شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

[عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح. ].

هذا الحديث الذي يسوقه النووي رحمه الله في هذه المجموعة المباركة عن الصحابيين الجليلين رضي الله تعالى عنهما أبي ذر ومعاذ بن جبل.

أما أبو ذر فتقدمت الإشارة إلى ترجمته بإيجاز وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ثم مجيئه إلى المدينة، ثم ما كان من أمره، وسفره إلى الشام، واختلافه مع معاوية رضي الله تعالى عنهما، وإقامته بالمدينة، ثم طلبه من الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه الاعتزال، وذهابه إلى الربذة، وبقي بها إلى أن وافاه أجله رضي الله تعالى عنه، وصدُق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده) .

أما معاذ بن جبل فهو الأنصاري الخزرجي البدري، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( معاذ أمام العلماء يوم القيامة برَتْوَة) أي: يتقدمهم برمية حجر.

وقال عنه صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم مبيناً خصائص بعض أصحابه: (أرحم هذه الأمة بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشد هذه الأمة في الله: عمر ، وأشد الناس حياءً عثمان ، وأعرف الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وهكذا ذُكر مع هؤلاء الأكارم.

كما قال صلى الله عليه وسلم عن زيد بن ثابت : (أفرضكم زيد) .

وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي دعا له بقوله: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين) .

مما يدل لأول وهلة على أن الاختصاص في العلم والتخصص في بعض مواده له أصل، وقد يفيد الأمة أكثر من غيره، وقد كانت نتائج هذا التخصص أو تلك الخصوصيات أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من تلك العلوم رجعوا لصاحب الاختصاص فيها، فإذا اختلفوا في مسألة فرضية رجعوا إلى رأي زيد، وتقرءون في الرحبية:

عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض

وإن زيداً خُص لا محالة بما حباه صاحب الرسالة

من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيد وناهيك بها

فاختار صاحب الرحبية مذهب زيد الفرضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفرضكم زيد).

وحينما كان عمر رضي الله تعالى عنه يجمع الشيوخ في مجلسه لمشاورته ومجالسته، كان ابن عباس وهو غلام يدخل معهم فيرى عمر أثر ذلك في وجوههم ولهم غلمان، فأراد أن يبين لهم موجب ذلك، فقال لهم ذات يوم: (ما معنى قوله سبحانه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

قالوا: إنها بشرى من الله لرسوله بالفتح، بشرى للمسلمين بمجيء النصر ودخول الناس في الدين أفواجاً.

وابن عباس ساكت.

قال: ما تقول يا ابن عباس؟!

قال: أقول: إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا.

قال: وكيف ذلك؟!

قال: إن الله أرسل رسوله برسالة وكلفه بمهمة أدائها، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فإذا انتهت المهمة ودخل الناس في دين الله أفواجاً فما عليه إلا أن يتهيأ لملاقاة ربه، ليلقى وافر جزائه.

قال: وأنا أرى ذلك).

ومصداق هذا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن).

وكذلك حينما اختلفوا في ليلة القدر ... إلى آخره.

علم معاذ بن جبل رضي الله عنه وفقهه

ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ومن أفقه الصحابة، ورد عنه موقفان يدلان على فقهه وإمامته وألزم ما يكون لطالب العلم معرفتهما:

أولاً: ما يذكره ابن كثير في تفسيره، والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: كانت الصلاة في أول الأمر إذا أقيمت وجاء مسبوقٌ، لا يدري كم صلوا، يسأل الذي بجانبه: كم صليتم؟ فيشير واحدة أو اثنتين، فيصلي ما فاته بسرعة، ثم يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ما سلم رسول الله سلم معهم؛ لأنه أتى بما فاته قبلاً.

فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه يوماً فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم ينتظر رفعهم من السجود ويسأل؛ ولكن كبر وسجد، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف معاذ ما فاته قام وقضى ما فاته وسلم بعد ذلك.

فقال له جاره: (لم تعتد بالركعة -يعني: سجدت ولم تأتِ بالركعة كاملة- فقال: ما كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وأحببت أن أكون عليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ما فعل معاذ - فقال: هي سنة لكم) فصارت السنة إلى الآن أن المسبوق إذا جاء وجب عليه أن يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها ولا ينتظر، فإن كان قائماً قام معه واستمع أو قرأ، أو راكعاً ركع، أو رافعاً قائماً، أو ساجداً، أو جالساً، أو في التشهد، على الحالة التي يدرك الإمام فيها.

الموقف الثاني: حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه صلى الله عليه وسلم يوادعه ويوصيه، ثم قال: (يا معاذ! كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟

قال: أقضي بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد؟

قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: فبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فإن لم تجد؟

قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب صلى الله عليه وسلم بصدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

قد نجد بعض الناس يتكلم في سند هذا الحديث، ولكن عامة علماء المسلمين وقضاتهم يعتبرون حديث معاذ هذا الأصل الأصيل في باب القضاء، وعليه فإن أول ما يلزم القاضي أن يطلب الحكم من كتاب الله، وهذا أمر حق، فإن لم يجد في مجمل كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الخاصة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما العامة في نصوصه- فإن لم يجد في كتاب أو سنة فهنا يتعين عليه الاجتهاد، ولا يصح له التقليد، بمعنى: ألَّا يحكم حكماً إلا ويعرف دليل هذا الحكم على ما استند.

هذا هو معاذ.

أما أثره في الإسلام، فإنا نعلم بأن مصعب بن عمير أول من قدم المدينة يعلم أهلها الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين.

ومعاذ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح حينما خرج إلى حنين يفقه أهل مكة في الدين.

ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام، فـمعاذ علم أهل مكة الإسلام، ومعاذ ذهب إلى اليمن معلماً وقاضياً فيها، ومعاذ بُعث إلى الشام، فلكأن معاذاً كان بعثة علمية متنقلة في العالم الإسلامي.

وما يهمنا في هذا كله هو أخذ نبذة عن هذا الصحابي الجليل، كما أنه يروي لنا حديث (اتقِ الله حيثما كنت) قيل: إنه جزء من الوصية التي أوصاه بها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى اليمن.

وفي بعض الروايات قال له صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ! لعلك ترجع فلا تلقاني، ولعلك تمر بمسجدي وبقبري. فبكى معاذ رضي الله تعالى عنه خَشَعاً لفراق رسول الله وألَّا يراه ).

وقد جاء مثل ذلك عن بعض الصحابة -ولعله عبادة بن الصامت- حينما أراد النبي أن يرسل بعثاً إلى نخلة لاستطلاع أهل مكة، فأعطاه كتاباً مختوماً وقال: (لا تفضن كتابي هذا إلا بعد مسيرة ثلاثة أيام فأخذه ونظر إلى رسول الله وبكى قال: ما يبكيك؟! قال: لفراقك يا رسول الله! فأعفاه وأخذ الكتاب وأعطاه لـعبد الله بن جحش، ومضى في طريقه وما فض الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام) كما يقولون في الوقت الحاضر: تعمية الأخبار، والحرب الخاطفة.

فـمعاذ رضي الله تعالى عنه بأي شيء أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء؟ قال له: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن): ثلاث جمل، كل جملة وحدها تستوقف طالب العلم؛ يجمع أطرافها، وينظر كنهها، ويبحث في آثارها على الشخص وعلى المجتمع، ولا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يستوفي الثلاث كلها.

ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ومن أفقه الصحابة، ورد عنه موقفان يدلان على فقهه وإمامته وألزم ما يكون لطالب العلم معرفتهما:

أولاً: ما يذكره ابن كثير في تفسيره، والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: كانت الصلاة في أول الأمر إذا أقيمت وجاء مسبوقٌ، لا يدري كم صلوا، يسأل الذي بجانبه: كم صليتم؟ فيشير واحدة أو اثنتين، فيصلي ما فاته بسرعة، ثم يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ما سلم رسول الله سلم معهم؛ لأنه أتى بما فاته قبلاً.

فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه يوماً فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم ينتظر رفعهم من السجود ويسأل؛ ولكن كبر وسجد، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف معاذ ما فاته قام وقضى ما فاته وسلم بعد ذلك.

فقال له جاره: (لم تعتد بالركعة -يعني: سجدت ولم تأتِ بالركعة كاملة- فقال: ما كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وأحببت أن أكون عليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ما فعل معاذ - فقال: هي سنة لكم) فصارت السنة إلى الآن أن المسبوق إذا جاء وجب عليه أن يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها ولا ينتظر، فإن كان قائماً قام معه واستمع أو قرأ، أو راكعاً ركع، أو رافعاً قائماً، أو ساجداً، أو جالساً، أو في التشهد، على الحالة التي يدرك الإمام فيها.

الموقف الثاني: حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه صلى الله عليه وسلم يوادعه ويوصيه، ثم قال: (يا معاذ! كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟

قال: أقضي بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد؟

قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: فبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فإن لم تجد؟

قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب صلى الله عليه وسلم بصدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

قد نجد بعض الناس يتكلم في سند هذا الحديث، ولكن عامة علماء المسلمين وقضاتهم يعتبرون حديث معاذ هذا الأصل الأصيل في باب القضاء، وعليه فإن أول ما يلزم القاضي أن يطلب الحكم من كتاب الله، وهذا أمر حق، فإن لم يجد في مجمل كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الخاصة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما العامة في نصوصه- فإن لم يجد في كتاب أو سنة فهنا يتعين عليه الاجتهاد، ولا يصح له التقليد، بمعنى: ألَّا يحكم حكماً إلا ويعرف دليل هذا الحكم على ما استند.

هذا هو معاذ.

أما أثره في الإسلام، فإنا نعلم بأن مصعب بن عمير أول من قدم المدينة يعلم أهلها الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين.

ومعاذ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح حينما خرج إلى حنين يفقه أهل مكة في الدين.

ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام، فـمعاذ علم أهل مكة الإسلام، ومعاذ ذهب إلى اليمن معلماً وقاضياً فيها، ومعاذ بُعث إلى الشام، فلكأن معاذاً كان بعثة علمية متنقلة في العالم الإسلامي.

وما يهمنا في هذا كله هو أخذ نبذة عن هذا الصحابي الجليل، كما أنه يروي لنا حديث (اتقِ الله حيثما كنت) قيل: إنه جزء من الوصية التي أوصاه بها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى اليمن.

وفي بعض الروايات قال له صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ! لعلك ترجع فلا تلقاني، ولعلك تمر بمسجدي وبقبري. فبكى معاذ رضي الله تعالى عنه خَشَعاً لفراق رسول الله وألَّا يراه ).

وقد جاء مثل ذلك عن بعض الصحابة -ولعله عبادة بن الصامت- حينما أراد النبي أن يرسل بعثاً إلى نخلة لاستطلاع أهل مكة، فأعطاه كتاباً مختوماً وقال: (لا تفضن كتابي هذا إلا بعد مسيرة ثلاثة أيام فأخذه ونظر إلى رسول الله وبكى قال: ما يبكيك؟! قال: لفراقك يا رسول الله! فأعفاه وأخذ الكتاب وأعطاه لـعبد الله بن جحش، ومضى في طريقه وما فض الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام) كما يقولون في الوقت الحاضر: تعمية الأخبار، والحرب الخاطفة.

فـمعاذ رضي الله تعالى عنه بأي شيء أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء؟ قال له: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن): ثلاث جمل، كل جملة وحدها تستوقف طالب العلم؛ يجمع أطرافها، وينظر كنهها، ويبحث في آثارها على الشخص وعلى المجتمع، ولا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يستوفي الثلاث كلها.

إذا نظرنا إلى الفقرة الأولى: (اتقِ الله حيثما كنت) علماء اللغة يقولون: أصل التقوى: الوقاية، اوْتَقَى: افتعل، من اتخذ وقاية، من أي شيء؟ يأخذ حاجزاً ساتراً يقيه مما يخافه، (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، يعني: اجعل حاجزاً ووقاية بينك وبين النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].

وقالوا: (اتقِ الله): إضافة التقوى إلى الله سبحانه وتعالى أي: ما يصيبكم من عذاب الله أو ما يأتيكم من الله بسبب ذنوبكم، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] أي: اتقوا ما يقع من أحداث في ذلك اليوم.

إذاً: (اتقِ الله): اتخذ الوقاية بينك وبين ما يأتيك من الله مما تكره.

أربع نقاط يبحثها طالب العلم في مجال تقوى الله: بِمَ يتقي الله؟ وفيمَ يتقي الله؟ ومن هم أتقياء الله؟ ونتائج التقوى!

ولا أستطيع أن أقول: إنه يمكن إحصاء ذلك؛ ولكن سنمر بكتاب الله في مواطن أو موطن واحد من المصحف الشريف في سورة الشعراء لنرى ما يتقيه الإنسان، وقبل ذلك: من هم المتقون؟

وصف المتقين وأعمالهم

إذا جئنا إلى أول المصحف لتعريف المتقين نجد افتتاحية الكتاب الكريم في أول سورة البقرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، من هم أولئك المتقون؟

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4]، هذه صفة المؤمنين.

وإذا جئنا إلى موطن آخر: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

من هم المتقون؟

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 134-136].

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

هؤلاء هم المتقون، وتلك هي صفاتهم.

والتقوى في حقيقتها وفي ذاتها وفي عمومها:

إن جئنا إلى زاد في الدنيا فالتقوى خير زاد يوصل إلى الآخرة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] .. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

مفاضلة الخلق وميزان تقويم البشر، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولكأن التقوى في كل شيء هي المثل الأعلى وهي الغاية القصوى.

بل نجد في بعض الأشياء الأخرى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].

إذا جئنا إلى بعض القربات أو الأعمال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]. سبحان الله!

تلك هي التقوى في التعريف المستقيم، والتقوى في معاملة الإنسان وما يرجع إليه من لباس التقوى، ومن زاد التقوى، ومن مقياس ورفعة وعزة التقوى.

التقوى وصية الله للأولين والآخرين

ومن هنا كانت التقوى، وصية الله لجميع الأمم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

لماذا الحث على التقوى؟ والندب على التقوى؟ كل ذلك لمن؟ (لو أن أولكم وآخركم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

ولذا تجد قبل وَلَقَدْ وَصَّيْنَا [النساء:131] قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131].

وبعد وَلَقَدْ وَصَّيْنَا .. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].

كأنه يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131] ومع هذا وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] ثم يبين: وَإِنْ تَكْفُرُوا أي: بعدم التقوى، فاعلموا بأن لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131]، وَإِنْ تَكْفُرُوا بهذه التقوى فإن الله غني حميد، يعني: غني عن تقواكم، فإذا كانت الوصية للأمم قبلنا، ولنا من بعدهم فليس الله بحاجة إلى تقوانا، فهو غني عنا حميد بذاته سبحانه وتعالى.

ومن وصيته سبحانه لمن قبلنا وإيانا نجد ابتداءً من نوح عليه السلام في سورة الشعراء.

انظر في كتاب الله، بعد عرض قضية قوم نوح معه يأتي إلى قوله سبحانه: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:106-110]: هذا بيان من الله سبحانه وتعالى لموقف نوح عليه السلام مع قومه، ثم بين موقفهم وما هو المطلوب من تقوى الله فيهم.

أعتقد أن قضية نوح عليه السلام مع قومه قضية واحدة وهي الشرك؛ لأن نوحاً عليه السلام على ما قص الله سبحانه أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده.

وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على التوحيد، فوقع الشرك، أي: فجاء نوح عليه السلام ونهاهم عن هذا الشرك، وذكر الله ما واجهه به قومه: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23].

فنوح عليه السلام إنما كان يدعو قومه إلى التوحيد، ولهذا ذكر مع قومه أنهم كذبوه، وهذه جريمة قومه.

يأتي بعد نوح عليه السلام هود عليه السلام وقومه.

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:123-124]: ما قاله نوح لقومه قاله هود لقومه.

أيضاً: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:125-126] كما قال نوح عليه السلام.

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] كما قال نوح لقومه، ثم بين حياتهم وقوتهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:128-129] أي: عدم الإيمان بالبعث. كما قال تعالى في آية أخرى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً [الشعراء:149].

وهذه علامة على القوة، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130]: عدم الإيمان بالبعث والإفساد والبطش في الأرض، تلك من جرائمهم.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131] كما قال نوح أيضاً لقومه.

ثم يذكرهم بنعم الله عليهم: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ [الشعراء:132]: بماذا؟

بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] بالذي أنتم تعرفونه، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:132-135] لماذا؟ لأنكم لم تشكروا نعمة الله التي أمدكم بها، ولأنكم تبطشون في الأرض بطش الجبارين.

ثم ذكر سبحانه رد قومه عليه وعنادهم واستكبارهم فقال تعالى: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:136-139].

ثم قال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:140]، تتكرر هذه الجملة وهذه الآية في نهاية سرد السورة لقصة كل نبي مع قومه، وسيأتي التعليق عليها إن شاء الله.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141] أي: كما كذبت الأمم المتقدمة كذلك كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:141-142] ثم قال كما قال نوح وكما قال هود عليهما السلام. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:143].

وقال أيضاً فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:144] نفس الأسلوب والمنهج وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

وأيضاً على أي أساس؟ على أساس وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:145]، وهذا هو الذي قاله نوح لقومه وقاله هود لقومه أيضاً هنا قاله صالح لثمود.

أتظنون أنكم ماذا؟ متروكون هنا وكفى؟! أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [الشعراء:146].

في هذه النعم في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:147-148] في هذه الزروع وهذه الثمار والنخيل إلى غيرها؟!

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ [الشعراء:149].

وكذلك تنحتون من الجبال بيوتاً.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:150] عوداً على التقوى بعد هذه النعم التي يذكرهم بها.

وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ [الشعراء:151] أول خطيئة لهم: أنهم يطيعون أمر المسرفين، وفعلاً أطاعوا أمر المسرفين المتجاوزين للحد، فعقروا الناقة، وما كان عقرهم للناقة إلا باتباع أمر المسرفين، هذه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف:73]، تقترحون على الله أو على نبي الله صالح بأن يخرج الله لكم من هذا الجبل ناقةً عشراء؟ أي تعنت بعد هذا؟ فالله سبحانه وتعالى يحذرهم وينذرهم، فقالوا: لابد من هذه الآية، والله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا بالصخرة أو الجبل يهتز ويتمخض كما تتمخض الأنثى، وإذا بالناقة تخرج من بطن الصخرة.

وكانت لهم آية هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]. فماذا كان أمرهم مع الناقة؟

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الأعراف:77] سبحان الله! ثم قالوا لنبيهم متحدين ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77] وإذا جاءكم به ماذا تفعلون؟ هؤلاء يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152]، إذاً: التقوى من الإفساد في الأرض، والتقوى من بطش الجبارين، والتقوى كذلك من كفران النعم، إلى آخر ذلك، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:159].

ثم يأتي ذكر قوم لوط، أيضاً كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:160-161] نفس العبارة التي قالها من سبقه من الأنبياء: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:162-163] بطاعة ما جئتكم به، وأطيعوني فيما أرسلت به إليكم.

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:164] كل هذه العبارات تتكرر في كل دعوات الرسل.

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165].

وهنا يبين فاحشتهم، وماهية خطيئتهم؟ كما قال عن قوم عاد: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130]، وكما قال نبي الله صالح لقومه: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:151-152] وهنا يبين الله تعالى خطيئة الذين دعاهم رسول الله لوط، وأمرهم أن يجتنبوها ويتقوا الله، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ [الشعراء:165] -الواحد لا يريد أن يرفع صوته فيها- أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165] .. مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ [الأعراف:80]، لوط عليه السلام لما قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر:71] أي: اتركوا هذه الفاحشة، كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: لو لم يأت القرآن بذكر هذه السيئة ما ظننا أنها تقع في الأرض.

وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء:166].

(وَتَذَرُونَ): انظر إلى التبكيت! أتأتون الذكران من دون العالمين، وتتركون ما خلق الله لكم من الأزواج؟! انتكاس في التفكير! انتكاس في العمل! تلك خطيئة كبرى يدعوهم نبي الله لوط إلى أن يتركوها وأن يتقوا الله.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166]: معتدون، تتركون الحق وتتعدَّونه إلى الباطل.

إلى قوله أيضاً: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:175].

في هذا السياق ابتداءً من نوح عليه السلام، ثم هود، ثم صالح، وكذلك يأتي أيضاً شعيب، وإلى آخره، وكلٌّ يدعو قومه: (أَلا تَتَّقُونَ)؟ (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)! وكل يذكر جريمة قومه.

ومما ذكر شعيب: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء:181-182]: سبحان الله! كل هذه الأمور مما ينبغي أن يتطهر منها المجتمع! أَوْفُوا الْكَيْلَ ، وزنوا بالقسط، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [الشعراء:181] كل ذلك مما ينبغي على الأمة أن تتقيه، وكل رسائل المجتمع في التعامل.. في الاعتقاد.. في الاجتماعيات.. في الأخلاق.. جاء ذكر نماذجها في هذا السياق، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فتلك وصية الله لجميع الأمم بتقوى الله وطاعة الرسل، في أي شيء كان..

ذكر لكل أمة خطيئتها، إن كانت اعتقادية، أو كانت نفياً للإيمان بالبعث، أو كانت في المعاملات في الكيل والوزن، أو كانت في الأخلاق كقوم لوط، إلى غير ذلك.

حقيقة التقوى

إذاً: حقيقة تقوى الله كما قال الحسن البصري وغيره، أو كما قال عمر بن عبد العزيز : (أن تجتنب ما نهى الله عنه، وتمتثل ما أمر الله به، وما زاد على ذلك من خير فهو خير).

أساس وأصل التقوى المطلوب هو: أن تجتنب المنهيات وتفعل المأمورات، وما جاء بعد تلك الواجبات من امتثال الأوامر واجتناب النواهي فهو زيادة خير.

ولكن كما يقول السلف: إن من حقيقة التقوى أن يترك ما لا بأس به مخافةً مما به بأس.

وكما يقول الآخرون: إن محاسبة الأتقياء لأنفسهم أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، يحاسب على الصغيرة والكبيرة.

ولذا كان الورع وكان الخوف من الله نابعاً عن التقوى.

وجاء عن سعيد بن المسيب، حينما جاء إنسان وقال له: كيف التقوى؟

قال: أرأيت لو كنت تمشي في أرض بها شوك ماذا تفعل؟

قال: أنظر وأتجنب الشوك أن أطأ عليه.

قال: كذلك التقوى، أن تتجنب المعاصي.

فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء الزهاد العلماء الدعاة إلى الله ونَظَمها في هذه الأبيات:

خَلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماشٍِ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى

يقول الحسن البصري : (التقوى لا تحصل إلا بسبق العلم)؛ لأنك إذا لم تعلم ما تتقي ارتكبت المعاصي وفرطت في الواجبات، فمثلاً إذا لم تعلم حرمة الزنا ورأيت امرأة فلن تغض بصرك عنها، وإذا لم تعلم أحكام البيع والشراء وقعت في الربا، إلى آخر ما في الإسلام من فقه وحلال وحرام.

ولهذا فأساس التقوى العلم والمعرفة ثم العمل، وهي منحة من الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف: كثير من يتكلم بالتقوى، وقليل من يعمل بها.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين، وأن يرزقنا وإياكم ثمرة هذه التقوى.

ثمار التقوى

وقد بين سبحانه أن أعلى منزلة للتقوى معية الله بتأييده ونصرته: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54] أين؟

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً [النبأ:31-36] انظر! (عَطَاءً)! لا تقل: بتقواي، لا. بل عطاء من الله، (حساباً) بمعنى: كافياً، ليس بمعنى: محاسبةً، أخذاً من قولك حينما يعطيك إنسان: حسبي .. حسبي، يعني: يكفيني، جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً [النبأ:36] كافياً وافياً حتى يقول المعطَى: حسبي .. حسبي.

وأظن أن هذا القدر كاف في التنبيه على هذه الجزئية من هذا الحديث وهي الوصية أو الفقرة الأولى: (اتقِ الله).

وبعد ذلك قال: (حيثما كنت): (حيث) يقولون: إنها للمكان، وتكون للزمان، مثل: اجلس حيث جلس فلان، صلِّ حيث ينتهي بك الصف.

كأنه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لـمعاذ مشعراً إياه وهو خارجٌ من المدينة ذاهباً إلى اليمن؛ أن تقوى الله ليست في المدينة فقط، لنزول الوحي فيها، ولوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرب من المسجد النبوي، لا. بل حيثما كنت، وهذا التعميم من خصائص التشريع في الإسلام، والتعميم هو: العموم والشمول، فإن كنتَ في أقصى العالم، وإذا ذهبتَ إلى القطب المتجمد الشمالي، وإذا طرت في مركبة فضاء، وإذا نزلت في غواصة تحت الماء، وإذا كنت في منجم تحت الأرض، وإذا كنت في أي مكان فاتقِِ الله حيثما كنت، لماذا؟

لأن الله مطلع عليك أينما توجهت، وأنت إنما تتعامل مع الله، ولذا خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمصار ودعَوا إلى الله، ولما كتب بعض السلف إلى إخوانه في الشام: هلم إلى الأرض المقدسة، قال: إن الأرض لا تقدس أهلها؛ ولكن يقدسهم العمل.

(اتقِ الله حيثما كنت): وأيضاً (كيفما كنت) أي: على أية حالة تكون فيها مع الناس يجب أن يكون معيارك تقوى الله.

وأعتقد أن المجال هذا واسع جداً، ولا يستطيع إنسان مثلي أن يوفي هذا الموضوع حقه فيما يتعلق بالتقوى؛ في تحصيلها وبيانها وآثارها.

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].

فجاء قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ) ثلاث مرات في سورة الطلاق وحدها.

إذاً: أمر التقوى عظيم.

إذا جئنا إلى أول المصحف لتعريف المتقين نجد افتتاحية الكتاب الكريم في أول سورة البقرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، من هم أولئك المتقون؟

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4]، هذه صفة المؤمنين.

وإذا جئنا إلى موطن آخر: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

من هم المتقون؟

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 134-136].

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

هؤلاء هم المتقون، وتلك هي صفاتهم.

والتقوى في حقيقتها وفي ذاتها وفي عمومها:

إن جئنا إلى زاد في الدنيا فالتقوى خير زاد يوصل إلى الآخرة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] .. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

مفاضلة الخلق وميزان تقويم البشر، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولكأن التقوى في كل شيء هي المثل الأعلى وهي الغاية القصوى.

بل نجد في بعض الأشياء الأخرى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].

إذا جئنا إلى بعض القربات أو الأعمال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]. سبحان الله!

تلك هي التقوى في التعريف المستقيم، والتقوى في معاملة الإنسان وما يرجع إليه من لباس التقوى، ومن زاد التقوى، ومن مقياس ورفعة وعزة التقوى.

ومن هنا كانت التقوى، وصية الله لجميع الأمم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

لماذا الحث على التقوى؟ والندب على التقوى؟ كل ذلك لمن؟ (لو أن أولكم وآخركم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

ولذا تجد قبل وَلَقَدْ وَصَّيْنَا [النساء:131] قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131].

وبعد وَلَقَدْ وَصَّيْنَا .. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].

كأنه يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131] ومع هذا وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] ثم يبين: وَإِنْ تَكْفُرُوا أي: بعدم التقوى، فاعلموا بأن لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131]، وَإِنْ تَكْفُرُوا بهذه التقوى فإن الله غني حميد، يعني: غني عن تقواكم، فإذا كانت الوصية للأمم قبلنا، ولنا من بعدهم فليس الله بحاجة إلى تقوانا، فهو غني عنا حميد بذاته سبحانه وتعالى.

ومن وصيته سبحانه لمن قبلنا وإيانا نجد ابتداءً من نوح عليه السلام في سورة الشعراء.

انظر في كتاب الله، بعد عرض قضية قوم نوح معه يأتي إلى قوله سبحانه: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:106-110]: هذا بيان من الله سبحانه وتعالى لموقف نوح عليه السلام مع قومه، ثم بين موقفهم وما هو المطلوب من تقوى الله فيهم.

أعتقد أن قضية نوح عليه السلام مع قومه قضية واحدة وهي الشرك؛ لأن نوحاً عليه السلام على ما قص الله سبحانه أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده.

وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على التوحيد، فوقع الشرك، أي: فجاء نوح عليه السلام ونهاهم عن هذا الشرك، وذكر الله ما واجهه به قومه: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23].

فنوح عليه السلام إنما كان يدعو قومه إلى التوحيد، ولهذا ذكر مع قومه أنهم كذبوه، وهذه جريمة قومه.

يأتي بعد نوح عليه السلام هود عليه السلام وقومه.

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:123-124]: ما قاله نوح لقومه قاله هود لقومه.

أيضاً: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:125-126] كما قال نوح عليه السلام.

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] كما قال نوح لقومه، ثم بين حياتهم وقوتهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:128-129] أي: عدم الإيمان بالبعث. كما قال تعالى في آية أخرى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً [الشعراء:149].

وهذه علامة على القوة، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130]: عدم الإيمان بالبعث والإفساد والبطش في الأرض، تلك من جرائمهم.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131] كما قال نوح أيضاً لقومه.

ثم يذكرهم بنعم الله عليهم: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ [الشعراء:132]: بماذا؟

بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] بالذي أنتم تعرفونه، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:132-135] لماذا؟ لأنكم لم تشكروا نعمة الله التي أمدكم بها، ولأنكم تبطشون في الأرض بطش الجبارين.

ثم ذكر سبحانه رد قومه عليه وعنادهم واستكبارهم فقال تعالى: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:136-139].

ثم قال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:140]، تتكرر هذه الجملة وهذه الآية في نهاية سرد السورة لقصة كل نبي مع قومه، وسيأتي التعليق عليها إن شاء الله.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141] أي: كما كذبت الأمم المتقدمة كذلك كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:141-142] ثم قال كما قال نوح وكما قال هود عليهما السلام. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:143].

وقال أيضاً فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:144] نفس الأسلوب والمنهج وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

وأيضاً على أي أساس؟ على أساس وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:145]، وهذا هو الذي قاله نوح لقومه وقاله هود لقومه أيضاً هنا قاله صالح لثمود.

أتظنون أنكم ماذا؟ متروكون هنا وكفى؟! أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [الشعراء:146].

في هذه النعم في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:147-148] في هذه الزروع وهذه الثمار والنخيل إلى غيرها؟!

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ [الشعراء:149].

وكذلك تنحتون من الجبال بيوتاً.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:150] عوداً على التقوى بعد هذه النعم التي يذكرهم بها.

وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ [الشعراء:151] أول خطيئة لهم: أنهم يطيعون أمر المسرفين، وفعلاً أطاعوا أمر المسرفين المتجاوزين للحد، فعقروا الناقة، وما كان عقرهم للناقة إلا باتباع أمر المسرفين، هذه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف:73]، تقترحون على الله أو على نبي الله صالح بأن يخرج الله لكم من هذا الجبل ناقةً عشراء؟ أي تعنت بعد هذا؟ فالله سبحانه وتعالى يحذرهم وينذرهم، فقالوا: لابد من هذه الآية، والله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا بالصخرة أو الجبل يهتز ويتمخض كما تتمخض الأنثى، وإذا بالناقة تخرج من بطن الصخرة.

وكانت لهم آية هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]. فماذا كان أمرهم مع الناقة؟

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الأعراف:77] سبحان الله! ثم قالوا لنبيهم متحدين ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77] وإذا جاءكم به ماذا تفعلون؟ هؤلاء يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152]، إذاً: التقوى من الإفساد في الأرض، والتقوى من بطش الجبارين، والتقوى كذلك من كفران النعم، إلى آخر ذلك، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:159].

ثم يأتي ذكر قوم لوط، أيضاً كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:160-161] نفس العبارة التي قالها من سبقه من الأنبياء: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:162-163] بطاعة ما جئتكم به، وأطيعوني فيما أرسلت به إليكم.

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:164] كل هذه العبارات تتكرر في كل دعوات الرسل.

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165].

وهنا يبين فاحشتهم، وماهية خطيئتهم؟ كما قال عن قوم عاد: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130]، وكما قال نبي الله صالح لقومه: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:151-152] وهنا يبين الله تعالى خطيئة الذين دعاهم رسول الله لوط، وأمرهم أن يجتنبوها ويتقوا الله، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ [الشعراء:165] -الواحد لا يريد أن يرفع صوته فيها- أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165] .. مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ [الأعراف:80]، لوط عليه السلام لما قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر:71] أي: اتركوا هذه الفاحشة، كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: لو لم يأت القرآن بذكر هذه السيئة ما ظننا أنها تقع في الأرض.

وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء:166].

(وَتَذَرُونَ): انظر إلى التبكيت! أتأتون الذكران من دون العالمين، وتتركون ما خلق الله لكم من الأزواج؟! انتكاس في التفكير! انتكاس في العمل! تلك خطيئة كبرى يدعوهم نبي الله لوط إلى أن يتركوها وأن يتقوا الله.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166]: معتدون، تتركون الحق وتتعدَّونه إلى الباطل.

إلى قوله أيضاً: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:175].

في هذا السياق ابتداءً من نوح عليه السلام، ثم هود، ثم صالح، وكذلك يأتي أيضاً شعيب، وإلى آخره، وكلٌّ يدعو قومه: (أَلا تَتَّقُونَ)؟ (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)! وكل يذكر جريمة قومه.

ومما ذكر شعيب: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء:181-182]: سبحان الله! كل هذه الأمور مما ينبغي أن يتطهر منها المجتمع! أَوْفُوا الْكَيْلَ ، وزنوا بالقسط، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [الشعراء:181] كل ذلك مما ينبغي على الأمة أن تتقيه، وكل رسائل المجتمع في التعامل.. في الاعتقاد.. في الاجتماعيات.. في الأخلاق.. جاء ذكر نماذجها في هذا السياق، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فتلك وصية الله لجميع الأمم بتقوى الله وطاعة الرسل، في أي شيء كان..

ذكر لكل أمة خطيئتها، إن كانت اعتقادية، أو كانت نفياً للإيمان بالبعث، أو كانت في المعاملات في الكيل والوزن، أو كانت في الأخلاق كقوم لوط، إلى غير ذلك.