غزوة أحد مواقف وصور


الحلقة مفرغة

الحمد لله ولي المؤمنين، ناصر الموحدين، كتب العزة لعباده المسلمين، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين. أوهن كيد الكافرين، وجعل الدائرة على المعتدين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله له عنده ذخراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فهذه وقفات مع كيد الأعداء لأمة الإسلام في العهد النبوي الكريم، نقفها من خلال بعض الأحداث في غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، والسيرة -كما نعلم- معين لا ينضب من الدروس والعبر والحكم والأحكام التي تجلت في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه، وهديه وإرشاده لأمته، كما تجلت في ذلك الصراع بين الحق والباطل، والكيد من أهل الكفر، وإعمال الفتك والنخر في جسد الأمة الإسلامية من قبل أهل النفاق، وسوف ننظر إلى بعض هذه المواقف لنرى أعداء الداخل والخارج، ليكون لنا بذلك نورٌ يكشف ما يحل بمجتمعات الإسلام اليوم، ولندرك في ضوء هذه القصص التي وقعت في السيرة النبوية وما تنزل في شأنها من الآيات القرآنية ندرك حقيقة أعدائنا ممن هم مزروعين بين صفوفنا، أو مقيمين بالعداء على خطوطنا، أعداء الخارج من أهل الكفر، وأعداء الداخل في داخل مجتمعات المسلمين من أهل النفاق، لننظر إلى هؤلاء وهؤلاء كيف كانت مواقفهم وأفعالهم في غزوة أحد، حتى يكون ذلك معيناً ومبصراً لنا لما نكون فيه وعليه في حياة أمتنا الإسلامية وقد امتدت بها كثير من صور العناء من كيد وإجرام الأعداء.

التهييج والتحريض ضد المسلمين

روى ابن هشام وغيره من أصحاب السير بدايات نشوء التوجه لغزو المسلمين من قبل الكافرين في أحد.

قال ابن هشام : مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا. ففعلوا ذلك.

إنها الدعوة والتحريض، والإثارة والتهييج، وإذكاء نار العداوة في القلوب، وإشعال جمر الغضب على أمة الإسلام، وزرع الخوف من المسلمين لأنهم الخطر الداهم والعدو الغاشم حتى تتوحد الصفوف في العداء نحوهم، وتتوجه القوى المادية والمعنوية بالكيد لهم، هكذا صنع صفوان وعكرمة وغيرهما ممن مَنَّ الله عز وجل عليهم بعد ذلك بالإسلام وصاروا من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة الحية المتحركة تبين لنا كيف يعمل أهل الكفر في صفوفهم ويأزون أصحابهم أزاً، ويدفعونهم دفعاً، ويستخرجون منهم العون والتأييد المادي والمعنوي، فإذا بهم يجوبون الآفاق، كما يقع اليوم في هذه الدنيا التي نرى فيها تكالب أعداء المسلمين على هذه الأمة المستضعفة في شرق الأرض وغربها.

فكم من دور لمثل ما وقع من عكرمة وصفوان وعبد الله بن أبي ربيعة وغيرهم يقع اليوم في التأليب على أمة الإسلام والمسلمين، وعلى مجتمعات المسلمين في كثير من بقاع الإسلام: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، انطلاق، ومشي، وسعي، وحركة، وتأليب، وعرض، وتقليب للحقائق، وتزوير للصورة، وتشويه لأمة الإسلام حتى ينشأ العداء في القلوب، وتتوجه القوى لحرب أمة الإسلام.

قال ابن إسحاق رحمه الله: ففيهم -أي: هؤلاء- كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

هؤلاء قد ذكر الله عز وجل شأنهم بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على تجدد فعلهم وتكرره في كل زمان، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بأية ملة كانت غير ملة الإسلام كفروا بالله عز وجل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، (إن الذين كفروا) بهذا الوصف المطلق العام الشامل يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ أي: في كل زمان ومكان وموقف، لماذا؟ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ويحولوا بين الناس وبين الإسلام. ثم يخبر الله عز وجل عن العاقبة التي ينبغي أن نوقن بها، ولكن ينبغي أيضاً أن نعمل لتحقيقها فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، وكم نرى من إنفاق الأموال وتدبير الخطط، واستغلال العقول والأفكار الخبيثة والمكر والدهاء الخبيث لكي تقع الدائرة على أمة الإسلام والمسلمين؟

استغلال كل الطاقات لحرب الإسلام

انظر إلى مواقف أخرى حتى ندرك ما يحل بواقعنا الإسلامي اليوم، فهذا أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي أحد من أسروا في يوم بدر من الكفار، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، رق له قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض رحمة، ونفسه التي تجود كرماً، فمن عليه بالفداء والعتق دون مال ودون شرط، ورده إلى أهل مكة سالماً غانماً من غير ما شيء، فأي شيء فعل هذا الرجل؟ لا شك أن إحسان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في نفسه، ولا شك أن هذه المعاملة الإسلامية العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلت سخيمة قلبه وشحناء نفسه، فجاءه صفوان بن أمية وقال له: يا أبا عزة ! إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك. استغلال لطاقات الكفر كلها، للطاقات الإعلامية والسياسية والقتالية وكل قوة أو قدرة يمكن أن تكون موجهة ضد الإسلام والمسلمين. إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، واخرج معنا لتكون محارباً بلسانك لا بسنانك، فقال أبو عزة : إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مَنَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه. كان هذا هو الموقف المتوقع من أبي عزة ، فقال له صفوان : أعنا بنفسك فلله عليَّ إن رجعت -أي: سالماً- أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. تأجيج وإغراء وتثبيت لأهل الكفر ليكونوا في مواجهة واحدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين، فهذا رجل واحد لم يتركوه، كان واقفاً على الحياد فأتوا ليحرفوه، كان متردداً فدفعوه، وخامداً فحمسوه وشجعوه، ثم تعهدوا وتكفلوا له بأمور المادة والحياة الدنيوية: (فلله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر) كذا قال صفوان بن أمية رضي الله عنه، وهو في ذلك الوقت على كفره وشركه.

حتى هذا الرجل الواحد الذي ليس عنده من سلاح غير لسانه وشعره دعي إلى ذلك، فلما قيل له ذلك تزعزع عن موقفه، وتحرك ليكون حربة موجهة للإسلام والمسلمين، وليكون قوة تضاف إلى قوة أهل الكفر ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتحرك وانطلق في تهامة يدعو بني كنانة ليكونوا مع قريش ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

استغلال الإمكانيات الفردية وانتقائها

هناك مواقف أخرى تستغل كل شيء، وكل طاقة، وكل صغير وكبير، لتحشد الحشود، وتجيش الجيوش، وتوجه القوى ضد أمة الإسلام، دعا جبير بن مطعم رضي الله عنه وأرضاه -وكان على كفره وشركه آنذاك- دعا غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي. يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ، كان رامياً بالحراب شهيراً، وكان عبداً حبشياً حقيراً، وكان كماً مهملاً لا قيمة له، فجاء يستنهضه ويبعث همته ويعلي منزلته، ويعده بمستقبل زاهر ليسدد حربته إلى صدور أهل الإسلام، وليكون مع غيره ممن لهم سبق في عداء أمة الإسلام لينضم إليهم، فقال له: اخرج مع الناس، فإن قتلت حمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. أي: يعتقه ويخرجه من الرق إلى الحرية، فخرج وحشي ليست له مهمة إلا قتل حمزة رضي الله عنه، وقتله وحشي رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك من أعظم ما أثر في نفسه حتى هيأ الله له عملاً رأى أنه بإذن الله عز وجل يشفي غليله من ذلك الفعل الذي وقع عندما قتل بحربته مسيلمة الكذاب ، ثم كان يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس وقتلت بها شر الناس. يعني حمزة بن عبد المطلب لما كان وحشي كافراً وحمزة مسلماً، ويعني بعد ذلك مسيلمة الكذاب لما كان وحشي مسلماً مجاهداً ضد مسيلمة وقومه.

فهذا فرد واحد جيء به لتكون له مهمة واحدة وأمر محدد معين، المقصود أن يبلي في حرب الإسلام والمسلمين بلاءه، وأن يتحرك حركته بما يستطيع، وهكذا نرى هذه الصورة التي تدلنا على هذا التجييش والانتقاء للطاقات، ومعرفة كل إمكانية حتى توظف في اتجاهها الصحيح في حرب أمة الإسلام؛ لأن الذين كفروا لا يمكن أن يوادعوا، ولا أن يهادنوا، فضلاً عن أن يحبوا أو أن يناصروا، فضلاً عن أن يعينوا أو أن يوافقوا أمة الإسلام في شيء مطلقاً، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، حقائق القرآن تنطق، وآياته مخلدة إلى قيام الساعة تخبرنا بما علمنا الله عز وجل إياه من حقائق أهل الإيمان والكفر.

استخدام النساء لبعث الحمية في القلوب

قال ابن هشام في غزوة أحد: فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة. ليس ذلك فحسب، وإنما كما قال ابن هشام : وخرجوا معهم بالضعن -أي: النساء- خرجوا معهم بالنساء التماس الحفيظة وأن لا يفروا. حتى يكون وجود نسائهم وأعراضهم مهيجاً لهم على الثبات والقتال، ومانعاً لهم من الفرار والنكوص، وقد رأوا ما رأوا في بدر من قبل ذلك، فأرادوا أن يخرجوا بالنساء ليكملوا تجييش جيوشهم، وليجعلوا كل قواهم في الرجال والنساء والعبيد والأحرار والصغار والكبار موجهة وجهة واحدة في حرب الإسلام والمسلمين، فخرج كبراؤهم بنسائهم، خرج أبو سفيان ومعه هند بنت عتبة ، وعكرمة بن أبي جهل خرج بـأم حكيم بنت الحارث ، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بـفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وكان والدها قد قتل في يوم بدر، وخرج صفوان بن أمية بـبردة بنت مسعود الثقفية؛ خرج الكبراء بالنساء حتى يجيشوا ويقووا توجههم ضد الإسلام والمسلمين، ولا يكون هناك مجال للتراجع أو التخاذل، فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قام النساء بدورهن في حرب الإسلام والمسلمين، وقامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها على رءوس الرجال يحرضنهم على القتال ويقلن:

ويهاً بني عبد الـدار ويهاً حماة الأديـار ضرباً بكل بتار

ويقلن:

إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق فراقاً غير وامق

أي: غير محب. فكن يحرضن على القتال ويؤلبن عليه، وكانت هذه أيضاً صورة من صور تكامل العداء الذي توجه به كفار قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وهي صورة تتكرر وتظهر بهذا التكامل الذي لا يخفى على عين البصير ولا على إدراك العاقل، فإن أمة الإسلام اليوم لا شك أنها تواجه مثل هذه الصور من العداء مع اختلاف وعظمة في الإمكانيات، وكثرة في أولئك الأعداء، وكيد ومكر في التخطيط والدهاء، كثيرة هي الصور التي تشابه في أصلها وتفوق في عظمتها وقوتها وشدتها ما كان عليه كفار قريش في حربهم وعدائهم للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلسنا نرى صورة تتجدد لتلك الحشود التي تحشد ضد الإسلام والمسلمين؟ أولسنا نسمع أبواق الإعلام التي تشوه صورة الإسلام وتتهم أمة الإسلام بالدموية ونحو ذلك؟ أولسنا نرى صور كل فتنة وسبيل من أسباب الكيد والإغراء، وصورة من صور المكر والدهاء وهي تحاك ضد الإسلام والمسلمين؟ وما أمور المسلمين في البوسنة أو كشمير عنا ببعيد، أو في غيرها من بلاد الإسلام، فإن الأمر جد واضح وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وهم على هذا النهج سائرون، وهذه صورة من الصور ومواقف قليلة في غزوة أحد فحسب، فما ظنك بغيرها؟ وما ظنك بحشود كانت قبل ذلك وبعد ذلك؟ وما ظنك بكيد وكيد كان مثله واضحاً بيناً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

روى ابن هشام وغيره من أصحاب السير بدايات نشوء التوجه لغزو المسلمين من قبل الكافرين في أحد.

قال ابن هشام : مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا. ففعلوا ذلك.

إنها الدعوة والتحريض، والإثارة والتهييج، وإذكاء نار العداوة في القلوب، وإشعال جمر الغضب على أمة الإسلام، وزرع الخوف من المسلمين لأنهم الخطر الداهم والعدو الغاشم حتى تتوحد الصفوف في العداء نحوهم، وتتوجه القوى المادية والمعنوية بالكيد لهم، هكذا صنع صفوان وعكرمة وغيرهما ممن مَنَّ الله عز وجل عليهم بعد ذلك بالإسلام وصاروا من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة الحية المتحركة تبين لنا كيف يعمل أهل الكفر في صفوفهم ويأزون أصحابهم أزاً، ويدفعونهم دفعاً، ويستخرجون منهم العون والتأييد المادي والمعنوي، فإذا بهم يجوبون الآفاق، كما يقع اليوم في هذه الدنيا التي نرى فيها تكالب أعداء المسلمين على هذه الأمة المستضعفة في شرق الأرض وغربها.

فكم من دور لمثل ما وقع من عكرمة وصفوان وعبد الله بن أبي ربيعة وغيرهم يقع اليوم في التأليب على أمة الإسلام والمسلمين، وعلى مجتمعات المسلمين في كثير من بقاع الإسلام: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، انطلاق، ومشي، وسعي، وحركة، وتأليب، وعرض، وتقليب للحقائق، وتزوير للصورة، وتشويه لأمة الإسلام حتى ينشأ العداء في القلوب، وتتوجه القوى لحرب أمة الإسلام.

قال ابن إسحاق رحمه الله: ففيهم -أي: هؤلاء- كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

هؤلاء قد ذكر الله عز وجل شأنهم بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على تجدد فعلهم وتكرره في كل زمان، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بأية ملة كانت غير ملة الإسلام كفروا بالله عز وجل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، (إن الذين كفروا) بهذا الوصف المطلق العام الشامل يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ أي: في كل زمان ومكان وموقف، لماذا؟ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ويحولوا بين الناس وبين الإسلام. ثم يخبر الله عز وجل عن العاقبة التي ينبغي أن نوقن بها، ولكن ينبغي أيضاً أن نعمل لتحقيقها فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، وكم نرى من إنفاق الأموال وتدبير الخطط، واستغلال العقول والأفكار الخبيثة والمكر والدهاء الخبيث لكي تقع الدائرة على أمة الإسلام والمسلمين؟

انظر إلى مواقف أخرى حتى ندرك ما يحل بواقعنا الإسلامي اليوم، فهذا أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي أحد من أسروا في يوم بدر من الكفار، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، رق له قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض رحمة، ونفسه التي تجود كرماً، فمن عليه بالفداء والعتق دون مال ودون شرط، ورده إلى أهل مكة سالماً غانماً من غير ما شيء، فأي شيء فعل هذا الرجل؟ لا شك أن إحسان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في نفسه، ولا شك أن هذه المعاملة الإسلامية العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلت سخيمة قلبه وشحناء نفسه، فجاءه صفوان بن أمية وقال له: يا أبا عزة ! إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك. استغلال لطاقات الكفر كلها، للطاقات الإعلامية والسياسية والقتالية وكل قوة أو قدرة يمكن أن تكون موجهة ضد الإسلام والمسلمين. إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، واخرج معنا لتكون محارباً بلسانك لا بسنانك، فقال أبو عزة : إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مَنَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه. كان هذا هو الموقف المتوقع من أبي عزة ، فقال له صفوان : أعنا بنفسك فلله عليَّ إن رجعت -أي: سالماً- أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. تأجيج وإغراء وتثبيت لأهل الكفر ليكونوا في مواجهة واحدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين، فهذا رجل واحد لم يتركوه، كان واقفاً على الحياد فأتوا ليحرفوه، كان متردداً فدفعوه، وخامداً فحمسوه وشجعوه، ثم تعهدوا وتكفلوا له بأمور المادة والحياة الدنيوية: (فلله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر) كذا قال صفوان بن أمية رضي الله عنه، وهو في ذلك الوقت على كفره وشركه.

حتى هذا الرجل الواحد الذي ليس عنده من سلاح غير لسانه وشعره دعي إلى ذلك، فلما قيل له ذلك تزعزع عن موقفه، وتحرك ليكون حربة موجهة للإسلام والمسلمين، وليكون قوة تضاف إلى قوة أهل الكفر ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتحرك وانطلق في تهامة يدعو بني كنانة ليكونوا مع قريش ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2904 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2726 استماع
فاطمة الزهراء 2690 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2623 استماع
المرأة والدعوة [1] 2534 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2530 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2480 استماع
خطبة عيد الفطر 2460 استماع
التوبة آثار وآفاق 2445 استماع
منهج الإصلاح في القرآن والسنة 2408 استماع