عنوان الفتوى : مدى صحة حديث إنكار رسول الله قول اليهودية وقوله: "لا عذابَ دونَ يومِ القيامةِ"
ما صحة هذا الحديث: أنَّ يهوديةً كانتْ تَخْدِمُها، فَلَا تَصْنَعُ عائشةُ إليْها شيئًا منَ المعروفِ، إلَّا قالَتْ لها اليهوديةُ: وقَاكِ اللهُ عذابَ القبرِ. قالَتْ: فدَخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَيَّ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، هل للقَبْرِ عذابٌ قبلَ يومِ القيامةِ؟ قال: لا، وعمَّ ذاكَ؟ قالَتْ: هذه يهودِيَّةٌ، لا نَصْنَعُ إليْهَا شيئًا مِنَ المعروفِ، إلَّا قالَتْ: وقاكِ اللهِ عذابَ القبْرِ. قال: كَذَبَتْ يهودٌ، وهم على اللهِ كُذُبٌ، لا عذابَ دونَ يومِ القيامةِ. قالتْ: ثمَّ مكثَ بعدَ ذلكَ ما شاءَ اللهُ أنْ يمكُثَ، فخرجَ ذاتَ يومٍ بنصفِ النهارِ، مشتَمِلًا بثوبِهِ، محمرةٌ عيناهُ، وهو ينادِي بِأَعْلَى صوتِهِ: أَيُّهَا الناسُ، أظَلَّتْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ الليلِ المظلِمِ، أَيُّها الناسُ، لَوْ تعلمونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا، أيُّها الناسُ، استعيذوا باللهِ من عذابِ القبرِ؛ فإِنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور رواه الإمام أحمد في المسند بهذا اللفظ، وصحّح إسناده الشيخ الألباني، وشعيب الأرناؤوط.
وفي هذا الحديث إنكار النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في بادئ الأمر قبل أن يوحى إليه بصدق قولها، وهذا مخالف للرواية الأخرى للحديث، والتي رواها أحمد أيضًا في المسند، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْهَا يَهُودِيَّةٌ، اسْتَوْهَبَتْهَا طِيبًا، فَوَهَبَتْ لَهَا عَائِشَةُ، فَقَالَتْ: أَجَارَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَتْ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ؛ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِلْقَبْرِ عَذَابًا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ. وهذا الحديث أيضًا إسناده صحيح على شرط الشيخين، كما قال شعيب الأرناؤوط.
والرواية بتصديق قول اليهودية أيضًا جاءت في صحيح البخاري، ففيه: فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ: نَعَمْ، عَذَابُ القَبْرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ القَبْرِ حَقٌّ. اهــ.
ولا تعارض بين الرواية التي فيها الإنكار، وبين الأخرى التي فيها التصديق؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الكفار يعذّبون في قبورهم، وهذا الذي أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وأقر اليهودية عليه حين قال: نَعَمْ إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ .. فصدقّها في أن الكفار يعذبون، ولكن لم يوحَ إليه قبل هذه الحادثة أن عذاب القبر قد يصيب الموحدين أيضًا. وعلى هذا تحمل رواية الإنكار، ثم جاءه الوحي بأنه كذلك.
قال الحافظ في فتح الباري: فَالَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ وُقُوعُ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ اللهُ مِنْهُمْ، فَجَزَمَ بِهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ؛ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، وَإِرْشَادًا؛ فَانْتَفَى التَّعَارُضُ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى. اهــ.
والله أعلم.