دعوة إلى التخفيف من استعمال الهاتف الجوال
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
تظهر في وقتنا الراهن، طفرة غنيّة عن التعريف في تطوّر وسائل الاتصالات، التي قرّبتْ البعيد، وحوّلتْ العالم كما يقال إلى قرية صغيرة، يسهل على أبنائها الاتصال فيما بينهم، وتداول الأخبار والمستجدّات، عبر وسائل متنوّعة وعديدة، بدأتْ على استحياء، وسرعان ما أخذتْ ترمي عنها ثوب الخجل، لتُثْبت حضورًا قويًّا وجريئًا، ما يزال يتطوّر يومًا بعد يوم.وممّا زاد في الآونة الأخيرة من وسائل الاتصال: استخدام الهاتف الجوّال (النقّال أو الخليوي كما هو معروف في بعض الدول العربية)، ولا تكاد دولة حول العالم، تنجو من زحفه المستمر، وغدا الأمر ظاهرة ملحوظة، فتكاد تدخل أجهزته إلى كلّ منزل، وبخاصة إذا علمنا أنّ التقديرات تشير إلى زيادة عدد مستخدمي الهاتف الجوال، فوق المليار قبل حلول عام 2005م، ولا شكّ في أنّ هذا العدد يزيد شيئًا فشيئًا بصورة مطّردة.
وممّا يشهد على كلامنا ذلك زيادة الشركات التي تدخل مجال الاستثمار في عالم الاتصالات، والتي أحاطتْ إعلاناتها بنا من كل جانب، وهي تحثّ المستهلك الجديد، وترحّب به للدخول إلى عالم الاتصالات الفسيح.
ونتيجة لذلك، فقد أحاطتْ بنا أبراج تقوية بثّ الهاتف الجوال من هنا وهناك، ودعا هذا الحضورُ القويّ العلماء َ، إلى دراسة التأثيرات الحيويّة الناتجة عن تعرّض الجسم لما ينبعث من الجوال وأبراجه، من إشعاعات قد تَحمل بين طيّاتها خطرًا صحيًا كامنًا، من المحتمل أن يتمّ اكتشافه والتعرّف عليه في القريب العاجل.
تنصّ كتب فيزياء الأشعة، على أنّ هناك علاقة إرسال واستقبال بين الهاتف الجوال وأبراج تقوية البثّ الخاصة به، وبالتحديد فإنّ هذه العلاقة تخضع لتأثير مستويات منخفضة من أشعة الراديو (Radio frequency radiation)، وهي التي تقع الآن محطّ أنظار الباحثين الذين يحاولون كشف ما قد تحمله هذه الأشعة من مخاطر ومضار.
تنشأ في البيئة المحيطة بنا، والتي تكثر فيها أعداد أجهزة الجوّال وأبراج تقوية إرساله، حقول مغناطيسية كهربائيّة من الموجات الصغيرة المعروفة بموجات الميكروويف، وهي المسؤولة عن التأثيرات المرضيّة الحيويّة التي تشاهد في المرضى المعرّضين لتلك الموجات، وتعتمد شدة تلك التأثيرات على عدّة عوامل، أهمّها مدة التعرّض للإشعاع، فكلما زادتْ هذه المدة زاد الأثر السلبي الناتج عنها.
تقترح بعض التقارير الطبيّة الحديثة، وجود رابط وثيق بين استخدام الهاتف الجوال من جهة، وإصابة الجسم ببعض الاضطرابات المرضيّة العابرة من جهة أخرى، وبخاصة في مستوى الجهاز العصبي، مثل الشعور بالإرهاق والصداع والدوار، واضطرابات النوم، وخلل في وظيفة الذاكرة وضعف التركيز، والإحساس ببعض الخدر والتنميل، والشعور بالغثيان.
إلاّ أنّ بعض التقارير الأخرى، تُظهر بعض التخوّف والقلق، ولنقل بعض التشاؤم، بشأن توقّعات بوجود علاقة بين كثرة استخدام الهاتف الجوال، وظهور بعض الأعراض الخطيرة، مثل الإصابة بأورام الدماغ، وارتفاع ضغط الدم، والتعرّض لنوبات الصرع لدى الأطفال.
لم تَظهر حتى الآن، دراسات مفصّلة تختصّ بأبعاد الأضرار السمعيّة (المتعلّقة بالأذن) الناتجة عن الحقل الكهربائي المغناطيسي (Electromagnetic field)، الذي ينبعث عن أجهزة الهواتف الجوالة وأبراج التقوية، ولا يتعدّى الأمر بعض التقارير التي تظهر بين فينة وأخرى.
وبين أيدينا الآن حالة جديدة، تمّ وصفها من قبل الدكتور سريع الدوسري، المحاضر في مستشفى جامعة الملك عبد العزيز، وقد تم نشر هذه المقالة الهامّة في المجلة الطبية السعودية.
تدور أحداث القصة حول رجل أعمال في الثانية والأربعين من عمره، تمّ تحويله إلى مستشفى جامعة الملك عبد العزيز بالرياض، وقد كانت الشكوى الرئيسة لهذا المريض، ضعف حاسة السمع في الأذن اليمنى منذ ثلاثة أشهر، قبل حضوره إلى المستشفى، بالإضافة إلى الشعور ببعض الألم داخل الأذن وحولها، عقب استخدام الهاتف الجوّال، وبعض الأعراض التحسّسية في الأنف، وأخيرًا نوبات من الصداع المتتالي.
يواصل المريض عرض شكواه، ويَذكر أنّ الأعراض المرضيّة تبدأ عادة بعد استخدام الجوال بدقائق، وقد تستمر في بعض الأحيان مدة ساعة متواصلة، كما لاحظ المريض أنّ استخدامه لهاتف المنزل العادي، لا يسبّب له في العادة مثل تلك الأعراض المزعجة.
وبسؤال المريض حول مدة استعماله للهاتف الجوّال يوميًّا، أفاد بأنّ هذه المدّة تصل في الغالب المتوسّط إلى ساعة ونصف، كما أنّه اعتاد على استخدام الأذن اليمنى تحديدًا لسماع صوت المكالمات.
تمّ إجراء فحص طبي كامل للمريض المذكور، مع التركيز على فحص الأذن المصابة، وأجري تقييم لقياس حدّة حاسة السمع باستخدام أجهزة متخصّصة، تكشف ما يُصيب هذه الحاسّة من خلل واضطرابات، وقد جاءتْ النتائج مشخّصة لحدوث حالة مرضيّة تُعرف بفقد السمع الحسي العصبي (Sensorineural hearing loss)، في الأذن اليمنى التي اعتاد المريض استخدامها، أثناء إجراء المكالمات الهاتفية عبر جهازه الجوال.
تمّ لاحقًا متابعة تطوّر حالة المريض الصحيّة، مرّة واحدة كلّ ثلاثة أشهر، وقد لوحظ تدهور مستوى السمع لدى المريض، مع استمراره باستعمال هاتفه الجوال على وتيرته السابقة، وفي إحدى الزيارات اللاحقة، اقترح الطبيب المعالج أن يستخدم المريض أذنه اليسرى لتلقي المكالمات الهاتفيّة، وإيقاف استخدام الأذن اليمنى لهذا الغرض، واستمرّ الوضع الجديد على هذه الحال مدة ستة أشهر، تمّ بعدها إجراء تقييم جديد للحالة الصحيّة للأذنين معًا.
وجاءتْ النتائج مدهشة، إذ تحسّنتْ حالة الأذن اليمنى بصورة ملحوظة، وذلك لعدم استخدام صاحبها لها أثناء حديثه عبر الجوّال، بينما بدأتْ حالة الأذن اليسرى تتدهور تدريجيًا لتصاب بأعراض فقد السمع الحسيّ العصبيّ سابق الذكر .
جاءتْ الخطوة التالية بعد ذلك، باقتراح من الطبيب بأن يتمّ الرجوع إلى الأذن اليمنى من جديد، وإيقاف استخدام الأذن اليسرى لسماع المكالمات الهاتفية، وبعد ثلاثة أشهر لوحظ عودة الأخيرة إلى حالتها الطبيعية من جديد، وعادتْ وظائف الأذن اليمنى لتتدهور من جديد.
أصدر هنا الطبيب تعليمات جديدة إلى مريضه، مفادها ضرورة الحدّ من استخدام الجوال، واستجاب المريض لذلك، فلم يتجاوز مجمل مكالماته الهاتفيّة اليوميّة خمس عشرة دقيقة، واستخدم لذلك سمّاعة خاصّة ومكبّرًا للصوت، ويكون بذلك قد قلّل من مدّة التعرّض للجوال، بالإضافة إلى بُعد المسافة الفاصلة بين الجسم والجهاز، وتمّ فحص المريض لاحقًا فلوحظ تحسن وظيفة السمع لدى أذنه اليمنى من جديد.
أوضحتْ الدراسات الطبيّة الحديثة، أنّ لقوقعة الأذن (Cochlea)، المقدرة على امتصاص جزء كبير من الموجات الناتجة عن الحقل الكهربائيّ المغناطيسيّ، ويقود هذا إلى ارتفاع ملحوظ في درجة حرارة أنسجة القوقعة وما جاورها، وهذا بدوره يؤثّر سلبًا في صحّة خلايا خاصّة، تعرف بالخلايا الشعرية (air cells)، ممّا يضعف حاسة السمع بصورة تدريجيّة ملحوظة.
بقي لنا أن نختم حديثنا هذا، بأنّ أصابع اتّهام قوية أخذتْ في الآونة الأخيرة، تشير نحو جهاز الجوال، واصفة إياه بالخطر الكامن الذي شرع يتّضح شيئًا فشيئًا، ولعلّنا قد لاحظنا أنّ جانبًا كبيرًا من ذلك يقترب نحو الصواب، ولذلك يجب أن ننوّه إلى أهمية التخفيف من استخدام هذا الجهاز، والاقتصار على ذلك عند الحاجة إليه، مع ضرورة استخدام السمّاعات الخاصة التي تُبعد عن أجسامنا هذا الجهاز، والتشجيع على التحدّث عبر خط الهاتف الأرضي ما أمكن ذلك.
وعلينا أن نذكر دائمًا أنّ جهاز الجوال لا يزال بعد اختراعًا حديثًا نسبيًّا، والدراسات ما تزال محدودة حول ضرره، ولم يتمّ حتى الآن إعطاء الموضوع حقّه من البحث، لأنّ ذلك يحتاج إلى مدّة طويلة وإلى المزيد من التنقيب، وقد تكشف قادمات الأيام المزيد من الأضرار في هذا المجال.
_______________________________________________________
الكتاب: د.
حذيفة أحمد الخراط