسليماً، ويكون شكر النعم في الظاهر قولاً وإظهاراً لها وإشهاراً لها وإعلاناً بها، فنحن نؤذن كل يوم، ونردد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة، ونذكر الشهادتين في كل الأحوال تحدثاً بنعمة الله وإظهاراً لها.

ثم بعد ذلك يجب شكر النعم بالأفعال، قال عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، فتلك هي ما ينبغي لنا أن نحرص عليها، وأن نتواصى بها، وأن يكون لنا حظ دائم منها؛ عل الله عز وجل أن يزيد لنا فضله، ويضاعف علينا نعمه، ويواصل بنا لطفه سبحانه وتعالى.

ونحن في هذه الديار قرب مهبط الرسالة العظيمة ومثوى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نشعر بهذه النعمة، فلا نرى في جملة أحوالنا ما يناقضها ولا ما يعارضها، ولا ما يخالفها أو ينحرف بها عن مسارها، وتلك نعمة عظمى يعرفها من رأى غيرها في بلاد الإسلام المختلفة.

فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، نحمد الله على نعمة الطاعة والعبادة، ففي رمضان كان القرآن يتلى في المحاريب، وكانت المساجد تغص بالمصلين، وكان الإنفاق في كل الأحوال وفي سائر الأوضاع، وكانت القلوب لله عز وجل خاشعة، والعيون من خشيته سبحانه وتعالى باكية، والأيدي تسأل من عطائه ضارعة، فالله الله! في هذه النعمة أن نقدر قدرها، إنها نعمة يحرم منها كثير من الناس، فنعمة الطاعة والتوفيق لها، ونعمة العبادة والاستقامة عليها من أعظم نعم هذه الدنيا التي تنفعنا في الآخرة، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].

ولما طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجز خلاصة الإسلام كله قال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، فهي نعمة عظمى كما قال الحق جل وعلا: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:162] كل هؤلاء في سياق واحد: أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:162].

إنها نعمة عظيمة ينبغي أن نستشعرها إذا استشعرنا غيرها، إذا استشعرنا يوم مرض أقعدنا عن الطاعة، أو استشعرنا شبهة شوشت علينا الاستقامة، أو وقعنا أسرى لشهوة أغرقتنا في معصية.

فكم نرى من الناس أسارى شهواتهم! وكم نرى من الناس قاعدين مع ضعف نفوسهم وهممهم! وكم رأينا المساجد ممتلئة وكانت الأسواق بالناس غاصة! أليس أولئك محرومين من تلك النعمة؟! أليس الذين شغلوا بالأدنى عن الذي هو أسمى قد فقدوا خيراً كثيراً، وحرموا نعمة عظيمة؟! إنها نعمة ينبغي لنا أن نتدبرها، وأن نتأملها، وأن نذكرها، وأن نشكرها، وليس شكرها إلا بالاستقامة عليها، فينبغي ألا تعود المساجد خاوية بعد أن كانت ممتلئة، وألا تعود المصاحف مهجورة بعد أن كانت متلوة، وألا تعود الصلات منقطعة بعد أن كانت ممتدة، فلا ينبغي أن نرتد على أعقابنا خاسرين، ولا ينبغي لنا أن نبدد ما أكرمنا الله عز وجل به من الخيرات وما ضاعف لنا من الحسنات فنمحقها بالمخالفات، ونبيدها ونضاعف أضعافها مما يعاكسها ويناقضها من السيئات، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذكر نعمته وشكرها، والحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً!

نحن أيضاً في نعمة أمن وأمان، نعمة نتفيأ فيها ظلال الطاعة والقلوب مطمئنة، والنفوس مستقرة، والأحوال هادئة، والأهل والأولاد محيطون، فتأمل هذه النعمة! لو رأيتها وحدها لرأيت أن كل ما في الدنيا لا يقدر مقدارها؛ بل لا يأتي عشر معشارها، فكيف بما هو سابق لها من تلك النعم كالإيمان والعبادة والطاعة؟! قال عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، ألسنا نرى أحوال إخواننا في العراق؛ لا يأمن أحدهم على نفسه، لا يستطيع أن يجتمع بأهله، لا يدري إذا خرج هل يرجع إلى سربه؟! ألا نتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، وذكر أهل العلم في تفسير قول الله عز وجل: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] قالوا: من كان له سكن وخادم، وعنده قوت يومه فهو ملك. فكلنا أو جلنا ملوك بفضل الله عز وجل.

يأتي من ينظر إلى شيء من تعسير أو قلة ذات يد فإذا به يجحد، وإذا به يتذمر، وإذا به يعترض على قسم الله عز وجل، وينسى النعم العظيمة الكثيرة التي عليه.

إننا نعرف وندرك أن أربعة وخمسين ألفاً في غضون أيام قلائل ماتوا في زلزال باكستان، ويتبعهم أكثر من سبعة وسبعين ألفاً من الجرحى، وما يقرب من أربعة ملايين من المشردين، إننا نسمع التقارير عن أربعة ملايين ونصف مليون من الأيتام في بلد واحد! فأين هذا كله مما نحن فيه من نعم الله عز وجل؟ فكيف تجحد وتنسى؟ ألا نتذكر وننتبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم من رواية أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) .

قم بزيارة هذا اليوم إلى إحدى المستشفيات، فستحمد الله أنك تمشي على قدميك، وأنك تبصر بعينيك، وأنك تأكل الطعام فتستلذه، ولا يصيبك شيء مما لو قلت لأحدهم: ما تريد؟ لقال: عافية بدني وصحة جسدي. أفليست هذه نعماً؟!

وقد روى هذا الحديث الترمذي بلفظ أكثر وضوحاً وجلاءً من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من فُضل عليه في الخلق والرزق -كما نرى اليوم ونقول: هذا عنده السيارات، وعنده الفلل والقصور، وعنده الأموال- فلينظر إلى من أسفل منه -ممن فضل هو عليه- فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه) .

فكم هذه النعم تحتاج منا إلى أن نتذكرها وأن نشكرها! وكم هي نعم الله سبحانه وتعالى وفيرة! فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

قال عز وجل: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، لكن بطراً أو أشراً أو تبذيراً يحصل من الناس في مثل هذه الأيام؛ وكأنما هو عدم إقرار بهذه النعم، أو كأنما هو -والعياذ بالله- استجلاب لمحقها؛ إذ توضع في غير موضعها، وخاصة إذا استغلت النعمة فيما حرم الله، فمن أنفق مالاً ليقتني ما حرم الله، أو ليدخل إلى الأماكن التي فيها ما حرم الله، أو ليعين على شيء مما حرم الله فإنه قد جحد أعظم جحود لنعمة الله يوم جعلها في معصية الله التي آتاه الله إياها.

وعجباً لأمر الناس! خير الله إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد! يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي! ونعمتنا أن أفراحنا دين وعبادة وطاعة، كما قال عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].

إننا في العيد نصل عبادة رمضان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله) .

إننا نصل عبادة بعبادة، وطاعة بطاعة، وبينها ومعها فرح بنعم الله عز وجل كلها ظاهرة وباطنة، فرح نعلن فيه إقرارنا بفضل الله، ونذكر فيه نعم الله، ونستقيم فيها على شرع الله عز وجل، ولا نقع في معصية الله، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.