شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [8]


الحلقة مفرغة

النفخ في الصور

من بعد البرزخ يأتي كما يقول ابن كثير والطحاوي وعلماء العقائد: النفخ في الصور، وفي حديث الصور الطويل: أن الله سبحانه أول ما خلق إسرافيل وخلق الصور ألقمه فمه ينظر إلى العرش ينتظر أمر الله له بالنفخ.

ويقولون: النفخات ثلاث؛ الأولى: نفخة الفزع، يفزع فيها من في السماوات ومن في الأرض.

والثانية: نفخة الصاعقة لا يبقى معها حيٌ على وجه الأرض.

والثالثة: نفخة البعث، وعند البعث يجمع الله أرواح الخلائق فيضعها في البوق الذي هو الصور، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إن فتحة البوق -الصور- لكما بين المشرق والمغرب! فإذا نفخ إسرافيل انتشرت الأرواح كالنحل، ودخلت في أجسام أهلها، وانتظروا البعث).

والأمر في ذلك أحاديثه طويلة، لكن يهمنا البعث من القبور، وخروج الناس، وأحوال ذلك اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الميزان، والصراط، وتطاير الصحف، والعرض، والجنة والنار. هذه أهم أحوال يوم القيامة، وكذلك ما يتبع ذلك من شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

الميزان والصراط

أما الميزان والصراط؛ فيختلفون أيهما يكون أولاً.

فبعضهم يقولون: الميزان بعد اجتياز الصراط؛ وقد أجمع العلماء على أن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71-72].

والصراط كما يقول العلماء: أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ويمر الناس عليه بحسب أنوارهم؛ لأن المؤمنين يبعثون من قبورهم بنور الإيمان كلٌ على حسب عمله، منهم من يكون معه النور كالجبل، ومنهم من يكون كالنخلة، ومنهم من يكون كالشمعة، ومنهم من يكون النور في إبهام قدمه ينطفئ تارةً ويضيء تارة، فإذا أضاء مشى وإذا انطفأ قام.

ويمرون على الصراط بحسب نورهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم.. إلخ.

فإذا اجتاز الناس الصراط فهناك يأتي الميزان، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وهو ميزانٌ له كفتان محسوستان، ولكن هل يوزن الإنسان بعمله أو توزن الأعمال فقط؟

ومن أعظم أحاديث الميزان: حديث البطاقة: بأن رجلاً عرض على الميزان وله تسعٌ وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها أعمال سيئة فتوضع في كفة سيئاته، فيناديه ربه: هل ظلمك كتبتي.. أليست هذه أعمالك؟ يقول: بلى يا رب، فيقول: هل بقي لك عندنا شيء؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! لك عندي أمانة، فإذا ببطاقة مكتوبٌ فيها لا إله إلا الله، يقول: يا ربّ وماذا تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات، فيقول سبحانه: لا ظلم اليوم، وتوضع البطاقة في كفة الحسنات فترجح وتطيش كفة تلك السجلات بما فيها.

فلا شيء يوازن اسم الله، هكذا يقول علماء العقائد.

فالميزان موجود وهو محسوس، ولكن قد يقال: كيف توزن الأعمال وهي أمورٌ معنوية؟

والجواب: هذا مما ليس لك فيه دخل، بل إننا في الوقت الحاضر نجد موازين متعددة، موازين تزن الحرارة، موازين تزن البرودة، موازين تزن الضغط في الهواء، موازين تزن الكثافة في الحديد وفي الماء، موازين توصل إليها الناس كانت لا تخطر على قلب أحد.

إذاً: توزن الأعمال والصحف والإنسان، وليس في طاقة العقل أن يتكيف معه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم : (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، فـ(سبحان الله) تملأ الميزان، كيف وهي أمر معنوي؟ هل تتجسم الحسنات وتصير ملموسة لها ثقل؟ ليس لنا ذلك، الله سبحانه يفعل ما يريد، الذي يهمنا أن الله سبحانه أوجد الميزان.

ويتساءل العلماء: وما الحاجة إلى الميزان؟ بعض الفلاسفة يتبجحون ويقولون: إنما يحتاج إلى الميزان الفوّال والكيال، والله ليس في حاجة إلى ميزان.

والجواب: صحيح أنه ليس في حاجة إلى هذا كله، ولكن: لماذا لا تقولون: ما فائدة الصحف؟ ولماذا لا تقولون: ما الحاجة إلى وجود ملائكة كرام كاتبين؟ فإن الله لا يحتاج شيئاً من ذلك. لكن المولى يقيم الحجة على الخلق لئلا يحتج أحدٌ على الله، فكما جعل كراماً كاتبين وجعل صحفاً، كذلك جعل الميزان لتقوم الحجة على الخلائق.

الحوض

ومن الميزان إلى الحوض، وبعض العلماء يقول: إنه بعد الصراط والميزان، والقرطبي يرجح أن الحوض قبل هذا كله، لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذا المسجد فأغفى إغفاءة ثم انتبه يتبسم، فقالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة خيرٌ من الدنيا وما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، أتدرون ما الكوثر؟ نهرٌ في الجنة آنيته عدد النجوم)، وفي حديث ذكر حوضه صلى الله عليه وسلم.

وقالوا في الجمع بين الرواتين: إن الكوثر نهرٌ من أنهار الجنة فيه ميزابان يصبان في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدره كما بين مكة وبصرى، عليه أكوابٌ عدد نجوم السماء، تربته المسك واللؤلؤ.

وهنا جاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك ولم ترهم؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها من بين الخيول؟ قالوا :بلى)، والغرة: بياض الجبين، والتحجيل: والحجل هو موضع القيد للفرس، أي: في اليدين، فإذا كان الموضع فيه بياض فهو حجل، وهذه علامة خاصة بهذه الأمة.

وفي تتمة الحديث: (إن هذا العرض على الحوض هي المفازة الأولى)، فحينما يبعث المنافقون مع المؤمنين والكل معه نوره، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الحديد:12]، فهنا المؤمنون يمضون في طريقهم بأنوارهم، فإذا ما وردوا على الحوض جاءت ملائكة تفرز الناس، فيذودون أقواماً عن حوض رسول الله لا يردونه، فينادي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (أمتي أمتي! فتقول الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدلوا، يقول صلى الله عليه وسلم: فأقول: سحقاً وبعداً لمن غير وبدل).

موقف أهل النفاق في الآخرة

قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، الكل يبعث بنوره حتى المنافق، لكن عند العرض على الحوض يمضي المؤمنون بنورهم ويرد المنافقون فتطفأ أنوارهم، وهناك ينادون: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] أي: انتظرونا نمشي في نوركم، أو انظروا إلينا نقتبس نوراً: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [الحديد:13-14]، الريب هو الشك، وهذا الشك هو النفاق.

ولكن لماذا يبعث المنافقون بالأنوار مع المؤمنين؟

هو تفسير قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9]، فكانوا يخادعون المؤمنين ويقولون: إننا آمنا، وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

فتركهم الله على نفاقهم واستفادوا بظاهر قولهم: آمنا، ولهم نصيب في المغانم والميراث والزواج، ويعاملون في ظاهر الأمر معاملة المؤمنين، ولكنهم يبطنون الكفر في داخلهم، وهكذا يستهزئون والله يستهزئ بهم؛ فإذا جاء يوم القيامة بُعثوا بأنوارهم وظنوا أن الخدعة مستمرة وأنهم مع المؤمنين في الأنوار، حتى تأتي المفرزة، فهناك يردون على أعقابهم وتطفأ أنوارهم ويطلبون من المؤمنين أن ينظروهم ليلتمسوا منهم النور، فيردونهم ويقولون: لا، ارجعوا فالتمسوا نوراً من ورائكم، وهناك تنتهي الفاصلة: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الحديد:13]، من جهة المؤمنين، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] من جهة المنافقين.

من بعد البرزخ يأتي كما يقول ابن كثير والطحاوي وعلماء العقائد: النفخ في الصور، وفي حديث الصور الطويل: أن الله سبحانه أول ما خلق إسرافيل وخلق الصور ألقمه فمه ينظر إلى العرش ينتظر أمر الله له بالنفخ.

ويقولون: النفخات ثلاث؛ الأولى: نفخة الفزع، يفزع فيها من في السماوات ومن في الأرض.

والثانية: نفخة الصاعقة لا يبقى معها حيٌ على وجه الأرض.

والثالثة: نفخة البعث، وعند البعث يجمع الله أرواح الخلائق فيضعها في البوق الذي هو الصور، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إن فتحة البوق -الصور- لكما بين المشرق والمغرب! فإذا نفخ إسرافيل انتشرت الأرواح كالنحل، ودخلت في أجسام أهلها، وانتظروا البعث).

والأمر في ذلك أحاديثه طويلة، لكن يهمنا البعث من القبور، وخروج الناس، وأحوال ذلك اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الميزان، والصراط، وتطاير الصحف، والعرض، والجنة والنار. هذه أهم أحوال يوم القيامة، وكذلك ما يتبع ذلك من شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

أما الميزان والصراط؛ فيختلفون أيهما يكون أولاً.

فبعضهم يقولون: الميزان بعد اجتياز الصراط؛ وقد أجمع العلماء على أن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71-72].

والصراط كما يقول العلماء: أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ويمر الناس عليه بحسب أنوارهم؛ لأن المؤمنين يبعثون من قبورهم بنور الإيمان كلٌ على حسب عمله، منهم من يكون معه النور كالجبل، ومنهم من يكون كالنخلة، ومنهم من يكون كالشمعة، ومنهم من يكون النور في إبهام قدمه ينطفئ تارةً ويضيء تارة، فإذا أضاء مشى وإذا انطفأ قام.

ويمرون على الصراط بحسب نورهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم.. إلخ.

فإذا اجتاز الناس الصراط فهناك يأتي الميزان، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وهو ميزانٌ له كفتان محسوستان، ولكن هل يوزن الإنسان بعمله أو توزن الأعمال فقط؟

ومن أعظم أحاديث الميزان: حديث البطاقة: بأن رجلاً عرض على الميزان وله تسعٌ وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها أعمال سيئة فتوضع في كفة سيئاته، فيناديه ربه: هل ظلمك كتبتي.. أليست هذه أعمالك؟ يقول: بلى يا رب، فيقول: هل بقي لك عندنا شيء؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! لك عندي أمانة، فإذا ببطاقة مكتوبٌ فيها لا إله إلا الله، يقول: يا ربّ وماذا تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات، فيقول سبحانه: لا ظلم اليوم، وتوضع البطاقة في كفة الحسنات فترجح وتطيش كفة تلك السجلات بما فيها.

فلا شيء يوازن اسم الله، هكذا يقول علماء العقائد.

فالميزان موجود وهو محسوس، ولكن قد يقال: كيف توزن الأعمال وهي أمورٌ معنوية؟

والجواب: هذا مما ليس لك فيه دخل، بل إننا في الوقت الحاضر نجد موازين متعددة، موازين تزن الحرارة، موازين تزن البرودة، موازين تزن الضغط في الهواء، موازين تزن الكثافة في الحديد وفي الماء، موازين توصل إليها الناس كانت لا تخطر على قلب أحد.

إذاً: توزن الأعمال والصحف والإنسان، وليس في طاقة العقل أن يتكيف معه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم : (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، فـ(سبحان الله) تملأ الميزان، كيف وهي أمر معنوي؟ هل تتجسم الحسنات وتصير ملموسة لها ثقل؟ ليس لنا ذلك، الله سبحانه يفعل ما يريد، الذي يهمنا أن الله سبحانه أوجد الميزان.

ويتساءل العلماء: وما الحاجة إلى الميزان؟ بعض الفلاسفة يتبجحون ويقولون: إنما يحتاج إلى الميزان الفوّال والكيال، والله ليس في حاجة إلى ميزان.

والجواب: صحيح أنه ليس في حاجة إلى هذا كله، ولكن: لماذا لا تقولون: ما فائدة الصحف؟ ولماذا لا تقولون: ما الحاجة إلى وجود ملائكة كرام كاتبين؟ فإن الله لا يحتاج شيئاً من ذلك. لكن المولى يقيم الحجة على الخلق لئلا يحتج أحدٌ على الله، فكما جعل كراماً كاتبين وجعل صحفاً، كذلك جعل الميزان لتقوم الحجة على الخلائق.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3185 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3134 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3115 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3068 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2995 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2891 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2877 استماع