الكلمة مسئوليتها وفاعليتها


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة.

أما بعد:

فهذا الموضوع عنوانه: الكلمة مسئوليتها وفاعليتها.

والحق أن هذا الموضوع متشعب الجوانب، ويطول الحديث فيه، إلا أن التركيز سيكون على بعض ما أحسب أنه أكثر أهمية، وفي الوقت نفسه أكثر دروجاً واستعمالاً في واقع حياة الأمة المسلمة، وواقع حياة شباب الصحوة والدعوة على وجه الخصوص، وعندما نقول: (الكلمة) فلا نعني بها -قطعاً- الكلمة المفردة، وإنما الكلمة الكلام، كما قال ابن مالك :

كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم

واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم

أي: يقصد بالكلمة الكلام. وعندما نقول: كلمة الحفل ليست هي كلمة واحدة، وإنما مجموع ذلك القول يقال له: كلمة.

إذاً الكلمة هي كل كلام ينطق أو يكتب.

وللكلمة سبيل لوصولها ونشرها، ألا وهو النطق بها عن طريق اللسان وتستقبلها الآذان، أو الكتابة لها على صفحات الورق وتستقبلها العيون بالقراءة والاطلاع.

وأول ما أبدأ به أهمية الكلمة.

إن الكلمة تكاد تكون كل شيء في حياة الإنسان عموماً، فهي ذات جوانب متعددة في الأهمية:

الأمر الأول: إعلان المبادئ والمعتقدات، فالكلمة هي التي تعلن بها إسلامك وإيمانك، كما أنها هي التي يعرف بها كفر الكافرين وجحود الجاحدين، كما قال القائل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

والألسنة -كما يقال- مغاريف القلوب، هي التي تعبر عما استقر فيها من الإيمان والمعتقدات، ولذلك قال جل وعلا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26] وكلمة التقوى هنا هي كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين الذين كفروا وظهر كفرهم على فلتات ألسنتهم في غزوة تبوك: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74] فذاك إعلان بإسلام وهذا والعياذ بالله نطق بكفران.

الأمر الثاني: الكلمة يقع بها إبرام العقود والمعاهدات، فأنت إذا أردت أن تبيع وتشتري فعقد ذلك وصحته مبني على النطق بالكلمة، بأن يقول الأول: بعت. ويقول الآخر: اشتريت. بل حتى فيما هو أعظم من ذلك من العقود التي وصفها الله عز وجل بأنها غليظة مؤكدة كعقد الزواج، بأن يقول الأول: زوجتك. ويقول الآخر: قبلت. فينعقد عقد له أهميته، قال الله جل وعلا فيه: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21] وبهذه الكلمة أيضاً تعقد وتبرم المعاهدات، كما كان في معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم التي أبرمها مع اليهود في أول قدومه المدينة، وكما كان يعقد المعاهدات أيضاً مع قريش كما في صلح الحديبية، وكما هي سائر العقود والمعاهدات التي تبدأ بكلمة كما أنها تنقض بكلمة، فعقد الزواج الذي يقع بالكلمة كذلك يفصل بكلمة الطلاق، فليست الكلمة مجرد أحرف ينطق بها، ولا هي مجرد الصوت الذي يقال فيه: إنه تموج الهواء عند اصطدام جسمين أو تباعدهما، أو اهتزاز الأحبال الصوتية. بل الكلمة أعمق من ذلك، هي الحكم والعقل والتفكير والإرادة والنظرة المستقبلية التي يعمل التفكير في هذه الجوانب كلها قبل أن ينطق بها، فلا يُعقد عقد ولا يُبرم عهد بمجرد كلام سائب لا خطام له ولا زمام كما يقال.

الأمر الثالث: النطق بالأحكام والاتهامات والتزكيات، فاللسان هو الذي ينطق بالحكم فيقرر الإدانة، أو يعلن البراءة، كما أنه هو الذي يقذف بالتهم التي قد تكون صحيحة وقد تكون باطلة، فهذا يتهم ذاك بسرقة أو زناً، والله جل وعلا قد جعل لذلك حداً إما أن يثبت مثل هذا الجرم، وإما أن يكون قد قذف بغير علم أو بغير بينة، فيكون مؤاخذاً على هذه الكلمة، بل محدوداً عليها كما هو معروف في حد القذف الذي يرمي به الإنسان غيره بتهمة الزنا والفاحشة، نسأل الله عز وجل السلامة، كما أن هذا اللسان وهذه الكلمة هي التي تصف الإنسان بإسلام وإيمان، أو قد يتجاوز الأمر إلى اتهام بتفسيق أو تبديع أو كفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) فليست الكلمة أمراً هيناً، بل لها أعظم أهمية في مثل هذا الميدان الخطير.

الأمر الرابع: الخوض في المنهيات والمحرمات، وحسبك أنك قد لا تستطيع أن تحصي آفات اللسان من تدخل فيما لا يعني، ومن فضول كلام، ومن خوض في باطل، ومن كذب وغيبة ونميمة ومراء وجدال ومزاح في غير الحق، وغير ذلك من الأمور التي يطول ذكرها، كلها أيضاً يقع الخوض فيها باللسان نطقاً أو كتابة، أو بالكلمة نطقاً أو كتابة.

الأمر الخامس: اللهج بالأذكار والدعوات، وهذا جانب أيضاً من جوانب الخير والعبادات، فإن أكثر العبادات مبني على النطق بالكلمات، فالصلاة تلاوة للقرآن وترديد للأذكار ونطق بالدعوات، إضافة إلى ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وغير ذلك، كله أيضاً يكون بهذه الكلمة.

الأمر السادس: نشر الدعوة والتعليم، سواء أكانت هذه الدعوة دعوة خيرة أم غير خيرة، وسواء أكان هذا التعليم نافعاً أو ضاراً، فاللسان والكلمة على وجه الخصوص هي التي تنشر تلك الدعوة أو تروج لذلك العلم، ولذلك كل هذه الجوانب لو تأمل الإنسان فيها لوجد أنها تحيط بمعظم مجريات الحياة ومعظم ما يتعامل به الناس، فإن أمر العقائد والمبادئ، وأمر العقود والمعاهدات، وأمر الأحكام والاتهامات، وأمر المنهيات والمحرمات، والطاعات والعبادات، ثم الدعوة والتعليم يكاد يكون جل -إن لم يكن كل- جوانب الحياة.

للسان خصائص كثيرة، ويظهر ذلك في أمور كثيرة، منها:

الأمر الأول: اللسان واسع المدى رحب الميدان.

فأنت إذا أردت أن تنال من شخص بيدك فإنه لا يقع لك ذلك إن لم يكن قريباً منك، أو لم تكن متمكناً منه حتى توجعه ضرباً أو غير ذلك، وإذا أردت أيضاً أن تصيبه -على سبيل المثال- بطلقة رصاص فإنه لابد أن يكون شاخصاً أمامك، ولو كان عن بعد لا تستطيع أن تصيبه دون أن تراه، وأية وسيلة من وسائل إلحاق الأذى أو إيصال النفع لا يمكن إلا أن تكون بطريقة مباشرة، سواء كانت مباشرة قريبة لصيقة، أم كانت مباشرة محدودة أو نسبية، بينما اللسان يمكن أن يقوم بكل هذا دون أن يحتاج إلى مثل هذه القيود أو الضوابط، فهو يستطيع أن يبلغ من الآخرين مقتلاً دون أن يراهم، بل ربما دون أن يعرفهم، بل ربما لم يسمع عنهم إلا مرة واحدة، وكذلك يستطيع أن يسوق الخير لإنسان وإن كان بعيداً عنه وإن كان لا يراه، إذ إنه واسع المدى رحب الميدان، لا يحده حد ولا يسده سد كما يقال.

الأمر الثاني: سهولة الاستعمال.

فليس عضو من أعضاء الإنسان أسهل حركة وأيسر استعمالاً من اللسان، إذا أردت أن ترجم بيدك فإن هناك جهداً وعناء، وتحتاج أن تكون في وضع وهيئة معينة، وإذا أردت أن تتحرك وأن تمشي برجلك فلابد أيضاً أن تبذل جهداً وأن تكون في وضعية معينة، أما هذا اللسان فإنك تتكلم به وأنت متكئ، وأنت مضطجع، وأنت واقف، وأنت في سرعة وشغل، وأنت في أية حالة من الأحوال يمكن أن تعبر بهذا اللسان، وأن تستعمله دون جهد أو عناء، وهذا أيضاً دليل على الخصائص التي تكمن فيها خطورة اللسان، إما أن تؤدي إلى مزيد من الخير، وإما أن تؤدي -إذا استخدمت في غير الخير- إلى مزيد من الشر والضرر.

الأمر الثالث: أن اللسان خفي المنال.

فأنت إذا ضربت إنساناً ما فلا يمكن أن تضربه بخفية، بل لابد أن تلامس يدك رأسه أو بطنه، وقد يظهر أثر ذلك أيضاً فَيُشَجُّ رأسه أو يصيبه الأذى المادي المحسوس، ولا يمكن أن تتبرأ من تبعة ذلك الفعل؛ لأن أدلته المادية واضحة شاهدة للعيان، أما اللسان فإنك يمكن أن تلسع به لسعاً ثم تهرب بعد ذلك هروباً يسعفك فيه اللسان نفسه فتقول: لم أقصد كذا، ولم أقل كذا. وإنما عنيت كذا، وقد تستخدم التلميح دون التصريح، وتستعين بالتورية عن الكذب، وتستطيع أن تبلغ مآرب شتى وأنت تخفي حقيقة ما أردت من الشر، أو تستر حقيقة ما تنوي من الخير، أما غير ذلك فإنه تلحظه العيون، وتلمسه الأيدي، ولا يمكن أن يخفى على الناس، وهذه الخصائص لها أثرها في النفع أو الضرر.

عندما رأينا أهمية الكلمة، والخصائص الواسعة والتصرفات المطلقة للسان والكلمة نقف وقفة مهمة أمام رعاية الشرع لأمر الكلمة وضبطه لها، وبيانه لخطورتها.

آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها

إذا وقفنا مع بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية نجد نصوصاً كثيرةً تنبه وتؤكد على تلك الأهمية، وتشير إلى الخطورة وعمق الآثار، كما تنبه إلى أبواب الخير وتحذر من أبواب الشر، وليس ذلك فحسب، بل ستجد في كلام الصحابة والسلف والعلماء، بل في كلام الحكماء، بل في الأمثلة والأشعار كلاماً طويلاً كثيراً في شأن الكلمة واللسان، بسبب تلك الأهمية والخصائص التي أشرت إلى بعض منها، فأنت تعلم قول الله جل وعلا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148] حتى ذكر السوء لا يقال؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة وتسهيلاً لها، وترويجاً لذلك السوء أو نشراً لذلك الظلم، أو تهويناً لأمر ما يخبر عنه ويشيع ذكره، ولذلك ذم الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب، ونهى الله عز وجل عن الاتهام للناس بالوقوع في الزنا ما لم يكن هناك بينة من شهود أربعة يشهدون شهادة واضحة صريحة لا تورية فيها ولا تلميح؛ لأن مجرد ذكر هذا القول يجعل الكلمة تشهر وتروج، ثم يروج من ورائها ما تتضمنه من ذكر الفواحش وتسهيلها على الناس، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18] بدأ بذكر الوسواس الذي يجول في الخاطر، ثم حذر الله عز وجل بما أعده من الأسباب الخفية والقدرة الشاملة التي لا تدع شاردة ولا واردة إلا أحصتها.

ثم ذكر أهمية القول والحساب عليه تنبيهاً على خطورته وتأكيداً لأهميته، ويقول الله عز وجل في آية المجادلة محذراً من شأن النجوى والتناجي بالإثم والعدوان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:8]، ثم ينادي الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:9-10] لو كانت النجوى التي تسر بها خيراً فما بالك لا تشيعها وتعلن بها؟! وما بالك تذكر أخاك بكلمات هامسة تنال فيها من عرضه أو تشوه صورته؟! إن كان في قولك حق فهو أولى أن تواجهه به في نصيحة خفية قصدها الخير ودافعها المحبة والشفقة.

ثم تأمل حديث سفيان الثقفي الذي أخرجه الترمذي وصححه، وكذا النسائي وابن ماجة ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: فما أتقي؟ فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لسانه) أي أنه نبهه إلى أن يتقي زلات اللسان وخطورة الكلمات.

وعند الترمذي بسنده -وحسنه- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه طلب الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وما أعظم هذا الحديث وأجل هذه الوصية! لو أن المسلم تأمل فيها في واقعنا المعاصر فسيجد أكثر الناس بعيدين عنها غير منتبهين لها.

وإمساك اللسان من الأمور الواجبات، وكذلك الضبط والتفكير والعلم الشرعي والورع الإيماني والإدراك الواقعي الذي ربما نعرج عليه إن شاء الله تعالى.

وفي حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة).

وفي رواية: (من يتوكل لي ...).

وحديث معاذ المعروف المشهور: (وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).

وحسبك حديثه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً وتحذيراً حيث يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).

ولذلك جعل ضبط الكلام وجعل الكلمة في مسار الخير مرتبطاً بالإيمان، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالكلمة لها مجرى ولها سبيل، إن غلب على الظن أنها تورث خيراً وإصلاحاً، وتقرب بعيداً وتؤلف نافراً، وتقوي همة في الخير فإن ذلك هو المسار الصحيح، أما إذا تحقق المرء بأن الكلمة التي ينطق بها أو يكتبها تدعو إلى فجور، أو تغري بفاحشة، أو تورث شحناء، أو توقد بغضاً وحقداً وحسداً فإنه مأمور شرعاً بأن يكف عنها، وإن نطق بها أو أجراها كتابة فإنه آثم يلحقه إثمها، كما يلحقه ما يترتب عليها من الأضرار والآثار الوخيمة الوبيلة؛ إذ إن المرء موكول بمنطقه إن خيراً فخير وإن شراً فذاك مما يئول إليه أيضاً.

أقوال وأشعار وأمثال تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها

أذكر بعض الأقوال والأمثال والأشعار التي نطق بها مسلمون وغير مسلمين، مما يدل على أن أمر الكلمة عموماً عند بني الإنسان لها هذه الأهمية، لما سبق من الإشارة إلى مجالاتها وخصائصها.

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) هذا اللسان قد جعله الله عز وجل أشبه بالمسجون، لكن العقل الذي لا يتدبر والقلب الذي لا يتذكر يطلق اللسان، فإذا به -وإن كان محدوداً في مساحته وفي إطاره- يشرق ويغرب ويؤذي، ويكون أذى اللسان أكثر من أذى السنان كما يقولون.

وهذا ابن وهب يقول: إن في حكمة آل داود مكتوباً: (حق على العاقل أن يكون عارفاً لزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه).

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.

** فهماً كاملاً من لم يضبط لسانه ويحفظه. .

وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه.

لكن انظر إلى واقعنا اليوم ستجد كلاماً طويلاً عريضاً، وادعاء هائلاً، وعملاً قليلاً، وحقيقة باهتة، لا تعدو أن يكون نسبتها إلى ذلك الكلام كنسبة القطرة إلى البحر إلا من رحم الله عز وجل.

وعن بعض الحكماء أنه قال: الصمت يجمع للرجل فضيلتين: السلامة في دينه، والفهم عند صاحبه.

فالذي يتكلم كثيراً لا يستطيع أن يفهم إلا قليلاً، وكما يقال: الجوارح تتوزع عليها المهام، فإذا اشتغل اللسان كثيراً يكون ذلك على حساب العقل والفطنة، وإذا امتلأ البطن بالطعام صار الحال كما قيل: إذا امتلأت البطنة ذهبت الفطنة. وهكذا عندما تركز البصر في أمر ما فإنك تجد أن سمعك لم يعد مدركاً، وعندما يجول خاطرك في قضية ما فإنك قد لا تسمع أو قد لا تبصر من مر بك؛ لأن الحواس إذا تركزت في جانب ربما يقل إدراك واستيعاب الحواس الأخرى لها.

وعن منح بن عبيدة أنه قال: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.

وعن بعض أهل الحكمة أنه قال: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.

لأنك إذا قلت الكلمة فمن الصعب عليك أن تردها؛ لأنه قد يمنعك من ذلك كبر، وقد يمنعك من ذلك أن من سمعها منك قد شرقوا وغربوا وتفرقوا، فلا تستطيع أن تنسخ تلك القولة عند كل أحد، وأما إذا لم تقلها فإنها ما زالت تحت سيطرتك تفكر فيها وتتأمل في مراميها ثم تخرجها عن بصيرة وعلم.

ولذلك قال الآخر: إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني.

وقال الشاعر أيضاً:

خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام

مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام

وفي كثير من الأمثال ما يدل على عمق وأثر هذه الكلمة، كما في بعض الأمثال: (رب كلمة قالت لصاحبها دعني).

أي: اتركني ولا تنطق بي؛ فإنك لا تدري ما أجر عليك من البلاء والوباء إذ لم تراع الله عز وجل في نطقي، أو لم تنتبه إلى ما يترتب على نطقي أو إشاعتي من خطر وزلل.

وكما قال قائل: إن الحرب أولها كلام.

وهذا كما وقع في قصة داحس والغبراء من نشوب حرب دامت سنوات بسبب موقف، ثم كلمة من هنا وكلمة من هنا وإذا بأرواح تزهق ودماء تجري وبيوت تهدم وديار تحرق، وهكذا، فعلى المرء أن لا يغفل عن هذه الخطورة.

يقول بعض المعاصرين: إن الكلمات الجميلة تؤدي إلى معان ونتائج طيبة تحتاج إلى التأمل، وتؤدي أيضاً إلى مزيد من تأكيد أهمية وخطورة الكلمة.

أما الكلمات السائبة فإنها تؤدي إلى نتائج خائبة، وهذه معادلة صحيحة، أي أن الكلمات السائبة التي لا اهتمام بها ولا ضبط لها فإنها في غالب الأمر تؤدي إلى نتائج خائبة.

ومخرج كلمة الخير والشر واحد والمفتاح بيدك، فتأمل ماذا تقول.

ومن لم يستطع وزن كلماته فليحتمل من خصمه لكماته، وهذه أيضاً واقعة، إذ قد يخطئ المرء بكلمة لا تجد عند الآخر محملاً فتكون اللكمة أسبق إليه من الكلمة.

يقول قائل: العاقل العالم لسانه وراء عقله، والجاهل عقله وراء لسانه، تراه لا يفكر إلا بعد أن ينطق بالكلمة وقد مضى القول وانتهى الأمر.

والكلمة البانية لا يستطيعها صاحب الكلمة النابية، فمن تعود على فحش القول وإشاعته، فإن كلامه في الغالب لا يوافقه، أو لا يتفق أن يكون كلاماً بانياً.

إذا وقفنا مع بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية نجد نصوصاً كثيرةً تنبه وتؤكد على تلك الأهمية، وتشير إلى الخطورة وعمق الآثار، كما تنبه إلى أبواب الخير وتحذر من أبواب الشر، وليس ذلك فحسب، بل ستجد في كلام الصحابة والسلف والعلماء، بل في كلام الحكماء، بل في الأمثلة والأشعار كلاماً طويلاً كثيراً في شأن الكلمة واللسان، بسبب تلك الأهمية والخصائص التي أشرت إلى بعض منها، فأنت تعلم قول الله جل وعلا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148] حتى ذكر السوء لا يقال؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة وتسهيلاً لها، وترويجاً لذلك السوء أو نشراً لذلك الظلم، أو تهويناً لأمر ما يخبر عنه ويشيع ذكره، ولذلك ذم الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب، ونهى الله عز وجل عن الاتهام للناس بالوقوع في الزنا ما لم يكن هناك بينة من شهود أربعة يشهدون شهادة واضحة صريحة لا تورية فيها ولا تلميح؛ لأن مجرد ذكر هذا القول يجعل الكلمة تشهر وتروج، ثم يروج من ورائها ما تتضمنه من ذكر الفواحش وتسهيلها على الناس، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18] بدأ بذكر الوسواس الذي يجول في الخاطر، ثم حذر الله عز وجل بما أعده من الأسباب الخفية والقدرة الشاملة التي لا تدع شاردة ولا واردة إلا أحصتها.

ثم ذكر أهمية القول والحساب عليه تنبيهاً على خطورته وتأكيداً لأهميته، ويقول الله عز وجل في آية المجادلة محذراً من شأن النجوى والتناجي بالإثم والعدوان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:8]، ثم ينادي الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:9-10] لو كانت النجوى التي تسر بها خيراً فما بالك لا تشيعها وتعلن بها؟! وما بالك تذكر أخاك بكلمات هامسة تنال فيها من عرضه أو تشوه صورته؟! إن كان في قولك حق فهو أولى أن تواجهه به في نصيحة خفية قصدها الخير ودافعها المحبة والشفقة.

ثم تأمل حديث سفيان الثقفي الذي أخرجه الترمذي وصححه، وكذا النسائي وابن ماجة ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: فما أتقي؟ فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لسانه) أي أنه نبهه إلى أن يتقي زلات اللسان وخطورة الكلمات.

وعند الترمذي بسنده -وحسنه- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه طلب الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وما أعظم هذا الحديث وأجل هذه الوصية! لو أن المسلم تأمل فيها في واقعنا المعاصر فسيجد أكثر الناس بعيدين عنها غير منتبهين لها.

وإمساك اللسان من الأمور الواجبات، وكذلك الضبط والتفكير والعلم الشرعي والورع الإيماني والإدراك الواقعي الذي ربما نعرج عليه إن شاء الله تعالى.

وفي حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة).

وفي رواية: (من يتوكل لي ...).

وحديث معاذ المعروف المشهور: (وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).

وحسبك حديثه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً وتحذيراً حيث يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).

ولذلك جعل ضبط الكلام وجعل الكلمة في مسار الخير مرتبطاً بالإيمان، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالكلمة لها مجرى ولها سبيل، إن غلب على الظن أنها تورث خيراً وإصلاحاً، وتقرب بعيداً وتؤلف نافراً، وتقوي همة في الخير فإن ذلك هو المسار الصحيح، أما إذا تحقق المرء بأن الكلمة التي ينطق بها أو يكتبها تدعو إلى فجور، أو تغري بفاحشة، أو تورث شحناء، أو توقد بغضاً وحقداً وحسداً فإنه مأمور شرعاً بأن يكف عنها، وإن نطق بها أو أجراها كتابة فإنه آثم يلحقه إثمها، كما يلحقه ما يترتب عليها من الأضرار والآثار الوخيمة الوبيلة؛ إذ إن المرء موكول بمنطقه إن خيراً فخير وإن شراً فذاك مما يئول إليه أيضاً.

أذكر بعض الأقوال والأمثال والأشعار التي نطق بها مسلمون وغير مسلمين، مما يدل على أن أمر الكلمة عموماً عند بني الإنسان لها هذه الأهمية، لما سبق من الإشارة إلى مجالاتها وخصائصها.

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) هذا اللسان قد جعله الله عز وجل أشبه بالمسجون، لكن العقل الذي لا يتدبر والقلب الذي لا يتذكر يطلق اللسان، فإذا به -وإن كان محدوداً في مساحته وفي إطاره- يشرق ويغرب ويؤذي، ويكون أذى اللسان أكثر من أذى السنان كما يقولون.

وهذا ابن وهب يقول: إن في حكمة آل داود مكتوباً: (حق على العاقل أن يكون عارفاً لزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه).

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.

** فهماً كاملاً من لم يضبط لسانه ويحفظه. .

وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه.

لكن انظر إلى واقعنا اليوم ستجد كلاماً طويلاً عريضاً، وادعاء هائلاً، وعملاً قليلاً، وحقيقة باهتة، لا تعدو أن يكون نسبتها إلى ذلك الكلام كنسبة القطرة إلى البحر إلا من رحم الله عز وجل.

وعن بعض الحكماء أنه قال: الصمت يجمع للرجل فضيلتين: السلامة في دينه، والفهم عند صاحبه.

فالذي يتكلم كثيراً لا يستطيع أن يفهم إلا قليلاً، وكما يقال: الجوارح تتوزع عليها المهام، فإذا اشتغل اللسان كثيراً يكون ذلك على حساب العقل والفطنة، وإذا امتلأ البطن بالطعام صار الحال كما قيل: إذا امتلأت البطنة ذهبت الفطنة. وهكذا عندما تركز البصر في أمر ما فإنك تجد أن سمعك لم يعد مدركاً، وعندما يجول خاطرك في قضية ما فإنك قد لا تسمع أو قد لا تبصر من مر بك؛ لأن الحواس إذا تركزت في جانب ربما يقل إدراك واستيعاب الحواس الأخرى لها.

وعن منح بن عبيدة أنه قال: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.

وعن بعض أهل الحكمة أنه قال: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.

لأنك إذا قلت الكلمة فمن الصعب عليك أن تردها؛ لأنه قد يمنعك من ذلك كبر، وقد يمنعك من ذلك أن من سمعها منك قد شرقوا وغربوا وتفرقوا، فلا تستطيع أن تنسخ تلك القولة عند كل أحد، وأما إذا لم تقلها فإنها ما زالت تحت سيطرتك تفكر فيها وتتأمل في مراميها ثم تخرجها عن بصيرة وعلم.

ولذلك قال الآخر: إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني.

وقال الشاعر أيضاً:

خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام

مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام

وفي كثير من الأمثال ما يدل على عمق وأثر هذه الكلمة، كما في بعض الأمثال: (رب كلمة قالت لصاحبها دعني).

أي: اتركني ولا تنطق بي؛ فإنك لا تدري ما أجر عليك من البلاء والوباء إذ لم تراع الله عز وجل في نطقي، أو لم تنتبه إلى ما يترتب على نطقي أو إشاعتي من خطر وزلل.

وكما قال قائل: إن الحرب أولها كلام.

وهذا كما وقع في قصة داحس والغبراء من نشوب حرب دامت سنوات بسبب موقف، ثم كلمة من هنا وكلمة من هنا وإذا بأرواح تزهق ودماء تجري وبيوت تهدم وديار تحرق، وهكذا، فعلى المرء أن لا يغفل عن هذه الخطورة.

يقول بعض المعاصرين: إن الكلمات الجميلة تؤدي إلى معان ونتائج طيبة تحتاج إلى التأمل، وتؤدي أيضاً إلى مزيد من تأكيد أهمية وخطورة الكلمة.

أما الكلمات السائبة فإنها تؤدي إلى نتائج خائبة، وهذه معادلة صحيحة، أي أن الكلمات السائبة التي لا اهتمام بها ولا ضبط لها فإنها في غالب الأمر تؤدي إلى نتائج خائبة.

ومخرج كلمة الخير والشر واحد والمفتاح بيدك، فتأمل ماذا تقول.

ومن لم يستطع وزن كلماته فليحتمل من خصمه لكماته، وهذه أيضاً واقعة، إذ قد يخطئ المرء بكلمة لا تجد عند الآخر محملاً فتكون اللكمة أسبق إليه من الكلمة.

يقول قائل: العاقل العالم لسانه وراء عقله، والجاهل عقله وراء لسانه، تراه لا يفكر إلا بعد أن ينطق بالكلمة وقد مضى القول وانتهى الأمر.

والكلمة البانية لا يستطيعها صاحب الكلمة النابية، فمن تعود على فحش القول وإشاعته، فإن كلامه في الغالب لا يوافقه، أو لا يتفق أن يكون كلاماً بانياً.

بعد أن ذكرنا مسئولية الكلمة وأهميتها وخصائصها وخطورتها نذكر بعد ذلك فاعلية الكلمة، وسنذكر لفاعلية الكلمة عدة أوجه.

أولاً: القبول والتصديق

الكلمة تنطق بها وتكتبها فتجد من يقبلها ويصدقها، وقد يساعد على ذلك أمور، منها: الصلة والثقة، فإذا كنت موضع ثقة عند السامعين لك فإن كل كلمة تقولها يأخذونها مأخذ القبول والتصديق، ويعتبرونها مسلمة ويبنون عليها تصرفات وأحكاماً إلى غير ذلك.

ومن أساليب الوصول إلى القبول والتصديق: التركيز والتكرار، وهذا ما تستخدمه وسائل الإعلام، فمع طلوع الفجر تذكر الخبر، وعند الظهيرة تؤكده، وعند العصر تردده، ثم تصوره، حتى يصدق الناس ما كان كذباً من الأخبار، وكما يقول بعض الناس -وهي مقالة باطلة، لكن لنا في الواقع بعض الشواهد الناطقة-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس. وكما نسمع في الطرفة الدائمة أن أشعب دعا الناس إلى وليمة كاذبة، فكان كلما لقي واحداً قال له: العشاء عند فلان. فتناقل الناس الخبر، وصار هو يسمع ما يتناقله الناس من أن العشاء عند فلان، فقال: لعل الخبر صحيح. فذهب مع الناس.

وهكذا الكلمة عندما تترد وتتكرر وتتنوع أساليبها وتغزو عقول الناس فإنهم يقبلونها ويصدقونها، بل تكاد الكلمة عبر وسائل الإعلام أن تحاصر الإنسان محاصرة، فهي تغزوه من جهة النظر، وتغزوه من جهة السمع، فغزوه من جهة النظر عبر القراءة وعبر المشاهدة، ومن جهة السمع عبر الإذاعة وعبر وسائل أخرى متنوعة من شريط وبث مباشر وغير مباشر، فيقع للكلمة فاعليتها الخطيرة.

ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خطورة الكلمة التي تنتشر وتذاع لكثير من الناس دون الكلمة التي تخص؛ لأنك لو قلت كلمة لفرد واحد وأخطأت فيها فإن الأمر هين وميسور، ويمكن أن يصحح الخطأ، لكن الكلمة التي تنتشر وتذاع وتعم الآفاق في بضع ساعات، بل ربما في بضع دقائق، بل ربما في بضع ثوان هذه كلمة خطيرة.

فمن هذا ما ورد في صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه رأى في رحلته إلى السماوات العلا رجلاً يوضع في شدقيه كلاليب من نار، يشق بها شدقه الأيمن من أوله إلى آخره، ثم يشق بها شدقه الأيسر فيعود الأيمن كما كان، ثم يشق مرة أخرى ويلتئم من جديد، وهكذا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا الرجل قال: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولذلك تأتي الخطورة والفاعلية من هذا الجانب.

ثانيا: التفاعل بالمشاعر

عندما يقبل الناس ويصدقون الكلمة يبدأ تفاعل الكلمة في مشاعرهم وعواطفهم، فإذا بهم يبغضون ويكرهون، أو يحبون ويميلون، فأنت إذا سمعت كلمة تأتي من إنسان ما أو من بلد ما أو من كتاب ما، وهذه الكلمة وصفت لك فعلاً وصفاً محبباً وجميلاً فإنها تجعل هذا الفعل أحب إليك من الماء البارد على الظمأ الشديد، وقد تكون هذه الكلمة نفسها تصف لك هذا الفعل وصفاً شائناً منفراً، مما يجعلك تقول: يا ليت بيني وبينه بعد المشرقين وبعد المغربين فليست القضية مجرد قبول وتصديق، فإذا قبلت وصدقت فإن ذلك يبدأ تفاعله في مشاعرك، فتقبل على الأمر فعلاً أو تركاً. وهذا له أثره أيضاً، وإن كان هذا الأثر مهماً والفاعلية خطيرة، لكنها دون التي بعدها، وهي التأثير بالفعل المباشر، ليست المسألة مسألة مشاعر، فأنت قد تبغض الفعل الذي بغض إليك، لكنك لا تملك حولاً ولا قولاً، لكن ما بالك عندما تأتي الكلمة وتُقَبلُ وتُصَدقُ ثم تخلص إلى المشاعر عند من يملك أن يؤثر تأثيراً مباشراً، فإذا بتقرير يحتوي على كلمات لها دلالات معينة، وعمق يؤدي إلى نتائج ينبني عليها تأثير مباشر من إلحاق ضرر أو أخذ مال أو خراب بيت، إلى غير ذلك من الأساليب.

وهكذا قد تجد فيما يتعلق بالجوانب غير الإسلامية في وسائل الإعلام أن هناك تشويهاً عبر الكلمة يحصل به بلاء عظيم وشر مستطير، ليس بمجرد مشاعر ولا كلمات، بل بأفعال خطيرة تؤدي إلى تغيير في مسار حياة أفراد كثيرين وأسر كثيرة، بل تؤدي إلى انحراف شامل يشمل المجتمع كله.

ثالثاً: قلب الحقائق

عندما يكون الأمر مقصوراً على أفراد بأعيانهم فإن الأمر سهل، لكن هذا التكثيف ورواج الكلمة يقلب الحقائق، ويحصل تلاعب بالأسماء والمسميات، فيروج عند الناس شر ويصبح خيراً، ويشيع بينهم باطل على أنه حق، ويقرون منكراً على أنه معروف، وتنتكس الموازين من خلال الكلمة التي -كما نرى اليوم تسمي- الدعارة فناً، وتسمي الربا فائدة واستثماراً، وتسمي الفجور والفسق حضارة وتقدماً، وتسمي الكذب والخداع شطارة ومهارة، إلى غير ذلك.

عندما تمارس الكلمة صداها ودويها بين الناس، وتقبل وتصدق وينفعل بها الناس، ويرون لها تأثيراً مباشراً في الأفعال التي تقر إذا بالمجتمعات الإسلامية تعظم أصحاب الفن، وأصحاب الكرة، وأصحاب الأقلام من مفكرين أو مبدعين، مع كونهم لا يخدمون ولا ينصرون الإسلام، بل ولا الفضائل.

إذاً أصبح الأمر لم يعد مجرد كلمة، بل الكلمة ومعها صورتها التطبيقية العملية، فتنغرس المفاهيم الخاطئة والمعكوسة في حياة الناس.

رابعاً: شيوع النفاق

عندما تحصل كل هذه الفعاليات والتأثيرات يحصل عند الناس نفاق، هذا إذا لم تنقلب عندهم الحقائق وأنكروها بقلوبهم، لكنهم كما نقول في تعبير عامي: (مع السيل يا شقرى)، فما دام هؤلاء يمدحون بالألسن والأقلام، وما دام هذا -كما يقال-: يؤكل به العيش ويسلم به الإنسان، إذاً فليكن هذا هو ميدان الكلمة شعراً ونثراً، نطقاً وكتابة، وهذا يجعل الناس يأنفون من الحق الصريح، يجفلون من الكلمة الصادقة، ولا تكون مقبولة فيما بينهم، ولا يعود أصحابها أصحاب مكانة وعزة، بل على العكس من ذلك، فمن يقول كلمة الحق اليوم يقولون له: أنت لا تعرف كيف تسير الحياة، لا تعرف كيف تورد الإبل، لا تعرف من أين تؤكل الكتف؛ لأن الحياة انطبعت بعد كل هذه الآثار بطابع النفاق الذي يظهر ما لا يبطن، والذي يوافق المسيرة وإن كانت خاطئة.

الكلمة تنطق بها وتكتبها فتجد من يقبلها ويصدقها، وقد يساعد على ذلك أمور، منها: الصلة والثقة، فإذا كنت موضع ثقة عند السامعين لك فإن كل كلمة تقولها يأخذونها مأخذ القبول والتصديق، ويعتبرونها مسلمة ويبنون عليها تصرفات وأحكاماً إلى غير ذلك.

ومن أساليب الوصول إلى القبول والتصديق: التركيز والتكرار، وهذا ما تستخدمه وسائل الإعلام، فمع طلوع الفجر تذكر الخبر، وعند الظهيرة تؤكده، وعند العصر تردده، ثم تصوره، حتى يصدق الناس ما كان كذباً من الأخبار، وكما يقول بعض الناس -وهي مقالة باطلة، لكن لنا في الواقع بعض الشواهد الناطقة-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس. وكما نسمع في الطرفة الدائمة أن أشعب دعا الناس إلى وليمة كاذبة، فكان كلما لقي واحداً قال له: العشاء عند فلان. فتناقل الناس الخبر، وصار هو يسمع ما يتناقله الناس من أن العشاء عند فلان، فقال: لعل الخبر صحيح. فذهب مع الناس.

وهكذا الكلمة عندما تترد وتتكرر وتتنوع أساليبها وتغزو عقول الناس فإنهم يقبلونها ويصدقونها، بل تكاد الكلمة عبر وسائل الإعلام أن تحاصر الإنسان محاصرة، فهي تغزوه من جهة النظر، وتغزوه من جهة السمع، فغزوه من جهة النظر عبر القراءة وعبر المشاهدة، ومن جهة السمع عبر الإذاعة وعبر وسائل أخرى متنوعة من شريط وبث مباشر وغير مباشر، فيقع للكلمة فاعليتها الخطيرة.

ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خطورة الكلمة التي تنتشر وتذاع لكثير من الناس دون الكلمة التي تخص؛ لأنك لو قلت كلمة لفرد واحد وأخطأت فيها فإن الأمر هين وميسور، ويمكن أن يصحح الخطأ، لكن الكلمة التي تنتشر وتذاع وتعم الآفاق في بضع ساعات، بل ربما في بضع دقائق، بل ربما في بضع ثوان هذه كلمة خطيرة.

فمن هذا ما ورد في صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه رأى في رحلته إلى السماوات العلا رجلاً يوضع في شدقيه كلاليب من نار، يشق بها شدقه الأيمن من أوله إلى آخره، ثم يشق بها شدقه الأيسر فيعود الأيمن كما كان، ثم يشق مرة أخرى ويلتئم من جديد، وهكذا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا الرجل قال: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولذلك تأتي الخطورة والفاعلية من هذا الجانب.

عندما يقبل الناس ويصدقون الكلمة يبدأ تفاعل الكلمة في مشاعرهم وعواطفهم، فإذا بهم يبغضون ويكرهون، أو يحبون ويميلون، فأنت إذا سمعت كلمة تأتي من إنسان ما أو من بلد ما أو من كتاب ما، وهذه الكلمة وصفت لك فعلاً وصفاً محبباً وجميلاً فإنها تجعل هذا الفعل أحب إليك من الماء البارد على الظمأ الشديد، وقد تكون هذه الكلمة نفسها تصف لك هذا الفعل وصفاً شائناً منفراً، مما يجعلك تقول: يا ليت بيني وبينه بعد المشرقين وبعد المغربين فليست القضية مجرد قبول وتصديق، فإذا قبلت وصدقت فإن ذلك يبدأ تفاعله في مشاعرك، فتقبل على الأمر فعلاً أو تركاً. وهذا له أثره أيضاً، وإن كان هذا الأثر مهماً والفاعلية خطيرة، لكنها دون التي بعدها، وهي التأثير بالفعل المباشر، ليست المسألة مسألة مشاعر، فأنت قد تبغض الفعل الذي بغض إليك، لكنك لا تملك حولاً ولا قولاً، لكن ما بالك عندما تأتي الكلمة وتُقَبلُ وتُصَدقُ ثم تخلص إلى المشاعر عند من يملك أن يؤثر تأثيراً مباشراً، فإذا بتقرير يحتوي على كلمات لها دلالات معينة، وعمق يؤدي إلى نتائج ينبني عليها تأثير مباشر من إلحاق ضرر أو أخذ مال أو خراب بيت، إلى غير ذلك من الأساليب.

وهكذا قد تجد فيما يتعلق بالجوانب غير الإسلامية في وسائل الإعلام أن هناك تشويهاً عبر الكلمة يحصل به بلاء عظيم وشر مستطير، ليس بمجرد مشاعر ولا كلمات، بل بأفعال خطيرة تؤدي إلى تغيير في مسار حياة أفراد كثيرين وأسر كثيرة، بل تؤدي إلى انحراف شامل يشمل المجتمع كله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2731 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
المرأة والدعوة [1] 2542 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2486 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2452 استماع
منهج الإصلاح في القرآن والسنة 2415 استماع