البيان في لطائف الأذان
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
البيان في لطائف الأذانإن لكل دين شعائرَ، وإن الأذان لمن شعائر دين الله تعالى الإسلام، وكل شعائره تعالى قد جاء الحث على تعظيمها؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وإن لكل شعيرة من شعائر ديننا ما قد حفلت به من حكم، وما قد انطوت عليه من لطائف، وما قد تناغمت به من أحكام، وما قد حوته من جميل الملح، وما قد تضمنته من فيض المنح.
وكل ذلكم من حكم وآداب ولطائف لتنضاف إلى رصيد هذا الدين، كيما يكون ظاهرًا على الدين كله، كما قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة:33].
وإن شعائر دين الله تعالى الإسلام - سائرها - لتشي بعلو شأنه، وسمو منزلته، كيما يكون الإيمان دافقًا في الألباب، وكيما يكون الإخبات موجبًا لدى أُولي النهي، وعند ذوي أفئدة متصلة بربها الرحمن سبحانه تعظيمًا وتنزيهًا وتكبيرًا.
وإنها بحق لشعائر هدى وإيمان، وهي بصدق لشعائر خير وإحسان، وإنها لتوجب تأملًا لاستنهاض ما فيها من فوائد، ولاستخراج ما تضمنته من فرائد، كيما تكون قائدة للنفوس إخباتًا، وكيما تكون سائقة للجوارح طاعةً ومحبة وانقيادًا.
وإنها لَقَمِنَةٌ بالدرس تأملًا، وإنها لموجبة للوقوف أمامها فحصًا وفقهًا وأدبًا وشرعًا ودليلًا، ولما كانت صلاتنا عمادًا لديننا، ولما كان من شأنها وقوف بين يدي ربنا الرحمن خشوعًا وإخباتًا وتذللًا، نيلًا لرضاه، وتحصيلًا لهداه، ومجاهدة وفوزًا وتوفيقًا، ولما كانت قبلتنا شارة إسلامنا، ولما كانت وجهتنا للصلاة بادئة بقولنا: (الله أكبر)، فإنه أيضًا ليكون ربطًا محكمًا بين ندائنا لصلاتنا، كذلكم بقولنا أول ما نقول من أذاننا: (الله أكبر)، فبدء الأذان بقولنا: (الله أكبر)، وبدء صلاتنا بقولنا: (الله أكبر) وهي علاقة جديرة بالوقوف، وهي وشيجة بينهما لا تنفك عن إعجاز، وهي رباط وثيق بينهما لا يخلو من هدايات، وهي مؤذنة لطاقات يزدان بها أحدنا تنزيهًا وتعظيمًا لربه الرحمن سبحانه، كيما يكون واقفًا بين يديه سبحانه، منطرحًا راجيًا، كأبعد ما يكون رجاء عبد، مستسلمًا كأتم ما يكون استسلام لربه، وخاشعًا كأكمل ما يكون له من خشوع لبارئه، مستمطرًا رحماته، وعفوه وهباته، بينأ ومنه كان من لطائف الأذان أنه بدأ بتكبيره تعالى (الله أكبر) دلالة على وجوب إعظامه سبحانه، وتقديم مراده على كل مراد آخر، فتأمل.
ومن لطائف الأذان أن (المُؤَذِّنُ يُغفَرُ له مَدَى صَوتِه، ويَشهدُ له كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ، وشاهِدُ الصلاةِ يُكتَبُ له خَمسٌ وعِشرُونَ صَلاةً، ويُكَفَّرُ عنهُ ما بَينَهُما)؛ صحيح الجامع: 6644].
ومن لطائف الأذان أن الشيطان إذا سمعه أدبر؛ لكي لا يسمع الذكر الحكيم، ولا النداء الجميل، وهكذا كل مدبر، فتأمل فالأذان ذكر وذكره تعالى ليس يصلح به سوى الأطهار، ومنه كان ذا المهرب والترحال والإدبار، وبه وقع ذا المناص وهذا التولي والفرار؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى)؛ [صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين حديث رقم: 592].
ومن لطائف الأذان تضمنه لمسائل العقيدة، من تكبير وتوحيد، وإثبات للرسالة، وطاعته تعالى على وَفق شرعه، والإعلام بدخول وقت الصلاة نعرفه من الأذان، وهو موجب أننا أمة الدليل، فلا عبادة إلا بنص، وهو من مندوحة الاتباع، لا من بدعة الابتداع، فتأمل.
ومن لطائف الأذان نداؤه للفلاح، فكأن إقامة الصلاة سبب للفلاح، بل إن إقامتها هي الفلاح وهو الفلاح كله لا بعضه ولا جزؤه، فأقم الصلاة، أقم الصلاة، كيما يحفك الفلاح من جوانبك، وكيما ينالك الفوز من نواحيك وأرجائك وأجزائك؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2].
وختم الأذان بالتكبير كما بدأ به؛ ليكون حال المسلم دائرًا بين التعظيم لربه، فيناله الرضا والتوفيق، فتأمل.
وذلكم الحال الدائر بين ذكر الرب تعالى، كما نستجيشه من بدء الأذان وختامه، ليذكرنا أن نكون على حال ذكر لربنا الرحمن أبدًا، كيما تحفنا رعايته أبدًا، وكيما تنالنا رحمته أيضًا أبدًا.
ومن لطائف الأذان أنه ذكر مبين؛ لتطمئن به القلوب، ولتأنس به النفوس: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
ومن لطائف الأذان أنه ضد للمشابهة، وأنه دليل على صحة المتابعة، فتأمل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم، قد عقدوا مجلسهم ليخرجوا بنداء الصلاة لا كما فعل النصارى من ناقوس، وليس كما عمل اليهود من ناقور، عن عبدِاللهِ بنِ زيدِ بنِ عبدِربِّه قال: لَمَّا أجمع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يضرِبَ النَّاقوسَ يجمَعُ النَّاسَ للصَّلاةِ وهو له كارهٌ لموافقةِ النَّصارَى، طاف بي طائفٌ من اللَّيلِ وأنا نائمٌ رجلٌ عليه ثوبان أخضران في يدِه ناقوسٌ يحمِلُه، قال: فقلتُ يا عبدَاللهِ تبيعُ النَّاقوسَ؟ قال: وما تصنعُ به؟ قال: قلتُ ندعو به للصَّلاةِ، قال: أفلا أدُلُّك على خيرٍ من ذلك؟ قال: قلتُ بلَى، قال: تقولُ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، أشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ أشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، حيَّ على الصَّلاةِ حيَّ على الصَّلاةِ، حيَّ على الفلاحِ حيَّ على الفلاحِ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثمَّ استأخر غيرَ بعيدٍ ثمَّ قال: تقولُ إذا أُقيمت الصَّلاةُ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، أشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، حيَّ على الصَّلاةِ، حيَّ على الفلاحِ، قد قامت الصَّلاةُ قد قامت الصَّلاةُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال: فلمَّا أصبحتُ أتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبرتُه فقال: إنَّ هذه الرُّؤيا حقٌّ إن شاء اللهُ، قال: ثمَّ أمر بالتَّأذينِ فكان بلالٌ مولَى أبي بكرٍ يُؤذِّنُ بذلك ويدعو رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الصَّلاةِ، قال: فجاءه ذاتَ غداةٍ إلى صلاةِ الفجرِ فقال: فقيل له: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نائمٌ، قال: فصرخ بلالٌ بأعلَى صوتِه: الصَّلاةُ خيرٌ من النَّومِ، قال سعيدُ ابنُ المُسيِّبِ: فدخلت هذه الكلمةُ في التَّأذينِ بصلاةِ الفجرِ)؛ [التمهيد لابن عبدالبر: 24/23].
وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى: ثابت.
فدل على استقلال هذه الأمة في شخصيتها، متبوعة لا تابعة، اتساقًا مع قول ربها الرحمن سبحانه: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
ومنه كان من لطائف الأذان أنه مبين عن عزة المسلم، فهو متبوع، وليس يكون متبوعًا إلا في الخير، وليس تابعًا، ولا يكون من شأنه أن يكون تابعًا في ضلالة، وهو استدعاء آخر لقيمة الفرد المسلم، أن يكون قدوة خير، وأن يسلك أسوة هدى.
ومن لطائف الأذان أنه ذكر مبين لله تعالى، لتزكو به النفوس ولتهدأ معه الأفئدة، فليس ناقوسًا موجبًا لضجيج، ولا ناقورًا مصدرًا لأزيز، فتأمل.
ومن لطائفه أن المؤذنين به أطول الناس أعناقًا يوم القيامة: عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُوهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ)؛ [صحيح مسلم، كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَهَرَبِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، حديث رقم: 615].
ومن لطائفه فضله العظيم، وأجره الجزيل، وثوابه الجميل، إيذانًا بفوز أسماه ربنا الرحمن سبحانه ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج:11]، وإلا ما استهم عليه الناس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)؛ [صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، حديث رقم: 598]، وهو حديث في الباب عظيم شأنه، وهو بيان في الموضوع سامق شأوه، موجب للمسابقة في الخيرات، ومؤذن للمسارعة في المنجيات، إعمالًا لقول ربنا الرحمن سبحانه: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].
ومن لطائفه تضمنه لاسم الفعل (حي) أربع مرات متتالية؛ ذلك لأنه أعمل عمله في استجاشة القلوب لإقامة الصلاة، والوقوف بين يدي ربها الرحمن راضية مرضية، وهو ما نفيده في ضرورة استدعاء مكامن الخير في النفوس البشرية بأسلوب ندي حليم يوجب الطاعة ويثمر الانقياد، ولست مفتئتًا إذا قلت: إن الأذان يدعو إلى أهم أصول الديانة وفروع الملة، فإنه كان من شأنه أن أطل إطلالته الحانية على التوحيد الذي هو أصل الأصول وفرع الفروع، ومنه نستطلع إفادة عظمى كان من مقتضاها التسليم لله تعالى ربنا الرحمن لأي أصل آخر من بعده كالصلاة، أو لأي فرع آخر من فروعه كما إماطة الأذى عن طريق الناس، فتأمل.
ومن حكم الأذان أنه مبين عن استقلال الإسلام، فهو دين يأتي بكل حسن من قول أو فعل، يكون للناس هاديًا ونصيرًا.
وفي تشريع الأذان للصلاة حكم عجيبة، وأهمها أنه يذكر بأمر توحيد الله تعالى، لا كمجرد إشارة، بل إنه يستدعي آحاد الناس فردًا تلو آخر في اليوم خمسًا وعشرين مرة، خمس عشرة مرة في الأذان، وعشرًا في الإقامة، وهو ما يهبه زخمًا، وهو ما يمنحه دفعًا؛ لتبين به القلوب عن شرور النفوس، وبما تستدبر به أهواءها وبما يشي بتركها حظوظها.
وفي أذاننا علم بالرحمن، وفي أذاننا توحيد للملك الديان، وفي أذاننا إيمان بنبينا المصطفى العدنان، عليه أزكى الصلوات وأتم السلام.