شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.

أما بعد:

فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى : (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نسه ). هذا آخر الحديث، يبين لكم أن المسألة راجعة لكم أنتم.

فهنا قال أخرى: (يا عبادي!) يناديهم شفقة بهم ورحمة، لا لمصلحة يُحصلها منهم، وأي مصلحة عندهم؟!

فالعبد صنعه وخلقه، طعامه من عنده، وكسوته من عنده، وهدايته ورزقه من عنده، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] خزائنه ملأى على ما سيأتي إن شاء الله.

ينبه القاضي عياض وغيره من علماء التربية والتوجيه هنا إلى شيء مهم، وهو من نفائس الكلمات، لماذا قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم)، قالوا: لأن وحدة القلب في التقى أشمل وأجمع وأعم.

وبعض العلماء يقول: من هو هذا الرجل الذي يكونون على أتقى ما يكون على قلبه وحده؟ بعضهم يقول: النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي المقابل: (على أفجر قلب رجل) قالوا: هو الشيطان، وأنه فرد من الجن؛ لأنه قال: (وإنسكم وجنكم) ومن باب المجانسة فرد من الجن يعتبر كرجل، والله تعالى أعلم بذلك.

إذاً: الطاعة لا تزيد في ملكه سبحانه، والمعصية لا تُنقص من ملكه.

ثم قال سبحانه وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) كلٌ بأمانيه: (فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا أُدخل البحر)، هذه الصورة يقول فيها القاضي عياض : لماذا هذه الصورة التي تجمع الخلائق كلها؟ لماذا لم يُعط كل واحد مسألته على حده وانفراده؛ بل قال:(لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد)؟

الصعيد: الأرض المنبسطة، أي: لو أن الخلائق كلها من الإنس والجن فعلوا ذلك ما ضرني فعلهم.

إثبات وجود الجن

والجن موجودون، ومن ينكر ذلك ينظر في الدليل، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن وبايعهم وصرفهم الله إليه وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:1-3] يا سبحان الله! كما قال صلى الله عليه وسلم ليلة التقى بهم: (للجن أحسن جواباً منكم، وكلما قلت: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب)، فكأنه يقول لهم: أنتم ما أجبتم، فكأن الجن كانوا أفقه وأحسن جواباً منكم.

ولما جاء مال البحرين وجاء الجني في صورة إنسان يسرق قبض عليه أبو هريرة ، ولما اعترض الجني لرسول الله وهو يصلي بالليل، همّ أن يمسكه، ثم تذكر قول نبي الله سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، يقول صلى الله عليه وسلم: (لولا دعوة أخي سليمان لأمسكت به إلى الصباح حتى ترونه ويلعب به صبيانكم)>

فإنكار الجن إنكار للواقع ومكابرة له، ولا أريد أن أخرج بكم عن الموضوع، ولكن كان شخص يسكن معنا هنا في المدينة اسمه محمود جاوي كان إذا قرأ القرآن تحتاج أن تصغي إليه لتسمع منه، وكان لا يرفع صوته، ولكن لو قرأ شهراً كاملاً لم تنصرف عنه، فقد كانت قراءته هبة من الله سبحانه، فجاءني يوماً مذعوراً، فقلت: ماذا دهاك يا محمود؟

قال: لا أستطيع أن أخبرك، قلت: لماذا تأتيني إذاً؟ قال: وقع أمس أمر عجيب، وقبل أمس، وقبل أمس، منذ أسبوع إلى الآن وأنا نائم، فإذا بي أسمع باب الغرفة يفتح، فنهضت إلى الباب قال: يا محمود خليك، قال: نهضت إلى السراج طبعاً ولم يكن هناك كهرباء، أخذت الكبريت لكي أشعل الفانوس، فقال: لا تشعل النور.

قلت له: من أنت؟ قال: واحد من جيرانك هنا.

قلت: ماذا تريد؟ قال: قم واقرأ القرآن.

قال: قمت من الخوف وقرأت وأنا أرتجف، قال: أنت خائف، لا عليك.. يكفي قراءة هذه الليلة فنم، ومن الغد آتيك في الموعد.

ولما جاء كنت أقل خوفاً، فقرأت حوالي نصف ساعة، وفي الليلة الثالثة جاء على الموعد فقرأت نحواً من ساعة، وفي الليلة الرابعة كأني استأنست به، ثم جاء فقلت: إني متعب أريد النوم، فقال: قم واقرأ، ثلاث مرات، ثم قال لي: أما تستحي! إنما آتيك وأطلب منك قراءة القرآن، ولم أطلب منك عشاء وكسوة ومالاً، وإنما أطلب منك أن تقرأ القرآن، ثم تقول: أريد أن أنام، غداً ستنام في القبر طويلاً.

يقول: فانتقلت. وذكر لي المحل الذي انتقل منه، وكان يسمى (سقيفة الرصاص سابقاً).

قال: فمن الغد جاءني وأيقظني قال: عجباً يا محمود ! نحن كلانا مهاجر في المدينة، أتريد أن تخرج منها؟ أم تريد أن أتركك؟ قلت: اتركني.

وأنا لا أقول هذا استشهاداً على وجود الجن، ولكن تأكيداً للذين يستبعدون أن يكون هناك جن، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (بأنهم يهاجرون إلى المدينة كما تهاجرون أنتم)، ونهى عن قتل الحية البيضاء قبل أن تآذنها لما وقع في غزوة الخندق، حيث كانوا يحفرون الخندق، وكان رجل حديث عهد بعرس فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته، فقال: (خذ سلاحك معك إني أخاف عليك يهود ولا تحدث شيئاً)، فجاء الرجل وعندما أقبل على باب البيت فإذا عروسه الجديد واقفة على الباب، فأخذ سيفه غيرة من أن تقف على الباب هكذا، فقالت: لا تعجل، ادخل بيتك وانظر فراشك، فدخل البيت فإذا بحية على طول الفراش، فأهوى عليها بالسيف فضربها، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسبق موتاً، فذكر الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه من مهاجر الجن إلى المدينة انتقم له إخوانه، إنهم يهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم، فإذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تآذنوها ثلاثاً).

الإعجاز في قوله: (في صعيد واحد)

قوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) هنا يأتي السؤال السابق: تجمعهم في صعيد واحد يسألون في وقت واحد فيُعطي الجميع عطاؤه في وقت واحد، ما الفرق بينه وبين أن يُعطي كل إنسان مسألته على حدة؟ من يوم ما نزل آدم إلى الأرض وهو يعطي عباده مسألتهم، إلى أن جاء هذا الحديث بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ لكن على انفراد.

هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني.. وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع.

لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟!

تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته.

فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام.

إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟

معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال.

ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية : ما هذا يا معاوية ! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.

البلاغة في قوله: (ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)

رب العزة يقول:(لو أن أولكم وآخركم) يعني: حيكم وميتكم، (وإنسكم وجنكم) بل ولو قامت حتى حيواناتكم ولها مطالب، (وأعطيت كل سائل مسألته)، ما الذي سوف يحصل؟ (ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر).

انظروا الأساليب! أين الأدباء والبلغاء والكتاب؟ لو قال: ما نقص شيء، لكانت الكلمة تمر هكذا على الأذن بلا تأثير، ولكن هذا الأسلوب يعطي في ذهنك صورة عملية وأنت الذي تحكم، يقول لك: أنا أُعطي، لكن ما الذي سيحصل؟

خذ إبرة واغمسها في البحر وارفعها، وانظر قدر ما نقص من البحر، فذلك هو الذي سينقص عندي، أنت بنفسك تقول؟ ليس بناقص شيئاً، وذلك وذلك كما في الآية الكريمة: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14]، لو قال لك: ليس ببالغه شيء، لما انطبعت الصورة، لكنه يصور لك صورة (كاريكاتورية) كما يقولون عنها، إنسان عطشان ويأتي على حافة بئر أو نهر ويفتح فمه ويمد كفه مبسوطة والماء بعيد في قعر البئر فهل يصله الماء؟

كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41] : ومتى يسكن الإنسان بيت العنكبوت، كأنك تقول: لا شيء.

وهنا وقفة مع قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، لما جاء العصفور وشرب، وقال له: ما ينقص علمي وعلمك إلا كما ينقص البحر من هذا العصفور.

في كلمة: (إذا أدخل البحر) أي البحار يريد؟ أظن أهل الجغرافيا يقولون: البحار هي المحيطات: الهندي والهادي والأطلسي والبحر الأبيض، وأظن أن البحر الميت لا يسمى بحراً ولكن بحيرة لوط، والحديث يقول: (إذا أدخلت في البحر)، فهل في نظر القرآن تلك البحار بحار متعددة أو هي بحر واحد؟ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] .. قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي [الكهف:109].

إذاً: تسمية الجغرافيين البحار إنما هي بتسمية أماكنها التي تمر بها، وجميع بحار العالم بحر واحد، ونحن نعرف هذا، فكلها متصلة لا يوجد حاجز بينها، وكما يقولون: ربع الأرض يابس وثلاثة الأرباع مياه، إذاً: في البحر يعني في بحار الدنيا التي تسمونها كذا وكذا.

والجواب أنه لم ينقص شيء، وهنا يقول العلماء: إن المولى سبحانه خزائنه ملأى، وفي بعض العطاء كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

إثبات صفة الكلام لله تعالى

أحب أن أنبه على بعض المواقف لبعض الشراح لهذا الحديث، يقول: إنه ليس هناك قول يقال: كن، ولكن تقدير ما يمكن في زمن كن، ويكون المراد: إذا تعلقت الإرادة بالمراد حصل.

وهذه زلة اعتزالية، يريدون بها أن ينفوا عن المولى سبحانه قوله: (كُنْ)، بل المولى سبحانه له صفة الكلام وهي صفة قديمة أزلية، أزلية الصفة متجددة الحدوث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛ لأنه بكلماته يأمر هذا فيتسلط على هذا، وينهى ذاك فيكف عن إيذاء ذاك، وكذلك في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول)، هل يقول بالإرادة أو يقول كما قال سبحانه؟

نقول: كما قال الله، كيف يقول؟ كيف يتكلم؟ هذا ليس لك ولا يحق لك أن تتساءل عن ذلك؛ لأنك تصف الله بما وصف به نفسه على مراده وعلى حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

والجن موجودون، ومن ينكر ذلك ينظر في الدليل، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن وبايعهم وصرفهم الله إليه وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:1-3] يا سبحان الله! كما قال صلى الله عليه وسلم ليلة التقى بهم: (للجن أحسن جواباً منكم، وكلما قلت: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب)، فكأنه يقول لهم: أنتم ما أجبتم، فكأن الجن كانوا أفقه وأحسن جواباً منكم.

ولما جاء مال البحرين وجاء الجني في صورة إنسان يسرق قبض عليه أبو هريرة ، ولما اعترض الجني لرسول الله وهو يصلي بالليل، همّ أن يمسكه، ثم تذكر قول نبي الله سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، يقول صلى الله عليه وسلم: (لولا دعوة أخي سليمان لأمسكت به إلى الصباح حتى ترونه ويلعب به صبيانكم)>

فإنكار الجن إنكار للواقع ومكابرة له، ولا أريد أن أخرج بكم عن الموضوع، ولكن كان شخص يسكن معنا هنا في المدينة اسمه محمود جاوي كان إذا قرأ القرآن تحتاج أن تصغي إليه لتسمع منه، وكان لا يرفع صوته، ولكن لو قرأ شهراً كاملاً لم تنصرف عنه، فقد كانت قراءته هبة من الله سبحانه، فجاءني يوماً مذعوراً، فقلت: ماذا دهاك يا محمود؟

قال: لا أستطيع أن أخبرك، قلت: لماذا تأتيني إذاً؟ قال: وقع أمس أمر عجيب، وقبل أمس، وقبل أمس، منذ أسبوع إلى الآن وأنا نائم، فإذا بي أسمع باب الغرفة يفتح، فنهضت إلى الباب قال: يا محمود خليك، قال: نهضت إلى السراج طبعاً ولم يكن هناك كهرباء، أخذت الكبريت لكي أشعل الفانوس، فقال: لا تشعل النور.

قلت له: من أنت؟ قال: واحد من جيرانك هنا.

قلت: ماذا تريد؟ قال: قم واقرأ القرآن.

قال: قمت من الخوف وقرأت وأنا أرتجف، قال: أنت خائف، لا عليك.. يكفي قراءة هذه الليلة فنم، ومن الغد آتيك في الموعد.

ولما جاء كنت أقل خوفاً، فقرأت حوالي نصف ساعة، وفي الليلة الثالثة جاء على الموعد فقرأت نحواً من ساعة، وفي الليلة الرابعة كأني استأنست به، ثم جاء فقلت: إني متعب أريد النوم، فقال: قم واقرأ، ثلاث مرات، ثم قال لي: أما تستحي! إنما آتيك وأطلب منك قراءة القرآن، ولم أطلب منك عشاء وكسوة ومالاً، وإنما أطلب منك أن تقرأ القرآن، ثم تقول: أريد أن أنام، غداً ستنام في القبر طويلاً.

يقول: فانتقلت. وذكر لي المحل الذي انتقل منه، وكان يسمى (سقيفة الرصاص سابقاً).

قال: فمن الغد جاءني وأيقظني قال: عجباً يا محمود ! نحن كلانا مهاجر في المدينة، أتريد أن تخرج منها؟ أم تريد أن أتركك؟ قلت: اتركني.

وأنا لا أقول هذا استشهاداً على وجود الجن، ولكن تأكيداً للذين يستبعدون أن يكون هناك جن، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (بأنهم يهاجرون إلى المدينة كما تهاجرون أنتم)، ونهى عن قتل الحية البيضاء قبل أن تآذنها لما وقع في غزوة الخندق، حيث كانوا يحفرون الخندق، وكان رجل حديث عهد بعرس فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته، فقال: (خذ سلاحك معك إني أخاف عليك يهود ولا تحدث شيئاً)، فجاء الرجل وعندما أقبل على باب البيت فإذا عروسه الجديد واقفة على الباب، فأخذ سيفه غيرة من أن تقف على الباب هكذا، فقالت: لا تعجل، ادخل بيتك وانظر فراشك، فدخل البيت فإذا بحية على طول الفراش، فأهوى عليها بالسيف فضربها، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسبق موتاً، فذكر الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه من مهاجر الجن إلى المدينة انتقم له إخوانه، إنهم يهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم، فإذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تآذنوها ثلاثاً).

قوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) هنا يأتي السؤال السابق: تجمعهم في صعيد واحد يسألون في وقت واحد فيُعطي الجميع عطاؤه في وقت واحد، ما الفرق بينه وبين أن يُعطي كل إنسان مسألته على حدة؟ من يوم ما نزل آدم إلى الأرض وهو يعطي عباده مسألتهم، إلى أن جاء هذا الحديث بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ لكن على انفراد.

هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني.. وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع.

لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟!

تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته.

فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام.

إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟

معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال.

ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية : ما هذا يا معاوية ! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.