شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2]


الحلقة مفرغة

الجزء الثاني من الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، ربط فيه جزئيات الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجه الأمة كلها بوصيته لابن عمه ابن عباس ؛ لأن قوله لواحد كقوله للأمة كلها، (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ما هو السبب ألا تسأل غير الله، وألا تستعين بغير الله؟ بيّن ذلك في قوله: (واعلم أن الأمة كلها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

إذاً: الأمة قيمتها لا شيء، كما سيأتي بيانه، ويهمنا الربط: (إذا سألت فاسأل الله) يقول العلماء: السؤال: طلب المسألة، والاستعانة: طلب العون، وكل منهما ينقسم إلى قسمين: سؤال للمخلوق فيما يقدر عليه، واستعانة بالمخلوق على ما في قدرته، وسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، واستعانة على أمر لا يعين عليه إلا الله، فيقولون: لا مانع أن تسأل العبد بما يقدر عليه، فتقول مثلاً: أعطني قلمك، ففي قدرته أن يمد ويعطي، مع أن تقدير الله سابق على هذا، ويمكن أن يقول لك: لا، ما أعطيك، لكنك سألته بما في قدرته، أو تقول: أعطني ريالاً، أو أقرضني عشرة ريالات، يقولون: يجوز إن كان في مقدور المخلوق الذي تسأله أو تستعين به، ومثاله أيضاً أن تقول: أعني على حمل متاعي، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة) ، وقال الله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فإذا كان سؤال العبد للعبد فيما بيده ويقدر عليه؛ فهذا من المشروع، ولكن سؤال العبد للعبد بما لا يقدر عليه، ولا يملك عطاءه؛ فهذا هو الممنوع، وقد يصل إلى حد الشرك بالله؛ لأنك تعطي المخلوق من القدرة والمكانة ما ليس من حقه، بل هو من حق الله سبحانه وتعالى.

سؤال العبد لله في كل شيء

ويجب على العبد أن يسأل الله حتى ما كان في مقدور العبد، فتوجه بقلبك أولاً وقبل كل شيء إلى الله؛ لأنه الذي يملك قلب العبد، فيوفقه لأن يجيبك لما سألت، وهو قادر أن يصرفه عنك، فاسأل الله أولاً وقبل كل شيء، وقد روي في الأثر (أن موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: يا موسى! سلني كل شيء، صغيره وجليله وعظيمه، قال: والله! يا ربي! إنه لترد علي الحاجة، وأستحي أن أسألك إياها لصغرها، فقال: لا، بل سلني كل شيء، حتى شراك نعلك، وملح عجينك، وعلف دابتك) ونحن نعلم -يا إخوان- أنه إذا لم ييسر الله هذه الجزئيات اليسيرة للعبد، فلن يحصل عليها أبداً.

ويروى في أثر أن المولى سبحانه عاتب خلقه فقال: (من ذا الذي سألني فلم أعطه؟! من ذا الذي استغفرني فلم أغفر له، وأنا الغفور الرحيم؟!) وفي الحديث الصحيح: (إذا كان الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) فالمولى يتودد إلى عباده، ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟).

وقد أشرنا إلى إعجاز القرآن وبلاغته في السؤال والجواب، ففي القرآن: يسألونك عن كذا، قل: كذا، يسألونك عن كذا، قل: كذا، ولكن في قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] ما قال: قل، بل قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] بدون واسطة أحد، فالمولى أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وقالوا: الله سبحانه وتعالى يحب عبده اللحوح في السؤال، والإنسان إذا ألححت عليه تضجر، حتى لو ألححت عليه وقلت: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم جدك؟ فإنه يغضب.

قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب

قال بعض العلماء: إن المولى سبحانه إذا سأله عبده الصالح قد يؤخر عليه الإجابة، فتقول الملائكة: (يا رب! عبدك الصالح يدعوك، فيقول: إني أحب أن أسمع هذا الصوت)، فأخر حاجته، ليسمع صوته، يا سبحان الله! إلى هذا الحد المولى سبحانه الغني الحميد يتودد إلى الخلق ليكثروا السؤال عليه، وهو لا ينقصه شيء، خزائنه ملأى، وجاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر) فالمخيط ناعم أملس، ولو كان عود سواك أو عصا فيمكن أن يأخذ شيئاً من الماء، لكن المخيط أملس ناعم ما يعلق فيه الماء، وذكر هذا المثال لكي تأخذ الصورة العملية أنت بنفسك فتقتنع، وتقول: والله! ما نقص شيء، فخزائن الله ملأى لا تغيض، ولهذا عطاؤه كلام، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تراءت له الجنة في القبلة، وتقدم خطوة، سألوه: (ما لك تقدمت؟ قال: رأيت الجنة، فتقدمت لآخذ لكم منها قطف عنب، ووالله! لو أخذته لأكلتم منه إلى يوم القيامة!)، فكلما تأخذ حبة من العنب تنبت أخرى محلها، فما دام كل حبة تستخلف بغيرها فإنه لن ينتهي أبداً، ففضل الله كبير، فإذا سألت فاسأل الله؛ لأن الله هو الذي يعطي، وإذا سألت العبد، فمن أين يأتيك بما سألت؟ يعطيك مما عنده، والذي عنده هو من الله، فهي تحويلة، أنت تسأل زيداً، وزيد سيعطيك مما أعطاه الله، فالذي أعطاه قادر أن يعطيك، وهو أقرب، فالسؤال عبادة، فإذا كان المسئول فوق قدرة الإنسان، وسألت إنساناً فهذه هي المصيبة، كيف تتوجه إلى مخلوق حياً كان أو ميتاً، ولو كان من ملائكة الرحمن؟ كيف يسأل إنسان عقيم إنساناً مثله أن يعطيه ولداً؟! هو لا يملك هذا، أو إنسان مريض يسأل إنساناً أن يعطيه العافية!! وهو لا يملك هذا، حتى الطبيب يأتيه بالدواء حسب علمه وتجاربه، وهذا الدواء قد يتفاعل مع هذا المرض بإذن الله، فهل يعطيه الشفاء بنفسه أو هو من عند الله؟

الشفاء من عند الله، فهو يشفي من شاء بلا شيء، ويمرض من شاء بلا شيء، قال الله: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] فعلى العبد أن يتوجه إلى ربه في سؤاله.

مشروعية طلب الدعاء من الرجل الصالح

إذا جئت تقول لرجل صالح: ادع الله لي أن يرزقني الولد، فمرحباً، أنا وأنت نتوجه إلى الله لتسأله وتدعوه، ذاك الرجل الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (سلني) أي: سلني أي شيء تريد، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة!! سبحان الله العظيم! ما قال: أسألك ولاية كذا، أو غير ذلك، فهو يعلم أن الله إذا أكرمه بمنزلة عالية في الجنة، فالذرية والأزواج يكرمهم الله سبحانه وتعالى معاً في الجنة، فقد قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم [الطور:21]، فهو قال: (يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذاك)، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: الزم طريقاً يكون سبباً لذلك، فأكثر من صلاة النافلة، (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ثم تأتي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم متممة لذلك.

فإذا رأيت رجلاً تتوسم فيه الخير، وسألته أن يسأل الله لك، وصرت أنت وهو تدعوان الله سبحانه، فهذا مظنة الإجابة، وروي: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عمر رضي الله عنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، ولم أوف بنذري، فقال: أوفِ بنذرك يا عمر! فلما أراد الخروج قال له النبي: لا تنسنا من دعائك يا أخي!) أي: من دعائك هناك عند الكعبة، فلا مانع في ذلك.

وقوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، والاستعانة تكون على النفس، وعلى الغير، وعلى العبادة، وعلى امتثال الأوامر، وعلى اجتناب النواهي، وعلى النوائب التي تصيب الإنسان، وعلى كل ما يلم بالعبد، فالعبد ضعيف، فلابد له من إعانة، كما يتعاون الأفراد في الدنيا على أمور حياتهم، قال الشاعر:

الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

ولكن فيما لا يملكه العبد، فلا تستعن إلا بالله!

ورود الاستعانة في أول سور القرآن دليل على أهميتها

ولعظم قضية الاستعانة، ولعظم حاجة العبد إليها، صُدرت في القرآن، وتعبدنا الله بسؤالها في كل ركعة من الصلوات في سورة الفاتحة،: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].

فبعد البسملة الحمد والثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يكون ذلك إلا لله، ثم جاء الوصف العام (رَبِّ) والرب هو: الخالق، المدبر، المربي، الحافظ، الرازق، فالرب هو: الذي يربي، ويصلح المسألة، عشرة معانٍ في اللغة لمعنى الرب، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، جمع: عالم، فمنهم: الإنس، والجن، والملائكة، والحيوان، والوحش، والطير، والحوت، والنبات، والجبال، والجماد، والهواء، والماء، فكل ذلك عوالم لله، خاضعة لقدرته وإرادته، وهو المسير لها والمسيطر عليها، وهو ربها، خلقها ويدبرها، لا الماء يطغى على اليابس، ولا اليابس يغرق في الماء، ولا الليل سابق النهار، قال الله لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40] كل في نظام عجيب، فالله هو رب هذا العالم كله، الشجر لا يزهر ولا يثمر ولا ينبت إلا بإذنه، والأنثى من كل المخلوقات لا تحمل ولا تضع إلا بإذنه، وكل هذه الكائنات تحت تصريف وتدبير الله، فالحمد لله؛ لأنه رب العالم كله، فاستحق الحمد بذاته، وربوبيته للعالمين من رحمته كما قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ولم يقل: رب العالمين، الملك الجبار، مع أنه قادر قاهر جبار، ولكن ذكر الرحمة في معرض التربية، وفي معرض الرعاية، فهو رحمن رحيم، وهذا في أمور الدنيا، وفي الآخرة هو الملك الواحد الأحد، كما قال الله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] .

إذاً: أيها العبد! إذا كنت فرداً من عوالم هذا الكون، وكلها تحت ربوبية الله، والله رب العالمين بيده نواصي المخلوقين، سماءً وأرضاً، وجبالاً وبحاراً، وفي الآخرة الملك يكون لله، فأنت في الدنيا تحت ربوبية الله، وفي الآخرة تحت سلطان وقهر وملك الله، فأين تفر عن الله؟ فتقول: حقاً ويقيناً إياك وحدك نعبد، وإياك وحدك نستعين، وهل أحد له مكانة في هذا الوجود يستحق بها أن يتوجه إليه غير الله؟!

لا، ومن هذا الذي ستتوجه إليه؟ وبأي سلطة وبأي استحقاق يعبد من دون الله؟ فالعالم كله مربوب لله، ويوم الآخرة الملك لله، فأين تذهب؟!

فتقول: إياك وحدك نعبد؛ لأنك المستحق للعبادة يا رب العالمين! ولا نعبد غيرك، لا بسؤال ولا باستعانة، ولا بخوف ولا رجاء، ولا بشيء، ونستعينك على تلك العبادة؛ لأن من لم يعنه الله على الطاعة فلا طاعة له، وحقاً: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا فإن هذه الكلمة جاءت من كنز تحت العرش، ويذكر بعض العلماء عند هذا الحديث قصة، وهي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن ابني أخذ أسيراً، وربط بالقد) والقد جلد البعير اللين، إذا شُد على شيء فيبس كان كالحديد، وهذا يفعلونه مع العتاة الذين لا يقدرون عليهم، وصارت أمه تبكي حينما علمت بذلك، فجاء أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أرسل إليه من يخبره أن يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)، فبلغ الابن ذلك، فأكثر من قولها، فإذا بالقد يتساقط عنه، ثم رأى ناقة قريبة منه فركبها وهرب، فمر بسرح القوم - أي إبلهم - فنادى بها فتبعته، فما فجأ أبويه إلا وهو يطرق الباب، فقالوا: هذا صوت مالك والله! وأمه تقول: مالك في القد هناك يئن، فلما خرج أبوه والخادم وجدوه قد جاء ومعه الإبل، فذهب أبوه إلى رسول الله فسأله. فقال: (هي إبلك فاصنع بها ما شئت)، بصرف النظر عن صحة هذا الحديث أو ضعفه، يهمنا أثر (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ومعناها كما يقول العلماء: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله، والعزيمة والإرادة والتوفيق كله من الله سبحانه وتعالى.

ويجب على العبد أن يسأل الله حتى ما كان في مقدور العبد، فتوجه بقلبك أولاً وقبل كل شيء إلى الله؛ لأنه الذي يملك قلب العبد، فيوفقه لأن يجيبك لما سألت، وهو قادر أن يصرفه عنك، فاسأل الله أولاً وقبل كل شيء، وقد روي في الأثر (أن موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: يا موسى! سلني كل شيء، صغيره وجليله وعظيمه، قال: والله! يا ربي! إنه لترد علي الحاجة، وأستحي أن أسألك إياها لصغرها، فقال: لا، بل سلني كل شيء، حتى شراك نعلك، وملح عجينك، وعلف دابتك) ونحن نعلم -يا إخوان- أنه إذا لم ييسر الله هذه الجزئيات اليسيرة للعبد، فلن يحصل عليها أبداً.

ويروى في أثر أن المولى سبحانه عاتب خلقه فقال: (من ذا الذي سألني فلم أعطه؟! من ذا الذي استغفرني فلم أغفر له، وأنا الغفور الرحيم؟!) وفي الحديث الصحيح: (إذا كان الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) فالمولى يتودد إلى عباده، ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟).

وقد أشرنا إلى إعجاز القرآن وبلاغته في السؤال والجواب، ففي القرآن: يسألونك عن كذا، قل: كذا، يسألونك عن كذا، قل: كذا، ولكن في قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] ما قال: قل، بل قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] بدون واسطة أحد، فالمولى أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وقالوا: الله سبحانه وتعالى يحب عبده اللحوح في السؤال، والإنسان إذا ألححت عليه تضجر، حتى لو ألححت عليه وقلت: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم جدك؟ فإنه يغضب.

قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب

قال بعض العلماء: إن المولى سبحانه إذا سأله عبده الصالح قد يؤخر عليه الإجابة، فتقول الملائكة: (يا رب! عبدك الصالح يدعوك، فيقول: إني أحب أن أسمع هذا الصوت)، فأخر حاجته، ليسمع صوته، يا سبحان الله! إلى هذا الحد المولى سبحانه الغني الحميد يتودد إلى الخلق ليكثروا السؤال عليه، وهو لا ينقصه شيء، خزائنه ملأى، وجاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر) فالمخيط ناعم أملس، ولو كان عود سواك أو عصا فيمكن أن يأخذ شيئاً من الماء، لكن المخيط أملس ناعم ما يعلق فيه الماء، وذكر هذا المثال لكي تأخذ الصورة العملية أنت بنفسك فتقتنع، وتقول: والله! ما نقص شيء، فخزائن الله ملأى لا تغيض، ولهذا عطاؤه كلام، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تراءت له الجنة في القبلة، وتقدم خطوة، سألوه: (ما لك تقدمت؟ قال: رأيت الجنة، فتقدمت لآخذ لكم منها قطف عنب، ووالله! لو أخذته لأكلتم منه إلى يوم القيامة!)، فكلما تأخذ حبة من العنب تنبت أخرى محلها، فما دام كل حبة تستخلف بغيرها فإنه لن ينتهي أبداً، ففضل الله كبير، فإذا سألت فاسأل الله؛ لأن الله هو الذي يعطي، وإذا سألت العبد، فمن أين يأتيك بما سألت؟ يعطيك مما عنده، والذي عنده هو من الله، فهي تحويلة، أنت تسأل زيداً، وزيد سيعطيك مما أعطاه الله، فالذي أعطاه قادر أن يعطيك، وهو أقرب، فالسؤال عبادة، فإذا كان المسئول فوق قدرة الإنسان، وسألت إنساناً فهذه هي المصيبة، كيف تتوجه إلى مخلوق حياً كان أو ميتاً، ولو كان من ملائكة الرحمن؟ كيف يسأل إنسان عقيم إنساناً مثله أن يعطيه ولداً؟! هو لا يملك هذا، أو إنسان مريض يسأل إنساناً أن يعطيه العافية!! وهو لا يملك هذا، حتى الطبيب يأتيه بالدواء حسب علمه وتجاربه، وهذا الدواء قد يتفاعل مع هذا المرض بإذن الله، فهل يعطيه الشفاء بنفسه أو هو من عند الله؟

الشفاء من عند الله، فهو يشفي من شاء بلا شيء، ويمرض من شاء بلا شيء، قال الله: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] فعلى العبد أن يتوجه إلى ربه في سؤاله.

إذا جئت تقول لرجل صالح: ادع الله لي أن يرزقني الولد، فمرحباً، أنا وأنت نتوجه إلى الله لتسأله وتدعوه، ذاك الرجل الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (سلني) أي: سلني أي شيء تريد، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة!! سبحان الله العظيم! ما قال: أسألك ولاية كذا، أو غير ذلك، فهو يعلم أن الله إذا أكرمه بمنزلة عالية في الجنة، فالذرية والأزواج يكرمهم الله سبحانه وتعالى معاً في الجنة، فقد قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم [الطور:21]، فهو قال: (يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذاك)، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: الزم طريقاً يكون سبباً لذلك، فأكثر من صلاة النافلة، (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ثم تأتي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم متممة لذلك.

فإذا رأيت رجلاً تتوسم فيه الخير، وسألته أن يسأل الله لك، وصرت أنت وهو تدعوان الله سبحانه، فهذا مظنة الإجابة، وروي: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عمر رضي الله عنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، ولم أوف بنذري، فقال: أوفِ بنذرك يا عمر! فلما أراد الخروج قال له النبي: لا تنسنا من دعائك يا أخي!) أي: من دعائك هناك عند الكعبة، فلا مانع في ذلك.

وقوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، والاستعانة تكون على النفس، وعلى الغير، وعلى العبادة، وعلى امتثال الأوامر، وعلى اجتناب النواهي، وعلى النوائب التي تصيب الإنسان، وعلى كل ما يلم بالعبد، فالعبد ضعيف، فلابد له من إعانة، كما يتعاون الأفراد في الدنيا على أمور حياتهم، قال الشاعر:

الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

ولكن فيما لا يملكه العبد، فلا تستعن إلا بالله!




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3518 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3206 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3179 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3129 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3109 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3058 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3041 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2988 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2871 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [2] 2774 استماع