خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/210"> الشيخ عطية محمد سالم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/210?sub=33948"> سلسلة شرح الأربعين النووية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول الإمام النووي رحمه الله: [عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها رواه مسلم].
هذا الحديث اشتمل على عدة معانٍ، وعلى عديد من الجوانب، وأكثر العلماء رحمهم الله من ذكره في عدة مواضع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الطُهور) هو بضم الطاء، ويقال بفتح الطاء (الطَهور)، ومثلها: الوُضوء والوَضوء، والسُحور والسَحور، قالوا: كلها بالضم تكون بمعنى: المصدر، وبالفتح بمعنى: الفعل، فالطُهور هو التطهر، والطَهور هو الماء الذي يتطهر به الإنسان، وكذلك السُحور والسَحور.
معنى الطهور
أ- التطهر عن كل ما لا يليق:
فقالوا: الطهور المبالغة في التطهير، أي: الطهارة من الحدث والخبث.
والطهور في اللغة: هو التنزه عن كل قبيح. قال تعالى: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، وقال: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرب النجاسة ولا يخالطها، لكن هذا كناية عن التطهر عن كل ما لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم، وما يورده العلماء في المعنى العام للطهور يشمل كل ما ينبغي أن يتجنبه الإنسان، ولذا قالوا: إن المراد بالحديث هنا: المعنى اللغوي العام وليس المعنى الشرعي الخاص؛ لأن المعنى اللغوي العام، هو: التنزه عن كل ما لا يليق بالمسلم أن يتلبس به، أما الطهارة الشرعية فهي إما وضوء، وإما غُسل: غسل النجاسة، وغُسل الجنابة، فغسل النجاسة لا يمكن أن يكون شطر الإيمان. ولكنه بالمعنى الأعم: طاعة الله، واجتناب نواهيه، وبهذا يتأتى أن الطهور فعلاً شطر الإيمان.
وقالوا: الإيمان: أقوال، وأفعال، واعتقاد. اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح. ونطق اللسان وعمل الجوارح ينقسم إلى قسمين:
الأول: امتثال أوامر: من ذكر، وصلاة، وصيام.
والثاني: اجتناب نواهٍ: اجتناب الكذب، والغيبة، والسرقة، والزنا، وكل ما فيه معصية لله.
قالوا: فالطهور الذي هو بمعنى التنزه وترك ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى هو نصف الإيمان؛ لأن الإيمان أوامر يجب أن يفعلها الإنسان، ونواهٍ يجب أن يتقيها ويتركها، فالطهور: ترك المعاصي، وترك ما لا يليق، والتنزه عن معصية الله. ومن هنا قال : (إن الطهور شطر الإيمان).
ب)- تطهير الأعضاء ورفع الحدث:
والبعض يقول: المراد بالطهور هنا: تطهير الأعضاء، ورفع الحدث؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، فلا تصح الصلاة إلا بطهارة، وجاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) ، والصلاة تسمى إيمان كما قال الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] ، قالوا: بإجماع المفسرين أنها صلاتكم، أي: لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ومات أشخاص في تلك الفترة، ثم تحولوا بالصلاة إلى الكعبة، فتساءل الناس وقالوا: ما بال الذين لم يصلوا إلى الكعبة وماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟! فجاء قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ، فقالوا: الإيمان من أسماء الصلاة.
المعنى الأعم لقوله: (الطهور شطر الإيمان)
فإذا أخذنا قوله: (الطهور شطر الإيمان)، وقلنا: إن الطهور في الإسلام بحسبه، فطهارة الثوب من الخبث، وطهارة البدن من الحدث، وطهارة القلب من أمراضه كالحقد، والحسد؛ لأن الإيمان لا يقارن الحسد ولا الحقد، فهذا صواب.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل معلق نعليه، فسلم ومضى، فلما كان من الغد جلسنا في ذلك المجلس، وقال صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، قال: فتبعته حتى عرفت بيته، فلما جاء المساء، جئته وطرقت عليه الباب، وقلت: إن بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده -وما كان بينه وبين والده شيء- وأردت أن أكون ضيفك الليلة، فقال: مرحباً، قال: فتعشى بعد أن صلى العشاء، ثم نام، وقبل أن يؤذن للصبح قام وتوضأ وذهب إلى المسجد وصلى الصبح، ولم أر شيئاً جديداً، فقلت: لعله ترك عبادته من أجلي، أو أنه متعب من عمله، فذهبت في الصباح ورجعت إليه في الليل لأنظر ماذا سيكون منه، فلم أجد شيئاً جديداً، ثم الليلة الثالثة -أي: مدة الضيافة-، فقلت: يا عبد الله! أخبرني عما تعمل سراً فيما بينك وبين الله، قال: ليس لي عمل إلا ما رأيت، أصلي العشاء وأنام، وأقوم الفجر، وأذهب إلى عملي، وأرجع إلى فراشي! قال: أليس هناك شيء آخر؟ قال: لا، أبداً، فمضى ثم دعاه فقال: ما سبب سؤالك؟ فأخبره، فقال: إن يكن شيء فإننا نبيت وليس في قلوبنا حقدٌ لأحد)، ولذا يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (ما سبق السابقون بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في القلب)، أي: من طهارة القلب، وتعظيم حرمات الله، ومخافة الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الطهور هنا المراد به: طهارة القلب من كل أدرانه، كما في قوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة:103] تطهرهم من أي شيء؟ هل تطهرهم من نجاسة أو خبث؟ لا، بل تطهر تلك النفوس، قال تعالى: وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] أي: في أنفسهم وأموالهم، فالزكاة بمعنى: النماء والزيادة، يقول العلماء: (الزكاة تطهر وتزكي)، فالغني والفقير يستفيد من الزكاة، فالغني يطهر قلبه من درن الشح، والفقير تزكو نفسه من الحقد والحسد.
وإذا سلم الغني من الشح، وسلم الفقير من الحقد، أصبح الجميع إخواناً، ومن هنا يمكن أن يقال: إن الحديث عني أول ما عني بالقلب؛ لأن القلب إذا طهر نبع وفاض بكل خير، ولذا أعقب طهارة القلب بذكر اللسان، والذكر لا يأتي بمجرد نطق اللسان بل لابد أن يكون نابعاً من قلب طاهر، وكأن الحديث يقول: أولاً طهر قلبك، ثم بعد ذلك اذكر ربك، فيكون الذكر نابعاً من قلب طاهر مع الله، ومثال ذلك في المحسوس: المزارع إذا أراد أن يزرع أرضه، وجاء ببذور جيدة غالية، فقبل أن يضع البذور في الأرض ينقي التربة، فإن كانت سبخة حذاها، وإن كان فيها نجل نقاها، إن كانت فيها حجارة أبعدها، حتى تصبح التربة طيبة منبتة نقية، فحينئذٍ يطمئن إلى الزرع، فإذا زرع فيها كان النبات حسناً، أما أن تكون أرض سبخة، أو أرض ملغمة، أو أرض اختلطت حجارتها بترابها، فكيف تنبت هذه؟! ومن هنا أيها الإخوة! جاءت لا إله إلا الله، بمعنى أنها تنفي كل مألوف، وبعد أن يزيل الاعتقاد من كل مألوف، وينبذ كل المعبودات، يتجه إلى إله واحد، دون مزاحمة.
وإذا جئنا إلى الاجتماعيات والمشاركة في الفكر: إذا كنت تريد أن تضع فكرة نقية في قلب إنسان، فقبل أن تضع الفكرة، وقبل أن تدعوه إلى الفكرة يجب أن تزيل العوائق، فإذا كان إنسان يعتقد اعتقاداً خاطئاً، وتريد أن تلقنه القعيدة السليمة، فقبل أن تلقنه العقيدة السليمة يجب أن تبين له بطلان ما في ذهنه، لماذا؟ لأنك إذا جئت بالصالح مع الطالح أفسد الطالح الصالح.
مثلاً: إذا كان عندك عسل مصفى، وعندك إناء فيه زيت أو شيء آخر، فلا تدخل العسل على الزيت أو على شيء قذر، ويجب أن تنقي الإناء وتنظفه أولاً، ثم تصب العسل فيه، وكما يقولون: الغزو الفكري، يكون بمجيء فكرة تزاحم فكرة، ودعوة تزاحم دعوة، وحينما تختلط اللغات بعضها ببعض، تجد فيها احتكاكاً، وتجد كلاً من اللغتين تأخذ من الأخرى، ويحصل حينئذٍ اللحن، ومن هنا ندرك أهمية وصية النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، لماذا؟ كان اليهود موجودين، والمشركون موجودين، فإذا استمر دين بجانب الدين الإسلامي، فلا بد أن يحصل احتكاك، ولا بد أن تأخذ كل طائفة من الأخرى؛ ولهذا يجب ألا يكون في جزيرة العرب دينان؛ وجزيرة العرب قاعدة الإسلام، ومنطلق الإسلام، فيجب ألا يشارك الإسلام فيها دين آخر؛ لأنه إن وجد فيها دين آخر فسيحصل امتزاج واحتكاك، أولئك يأخذون من هؤلاء، وتزحف العادات السيئة إلى صميم وقلب الأمة الإسلامية.
إذاً: (الطهور شطر الإيمان) أولاً وقبل كل شيء: طهارة القلب من كل ما يدنس المعتقد الإسلامي، سواء كان فيما يتعلق بالعقيدة في ذات الله سبحانه، في وحدانيته، في أسمائه وصفاته وأفعاله، في ربوبيته لكل العالمين، في ألوهيته وإفراده بالعبادة، فإذا طهر القلب، وصار نقياً مع الله، أصبح هذا القلب خصباً نقياً، صالحاً لأن تضع فيه كل خير، فينطق بحمد الله وتسبيحه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله).
معنى قوله: (الحمد لله تملأ الميزان)
الحمد ثناء على المحمود سواءً كان بالإفضال أو بالتفضل، أي: سواءً كان فاضلاً في ذاته، أو متفضلاً بنعمه على غيره، وحقيقة الحمد هو الثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يوجد هذا إلا لله سبحانه، ولذا قالوا: (ال) في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]للاستغراق، تستغرق جميع المحامد وتضيفها إلى الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) أتى بعدها بسبحان الله، وإذا نظرنا إلى اللفظين: الحمد لله، وسبحان الله، فهما قسيمان، (فالحمد لله) تثبت للمولى سبحانه جميع صفات الجلال والكمال، وهذا غاية التوحيد، والقسم الثاني (سبحان الله) تنزيه لله عن جميع النقائض، فحينما تأتي إلى اللغة تجد هذه المادة (سبحان) على وزن (فعلان) فالألف والنون زائدتان، وأصل المادة (سبح)، كما في قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ [الحديد:1]، يُسَبِّحُ لِلَّهِ [الجمعة:1] فالسبحان بمعنى الغفران، وأصل (سبح) من السباحة في الماء، وجميع مفردات اللغة العربية يسبق وضعها للماديات، ثم تنتقل إلى المعنويات، فالسباحة في الماء حركة، والغرض منها والمقصود بها النجاة من الغرق، فأنت إذا نزلت في الماء ولم تسبح غرقت وهلكت، فكذلك الذي يقول: (سبحان الله) يعني: أنزه الله سبحانه، وأبعده عن كل ما لا يليق بجلاله، وأبعد نفسي عن موارد الهلاك، فالعبد حينما يسبح الله ينجو؛ لأنه نزه ربه عما لا يليق بجلاله وإلا لهلك، فإذا جمع العبد بين (الحمد لله) -وهو إثبات صفات الكمال لله- وبين (سبحان الله) -وهو نفي كل النقائص عن الله- يكون قد استكمل جوانب التوحيد، وهو إثبات بلا تكييف، وتنزيه بلا تعطيل، وبهذا يجتمع التوحيد في هاتين الكلمتين، ومن هنا جاء في الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ) بدأ هذا الحديث بطهارة القلب، ثم جاء بذكر اللسان بأجمع الكلمات، وكما قالوا: إن الله اصطفى من الكلام أربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، وفي الحديث: (لا حول ولا قوة إلا بالله من كنز تحت العرش).
وقوله: (الحمد لله تملأ الميزان) ما هو الميزان؟
الميزان عند أهل السنة جميعاً: ميزان بكفتين، ينصبه الله للعباد يوم القيامة: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، والمعتزلة يقولون: ليس هناك ميزان، وإنما هناك عدالة في الفصل بين الخلائق يوم القيامة، وأهل السنة والجماعة يثبتون الميزان لوزن أعمال العباد، وجاءت السنة تبين أن هذا الميزان لو وضعت السموات السبع والأرضون السبع في كفة لوسعتهم تلك الكفة، وذلك في حديث البطاقة: (يؤتى بالعبد وله سجلات مد البصر، ويظن أنه هالك، فيقال له: لك عندنا حسنة، فتخرج بطاقة فيها: (لا إله إلا الله)، فيقول: وماذا تفعل لا إله إلا الله بهذه الموازين؟ فيؤتى بلا إله إلا الله في بطاقة فتوضع في الكفة الأخرى، فترجح بكل تلك السجلات)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن السموات السبع، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله).
وقوله: (سبحان الله، والحمد الله تملأان، أو تملأ، أو يملأان)، جاء بهذه الروايات الثلاث، (تملأ) بالإفراد أو (يملأان) بالتثنية.
قالوا: على التثنية الحمد والتسبيح، وعلى الإفراد الجملة بكاملها كأنها جملة واحدة، والكلمتان معاً كالجملة الواحدة.
عظم ثواب الحمد لله وسبحان الله
بعضهم يقول: سبحان الله، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والجمهور يقولون: إذا كانت كفة الميزان تسع السموات والأرض، فأيهما أكبر جرماً وأوسع وأكثر؟ لا شك أن كفة الميزان أو الميزان أوسع؛ لأنه يسع السموات السبع والأراضين.
إذاً: الحمد لله ثوابها أعظم، وقالوا: إن الحمد هو نصف توحيد حق الله، والتسبيح هو النصف الثاني، فثواب الحمد وإثبات الكمال والجلال لله لا أحد يقدر قدر هذا الثواب؛ لأنه متعلق بحق الله، وبحق مدحه سبحانه، فثوابه لا يسعه ولا يقدر قدره إلا الله، قالوا: الحمد لله تملأ الميزان، ثم تأتي (سبحان الله) مع (الحمد لله) فتملأ ما بين السماء والأرض، مع بقاء الميزان مملوءاً بثواب الحمد لله. انظروا أي عظمة هذه؟!
لأنها تتعلق بذات الله، تحمد المولى، وتنزه المولى، والباقي كلها فروع.
معنى قوله: (الصلاة نور)
قال: (الصلاة نور) بينما يأتي قوله: (والصبر ضياء)، ويتفق علماء اللغة أن الضياء أقوى وأشد من مجرد النور، لكنهم يقولون: النور إضاءة بلا حرارة، والضياء نور مع شدة حرارة، (والصدقة برهان)، قالوا: البرهان هو الشعاع الذي يكون أمام ضوء الشمس.
إذاً: هذه الثلاثة الألفاظ (نور- ضياء- برهان) ترتبط بخط الإضاءة، إلا أن النور فيه ضياء مع هدوء، وليس فيه حرارة، والبرهان قريب من أشعة الشمس، والضياء نور مع شدة حرارة.
وما فائدة هذا التقسيم؟ قالوا: إن دين الإسلام نور وهداية، والقرآن الكريم وصف بأنه نور، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52]، وقال تعالى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]، وأما الضياء فمعه الشدة؛ ولهذا غاير في وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، وقالوا: النور يصدق على مطلق الإضاءة، والضياء لا يكون إلا للشيء الشديد القوي كما قال سبحانه: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5] فوصف القمر بأنه نور، والشمس بأنها ضياء؛ لأن نور الشمس أشد من نور القمر، ولكن قد يستطيع الإنسان مواصلة السير في نور القمر ما لا يستطيعه في ضوء الشمس، وأيضاً الصبر أعم من كل التكاليف، فبالصبر تصلي، وبالصبر تصوم، وبالصبر تزكي، وبالصبر تجاهد في سبيل الله، إلى غير ذلك.
ووصف الصلاة بأنها (نور)، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه وصف الصلاة بقوله: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كانت له نوراً يوم القيامة، لم يحافظ عليها لم يكن له نور يوم القيامة )، وجاء فيما يتعلق بالوضوء: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، وجاء في حق الصلاة أنها نور على الصراط، وجاء في القرآن الكريم: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]، والآية الأخرى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وسمعنا الشيخ الأمين رحمة الله عليه في هذا المقام يقول: هذه قضية خطيرة جداً بين المنافقين وبين المؤمنين، وفي ذلك اليوم يكشف الله حقيقة خداع المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]، ويقول: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وكيف يخادعون المؤمنين؟ قال الله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14-15].
فهم خدعوا المؤمنين بقولهم: نحن معكم، ويحضرون معهم الجماعات، وإذا توفى أحدهم توارثوا معه، ويتزاوجون من المسلمين، ويتوارثون معهم، ويجاهدون معهم، ويأخذون من الغنائم معهم، وحقنت دماؤهم وأموالهم، هذا ظاهر الأمر، ولكنهم يخفون الكفر، فالله سبحانه تركهم على ما هم عليه، وظنوا أنهم بذلك خدعوا الله وخدعوا المؤمنين.
وفي يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- يتولى الله أمر الجميع، ويقوم الناس من قبورهم لأول وهلة غراً محجلين من أثر الوضوء، المؤمن والمنافق سواء، ثم يطرد المنافقون من الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، ثم إن الملائكة تذوذ أقواماً عن الحوض فأقول: أمتي أمتي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي).
وفي ذلك اليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ويبعث المنافقون بآثار نور الوضوء مع عامة المؤمنين، ويفرحون بذلك، لأنهم تساووا مع المؤمنين، حتى إذا جاءوا ليردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طردوا!! والنبي عليه الصلاة والسلام فرط الأمة على الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً غراً محجلة، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم ) والدهم التي لونها واحد، البهم السوداء التي ليس فيها لون آخر، وغراً أي: جبينها مضيء، والحجل موضع القيد، والفرس إذا كانت دهماء بلون واحد، وجبينها أبيض، وأقدامها بيضاء، لا تخفى على صاحبها أبداً: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)
فبين صلى الله عليه وسلم أنه ينتظرهم عند الحوض، فإذا جاءوا فرزت الملائكة النفاق عن الإيمان، وعزلت المنافقين عن المؤمنين، ومضى المؤمنون إلى الحوض ليشربوا منه، وحين يرد المنافقون يقولون كما قال الله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا [الحديد:13]، انظرونا: بمعنى انتظرونا، أي: حتى نمشي في أنواركم أو انظرونا: التفتوا إلينا، وانظروا إلينا ليجيء إلينا أنوار وجوهكم، انظرونا، أو انتظرونا: نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13].
قال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] تبقى على بياضها، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] أي: يطفأ نورها، وهؤلاء هم المنافقون، وحين ينادون المؤمنين يجيبهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:13-14]، فيبقى النور مع المؤمنين، ولكن المؤمنين حينما يرون هذا الموقف، يخافون من موقف آخر، ومن اختبار ثانٍ، فيقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا [التحريم:8] أي: أبقِ لنا هذا النور، وأتمه لنا حتى ندخل الجنة.
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم النور الكامل، وأن يحفظنا وإياكم من الفتن، وأن يبلغنا وإياكم رضاه والجنة.
قوله: (والصلاة نور) قالوا: هي نور في الدنيا؛ لأن المؤمن إذا طهر قلبه؛ وأدى الصلاة، كانت الصلاة له شحنة نور في قلبه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) من أين يأتيه النور؟ من عبادته، ومن صلاته: (ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، فينير الله له بصيرته.
ولهذا يقول الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فأنار الله قلبه وبصيرته، وشرح صدره، ويسر أمره.
والصلاة نور للمؤمن في الدنيا، بتوجهه إلى الخير، واطمئنان النفس والقلب، وبحفظه عن المعاصي كما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]
إذاً: الصلاة نور في الدنيا، وكما قال بعض السلف: (من صلى بالليل، حسن وجهه بالنهار) أي: يضيء وجهه، قال الله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، وهكذا في عرصات القيامة، فالصلاة نور للعبد يوم القيامة.
إذاً: (والصلاة نور) حقيقة يوم القيامة، ودلالة وهداية في الدنيا، ويدرك ذلك من ذاق طعم الصلاة، حينما يؤديها بخشوعها ويتمها بركوعها وسجودها، ويوفيها حقها من في الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، واستحضار القلب، وبذلك يشعر بحقيقة نور الصلاة وحلاوتها.
من أحوال السلف في الصلاة
وهاهو علي بن الحسين كان يصلي وانصدع ركن المسجد، ولم يشعر بشيء، ومضى في صلاته حتى سلم منها، فقال: ما هذه الغبرة؟! قالوا: أما سمعت المسجد قد سقط؟! قال: لم أشعر بذلك! كنت في شغل عنها، وكان إذا أراد أن يتوضأ اصفر وجهه، وتغير لونه، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!
وعروة بن الزبير أصيب في ساقه، وقرر الأطباء قطعها، فقطعوها وهو في الصلاة!
وذكر البخاري رحمه الله تعليقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأصاب في النهار حياً من أحياء العرب، فجاء رجل منهم كان غائباً فعلم أن زوجته مع المسلمين، فتبعهم بالليل، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً، فقال: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان: رجل من ثقيف، والآخر من الأنصار، فأمرهما أن يحرسا المسلمين )، فذهبا إلى فم الشعب، فقال أحدهما للآخر: اكفني نصف الليل الأول وأكفيك نصفه الثاني، فقام صاحب النوبة، يحرس فم الوادي، ورفيقه نائم ينتظر نوبته، فجاء الرجل الذي يطلب ثأر زوجه، فسمع القارئ يقرأ، ولم يره لظلام الليل، وكان رامياً، فأخرج سهمه، ووضعه في قوسه، ورماه صوب الصوت فأصابه، ولكن القارئ نزع السهم وألقاه، واستمر في قراءته، فظن المشرك أن سهمه أخطأ، فأخذ السهم الثاني وصوبه وأصابه، ولكن القارئ نزع السهم ومضى في صلاته، فظن الرامي أنه أخطأ، فأخذ الثالث ورمى وأصابه، وإذا بالدم يقطر على وجه النائم، فاستيقظ وقد فرغ من صلاته، فقال: ما هذا؟ قال: رماني الرجل، فقال: هلا أيقظتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها! عجب والله! السهم يقطع في لحمه، ويتقاطر دمه، وهو يكره أن يقطع قراءة السورة، بأي مقياس تقيسونه أنتم؟!
لو لم يكن هذا الأثر في صحيح البخاري، لقلتم: سنده وسنده، رجاله ورجاله؛ لأنه فوق مستوى إدراكنا، فكيف يتحمل ثلاثة أسهم؟! بل هي أشد من ستة؛ لأن نزع السهم وله أسنان معاكسة أشد فتكاً من رميه ونفوذه، كما قال القائل:
سيان إن هي أقبلت أو أدبرت نزع السهام ووقعهن أليم
فهذا يرُمى بثلاثة أسهم، وتخترق جسمه، وينتزعها ويستمر في صلاته؛ لأنه كان يقرأ سورة ويكره أن يقطعها!
أتظنون أن هذه السورة من قصار المفصل كالضحى، وألم نشرح، والتين، لا والله! قالوا: إنها سورة الكهف، فيستمر في قراءته وصلاته بالليل حتى يختم سورة الكهف!
غذاؤهم الروحي هو سر قوتهم وليست القوة بالمطعومات والمشروبات.
ويقولون: من خصائص خالد بن الوليد : أنه ما انهزم في معركة أبداً، حتى وهو مشرك، وفي أحد كان مع المشركين، وكان هو سبب عملية التفاف المشركين من وراء الرماة.
قيل له في آخر حياته: يا خالد ! لقد حزت المناصب، ونلت الانتصارات، فما هي أمنيتك في الحياة بعد ذلك كله؟ انظروا! حروب وانتصارات، غنائم ومناصب، ويسأل: ما تريد بعد ذلك؟ ماذا كان جوابه؟! أطلب الخلافة؟! لا والله، إنما تمنى أن يحرس المسلمين مصلياً، فـخالد رضي الله عنه ما كان يعمل لمنصب، ولا لدنيا، وخير شاهد على ذلك: ما وقع في وقعة اليرموك، حينما كان رضي الله عنه قائداً للمعركة، وعاملاً لـأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فتوفي أبو بكر وتولى عمر ، وسمع عمر بانتصاراته، وسمع برعب الناس، فعزله أثناء المعركة، وجاء البريد بوفاة أبي بكر، وأمر عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة ، فماذا فعل خالد؟ حينما اجتمع القادة جميعاً قالوا: دعونا نتناوب القيادة؛ لأن عدد العدو أكثر من عدد المسلمين خمس مرات، فقالوا: نتناوب القيادة، واتركوا لـخالد هذا اليوم، فأخذ ينظم الجيش، وأخذ يرسل بعض السرايا ليلاً لتأتي نهاراً توهم العدو بمجئ مدد، وفي أثناء المعركة بدت بشائر النصر، وجاء البريد، فأوقفه خالد ما عندك في هذا البريد؟ فأخبره، فقال: أعلم برسالتك أحد؟ قال: لا. فحبسه عنده وأمسك خطاب عزله، واستمر في قيادة المعركة؛ حتى أتم الله النصر على يده، ثم ذهب إلى أبي عبيدة فقال: السلام عليك يا أميرنا! وعظم الله أجرك في أبي بكر ، وليهنك خلافة عمر ، قال: وأنت؟! قال: أنا جندي من جنودك، وقدم إليه خطاب التولية والعزل!
فهل كان هذا البطل يسعى لمنصب؟! يأتيه العزل من القيادة وهو في أثناء المعركة، فلم يتخل ويقول:لست مسئولاً، ولا حاجة لي فيها، إنما كان يقاتل في سبيل الله، ولهذا كل مسلم يشارك في معركة، يحس بأنه مسئول عنها بكاملها.
وهذا الحباب بن المنذر لما كان في غزوة بدر، ونزل رسول الله في أول الأمر منزلاً، فقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل الحرب والمكيدة، قال: ليس هذا بمنزل، الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر جهة المشركين، ونبني لنا حوضاً ونمنع عنهم الماء، ونجلس على الماء ولا ماء للمشركين)، وكان جبريل مع رسول الله وهو ينظم الجيش، فنزل ملك وقال: (يا محمد! الرأي ما قال
وفي بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينةً، واشتد أمر الحصار على المسلمين، واهتدى رجل في الليل إلى ثغرة في الحصن، فدخل حصن العدو، وفتح الأبواب، وكبر ودخل المسلمون وانتصروا، وهم لا يدرون من الذي فتح الأبواب؟ فقام الأمير يريد أن يعرف من هو، فقال: ليقوم صاحب الثغر فمكث ثلاث ليال ولم يأته أحد، ثم قال: عزمت عليك -يا صاحب الثغر- بحق السمع والطاعة إلا أتيتني، وفي منتصف الليل ذهب صاحب الثغر إلى خيمة الأمير، فوجد حارسه عند الباب وكان متلثماً، فقال للحارس: أخبر الأمير بأن طلبه على الباب، وقل له: إنه يجيبك بشرط: إن كنت تعرفه فلا تخبر به، وإن لم تكن تعرفه فلا تسأله عن اسمه، ولا تحاول أن تقدم له هدية ولا جزاء، فإن قبل دخلت عليه، وإلا انصرفت، فقال: أدخله، فدخل، فما كان منه إلا أن سلم وقال: أي هذا! ألا تتقي الله فينا، ما لك ولنا؟ ما الذي تريده مني؟ إن الذي أقاتل في سبيله يعرفني، ويعرف من أنا، وابن من، فهل جئنا من أجلك؟ عزمت عليك بالله ألا تطلبني بعد ذلك، وخرج من عنده حالاً!
فـخالد رضي الله عنه حينما سئل: لقد خضت المعارك وانتصرت، ونلت من الغنائم ما غنمت، ونصبت من المناصب ما نصبت، فما هي أمنيتك بعد ذلك؟ فيقول: ليلة مطيرة شديدة البرد، عاصفة الرياح، أقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله!
إذا كان هؤلاء هم القادة فلماذا العجب من جندي ينزع السهام ويستمر في الصلاة؟!
من الذي أعطاه هذه الطاقة؟! أهو البنج أم المنوم، أم المخدر؟! لا والله! إنه الإيمان فوق كل شيء، وهكذا إذا ذاق العبد حلاوة الصلاة، ومناجاة ربه، فأي نور بعد هذا؟! الصلاة نور في الدنيا، ونور في الآخرة، ويكفي أنها مما يعين العبد في دنياه، ويسعده في آخرته، لقد كان صلى الله عليه وسلم: (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وابن عباس كان يمشي في سفر، فجاءه نعي صديق عليه، فنزل وصلى ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: أستعين بهما على ما بلغني من الخبر.
وما من مسلم تنزل به نازلة، فيتوضأ ويستقبل القبلة، ويصلي ركعتين إلا شرح الله صدره، وفرج عنه ما به، ولذا جاء في الأثر: (من أراد أن يدخل على ربه بلا استئذان، ويخاطبه بلا ترجمان، فليسبغ وضوءه، وليستقبل القبلة، وليكبر في الصلاة)، حينما ندخل المسجد، وحينما نقف للصلاة، لم نستأذن أحد، ويقف العباد جميعاً كل يدعو الله بلغته، والله لا يستأذنون أحداً، في موسم الحج يقف بجانبك إفريقي، وآسوي، وأوروبي، وأمريكي، ألسنة مختلفة، والكل في صف واحد، والكل يعبد رباً واحداً، بدون ترجمان، ويسأل كل إنسان مسألته بينه وبين الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.
فالصلاة صلة بين العبد وربه، يلجأ إليها العبد في النوازل والملمات، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وقد وصى صلى الله عليه وسلم بتربية النشء في البداية وقبل البلوغ عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فيعود الصبي على الصلاة من السابعة إلى العاشرة ثلاث سنوات، بالترغيب وبالترهيب، وبإعطاء الحلوى والهدايا، وصحبته إلى المسجد، ثلاث سنوات، فإذا بلغ العاشرة، فإن كان خيّراً طيباً نقياً كان ذلك كافياً له في أن يرتاد المسجد وحده ، وإلا ضرب ضرب تأديب لا ضرب تشفي ، فإذا روّض من السابعة إلى العاشرة، ثم ألزم وضرب من العاشرة إلى الخامسة عشرة، فلا يجري القلم عليه إلا وقد أصبحت الصلاة جزءاً من دمه ولحمه، وما جنى إنسان على ولده أكثر من ترك تعليمه الصلاة، فعلى العبد أن يفعل ما في وسعه، والتوفيق والهداية من الله سبحانه وتعالى.
والصلاة عني بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كما جاء: (آخر ما تتركون من أمر دينكم الصلاة، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة) فإن حفظها وحافظ عليها صعدت ولها نور، ولها ريح طيبة، وكلما مرت بسماء تفتح لها الأبواب، وتجد الملائكة منها الريح الطيبة، فنقول: ما هذه؟! فيقولون: صلاة فلان!، وإذا كان العكس فبالعكس والعياذ بالله!