الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

نحذر التجار وننبهم نصحاً لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فنقول: قد يأتي مشروع في البلد، مثل مرور شارع أو غيره بأراضٍ شاسعة، وأصحاب الأراضي لا يعلمون بذلك، ولكن الذين عندهم التخطيط يعلمون، لهم أصدقاء أو اطلعوا على ذلك من مرجعه، فيذهب التاجر وكأنه لا يعلم شيئاً، فيشتري ما يعلم بأن المشروع سيمر من عنده؛ لأنه يعلم أن الدولة ستعوض بأضعاف القيمة، ويخفي هذا الأمر على أصحاب الأراضي ويشتري منهم، وبعد فترة يظهر المشروع، ويعوض المشتري أضعاف أضعاف ما دفع، فهل هذا ناصح؟! لا، وكيف يستحل هذا التعويض المضاعف ويحرم صاحبه منه؟!

وقد ذكرنا ورع سلف هذه الأمة، اشترى أحدهم السكر لما علم أن الإنتاج سيقل، ثم تورع عن الربح، وهو بيع وشراء صحيح، لكن في المستقبل ربما يعوض بشيء آخر، ولكن مع ذلك تأسف وأحس بالحرج، وأحس بالريبة، فترك ذلك، ورجع إلى صاحب السكر، ودفع إليه الربح!!

ويذكر العلماء أن رجلاً أرسل بضاعته إلى البصرة، وقال لغلامه: بعه بالسعر الذي وجدته يوم وصوله، فوجد الغلام السعر نازلاً، فأمسك عن البيع، وبعد فترة ارتفع السعر، وباع البضاعة بربح كثير، وأرسل لصاحبه، فكتب إليه: لقد خنتنا، لقد أمرتك أن تبيع بسعر اليوم الذي وصلت فيه، فأمسكت حتى ارتفع السعر، فتصدق بكل القيمة على فقراء البصرة، ولعلنا ننجو بذلك!!

ماذا نقول -يا جماعة- في هذه النماذج؟!

وبالنسبة في الوقت الحاضر لا تكاد تجد مثلها إلا ما شاء الله، فيستغرب الإنسان على هذه الصور، وهو ليس بغريب.

عبد الرحمن بن عوف مثال التاجر التقي

عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قدم إلى المدينة بلا شيء، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار، وأخوه الأنصاري عنده زوجتان، فقال له: هلم إلى زوجتي فاختر أيهما شئت، فأطلقها وتعتد وتتزوجها، وهلم أقاسمك مالي، سبحان الله العظيم! فقال: أمسك عليك زوجك، وبارك الله لك في مالك وفي زوجك، دلني على السوق، فذهب إلى السوق، وأخذ يبيع ويشتري، يأتي يوم بأقط، ويوم بسمن، ويوم بكذا وكذا، حتى اتسعت تجارته، وأصبحت القوافل تأتي إليه من الشام إلى المدينة، ومرة في يوم جمعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فإذا بطبول القافلة تدق ، فخرج الناس إليها، ونزلت الآية: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]، فما بقي في المسجد إلا إثنا عشر رجلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو خرجوا جميعاً عن بكرة أبيهم لسال عليهم الوادي ناراً)، فعلم عبد الرحمن أن تجارته هي سبب انصراف الناس، وجاءه التجار وأعطوه في المائة ربح درهم، ودرهمين وخمسة وعشرة وهو يقول: عندي زيادة، فأعطوه في المائة عشرين ثم خمسين ثم في المائة مائة فقال: عندي زيادة! فقالوا: يا ابن عوف ! ليس في المدينة تاجر إلا وقد حضر، فمن يدفع لك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي، هي صدقة في سبيل الله، القافلة كلها بعيرها وعبيدها وتجارتها في سبيل الله! لماذا؟ لأنه علم أنها سبب خروج الناس عن رسول الله، وقد رأى رؤيا بأن القيامة قامت، وعرض ونوقش حتى ظن أنه هالك، وقال: ما أنجاني إلا صحبتي لك يا رسول الله! هذه هي النفوس المطمئنة، والقلوب الخاشعة.

حكم الاحتكار

احتكار السلعة قسمان:

جمع السلعة في إبّانها عند وفرتها، فيضعها في مخازنه حتى إذا انقطع من الأسواق إنتاجها، أخرجها وباع، فهذا تاجر يحتكر ليتحكم في المسلمين، وهو ظالم؛ لأنه يتحكم في قوت الناس، أما إذا كان يجمع ليبيع، ولا يقصد وقت الغلاء، فلا مانع من ذلك، مثلاً: حين الحصاد يجمع القمح ويبيع، وحين الجذاذ يجمع التمر ويبيع، ولكنه لو احتكر ذلك إلى الشتاء مثلاً، ليبيع التمر عندما تنفذ السلعة، ولم تبق إلا عنده، فيتحكم في السلعة عند البيع للناس، فهذا هو الخاطئ المذكور في حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)، بمعنى: ظالم، ويقول علماء الحسبة: للإمام أن يتدخل ويجبره على البيع بما لا ضرر ولا ضرار، وما يجعلونه من أخذ امتياز السلعة، والتحكم بها في السوق داخل في هذا الباب، أما حرية البيع والشراء فلا شيء فيه، فإذا كان يجمع الحبّ في وقته، ثم يأتي بعد انتهاء الحصاد وينزل السلعة إلى السوق، والدكاكين مفتوحة، والمستودعات مفتوحة، والبيع والشراء قائم، فلا مانع في ذلك؛ لأنه لم تتوقف حاجة الناس إلى ما في يده.

ذكروا أن رجلاً احتكر طعاماً، ثم رأى في الخريف سحابة، فخشي أن تمطر، ويزرع الناس، ويكثر الطعام، فيضيع عليه ما احتكر، فقال: أكرهت الخير للمسلمين؟! فأخرج ما احتكره، وباعه برأس ماله، دون أن يربح شيئاً.

لماذا المحتكر خاطئ؟ يبينه قصة هذا الرجل، فحينما احتكر الطعام تمنى ارتفاع السعر، وارتفاع السعر يأتي نتيجة قلة السلعة، وقلة السلعة شدة على الناس، فإذا جاء المطر، وأنبتت الأرض، وتوافرت السلعة؛ كره ذلك، فهو لا يحب المطر، بل يكرهه لما يترتب عليه من الخير للمسلمين.

والمرابي يكره أن يستغني الناس عنه، فهو يحب للفقراء الفقر والحاجة والاضطرار، فإذا سمع بأن عميله استغنى كره ذلك؛ لأنه يريده دائماً متعاملاً معه، فإذا جاء الخصب وجاء الغنى كره ذلك المرابي؛ ولهذا فإن المرابي عدو المجتمع.

محاسبة النفس

ذكرنا قصة التاجر الذي احتكر السلعة، ثم رأى سحابة فكره في نفسه أن يأتي المطر، ويكثر الزرع، وتضيع عليه ثمرة احتكاره، لكنه تنبه، وارتاب في نفسه أنه لا يحب الخير للمسلمين من أجل منفعته الخاصة، وحمله على ذلك الرغبة في الربح، فإذا به يخرج ما احتكره، ويبيعه في الأسواق بدون ربح، فما الذي حمله على زهده هذا؟ محاسبته نفسه، ولما كان عمله يؤدي إلى ألا يحب الخير للناس، ارتاب في عمله.

فمن الناس من تكون عنده شفافية في معرفة الحلال والحرام، يرى الريبة في الشيء فيعافه، ويذكرون عن بعض السلف كـابن سيرين وغيره، أن منهم من يترك أربعين ألفاً، ومنهم من يترك خمسمائة ألف من ميراثه من أبيه؛ لأن أباه كان يعمل في عمل فيه ريبة، وأحمد بن حنبل رحمه الله أبى أن يأكل خبزاً في بيت رجل في كسبه ريبة.

متى يكون الورع؟

يقول العلماء: التحرز من الريبة يجب أن يكون بعد اجتناب كل محرم، لا أن يكون يتعامل بالربا الصريح، ثم يتورع عن كسب ما فيه ريبة! فهذا متناقض، وذكر بعض العلماء عن أحمد رحمه الله أن رجلاً قال له: أتأذن لي أن أكتب من دواتك؟ فنظر إليه وقال: هذا ورع مظلم، يعني: تتورع من الكتابة من الدواة، فهل قد تجنبت كل ما فيه شبهة أخرى؟

وسئل عن رجل طلبته أمه أن يطلق زوجته: أيطلقها براً بأمه؟ فقال: إذا كان قد بر أمه في كل شيء، ولم يبق إلا هذا فليفعل، أما أن يبرها في طلاق زوجته ثم يضربها، فليس هذا ببر.

ويذكرون عن عبد الله بن عمر أنه جاءه أهل العراق يستفتونه في دم البعوض، فقال: واعجباً لكم! تستفتونني في دم البعوض، وقد قتلتم الحسين بن علي !

والورع قسمان:

- ورع من أهله، فهو من أهل الورع.

- وورع مصطنع مظلم، فهذا بينه وبين الله.

وهذا الحديث -أيها الإخوة- لو تدبره الإنسان وعمل به، فإنه يرسم له منهج حياته: فيما يدع، وفيما يأخذ، وفيما يتناول من طعامه وشرابه ولباسه، وفيما يتقي الله في كسبه، وقد قال العلماء في الحديث الذي قبله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم واحد حرام؛ ما قبل الله صلاته في ذلك الثوب!

ورع أبي حنيفة رحمه الله

ذكروا عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يبيع البز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فركنه في جانب، فجاء خادمه وغلامه في غيبته وباع هذا الثوب بقيمته لو كان سليماً، فلما جاء الإمام إلى الدكان فلم يجد ذاك الثوب سأل عنه: أين هو؟ قال: بعته، قال: بكم؟ قال: بكذا. بسعره الأصلي، قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا، فتصدق بقيمة الثوب كله! ما الذي حمله على ذلك؟ إنه الورع، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب الذي في الثوب، ولكن حمله الورع وتقوى الله على أن يتصدق بكامل قيمة الثوب.

وذكرنا قصة الذي أمر غلامه أن يبيع السلعة بسعر يومه، فانتظر ولم يبع حتى ارتفع السعر، فكان يكفيه أن يأمره أن يتصدق بفارق السعر، ولكنه أمره أن يتصدق بالثمن كله، وقال فيما كتبه إليه: لعلنا ننجو بذلك!

هذا الحديث وإن كان موجزاً في عبارته (دع ما يريبك إلا مالا يريبك) إلا أنه يأتي على كل تصرفات الإنسان، والناس في هذا الحديث طبقات ودرجات، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.

عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قدم إلى المدينة بلا شيء، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار، وأخوه الأنصاري عنده زوجتان، فقال له: هلم إلى زوجتي فاختر أيهما شئت، فأطلقها وتعتد وتتزوجها، وهلم أقاسمك مالي، سبحان الله العظيم! فقال: أمسك عليك زوجك، وبارك الله لك في مالك وفي زوجك، دلني على السوق، فذهب إلى السوق، وأخذ يبيع ويشتري، يأتي يوم بأقط، ويوم بسمن، ويوم بكذا وكذا، حتى اتسعت تجارته، وأصبحت القوافل تأتي إليه من الشام إلى المدينة، ومرة في يوم جمعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فإذا بطبول القافلة تدق ، فخرج الناس إليها، ونزلت الآية: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]، فما بقي في المسجد إلا إثنا عشر رجلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو خرجوا جميعاً عن بكرة أبيهم لسال عليهم الوادي ناراً)، فعلم عبد الرحمن أن تجارته هي سبب انصراف الناس، وجاءه التجار وأعطوه في المائة ربح درهم، ودرهمين وخمسة وعشرة وهو يقول: عندي زيادة، فأعطوه في المائة عشرين ثم خمسين ثم في المائة مائة فقال: عندي زيادة! فقالوا: يا ابن عوف ! ليس في المدينة تاجر إلا وقد حضر، فمن يدفع لك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي، هي صدقة في سبيل الله، القافلة كلها بعيرها وعبيدها وتجارتها في سبيل الله! لماذا؟ لأنه علم أنها سبب خروج الناس عن رسول الله، وقد رأى رؤيا بأن القيامة قامت، وعرض ونوقش حتى ظن أنه هالك، وقال: ما أنجاني إلا صحبتي لك يا رسول الله! هذه هي النفوس المطمئنة، والقلوب الخاشعة.