خطب ومحاضرات
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [2]
الحلقة مفرغة
المحدثات قد تكون في العبادات أو المعاملات
ما هي المحدثات؟
هي: كل ما كان في أمر الدين مما لم يكن من قبل، ولم يشهد له كتاب ولا سنة.
فإذا جاء إنسان بأمر جديد في عبادات أو في معاملات، فعمله مردود، فإن جاء بعبادة لم تكن معروفة من قبل فهي رد، وإن جاء بمعاملات وعقود بين الناس لم تكن موجودة فهي رد، وتكون العبادة باطلة ويكون العقد فاسداً.
يذكر العلماء من المحدثات: صلاة الرغائب وكانت معروفة في بعض البلدان سابقاً، حيث تصلى في شهر رجب، فيجتمع الناس في المساجد ويصلون صلاة الرغائب ويفعلون كذا، ويقولون كذا، فهذه بدعة مردودة على أهلها؛ لأنها محدثة في الدين، ولم يوجد نص في كتاب الله ولا في سنة رسول الله يدل عليها، ولا ثبت عن أحد من سلف الأمة أنه كان يفعل ذلك في تلك الليلة بالذات. ومن المحدثات ما كان يفعله بعض الناس في الشام والعراق من التعريف ليلة عرفة في الأمصار، فكانوا يوم عرفة يجتمعون بعد العصر في المساجد تشبهاً بأهل عرفات في أرض عرفات، وكل ذلك ليس من الدين في شيء.
وممن يأتي بالبدع في الدين من يدعون التصوف وليسوا بصوفية، وإنما يأتون بما حرم الله زاعمين أنه من الدين والدين بريء منه، ويشهد على ذلك قول بعض علماء الصوفية الصادقين: كل عمل أو كل دعوى ليس عليها شاهدا عدل من الكتاب والسنة فهي مردودة.
فإذا جاء رجل وقال: خذوا هذه العبادة، فإنها حسنة، استحسنتها من فكري، نقول له: لا.
وقد عاب أهل السنة على المعتزلة وغيرهم التحسين والتقبيح العقليين، فقالوا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولكن يستحسن ما حسن الشرع، ويستقبح ما قبح الشرع.
إذا كانت العقود على مقتضى كتاب الله لا غرر فيها ولا ضرر ولا ضرار، وليس فيها أكل لأموال الناس بالباطل فهي صحيحة، أما إذا كان العقد يشتمل على ضرر وضرار، فهل يجوز برضا المتعاقدين؟ ولو تعاقد اثنان على شيء ولكن فيه ضرر على إنسان، أو تعاقدا على شيء نهى عنه الشرع، فهل نقول كما يقول أهل القانون: العقد شرعة المتعاقدين؟ لا. والآن الحمد لله رجع رجال القانون عن هذا، وألحقوا في القانون المادي: العقد شرعة المتقاضيين ما لم يتعارض مع المصلحة، ولكن نقول لهم: أي المصالح تريدون، فلابد أن تقيد بالمصالح الشرعية.
عقد الربا بين اثنين، فهما حين يتفقان على خمسة في المائة أو اثنين في المائة، أليس هذا بتراضي الطرفين؟ نعم، وهل تراضي الطرفين على الربا يبيح هذا العقد؟ لا، بل هو فاسد، وكل عقد توجه النهي إليه في ذاته فهو فاسد، ولا ينفذ مقتضى العقد.
لو أن إنساناً باع بيعتين في بيعة، أو باع حلالاً وحراماً، فهل ينعقد هذا العقد وهل يصح؟
اختلف العلماء فيما إذا كان النهي موجهاً لعين المنهي عنه أو موجهاً لوصف خارج عنه، وهذه قضية أصولية توضيحها كالآتي:
قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فإذا بعت عند النداء للصلاة فحكمه باطل؛ لأن الله قال: (ذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه.
ولو تعاقدا على دار أو على سلعة في هذا الوقت الذي نهى الله عن البيع والشراء فيه، فحكم هذا العقد أنه باطل.
الله سبحانه وتعالى حرم الخمر والخنزير والميسر، فلو بايع المرء رجلاً يهودياً أو كتابياً من أهل الذمة، وجاء ليدفع الثمن، فنقصت عليه القيمة، فدفع إليه زق خمر بتمام القيمة، فالخمر منهي عن بيعها وشرائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله بائعها ومشتريها...) إلى آخره، وهل النهي عن بيع الخمر يساوي النهي عن العقد عند النداء ليوم الجمعة أو يختلفان؟
إذا نظرنا إلى النهي عن البيع والشراء وقت النداء للجمعة، هل هو منهي عنه لذات المبيع؟ بمعنى أنك إذا اشتريت ثوباً عند النداء، هل النهي لعين الثوب هذا، أو النهي لأمر آخر، وهو عدم الاشتغال عن الذهاب إلى الجمعة؟
النهي عن البيع والشراء عند النداء من أجل الجمعة، والجمعة أمر خارج عن المبيع، ولكن حينما أخذت زق الخمر في الثمن فالنهي موجه للخمر لكونها ثمناً في بيت أو ثوب، فالنهي لعين الخمر.
متى يقتضي النهي فساد العقد، ومتى لا يقتضيه؟
من عقد عقداً وقت النداء إلى الجمعة، فالنهي لا لذات المعقود عليه، ولكن لأمر خارج عنه، فمن العلماء -ومنهم الحنابلة- من يلحق المنهي عنه لوصف خارج عنه بما نهي عنه لذاته، ولذا عندهم لو اغتصب سكيناً وذبح بها شاة، فالشاة ميتة؛ لأنه منهي عن غصب السكين، والجمهور يقولون: لا، ذبيحة الشاة حلال، وهذا مغتصب السكين، فحق الغصب لصاحب السكين، وهذا آثم لاغتصابه سكيناً، أما الشاة فقد أريق دمها بالسكين، وكل ما أنهر الدم وقطع الودجين فهو حلال. وكذلك هناك من يقول: العقد صحيح ولكنه آثم؛ لأنه انشغل به عن صلاة الجمعة، ولذا لو أن هذا العقد بعينه أمضاه امرأتان أو صبي وامرأة، فالعقد صحيح؛ لأن المرأة والصبي ليس عليهما جمعة.
إذاً: ننظر في كل العقود، إن كان العقد منهياً عنه لذاته فهو باطل وحرام ولا يفيد التملك، وإن كان لوصف خارج عنه أو لازم له ففيه خلاف بين الأصوليين؛ فمنهم من يجعله كالمتوجه لذاته فهو باطل عندهم، ومنهم من يقول: جانب العقد يمضي، وجانب الاعتداء يأثم عليه، وتقدم في أصول الفقه حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، فالمسلم منهي عن الغصب، ومأمور بالصلاة، فهل الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة أو باطلة؟
عند الحنابلة أن صلاته باطلة؛ لأنه بصلاته يثاب، وباغتصابه يعاقب، فكيف يثاب ويعاقب على فعل واحد؟! ولكن غيرهم يقولون: هو غاصب وآثم سواء نام أو لعب أو جلس، وليس الغصب موقوفاً على الصلاة، وهو مطالب بالصلاة سواء في أرض مملوكة له أو حرة أو مغصوبة، فالصلاة في طريقها تسقط الفرض عنه، والغصب في طريقه يحاسب ويعاقب عليه. ويقولون بانفكاك الجهة، فإذا كان النهي منفك الجهة عن المنهي عنه، فالعقد صحيح وهو آثم، وإن كانت الجهة غير منفكة عنه فهو باطل ولا ينفذ فيه أو لا ينتج نتيجة التعاقد، وهذا الباب من أدق الأمور في الأصول، فحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، فإن كان عقداً لا يفيد التمليك، وإن كان عبادة لا تسقط الواجب، ولا تقبل، وترد على صاحبها.
فإذا كان المحدث الأول الذي جاء بالحدث والبدعة، وأخذها الناس عنه، عمله رد عليه، فما حكم من تابعه عليها؟
إن الذي يأتي بعد المحدث الأول يقول: أنا ما أحدثت، وهذا موجود من قبل. فماذا نقول له؟
نقول: أنت ومن أحدثها في اللحظة الأولى سواء؛ لأن عملك الآن ليس من أمرنا فهو رد أيضاً، وكل من ادعى تقليداً لغيره فيما ليس من أمر الدين، فيقال له: أنت ومن قلدته عملكما مردود؛ لأنه إحداث في أمرنا لما ليس منه.
وعلى ذلك فمن أحدث في أمرنا ما كان منه فليس بمردود، كإحداث تدوين القرآن في صحف، وكإحداث جمع المصلين في رمضان على إمام واحد، وكإحداث تدوين العلوم والكتب والفنون التي تخدم المصلحة العامة، سواء كان ديناً أو دنيا، وكذلك كل ما فيه مصلحة المسلمين من تدوين الدواوين وبناء المدارس التي تملأ العالم الآن، والمعاهد، والكليات، وإحداث العلوم التي تدرس فيها لمصلحة الإنسان، فهل هذه من أمرنا أو خارجة عن أمرنا؟
كلها داخلة في أمرنا. أما إذا درس شيئاً يخالف الدين، فنقول: هذا حدث ليس من أمرنا.
إذاً: ما أحدث وكان من أمرنا فليس مردوداً بل هو مقبول، وبالله تعالى التوفيق.
المقصود بقول أهل الحديث: (متفق عليه)
فـالنووي سمى الشيخين الجليلين، وهما يلتزمان الصحة، فلا يورد البخاري ولا مسلم في صحيحيهما إلا الحديث الصحيح. قد يقول قائل: وجدنا في بعض أحاديث مسلم ما يتكلم في سنده، فنقول: مسلم يأتي بالحديث الأصلي في القضية ثم يتبعه بمتابعات وشواهد، وهي ليست الأصل في الباب ولكن شواهد وتوابع، فقد يتساهل في الشواهد وفي التوابع، أما في أصل الباب فليس فيه ضعيف قط.
ثم ذكر رواية أخرى فقال: وفي رواية لـمسلم ، يعني لا توجد في البخاري ، فهما قد اتفقا على الرواية الأولى: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وانفرد مسلم بالرواية الثانية، ولا توجد عند البخاري وهي: (من عمل عملاً)، وعملاً نكرة، وهو مفعول به، والنكرة تفيد العموم، بمعنى: أي عمل كان، والقول والفعل والترك من العمل، في الحديث الأول قال: (من أحدث في أمرنا)، وهنا قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وإذا جئنا إلى هذه الرواية مع تلك، نجد هنا: (من عمل عملاً)، وهناك: (من أحدث) فقد يكون الإحداث بدون عمل يدعو إليه وبدون أن يعمل، لكن نقول: هو عمل أيضاً؛ لأنه تكلم به، والرواية الثانية تشمل من فعل فعلاً ولو لم يكن قولاً، ولو لم يدع إليه أحداً، بل هو مجرد عمل يعمله لكنه ليس من أمر الإسلام، وهذا يحتم على المسلم قبل أن يقدم على أي عمل أن ينظر، هل عليه أمره صلى الله عليه وسلم أم لا؟
فإن كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فبها ونعمت، ولابد أن يشهد له ما جاء به صلى الله عليه وسلم سواء كان نصاً أو قياساً يلحق الفرع بأصل سابق أو كان عليه سلف الأمة.
والخلاصة هي: الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما يتعلق بأمر الدين ومصلحة العباد، وبالله تعالى التوفيق.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
ما هي المحدثات؟
هي: كل ما كان في أمر الدين مما لم يكن من قبل، ولم يشهد له كتاب ولا سنة.
فإذا جاء إنسان بأمر جديد في عبادات أو في معاملات، فعمله مردود، فإن جاء بعبادة لم تكن معروفة من قبل فهي رد، وإن جاء بمعاملات وعقود بين الناس لم تكن موجودة فهي رد، وتكون العبادة باطلة ويكون العقد فاسداً.
يذكر العلماء من المحدثات: صلاة الرغائب وكانت معروفة في بعض البلدان سابقاً، حيث تصلى في شهر رجب، فيجتمع الناس في المساجد ويصلون صلاة الرغائب ويفعلون كذا، ويقولون كذا، فهذه بدعة مردودة على أهلها؛ لأنها محدثة في الدين، ولم يوجد نص في كتاب الله ولا في سنة رسول الله يدل عليها، ولا ثبت عن أحد من سلف الأمة أنه كان يفعل ذلك في تلك الليلة بالذات. ومن المحدثات ما كان يفعله بعض الناس في الشام والعراق من التعريف ليلة عرفة في الأمصار، فكانوا يوم عرفة يجتمعون بعد العصر في المساجد تشبهاً بأهل عرفات في أرض عرفات، وكل ذلك ليس من الدين في شيء.
وممن يأتي بالبدع في الدين من يدعون التصوف وليسوا بصوفية، وإنما يأتون بما حرم الله زاعمين أنه من الدين والدين بريء منه، ويشهد على ذلك قول بعض علماء الصوفية الصادقين: كل عمل أو كل دعوى ليس عليها شاهدا عدل من الكتاب والسنة فهي مردودة.
فإذا جاء رجل وقال: خذوا هذه العبادة، فإنها حسنة، استحسنتها من فكري، نقول له: لا.
وقد عاب أهل السنة على المعتزلة وغيرهم التحسين والتقبيح العقليين، فقالوا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولكن يستحسن ما حسن الشرع، ويستقبح ما قبح الشرع.
إذا كانت العقود على مقتضى كتاب الله لا غرر فيها ولا ضرر ولا ضرار، وليس فيها أكل لأموال الناس بالباطل فهي صحيحة، أما إذا كان العقد يشتمل على ضرر وضرار، فهل يجوز برضا المتعاقدين؟ ولو تعاقد اثنان على شيء ولكن فيه ضرر على إنسان، أو تعاقدا على شيء نهى عنه الشرع، فهل نقول كما يقول أهل القانون: العقد شرعة المتعاقدين؟ لا. والآن الحمد لله رجع رجال القانون عن هذا، وألحقوا في القانون المادي: العقد شرعة المتقاضيين ما لم يتعارض مع المصلحة، ولكن نقول لهم: أي المصالح تريدون، فلابد أن تقيد بالمصالح الشرعية.
عقد الربا بين اثنين، فهما حين يتفقان على خمسة في المائة أو اثنين في المائة، أليس هذا بتراضي الطرفين؟ نعم، وهل تراضي الطرفين على الربا يبيح هذا العقد؟ لا، بل هو فاسد، وكل عقد توجه النهي إليه في ذاته فهو فاسد، ولا ينفذ مقتضى العقد.
لو أن إنساناً باع بيعتين في بيعة، أو باع حلالاً وحراماً، فهل ينعقد هذا العقد وهل يصح؟
اختلف العلماء فيما إذا كان النهي موجهاً لعين المنهي عنه أو موجهاً لوصف خارج عنه، وهذه قضية أصولية توضيحها كالآتي:
قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فإذا بعت عند النداء للصلاة فحكمه باطل؛ لأن الله قال: (ذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه.
ولو تعاقدا على دار أو على سلعة في هذا الوقت الذي نهى الله عن البيع والشراء فيه، فحكم هذا العقد أنه باطل.
الله سبحانه وتعالى حرم الخمر والخنزير والميسر، فلو بايع المرء رجلاً يهودياً أو كتابياً من أهل الذمة، وجاء ليدفع الثمن، فنقصت عليه القيمة، فدفع إليه زق خمر بتمام القيمة، فالخمر منهي عن بيعها وشرائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله بائعها ومشتريها...) إلى آخره، وهل النهي عن بيع الخمر يساوي النهي عن العقد عند النداء ليوم الجمعة أو يختلفان؟
إذا نظرنا إلى النهي عن البيع والشراء وقت النداء للجمعة، هل هو منهي عنه لذات المبيع؟ بمعنى أنك إذا اشتريت ثوباً عند النداء، هل النهي لعين الثوب هذا، أو النهي لأمر آخر، وهو عدم الاشتغال عن الذهاب إلى الجمعة؟
النهي عن البيع والشراء عند النداء من أجل الجمعة، والجمعة أمر خارج عن المبيع، ولكن حينما أخذت زق الخمر في الثمن فالنهي موجه للخمر لكونها ثمناً في بيت أو ثوب، فالنهي لعين الخمر.
استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر | 3523 استماع |
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] | 3212 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] | 3185 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون | 3134 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] | 3115 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر | 3067 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] | 3044 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] | 2994 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] | 2890 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] | 2877 استماع |